الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فرضية -هنا،والآن- في إثبات البدايات لمسرح الشارع

حسام الدين مسعد
كاتب وقاص ومخرج وممثل مسرحي ويري نفسه أحد صوفية المسرح

(Hossam Mossaad)

2024 / 2 / 20
الادب والفن


طالما راودنا السؤال دوماً،حين نشتبك مع عرض مسرحي في شوارعنا العربية،هل ولد المسرح في الشارع قبل أن يتم تشييد العمارة المسرحية ؟ واين ولد المسرح؟هل ولد في شوارعنا العربية اولا ؟،ام أن الولادة الأسبق كانت في الغرب ؟ إن الإجابة علي مثل هذا السؤال الأول والتي تتعلق بهل ولد المسرح في الشارع ؟ يتضمنها تقديم الاستاذ الدكتور "مدحت الكاشف " لكتاب" مسرح الشارع بين الخلط الشائع -مقاربة مفاهيمية )، إذ يقول" الكاشف":-[ ولد المسرح في الشارع عندما وجد فيه الإنسان الأول وسيلة لتجسيد كل الظواهر الطبيعية، والموجودات من حوله في محاولة لفهمها، وتفسيرها ...وربما مجابهتها، ولد المسرح في الشارع عندما انطلق من مجموعة عوامل اجتماعية ونفسية تجلت في نشأة ذاك الإنسان [الأول] للتعبير عن آلامه وآماله وصراعاته مع كل شئ من حوله من أجل البقاء، متوسلا في ذلك بعناصر جمالية وحسية، ويعني ذلك أنه حول حياته عن طريق المسرح إلى فن، إلى إبداع ، وهو ما يفسر جوهر المحاكاة" وفقا لأرسطو بوصفها غريزة متأصلة في جميع البشر، يطلق عليها غريزة التمسرح التي تجلت من خلال ميل الإنسان البدائي للتظاهر Pretension في كافة تعاملاته مع الطبيعة من حوله،ومع أخيه الإنسان، وكل الكائنات والموجودات، عندما كان يأتي لعشيرته في المساء،
وقد افترشوا الأرض حول النار التي تسوى عليها الفريسة، ليحكي لهم مشخصاً كيف قام باصطياد فريسته، وهو يعيد ما حدث، مستخدماً صوته، وجسده للتعبير عن كافة الانفعالات التي يعيد محاكاتها بغريزته، هذه الغريزة التي يعرفها "الكسندر باكشي" Bakshy بأنها: دافع طبيعي للحدث الدرامي يتواجد عند البشر جميعاً، وهي المجهود الذي يبذله الفرد كي يبدو مختلفاً عن حقيقته، وهو المفهوم الذي يلخصه"فرنسيس "فرجسون" Fergusson من خلال تعريفه للغريزة المسرحية بأنها: شكل كامن للإدراك الإنساني"،ومن ثم، فهو يطلق عليها (الوعي المسرحي)] .
-نستخلص من تقديم أ.د"مدحت الكاشف" أن الغريزة المسرحية أو الوعي المسرحي كما أطلق عليه "فرجسون"ولد بالفطرة مع ميلاد الإنسان،لذا، فإن ماقدمه" ثيسبس" من مقاطع تمثيلية عرضت في الشارع، كمحاكاة لأساطير سابقة، هو يمثل غريزة مسرحية، وشكل كامن للأدراك الإنساني أو ما يمكن أن نسميه بالوعي المسرحي،فما تم نعته أنه ظاهرة مسرحية لعرض فردي قدم في الشارع اليوناني القديم علي عربة "ثيسبس"، لعدم وجود،نص مسرحي مكتوب،او مكان مخصص للعرض المسرحي وقت ذاك، لا يجعلنا نستطع الجزم بان هذا التاريخ هو بداية لظهور عروض مسرح الشارع في العالم،وإن كان يصلح كتاريخ لبداية ظهور المسرحية في العالم، وإستناداً لرأي الناقد«محمد عبد الستار حافظ »في مقال له عن نشأة المسرحية بموقع الحوار المتمدن علي الإنترنت يقول « ،وتطورت المسرحية على يد الشاعر (ثيسبس557-530 ق.م)،فأصبح لا يعتمد على الارتجال الذي كان يؤدى إلى اضطراب في الأفكار ،بل أصبح يعد قبل التمثيل ،مما أدى إلى ارتباط أجزاء المسرحية بعد أن كانت مفككة وركيكة التركيب. »، وهذا يؤكد لنا ان "ثيسبس" مع ديمومة عروضه كان يقوم باعداد المقاطع التي سيقوم بتشخيصها،ويدونها قبل التمثيل، متخلياً عن الإرتجال الذي يشتغل عليه مسرح الشارع.
-اثناء بحثي عن بدايات مسرح الشارع حاولت ان استنبط البدايات الحقيقية له وفي أحد المقالات التي لم يذكر اسم كاتبها أثار انتباهي هذا المقطع الذي يؤكد بدايات حقيقية لمسرح الشارع تتسق والمنطق،والوجود العيني واللفظي،والكتابي الذي ساقها كالتالي، «ولما زاد الاهتمام في التمثيل بحركات الممثلين، وبالمناظر بدل الحبكات والأفكار تخلى التمثيل عن مكانه في المسرح إلى التهريج والمساخر، وكانت المساخر لا تحتوي إلا على القليل من الحوار، وكانت تختار موضوعاتها من حياة أحط الطبقات، وتعتمد على تصوير الشخصيات تصويراً بارعاً في التقليد الساخر، وبعد أن قضى على حرية القول في الجمعيات، وفي السوق بقيت بعض الوقت في هذه المهازل القصيرة، حيث كان في وسع الماجن أن يجازف برفع رأسه وإطلاق لسانه لينال بذلك تصفيق الجماهير بتورية يسددها إلى الإمبراطور، أو الملتفين حوله، وقد أمر "كلجيولا" بحرق أحد الممثلين حياً في المدرج عقاباً له على إشارة من هذا النوع، وفي اليوم الذي دفن فيه"فسبازيان الشحيح" مثلت مهزلة قلدت فيه جنازته تقليداً ساخراً، كان من مناظرها أن جلست الجثة في أثناء موكب الجنازة، وسألت كم أنفقت الدولة على هذه الجنازة؛ ولما قيل لها إنها أنفقت "عشرة ملايين سسترس" أجابت بقولها "أعطوني مائة ألف فقط ألقوني في نهر التيبر"، ولم يكن يسمح للنساء بالتمثيل إلا في هذه المهازل، وإذ كانت هذه النسوة يعتبرن بهذا العمل من العاهرات، فإنهن لم يكن يخسرن شيئاً بما ينطقن به من بذيء اللفظ، وكان النظارة في بعض المناسبات الخاصة كعيد فلورا ربة الزهر يطلبن إلى أولئك الممثلات أن يخلعن جميع ملابسهن، وكان الرجال، والنساء يشهدون هذا الضرب من التمثيل كما يشهدونه الآن ".
يتضح لنا من هذا المقطع ان الكاتب يشير إلي امرين :- الأول ان العصر التاريخي هو العصر الروماني وبالتحديد الفترة التي سبقت تولي "كاليجولا" مقاليد الحكم في روما مباشرة، والفترة التي بدأفيها مباشرة سلطات الحكم، فلقد كان اسم كاليجولا الحقيقى هو "جايوس"، وتولى حكم روما منذ مارس 37م إلى يناير 41 م،اي ان الكاتب يشير الي الفترة الزمنية من قبل عام 37ميلادية بسنوات قليلة وحتي جنازة (فسبازيان)، ليصور لنا الوجود العيني للمسرح من خلال الوجود الذهني،والوجود الكتابي لهذه الفترة الزمنية .
-الأمر الثاني، ان الكاتب أشار الي الملهاة، اوالمساخر التي كانت تختار موضوعاتها من حياة احط الطبقات، وان النتيجة الحتمية المترتبة علي ذلك هو تخلي التمثيل عن مكانه في المسرح الذي هو مكان لمشاهدة العروض التشخيصية ، وهذا التخلي انتقل بالمسرح،او البناية المعمارية التي عرفت قديماً ب (المدرج )الي الشارع، وفي شكله الساخر الذي يعبر عن بداية حقيقية للخروج بالعرض من العمارة المسرحية الي الأماكن العامة، وليس ابلغ من مشهد جنازة "فسبازيان" الذي في حقيقته ديالكتيك إحتجاجي، وتشاركية مع الجمهور الذي اجابه بالتكلفة المالية للجنازة في بلوغ غاية دلالية تسخر من واقع الشخصية، "فسبازيان"وواقع الجمهور المتلقي، مفادها هو ذات الرسالة التي يسعي صناع مسرح الشارع لتبليغها للمتلقي وهي،توعيته،و تبصيره لتمييز صحيح الفكر من فاسده .

-سيظل الجدل ثائراً حول معرفة البدايات الحقيقية لمسرح الشارع والكل يسعي بحثياً لبلوغ المعرفة النهائية لتاريخ النشأة،لكن إن عدنا الي ورقة بحثية موسومة ب"المسرح المصري القديم وبدايات موثقة " والذي يثبت فيها د."نادر معتوق "إن البدايات الحقيقية للمسرح في العالم كانت في مصر،وليست في اليونان الإغريقية،إذ يشير في دراسته الي الآتي:-
[وقد اثبت"اتيين دريوتون"في كتابه (المسرح المصري القديم ) اثبت بما لا يدع مجالا للشك انه كان هناك مسرح ناضج مكتمل العناصر، وأن هناك عددا لا بأس به من النصوص المسرحية، وكان ثمرة لأبحاث هذا العالم هي إكتشاف مسرحية (إنتصار حورس)، حيث كان النص منقوشا علي جدران معبد( إدفو )، حيث سجل النص في عهد (بطليموس التاسع عام 88 ق.م، وحسب ما أورده "دريوتون" في كتابه أن اللغة التي كتب بها النص تدل علي انه كان متداولا في عهد الدولة الجديدة، اي قبل الف عام من إنشاء هذا المعبد ، كما أن الشعيرة التي تناولتها المسرحية موغلة في القدم مايقرب من ثلاثة آلاف سنه ق.م].
-بذلك يكون هذا النص (إنتصار حورس) هو أول نص مسرحي مكتمل لأقدم مسرحية عرفتها الحضارة الإنسانية في التاريخ، وهو ما يخالف إكذوبة أن المسرح ولد إغريقياً، وأن أول مسرحية هي المسرحية الإغريقيةالمعروفة ب(الضارعات)"لإسخيلوس"، والتي قد سبقتها تاريخيا في الوجود مسرحية (إنتصار حورس )

ويشير د."نادر معتوق" في ورقته البحثية الي أن [المعبد، لم يكن بالضرورة هو المكان الأوحد الذي تقام فيه الشعائر التي اتخذت صفة المسرحية، بل إن أحد اماكن وجود العرض المسرحي في مصر القديمة (المعبد/غرفة الأسرار/الشارع )، اي ان المسرح كان المدينة بأسرها ولذا لم يكن هناك ضرورة لإنشاء مبني خاص للمسرح ].
-إن القول بأن المسرح لم ينشأ في مصر القديمة، لعدم وجود مباني للمسرح ضمن الآثار المعمارية المختلفة يصبح أمر غير منطقي ،فالمسرح كان جزء من الطقوس، والشعائر الدينية ويقوم علي خدمتها.
وفي عام 1933م نشر "ده بوك"نصاً درامياً كان منقوشا في المقبرة الخالية (سيتي الأول ).
-أما عن الممثل المحترف فقد أشار"معتوق"الي ما أشار إليه "أخر نوفرت"I-ker-Nefert [أن هناك ممثلين قاموا بأدوار مسرحية ليست طقسية، ولم ترتبط بالمعبد وإن كانت ذات صبغة دينية، فهناك نص منقوش علي لوحة تم إكتشافها في (إدفو) يتضمن النقش إهداء للإله حور من شخص يدعي (امحب)، كان تابعا لممثل جوال، وصيغة هذا النص علي لسانه تقول (كنت ذاك الذي يتبع سيده في كل جولاته دون ضعف في الأداء، وقد كنت أرد علي سيدي في كل أدواره، فإذا قام بدور الإله كنت أقوم بدور الحاكم )].
-ويشير "دريوتون" [أن هناك من النصوص التي وصلت إلينا ما يسمي ب(كراسات المخرجين )وب(كراسات الممثلين ) فالأولي تتضمن توجيهات للمشاركين في الأداء حول ما سيقومون به من أدوار تلخص الشعائر، وتفسر رموزها كما تتضمن فواتح الحوار الذي علي الممثلين إستظهاره.،-أما الثانية، ففيها يثبت هؤلاء الأدوار المسندة اليهم دون الحاجة الي اثبات غيرها، ودون الحاجة الي اسم الشخصية التي يؤدون كلماتها ].
-رداً علي ما يردده البعض أن المسرح نشأ في اليونان القديمة يذكر الباحث"عمر المعتز بالله في كتابه "المسرح المصري القديم "٢٠٢٢وهو ذات العنوان الذي الفه "اتيين دريتون" ١٩٢٥وتمت ترجمته للعربية في كتابين مستقلين،الأول من ترجمة، د.عادل سلامة ١٩٣٨م.،والثاني ترجمه د.ثروت عكاشة ١٩٦٥م،إذ يقول "المعتز بالله "أن "أرسطو"كتب في كتاب القوانين [أن كل ما عرفناه جاء من مصر ]،و"أفلاطون"يقسم في محاوراته بحق انوبيس،وارسطو نفسه قال [أن البداية الحقيقية للمسرح لا نعلم من اين جاءت بالتحديد] وهو ما ينفي أن المسرح نشأ علي يد الأغريق في اليونان القديمة .
-لكن لا شك أن الإغريق هم أول من وضعوا الضوابط،والنظريات للمسرح في القرن الخامس قبل الميلاد،و تحديداً عام ٥٣٥ق.م،عندما قام "ثيسبس"بعرض مسرحياته علي عربة متجولة في الشوارع والساحات العامة،لكن في اعتقادي أنه لم يكن الظاهرة الأولي لعروض مسرح الشارع،إذ أن تواجده في الشارع كان لعدم وجود العمارة المسرحية في ذاك التوقيت،بل أن استخداماته للعربة تشير الي وظيفتها المكانية كمنصة للعرض،او غرفة لتبديل الملابس،والأقنعة،ولا تنطلق فكرة التجوال فيها،من منطلق التجوال في عروض مسرح الشارع الآن،بل تجوالها قائم علي الترويج ل"ثيسبس" المؤدي،او الممثل ،لاسيما أنه أول من فاز بمسابقة الدراما الإغريقية عام ٥٣٥ق.م.
-لكن بعد ميلاد السيد المسيح،وظهور الدين المسيحي،والتبشير به من خلال الرسل،فإن الناقد المصري" خالد رسلان "يشير في مقال له [أن بولس الرسول كان يستخدم عروض مسرح الشارع للتبشير بالدين المسيحي في مصر] .
- إن الإرهاصة الأولي لخروج عروض المسرح في التاريخ الي الشارع، كانت من خلال جنازة"فسبازيان الشحيح" كما أشرنا سابقاً،ولم يسبقها أي محاولات للخروج نظرا لعدم وجود العمارة الهندسية المسرحية وتوالت بعدها ارهاصات عديدة لخروج المسرح الي الشارع ،فعندما استولت الكنيسة علي السلطة،بعد سقوط إمبراطورية روما عام ٤٧٦م،واصبح المسرح خاضع لسلطة رجال الدين اللذين اعتمدوا علي الممثلين المتجولين في تقديم عروض داخل الكنيسة الي أن أصدر "البابا اوريان الرابع "في انكلترا فرمانه الذي يقضي بالإحتفال بعيد القربان في كل أنحاء أوربا بعرض مسرحيات "الأسرار،والمعجزات"علي عربات متجولة في الهواء الطلق في الشوارع،والساحات العامة،لتصور قصة آدم،وحواء مذ بدء الخليقة،وحتي يوم القيامة،وهذا ما أشار إليه "آلان ماكدونالد " في كتابه مسرح الشارع (الأداء التمثيلي خارج المسارح ) .
-لكن سرعان ما شكل رجال الدين المسيحي سلطة رقابية هيمنت علي الموضوعات التي تقدمها العروض المسرحية داخل الكنيسة،والصقت تهم المجون والفسق بكل من يعارض اوامر رجال الدين،فيتم طرده من الكنيسة،ويخرج الي الشارع،ووجد الممثلون بعد طردهم أن الشارع هو الملاذ لهم،فأنتقل المسرح اليه،واصبحت موضوعاته التي يتناولها في عروضه،هي موضوعات الحياة الدنيا،وليس الحياة الدينية .
-في منتصف القرن السادس عشر الميلادي،وفي روما عام ١٥٥١م،ظهرت الكوميديا "ديلارتي"،او الكوميديا المرتجلة في ظل تربع المأساة علي عرش المسرح،ويشير " فرانك هويتنج" في كتابه " المدخل للفنون المسرحية "إلي أن هذا النمط المسرحي يرتكز علي مهارات وحرفية الممثل،إذ أن الأخير كان يتمتع بموهبة فائقة في الإرتجال،والحس الفكاهي،لاسيما أن العروض الديلارتية كانت لاتعتمد علي النص المسرحي ،بل تعتمد علي تخطيط للأحداث فقط،ومن خلال ديالكتيك،او جدل،او المفارقة بين الثالوث المتكون من (الزوج،والزوجة،والعشيق)،ومن خلال الإعتماد علي الإضحاك المبتني علي اختيار موضوعات ساخرة من حياة الناس اليومية،تعرض في صورة اسكتشات متصلة يربطها رابط واحد،ورئيس يبرز الفكرة التي هي خطاب العرض الذي ينطلق في الهواء الطلق متخذا من الناس المتواجدة في الساحات العامة،والشوارع جمهوراً له،يتفاعلون مع ارتجال المؤدين،او ينبهروا بالتمثيل الصامت،والساخر الذي كان يبرز مهارات،وحرفية الممثلين في توظيف التقنيات الأدائية المختلفة.
-قد يعتقد البعض أن عروض الكوميديا المرتجلة في الهواء الطلق،هي من قبيل عروض مسرح الشارع،لكن بداياتها والتي كانت تستخدم العربات المتجولة كمنصة للعرض المسرحي، هي في اعتقادي تقليد نحا بالعرض الديلارتي الي ذات المنحي الذي اتخذه "ثيسبس" بعربته،إذ أن دور المتلقي انحسر في فعل المشاهدة فقط،،ولم ينحا الي فعل المشاركة،او إرضاء الرغبة الكامنة بداخله في التفاعلية المتبادلة بين الطرفين أو عملية التحرر،والمقايضة التي تزيد من الوعي الفني لدي أطراف العملية الإتصالية في العروض المسرحية التي تستهدف الفضاءات غير التقليدية.
-في مقال للكاتب العراقي "محمد عبد الزهرة الزبيدي" بعنوان (مسرح لخبز،والدمي) تم نشره علي موقع الحوار المتمدن في ٣١/١٢/٢٠١١،إذ يتحدث" الزبيدي "عن نتائج وتزايد الوعي الفني في امريكا فترة ستينيات القرن العشرين،عقب نشاط
مسرح الزنوج الذي كان يهتم بالأمور السياسية،والإجتماعية،إذ توالي ظهور مجموعات سميت بالمسرح المتطرف كان من اهدفها تغيير المجتمع،ومن بين تلك المجموعات،مجموعة أسسها "بيتر شومان" في نيويورك عام ١٩٦١ عرفت بمجموعة
(مسرح الخبز،والدمي)،قدمت عروضاً تحمل بعداً سياسياً،وايديولوجياً في المجتمع الأمريكي،واستمدت اسم الخبز،والدمي من ممارسة هذا المسرح،وطقوسه الخاصة التي نبعت من قول "شومان" [نريد أن نكون قادرين علي إطعام الناس] .
-اي أن (هنا) التي عاناها "بيتر شومان" في ذاك الوقت من مبادرته الذاتية،وكينونته الواعية،تؤكد علي أن المسرح،والفن أساس في الحياة كما الخبزهو الآخر،لذا كان يعمد الي توزيع الخبز المجاني علي الجمهور قبل بدء العرض المسرحي كوسيلة اتصال أولية تخلق علاقة جديدة،وإجتماعية بين جمهور المتلقين،وصناع العرض في الفضاءات المفتوحة التي كانت تستهدفها مثل هاته العروض في شوارع نيويورك بمواكبها،ومسيراتها من الدمي العملاقة والمسرحيات القصيرة،التي كانت تختارلها موضوعات من الحياة المعاصرة،إذ يقول "شومان" في ذلك [أن مسرح الدمي،هو امتداد للنحت،يصور كاتدرائية ما،لا بوصفها مكاناً دينياً مزوقاً،وإنما بوصفها مسرحاً يحركه محركوا الدمي،المسيح،والقديسين،والتماثيل الناتئة علي صورة إنسان،او حيوان تتحدث الي المتعبين،وهم بذلك يشتركون في طقوس الموسيقي،والكلمات ].
-إن استخدام الدمي في مسرح "شومان" كان هدفه النقد،والسخرية اللاذعة،لظاهرة سياسية،او إجتماعية،او اقتصادية،إذ تبني "شومان" في إنتاج وتصنيع هذه الدمي عملية التدوير للمواد التي أنتجتها الطبيعة،وأرادت أن تتخلص منها بعد إنتاجها،ففي بعض الأحيان كانت مكونات تصنيع الدمي من القمامة،مثل علب التنك،والبلاستيك،وقصاصات ورق،واقمشة زائدة،وكان "شومان" يدعوا متطوعين من الجمهورليساعدوا في بناء الدمي العملاقة،ويشاركوا أيضاً في التمثيل.
-لقد استهدف مسرح الخبز،والدمي في عروضه فضاء الشارع،ومستهدفيه بشتي فئاته،واهمهم فئة الجمهور العام والتي كانت تنخرط في الظاهرة للمناقشة بشكل مباشر،ومن خلال مايعرض أمامها من إسكتشات الإستعراض المنوع"الفودفيل"،ومشاهد التمثيل الصامت،ليؤرخ "شومان" تقدم الإنسان حتي نهاية العالم عندما يلقي بالأشرار في الجحيم من خلال تصوير هذا المشهد بواسطة الدمي الصغيرة التي تسقط من ارتفاع شاهق.
-اعتقد أن مسرح الخبز،والدمي هو الانطلاقة الحقيقية للوجود العيني لعروض مسرح شارع في تاريخنا الحديث،إذ يمكننا أن نحلل انطلاقته وفق فرضية (هنا،والآن) التي أكدها"بيتر شومان" ومفادها اننا جئنا اليكم في هذا المكان لنقدم لكم الخبز المجاني،ولتتحدث دمي المسيح،والقديسين اليكم ايها المتعبين .
-في عام ،١٩٦٥نشأ علي يد "سان فرانسيسكو" مايم تروب، وبإلهام من كتابات "تشي جيفارا "التي تم من خلالها تم استلهام تعبير حرب العصابات،ليكون عنوان لمسرح اشترك فيه" فرانسيسكو" بعروض مسرحية،استهدفت أماكن عامة،والتزمت "بالتغير الاجتماعي السياسي الثوري، فيما عرف بعروض "مسرح العصابات"، وقد هدفت العروض التي تقدمها المجموعة إلى مناهضة حرب فيتنام والرأسمالية، وكانت تتضمن في بعض الأحيان موضوعات عن العري، والألفاظ النابية، والعزل، والتي كانت صادمة لبعض أفراد الجمهور في ذلك الوقت.
إن "حرب العصابات" (المشتقة من الكلمة الإسبانية "الحرب الصغيرة") تصف العفوية، والأداء المفاجئ في الأماكن العامة غير المحتملة لجمهور غير متشكك، وتهدف هذه العروض عادة إلى لفت الانتباه إلى قضية سياسية أو اجتماعية من خلال الهجاء، والاحتجاج، والتقنيات المهرجانية، وكان الكثير من هذه العروض نتيجة مباشرة للحركات الاجتماعية الراديكالية في أواخر الستينيات، مرورًا بمنتصف السبعينيات من القرن العشرين.
-إن الكشف عن الجوهر الإجتماعي،الجمالي الإبداعي،كان بغية الفنان والمسرحي علي مر العصور من خلال تأسيس علاقة الشراكة الجديدة بينه وبين المتلقي،لذا فإن "اوغيستوبوال" الذي قدم اول عروض "مسرح المقهورين " في فرنسا عام ،١٩٧٧يري أن اشكال الفصل المسرحي التي يتأسس عليها الفضاء الجمالي،والإبداعي للمسرحية التقليدية،اكثر من مجرد تقسيم مكاني شكلي،بل هو عزل للناس عن دائرة الفعل،وممارسة التغيير،ويوضح" بوال " آلية عمل مسرح المقهورين من أنه مرآة للمتلقي تمكنه من التدخل لتعديل صورة الحدث،لا مجرد النظر إليها،ومن خلال العمل علي بناء صورة للواقع يحللها،ويراها جمهور المتلقين،ويعيد ترتيبها من جديد،وتبديل ما يلزم،كما يحلو لهم،فالمقهورون يصورون أنفسهم،ومشكلاتهم داخل الحل المسرحي الذي يعطونه للعمل المعروض عليهم .
-إن مسرح المقهورين انطلق من فرضية (هنا،والآن) والتي استلهمها "بوال" من حديث له مع أحد المزارعين عقب انتهاء العرض المسرحي،ليكتشف "بوال" أن ما كان يفتقده في عروضه هي لغة التعلم الحواري،والتي استلهمها من كتابات البرازيلي "باولو فيراري" والتي ساهمت في الزج بهذا المتلقي داخل رقعة التمثيل عن طريق ايجاد حل للمشهد المعروض عليه،او إعادة صياغته بتغيير نهايته بنفسه وفق تفكيره الإيجابي الخلاق الذي يقود الي مسرح يتمرد علي القهر بشكل فعال،"فعندما يستطيع المتفرج التغيير داخل العرض،لن يعود أبداً الي الواقع،ولن يتنازل عن قدرته علي التغيير ".
-لذا فإن تقنيات" اوغيستوا بوال "الخمسة (مسرح الجريدة الناطقة- المسرح الخفي-مسرح المنتدي-قوس قزح الرغبة-المسرح التشريعي) تنطلق من التغيير بدءاً من التخلي عن المنصة،واخراج المتفرجين من حيز النص الي حيز الفعل،والتأثير الحقيقي التي تبنت حلقة نقاش الحل المسرحي كما في (مسرح المنتدي)،اوماتبناه "بوال"في إبراز فجاجة الاخبارالكاذبة التي يتم تلاوتها بصوت عال في (مسرح الجريدة الناطقة) لتستفز المتلقي الي تغييرها كي تفيد بما حدث حقيقة في الواقع. هذا،وقد سعي "بوال" الي تقديم صراع واضح فيه نزاع بين فردين في مكان عام،دون اعلام الناس أنه مشهد تمثيلي،إلا بعد انتهاؤه،كي يمنع عنهم إحساسهم بالخديعة،ويؤسس لعلاقة المكاشفة معهم،كما في تقنية (المسرح الخفي)،وقد حاول"بوال" عن طريق صياغة القهر داخل نفسية الفرد،وتجسيده صورياً، أن يجسد العناصر النفسية،والمخاوف الداخلية،علي هيئة شخوص درامية في تقنية (قوس قزح الرغبة)،وحين يكتشف المتلقي في مسرح المقهورين أنه لاحل للصراع،الا بما يتعارض مع القانون،فكانت تتم الاستعانة بمحام،اوناشط حقوقي لصياغة المقترح الي البرلمان لمناقشته بغية تغيير الأوضاع الإجتماعية كما في تقنية (المسرح التشريعي ).
-لكن (هنا) في وطننا العربي هل نجح صناع مسرح الشارع في الكشف عن الجوهر الاجتماعي والجمالي الإبداعي في عروضهم عبر العصور؟
-لاشك أن الوجود الأول للمسرح في وطننا العربي،انطلق من خلال الظواهر الفردية عن طريق اللعب،والغناء،والإنشاد في المناسبات مثل الأفراح، والموالد،إذ كان العرب،والمستعربون يتجمعون،ويتسامرون في المساء بالتقليد،والإرتجال لمواقف مختلفة من الحياة اليومية ،إذ كان يعتمد العرض في السامر علي الإرتجال،والتقليد كحال هاته المرحلة من مراحل التمثيل الفردي،الي أن ظهر في العصر العباسي القاص،او السارد الذي يجيد السرد القصصي،وتتجمع الناس علي سرده،او قصته بشغف بلوغ نهاية الحكاية التي يقصها عليهم،لكن سرعان ما تطور الأمر في القرن الخامس الهجري مع ارتباط السرد القصصي بالحكايات الشعبية الأسطورية التي اعتمدت علي حكاء يجيد سرد القصص بشكل مشوق،يعتمد في بعض الأحيان علي تجسيد الشخصية المحكية عنها،عن طريق التقليد،او المحاكاة الصوتية،واستخدام حركات الجسد للتعبير عن حالات الغضب،او الفرح،اوالخوف،او الغزل التي تواجهها الشخصية المحكية عنها،هذا فضلاً عن أنه كان يستعين بآلة موسيقية يعزف،وينشد عليها في عرضه،إذ كان يتمتع "الحكواتي" أو الفنان الذي يقوم بالحكي، بخيال خصب،وابداعي كما أوردت" صفاء قره" في مقالها الموسوم (معلومات عن شخصية الحكواتي في سطور)،لكن مع تطور فن الحكواتي اختار لنفسه منصة،عبارة عن مكان مرتفع عن الجمهور يجلس عليه،كي يرونه،ويسمعونه جيدا،اثناء الأعياد،والمناسبات العامة،ثم انتقل بعد ذلك إلي المقاهي وأماكن التجمعات العامة .
-بالرغم من أن فن الحكواتي العربي هو فن انبثقت منه كل الظواهر الدرامية العربية التي تلته في النشأة ذات الخصوصية المحلية النابعة من داخل المجتمع العربي،إلا اننا لم نستطع استثمار هاته القوالب العربية الخالصة في انتاجنا لعروض مسرح شارع تؤصل لمفهوم عربي .
-فما ابلغ ماحدث لبابات خيال الظل الوافدة الي وطننا العربي في أواخر القرن العاشر،وبداية القرن الحادي عشر،والتي تمكنت بالتدريج من تقديم مستويات ظلية محلية لها قيمتها الفنية الممتزجة بالتراث الإجتماعي العربي التي تطبعت بطابعه،وصبغته، كما يري د."ابراهيم حمادة"إذاقترنت عروض خيال الظل في أول الأمر بالتنقل من مكان الي آخر لإستهداف جمهورها،وهوالامر الذي فرض شكل هذا النوع من المسرح،وجمهوره،لكن ما اورده،د."عبدالحميد يونس " في وصفه لدار عرض خيال الظل في مصر [من وضعية المنصة،او شاشة العرض،التي كانت عبارة عن حاجز يفصل النظارة عن اللاعبين،او المخايلين،وقد شيدت عليه ستارة من القماش الأبيض الرقيق الشفاف،وراءها مصباح كبير من مصابيح الزيت، في مقابل باب الدخول لدار العرض التي كانت علي شكل ردهة متسعة واحدة]اي أن تطور خيال الظل،جعل منه فناً نخبويا يمارس في قاعات للعرض،يتم دخولها بأجر،ويحظر علي غير القادرين مشاهدته .
- لكن اقرب الظواهر الدرامية لعروض مسرح الشارع تجلت في مرحلة الظواهر الإجتماعية،والتي انتقل فيها الفعل المسرحي من ظاهرة فردية الي ظاهرة جماعية،كظاهرة "المحبظين"،إذ يشير د."علي الراعي" أن هاته العروض كانت عروض انتقادية كوميدية تستقي موضوعاتها من الواقع الحي للجمهور،والممثلين الذين يعتمدون علي الإرتجال في تفاعل الجمهور معهم،حيث كانت تقدم هاته العروض في الشارع أو الأماكن العامة ،كما أشار المستشرق الدنماركي"إدوارد لين"أن عروض المحبظين كانت تعتمد علي المواقف المضحكة الخفيفة،والنكات،والحركات الخارجة،وان الممثلين جميعهم من الذكور مابين رجال وصبيان يقدمون جميع الأدوار الرجالية،والنسائية.
-لاشك أن ما نبحثه في (هنا،والآن) ليس الخروج بالعرض المسرحي للفضاءات المفتوحة،وغير التقليدية،بل اننا نبحث من خلال (هنا،والآن) عن الأثر السيسيوثقافي لخطاب العرض الجمالي،والإجتماعي من خلال تفعيل الفضاء العمومي في بلداننا العربية،كي نشاهد عروض مسرح شارع حقيقية تناقش قضايانا اليومية،وتستهدف جمهور المتلقين اينما وجد من خلال ذهابها إليه في فضاءه الخاص،كي يستطيع التلقي النقدي ملاحقتها،ورصد تراكمها،واستمراريتها،بل أنه يثلج صدورنا رغم شبهة الرسمية،والولاء للأنظمة السياسية،التي تهيمن علي الفضاء العمومي،انطلاق عروض مسرح الشارع لتوعية وتثقيف،وتبصير المتلقي بقضية ما تشكل خطورة عليه،وهذا ما تبنته وزارة التضامن الاجتماعي المصرية،حين قررت إطلاق مشروع "كفاية اتنين" لمواجهة أزمة الزيادة السكانية من خلال توعية المواطنين،بإستهدافهم بعروض مسرح شارع،انتقلت الي عشرة محافظات مصرية،تناقش في خطابها المسرحي العادات،والتقاليد،والاعراف الخاطئة،واهمية الصحة الإنجابية بقصر الإنجاب علي طفلين فقط،بغية التغيير في مواقف،واتجاهات،وسلوك المتلقي المستهدف من هاته العروض .
-إن ابلغ ما نتج عن هذا المشروع الذي ارتكز علي عروض مسرح الشارع في تحقيق رسالته،هي الإحصائية التي وردت في مقال "مدحت وهبة" المعنون ب(التضامن الإجتماعي تعلن انتهاء عروض مسرح الشارع لمواجهة الزيادة السكانية).
-استطاعت هاته الإحصائية تحليل فئات الجمهور المستهدف،والمتلقي للعرض تحليلاً ديموجرافياً،إذ ورد فيها أن إجمالي عدد جمهورالمتلقين في العشرة محافظات التي استهدفها العرض حوالي ١٠٥٠٠فرد،حيث شكلت الفئة العمرية التي تتراوح بين ٢٥:٣٠ عام نسبة ٣٦٪ من إجمالي عدد الجمهور،وكانت النسبة الأعلي في مشاهدة العروض للسيدات بواقع ٦٨٪ من إجمالي عدد الجمهور،كما أورد كاتب المقال أنه تم مناقشة عينات عشوائية من فئات الجمهور المستهدف،ومن خلال المقابلات الشخصية التي تستقصي آرائهم حول العرض،وخطابه،ومدي استيعابهم لرسائله،ومدي تأثير هذا الخطاب في تغيير،معارفهم،و مواقفهم،واتجهاتهم،وسلوكهم تجاه القضية اليومية التي يناقش فيها العرض اثر الزيادة السكانية علي الصحة الإنجابية،وخطورتها علي المجتمع.
-إن "مشروع كفاية٢" سعي الي توعية،وتبصير المواطنين بخطر الزيادة السكانية،لكنه في الحقيقة سعي الي تفعيل الفضاء العمومي،لعروض مسرح الشارع التي باتت في وطننا العربي رهينة التصاريح والموافقات الأمنية من السلطة المركزية المهيمنة علي الشارع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #كريم_عبدالعزيز فظيع في التمثيل.. #دينا_الشربيني: نفسي أمثل


.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع




.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو


.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع




.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا