الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عتبات الحياة

صفوت فوزى

2024 / 2 / 21
الادب والفن


كانوا قد حددوا الموعد ولم يخبروك به ، كلهم كانوا يعرفون إلا أنت ، وكانت هى المكلفة بإبلاغك . من وسط خوفك المتصاعد ورعبك المقيم ، حدثت نفسك قائلا : غدا سأغدو رجلا ناضجا ، سأتحرر من سيطرتهم على ، وأذهب وأجئ أينما أردت ومتى أردت . كانت تفترش الحصير المهترئ فوق السطوح وهى تمسك برقبة ذكر البط ، تلقمه حبات الذرة وقليل من الماء وهو يتملص بين يديها محاولا الافلات ، فيما كانت الكتاكيت – صغيرة ذات زغب – تنبش الأرض ، تلقط الحب ولا تكف عن النقنقة . حين فرغت مما تقوم به ، أخذتك من رسغك وهى تقول لك : تعال . غدا ستختتن وتغدو رجلا يافعا . لا تخف ، هو ألم خفيف وسيزول سريعا ، وستنمو وتكبر بعد ذلك وتصبح رجلى وسندى فى الحياة ، هل تفهم ؟ كانت عيناها العسليتان الصافيتان الودودتان تبعثان برسالة طمأنينة للصبى الخائف ، الذى هو أنا . كانت جذلة وسعيدة كمن حصل على هدية ثمينة . أضافت ، غدا ستغادر حبلك السرى وأسنانك اللبنية وألعاب الأطفال الصغار وتخطو خطواتك الأولى فى عالم الكبار . وأومأت برأسك وأنت لاتدرى عما تتحدث هذه المرأة التى ربتك وأدمنت حضنها الوثير الذى يشعرك بالدفء والأمان .
بإمكانك الآن أن ترى دموعها تترقرق فى عينيها وهى تضمك إلى صدرها ، تتدفق عواطفها مانحة إياك مزيدا من الضم والقبلات . تنظر طويلا فى عينيك وتفيض نظراتها بالأمل والعرفان وهى تتخيلك قد شببت عن الطوق وصرت رجلا تشتهيه البنات ويغار منه أقرانه . تتسارع دقات قلبك ، ويختلط لديك الخوف والفرح ، يتعانقان داخلك فلا تعرف بماذا تشعر بالدقة . يتحرك شئ فى داخلك ، وتأتلق عيناك بدمع محبوس يأبى أن يندلق . كانت روحك تنهض فى داخلك ، وتتسامى أعلى فأعلى فوق جسدك ، وأنت تتخيل نفسك طائرا حرا محلقا ، وحيدا تماما ، فى المدى المفتوح .
كان يقف فى الباب نصف المفتوح ، ورأيته ضخما ، طويلا ذا شارب كث يرتدى معطفا أبيض . إنه الحلاق الذى يقص لى ولأبى وإخوتى الذكور شعر رءوسنا ، وكنا نطلق عليه " حلاق الصحة " . كان صدى صوته حين يفتح فمه يظل يرن فى أذنى لمدة طويلة بعد أن يتوقف عن الكلام . صوته القوى والجهير ، الذى سجلته وخزنته بعيدا فى مستودع ذاكرتى . اتحسس كراهيتى له فى ريقى .
انقطع نفسك لدقيقة ، وخلال ذلك لم تكن تعرف أين أنت ولماذا . انعقد لسانك فى حلقك فحدقت فيه ، فى العتمة الخفيفة ، صامتا مرعوبا . كانت الستائر مسدلة فى الغرفة ، وكان بإمكانك سماع تقطر الماء من صنبور معطوب فى مكان ما فى البيت . تشعر كأنك سقطت فى بئر عميق وأذناك مغمورتان بالماء .
أجلسنى الرجل على كرسى منخفض ، أنزل سروالى ورفع جلبابى لأعلى . كان على أن أنتظر حتى يسن الموسى التى سوف يستخدمها على حجر حاد كان بحوزته . كان الخوف قد استولى على وأنا أتلفت مذعورا وحيدا ، إذ لم يسمح لأمى بالمجئ وكذا أخواتى . كان ريقى جافا ، وطبول الرعب تضرب فى أذنى ، الخدر فى جسدى أينما لمست ، وتحسست : يدى ورجلى وفخذى وذكرى ، أى ألم ، وأى رعب ، وأى ارهاق . انحشر لسانى مثل ذيل كلب بين ساقيه المذعورتين ، خذلنى ، ولم استطع النطق بأى شئ ، بل فاضت دموعى على وجنتى . كنت مشحونا بالحسد تجاه إخوتى الذين عبروا تلك المحنة قبلى ، والذين لم يجتازوها بعد .
طلب منى الرجل أن أنظر إلى السماء وأركز على أى شئ تقع عليه عيناى . ثمة طائر كان يحلق فى السماء العالية . ركزت نظرى على حركات الطائر ، ركزت عليه حتى غدا نقطة صغيرة فى السماء البعيدة . كان يختفى خلف سحب داكنة ، ثم يعاود الظهور خارجا فى بريق الشمس ينشر جناحيه ، جميلا ، أنثويا ، لعوبا ، وكنت فى داخله ، أحلق ، خفيفا كفراشة ، غير مهتم بكل ما حولى ، وعلى حين غرة حدث ذاك .
إنها منطقة مرعبة ، منطقة الألم ، وقد عبرتها وحيدا . لا الحلوى التى قدمها لى أبى ، ولا الفاكهة التى جاء بها العم " داود " ولا كلمات المواساة والمؤازرة التى قالها الرجل ، كل هذه الأشياء لم يكن بمستطاعها تخفيف الألم أو التخلص منه . هل أتذكر متى سكن الألم فى جسدى ليعيش فيه لما يقارب الشهر ؟ أتذكر أن الرجل سحب غلفة ذكرى ، مسببا ألما فظيعا فى كل أجزاء جسدى . ألما حادا حتى اشتعلت أذناى بلهيب لاذع . وانتشر هذا اللهيب تدريجيا ، ثم تجمدت قدماى ، واحترقت عيناى بالدموع ، وترطبت خدودى من البكاء ، وجف حلقى كحطبة ناشفة . عند ذاك نظرت ورأيت الدم – بركة الدم – التى سبحت فيها واغتسلت والتى ساعدتنى فى العبور إلى الجهة الأخرى لأكون رجلا – مرة واحدة وإلى الأبد .
رأيت الرجل يضع حفنة من البن الداكن فى يده ويكبس بها الجرح النازف . وخمنت ، ربما كان الغرض أن ذلك يخفف الألم أو يساعد على إيقاف نزف الدم ، واعتقدت أن الألم قد زال ، على الأقل لبضع ثوان حاسمة
ساعدونى كى أقف ، وأخذونى من المكان الذى كنت جالسا فيه . ألبسونى جلبابا جديدا أبيض نظيفا تفوح منه رائحة الزهر ، وأوصونى بأن أباعد مابين فخذى فى الرقاد وفى الوقوف . عاد الألم يضرب من جديد ، قويا وعفيا مما جعلنى يغمى على . حين صحوت من اغمائي ، وجدت نفسى وحيدا فى الفراش . أصبحت الشاغل الوحيد للفراش ، صار إخوتى يراعون عدم الاقتراب منى مادام ذلك ليس ضروريا ، وصار محرما على جارتنا التى ترضع طفلها البقاء بقربى أو ملامستى كما تقضى التقاليد . كانت التقاليد أيضا تقضى بأنه من غير المحمود أن ترى المرأة جرح الولد المختون لئلا يتقيح ولا يشفى . كنت أتوق لأحد يبقى إلى جانبى فى ساعة الشدة هذه ، وأعزى النفس بأنه ألم سينتهى بمتعة اكتشاف للذات أكبر . وقلت لنفسى ، الشئ المهم الآن أننى قد غدوت رجلا فى الأخير ، وأننى قد انفصلت تماما عن شخص أمى وفطمت . غير أن الجرح تقيح وتورم عضوى . ارتفعت حرارة جسمى ، شفتاى جافتان مثل حطبة ، وفمى أحمر كما لو كان جرحا طازجا . وفكرت أمى ، إنها العين الحاسدة الشريرة ، وراحت تصلى متضرعة ترفع يديها إلى السماء وهى تتلو آيات مختارة من المزامير ، وأطلقت البخور ، ثم جاءت بالعروس الورقية تثقبها بالابرة فى كل موضع منها وهى تردد : من عين أم فلان ، ومن عين أم علان ، ومن كل عين حاسدة حقودة شريرة ، وأنا أرقد ممددا على الفراش تصلنى رائحة البخور المتصاعد كى يطرد العين الشريرة كما قالت ، وأتصبب عرقا تحت الدخان الخانق فيما رحت أسعل وأسعل ، وركبتاى ترتجفان تحت الملاءات . قامت بعمل " لبخة " من العجين والسكر وقشر البصل ، وضعتها على مقدمة عضوى وأنا أذوب خجلا بين يديها غير قادر على منعها أو القيام بالعمل بدلا منها .
فى منتصف الحجرة ، وضعت الطشت وهى مستمرة فى مزج الماء الساخن والبارد كى استحم . احمر وجهك من الخجل ، وشعرت بالارتباك ، ورحت تتمتم بشئ ما ، غطيت عورتك بيديك كما رأيت الكبار يفعلون ذلك . خجلا ومستاءً ، غارقا فى زحمة أفكارى ، كنت أخلع ملابسى ، وهى تتحسس حرارة الماء بين الحين والآخر ، ويدها ممسكة بالسطل الممتلئ بالماء الدافئ . وحين اقتربت ، تحول صوتك إلى صوت رجل وقلت لها : لاتلمسينى ، وأشحت بوجهك جانبا . تراجعت مذعورة وهى تحدق فيك غير مصدقة . كانت الفكرة لديك أنك الآن قد غدوت رجلا ولا تريد أن يساعدك أحد فى الاستحمام . بدت أشد غرابة بالغبار الذى يحوم حولها وقد سقط عنها ايشاربها لينكشف شعرها شديد السواد والنعومة تتخلله خصلات منعقدة وغير ممشطة ، وأنا أرى صدرها المتبرعم النحيف .
أنت صامت ومنسحب ، نعم . لكن عقلك كان منشغلا وذهنك نشطا للولوج إلى هذا العالم الجديد الذى تتطلع إليه بشغف ، عالم البالغين . ها أنت وحدك فى فراشك فى الليل ، وحيدا فى غرفتك ، كانت الأيام الأولى محبطة ، تمنيت أن يسمح لك بالنوم فى حضن أمك ، أمك التى كان صوت حكاياتها فى الليل ينظم ايقاع نومك . كنت تخشى الكلاب التى تنبح فى جوف الليل ، وتساءلت كثيرا أنها قد تهجم عليك فى غرفتك . لكنك كنت تواصل ، تتصلب ملامحك وأنت مندس فى حلكة الليالى التى لاقمر فيها . ها أنت تغادر طفولتك ، تغادر ماضيك ، تغادر حضن أمك ، تدخل بخطى ثابتة إلى عتبات عالم جديد يتراءى لك ، ينفتح أمامك ، كبير كالرحم ، دافئ كالحياة ، ومريح كالصديق ، عالم تمنيته كثيرا ، وحلمت به ، عالم الرجال البالغين .
----------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب