الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المنتديات الاجتماعية، إجابة العصر المنقوصة

جيلاني الهمامي
كاتب وباحث

2024 / 2 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


مثّل انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين نهاية تجربة، التجربة الاشتراكية، وطي صفحة من تاريخ الإنسانية، وانتهاء فترة الحرب الباردة أو الاستقطاب الدولي الثنائي. وانفلتت الرأسمالية من عقالها لتبسط نمطها في التنمية الاقتصادية وإدارة الحياة الاجتماعية على الطريقة الليبرالية الكلاسيكية لكن في ظروف جديدة تتميز أساسا بتكثيف عملية مركزة رأس المال والاحتكار. وأعلن عن مولد النظام العالمي الجديد القائم على عولمة الليبرالية الاقتصادية بكل ما تشترطه من استغلال وقمع وحروب. حيال ذلك أصيبت حركة الشعوب بالبهتة. لكن هذه البهتة لم تدم طويلا إذ سرعان ما اهتدت إلى ابتداع أشكال نضال جديدة. فمقابل تجمعات الاحتكارات وكبار الرأسماليين (منتدى دافوس، قمة الثمانية…) ظهر "المنتدى الاجتماعي" و"المنتدى المدني" و"المنتدى النقابي" إلخ.. هذه التجمعات التي نسقت ونظمت ونشطت واحتضنت فعاليات حوار ونقاش وبحث لبلورة سبل مقاومة العولمة الليبرالية حتى شكلت حركة عولمة مضادة أو عولمة المقاومة. وعرفت دورات قمة البلدان المصنعة في سياتل بأمريكا وطوكيو وجنوة الإيطالية إلخ.. احتجاجات عارمة ومواجهات عنيفة خلفت أحيانا قتلى وجرحى وباتت حركة مناهضة العولمة ظاهرة دولية كما بات المنتدى الاجتماعي (العالمي والقاري والوطني) من مستلزمات النضال الضرورية لتوسيع دائرة المقاومة والنضال للحد من أثار العولمة الليبرالية السلبية.

لقد ولد المنتدى الاجتماعي إطارا للحوار والتحليل والتشاور لصياغة المطامح الاجتماعية والسياسية الكبرى واستطاع استقطاب مئات الآلاف من العمال والفلاحين والمثقفين وحتى جماهير الطبقات الوسطى إلى أن تحوّل إلى أداة نضال جديدة يعتبرها البعض تجاوزا لأدوات النضال التقليدية أحزابا ونقابات.

ولعل من أسباب نجاح المنتدى الاجتماعي هو الفشل الذي أظهرته الأطر الكلاسيكية على تقديم الإجابات الناجعة لمواجهة التحولات الطارئة على العلاقات الدولية وحتى على مستوى الأوضاع المحلية في كل بلد من جهة وتميز المنتدى بخصائص لا تسمح بها هذه الأطر القديمة من جهة أخرى.

فالمنتدى الاجتماعي هو فضاء مفتوح لتبادل التجارب والخبرات والأفكار والمواقف ينبني على المشاركة الحرة القاعدية سواء تعلّق الأمر بالمنظمات أو الأفراد فهو فضاء ديمقراطي وغير ملزم يوفر إمكانيات لإثراء تجربة كل من يشارك فيه. لذلك تحمست له منظمات وجمعيات المجتمع المدني ولم تجد النقابات بدا من الالتحاق به وهو ما أضفى عليه طابعا اجتماعيا ونضاليا أكبر. كما ساندته الأحزاب الاجتماعية (اشتراكية ويسارية) رغم أن الجدل الدائر داخله حول إمكانية التحاق الأحزاب السياسية به لم يحسم بعد نتيجة اعتراض واسع لمكوناته على ذلك.

ولا يشك أحد اليوم في أهمية هذا الفضاء بعد أن عقد المنتدى الاجتماعي العالمي دورته الخامسة في مدينة بورتو أليقري البرازيلية موطن مولده، وبعد أن عقد المنتدى الأوروبي دورته الثالثة في لندن وانعقدت الدورة الأولى للمنتدى المتوسطي بإسبانيا وبعد أن انتشرت المنتديات الاجتماعية في عدد كبير من البلدان الأمريكية والأوروبية والآسوية وحتى الإفريقية (مالي والسينغال وجنوب إفريقيا) والعربية (المغرب ومصر). فالمنتدى الاجتماعي صار من الأدوات الضرورية لصياغة مطالب جماهير العمال والفلاحين وشرائح الشباب والنساء والمثقفين وأصناف مهنية كثيرة ومتنوعة (أطباء..). كما أصبح فضاء للتعبير والاحتجاج بل قطبا اجتماعيا واسعا لمواجهة الليبرلية الجديدة تخشاه الاحتكارات والدول ومؤسسات رأس المال الدولية على حد السواء.

لكن رغم كل ذلك مازال المنتدى الاجتماعي يبحث عن هويته ويتلمس الطريق لتحديد طبيعة وظيفته ودوره إذ يرى البعض من المؤثرين فيه أن يكتفي بدوره الحالي للاحتجاج والمطالبة فقط فيما ينادي البعض الآخر بضرورة تحويله إلى أداة عمل تتولى فيما تتولى التفاوض مع تجمعات الاحتكارات (دافوس مثلا) ومؤسسات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي والمنظمة العالمية للتجارة حول مطالب العمال والفلاحين وشرائح الشعب الأخرى لمواجهة انعكاسات الليبرالية على أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية. هذا الخلاف ليس في الحقيقة غير عنوان لخلافات جزئية أخرى كثيرة داخل المنتدى برزت ولا تزال موضوع جدال واسع لا يمكن الحكم بعد على ما سيؤول إليه.

يتعرّض المنتدى الاجتماعي العالمي لعدة انتقادات نابعة من القوى والمكونات الفاعلة والمؤثرة فيه. فقوى "الوسط" الممثلة للشرائح الاجتماعية الوسطية تعتبره "غير عملي" و"غير دقيق" في توجهاته لذلك تنادي بأن يلعب دور الوسيط والمفاوض مع "المنتدى الاقتصادي العالمي" وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي حول برامج متعددة للحد من ظاهرة الفقر والأمراض (السيدا مثلا) ولتحسين مصائر التنمية الاقتصادية. أما القوى الوريثة والمنحدرة من الأحزاب "اليسارية القديمة" (الاشتراكية والشيوعية) فتعتبر أن شعار "عالم آخر أفضل ممكن " شعار فضفاض ومائع وكان على المنتدى الاجتماعي أن يحدد ما هو البديل وهو حصرا البديل الاشتراكي.

كما يعتبر هؤلاء أن "المنتدى الاجتماعي" لا يخطط لبرامج نضالية عملية وهو بذلك فضاء للكلام أو الثرثرة أكثر من أي شيء آخر وبالتالي هو فضاء غير عملي وغير ناجع. لذلك نظمت هذه القوى بمناسبة الدورة الرابعة للمنتدى الاجتماعي العالمي في مدينة مومباي في الهند منتدى مضادا. ومن الانتقادات الموجهة للمنتدى الاجتماعي أيضا أنه يقبل تمويل أنشطته من المنظمات غير الحكومية بما في ذلك تلك التي تتبع توجهات مشكوك في مصداقيتها مقابل رفضه مشاركة الأحزاب السياسية التي تمثل الأدوات الأنجع في عملية التغيير السياسي والاقتصادي. كما أنه يمنع مشاركة المنظمات التي تقوم بأعمال عنيفة بدعوى أنه إطار للعمل السلمي والحال أن جانب كبير من العنف الاجتماعي والسياسي له ما يبرره إذ أنه عنف مضاد لعنف رأس المال وأجهزة الدول والاحتكارات (بوليس وجيوش ).

كثير من المنظمات ومن المشاركين الناشطين في المنتدى الاجتماعي والذين ينحدرون من أصول فوضوية يعتبرون أنه ظاهريا فضاء ديمقراطي غير مهيكل وغير ممركز ولكنه في الواقع يخضع لمركزية غير ظاهرة ذلك أن هياكله القيادية تتمتع بنفوذ وتمارس سلطة قوية على مجمل فضاء المنتدى من جهة، ومن جهة أخرى أثبتت التجربة أن أخذ القرارات داخل المنتدى يتم دون احترام مبدأ النظام الأفقي وفي غياب الشفافية التامة لذلك بدأ المنتدى يفقد تدريجيا الطابع الديمقراطي المراد له.

وقد حاولت السكرتارية الدولية للمنتدى الاجتماعي العالمي خلال الدورة الخامسة الأخيرة (جانفي 2005) في بورتو أليغري بالبرازيل تجاوز بعض النقائص موضوع الانتقادات المذكورة حيث وسعت الاستشارة حول "مواضيع التشاور" المطروحة على الدورة من أجل تعميق الطابع الديمقراطي والمشاركة القاعدية.

ورغم ذلك يسود إحساس داخل المنتدى الاجتماعي وحتى داخل المجلس الدولي والسكرتارية العالمية للمنتدى أن مسألتين أساسيتين لا تزالان غير محسومتين وليس هنالك إلى حد الوقت الحاضر ما ينبئ بحسمهما قريبا نظرا للصعوبات والتعقيدات التي تميزهما. هذان المسألتان هما أولا البديل المنشود وثانيا مستقبل الفضاء المفتوح. فبالنسبة للمسألة الأولى تأسس المنتدى الاجتماعي العالمي بهدف واضح هو "مناهضة العولمة الليبرالية الجديدة" و"مناهضة الامبريالية في جميع أشكالها". ولكن هذا الهدف يبقى مبهما من حيث الإجابة على السؤال التالي: هل يعني ذلك النضال من أجل "نظام بديل" للرأسمالية أم المحافظة عليها؟ وتعترف السكرتارية الدولية للمنتدى أن النقاش حول هذه القضية لم يأخذ مداه بل وميعته عديد النقاشات الجزئية الأخرى وبالتالي لم يقع التطرق إليه بصورة واعية ومعمقة. ولا يستبعد أن يكون مثل هذا النقاش مثيرا لتصدعات داخل الممنتدى. أما بصدد القضية الثانية أي مآل المنتدى ومستقبله فإن هذا الفضاء لم يستطع حتى الآن الملاءمة بين طابع "الفضاء المفتوح للحوار وتبادل التجارب" وبين الرغبة في تحويله إلى "فضاء مفتوح له نشاط وبرنامج عملي وفعلي". فأن يستمر كما كان حتى الآن فضاء للتشاور ولتبادل الخبرات فقط من شأنه أن يفقده طاقة الراغبين في العمل من أجل الفعل والمواجهة والتغيير خصوصا وأن "المنتدى المضاد" في الهند كان سابقة جدية قادرة على التوسع والتأثير. ويبدو أن المشاريع والأفكار التي تطارحتها دورة البرازيل الأخيرة (جانفي 2005) تحت عنوان تحويل المنتدى الاجتماعي إلى "مظلة" لأنشطة اجتماعية متوازنة ومنضوية تحت شعار مناهضة العولمة لم تكن الإجابة الشافية حول هذه المسألة التي ستظل مطروحة بجدية وبها يرتهن مصير المنتدى الاجتماعي كفضاء.

ومهما كانت الإجابة التي قد يوفرها الجدل الجاري الآن داخل المنتدى الاجتماعي فإن الواقع أثبت أنه لم يتمكن حتى الآن من أن يكون بديلا عن الأطر التقليدية (أحزاب ونقابات خاصة) بقدر ما أعطاها دفعا لتبقى أدوات تغيير أساسية وهي مسألة ما تزال تطرح نفسها لمزيد النقاش.

هذه فكرة عامة عن المنتدى، وسنحاول في العدد القادم تناول محاولات بعث مثل هذا المنتدى في تونس والعراقيل التي تقف أمامها.

صوت الشعب: العـــــدد 239
تونس - سبتمبر 2005








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 9 شهداء بينهم 4 أطفال في قصف إسرائيلي على منزل في حي التنور


.. الدفاع المدني اللبناني: استشهاد 4 وإصابة 2 في غارة إسرائيلية




.. عائلات المحتجزين في الشوارع تمنع الوزراء من الوصول إلى اجتما


.. مدير المخابرات الأمريكية يتوجه إلى الدوحة وهنية يؤكد حرص الم




.. ليفربول يستعيد انتصاراته بفوز عريض على توتنهام