الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدليّة الثقافة و السياسة في المجتمع الشرقي المعاصر . قراءة نقديّة في رواية - البصّاصُون - – عباس خلف علي -

علي فضيل العربي

2024 / 2 / 21
الادب والفن


صدرت رواية " البصّاصون " للأديب و الروائي العراقي عباس خلف علي ، في طبعتها الأولى سنة 2023 م ، عن مؤسسة الأمة للطباعة والنشر والتوزيع ، في صفحاتها 184 . تضمنت الرواية مجموعة من الأسفار ( الأجزاء ) هي :
سفر الرحلة / شلّة المماليك
سفر التاريخ " ابن إياس "
سفر التجلّي ما يقطفه الحلم من النافذة
سفر التدوين قنوط وترقُّب يشارفان أن يحكما قبضتهما
حسن الوزان 2005

سفر الرمل
شلة الأصدقاء
تقدر وتضحك منك االأقدار 2007 .
سفر الهروب
كاسرة الوهم
سفر جنَّة عدن
معنى كلمة : ( البصّاصون ) لغة و اصطلاحا . اتفق النقاد ، أن العنوان في العمل الأدبي يجري مجرى العتبة إلى المعمار السردي أو الشعري . لم تعد العناوين مجرّد كلمات تشبه علامات إشارات المرور على الطرقات الأسفلتيّة ، يهتدي بها المرء إلى هدفه و غايته . بل أخذ العنوان مكانته في النص الإبداعي ، كعنصر رئيسيّ من المتن الأدبي ، بل هو تجسير للهوّة بين المرسل و المرسل إليه ، أو بين النص و المتلقّي . إنّ القيمة الفنيّة للعنوان الأدبي لها مفعولها الإيجابي أو السلبي ، فكثير من عناوين الأعمال القصصيّة و الروائيّة تكتسب سحرها اللغوي و الدلالي و سرديتها الأدبيّة من جماليات كثافتها اللغويّة و الدلالية ، فتجذب القاريء و تستفزّ الناقد .
و لعل رواية الروائي عباس خلف علي " البصّاصون " تثير في نفسيّة القاريء نوعا من الإغراء و الجذب ، و تدفع الناقد إلى التنقيب عن دلالة عنوانها و رمزيّته و تداعياته على سيرورة أحداثها ، و نفسيّات شخوصها و ملامح بيئتها ( الزمكانيّة ) .
فقد جاء في معجم المعاني ، أنّ " بصّاص " اسم و صيغة مبالغة من الفعل " بصّ" ، و البصّاصة ، العين الناظرة بتحديق و تدقيق . و بصّصت الأرض ، ظهر أول نبتها ،و بصّص الجرو ، إذا فتح عينيه ، و تبصّص الرجل ، إذا تملّق . و قد أطلق لقب " البصاصة " في الذاكرة الشعبيّة على المرأة المشعوذة التي تقرأ الكف ( القزانة ) ، كما أطلق على المخبرين في لغة السياسة . و مهما يكن ، فقد اكتسبت كلمة " بصّاص " ( الجاسوس ) معنى خسيسا في الذاكرة الشعبيّة ، تضاهي معنى التجسس و و التخابر و السعي إلى تعريّة أسرار الآخرين و فضحهم أمام الملأ . و مهما يكن ، فقد جاء لفظ " البصّاصّون " بصيغة الجمع ، للدلالة على ظاهرة اجتماعيّة و سياسيّة شائعة ، منذ القدم ، في ثنايا المجتمعات الإنسانيّة جمعاء ، دون أن نستثني المجتمع العربي و الإسلامي المتعدّد الأعراق و المذاهب و و الثقافات و الأنساق الفكريّة . و هي ظاهرة موحشة و حربائيّة ، متخفيّة وراء كثبان الرمل و تحتها ، لا صفاء و لا نقاء فيها ، حبلى بالشك و التقزز و النفور ، كما جاء على لسان الكاتب في الملخّص .
امتدّت رواية " البصّاصون " للروائي العراقي عباس خلف علي على مدى 184 صفحة من الحجم المتوسط . و ضمّت بين دفتيها الأجزاء ( الأسفار ) التاليّة :
سفر الرحلة / شلّة المماليك
سفر التاريخ " ابن إياس "
سفر التجلّي ما يقطفه الحلم من النافذة
سفر التدوين قنوط وترقُّب يشارفان أن يحكما قبضتهما .
حسن الوزان 2005
سفر الرمل
شلة الأصدقاء
تقدر وتضحك منك االأقدار 2007 .
سفر الهروب
كاسرة الوهم
سفر جنَّة عدن .
جاءت الرواية لتعكس البنيّة الفكريّة و النظرة الفلسفيّة للمجتمع العربي المعاصر ، من خلال توظيف تقنيّة الإسقاط . و هي منصّة فنيّة و فلسفيّة و سيكولوجيّة ، هدفها استحضار التاريخ و استثمار التراث ، كأداة لتفكيك ( تيمات ) معاصرة ، و ذلك باعتماد الرمز اللغوي و الدلالي .
يقدّم لنا الروائي شخصية بطل روايته ، الموسوم بالضمير المتكلّم ( أنا ) ، في الجزء الأول (سفر الرحلة / شلّة المماليك ) مفصحا عن هويّته قائلا : " ربّما أنا المنسيّ الوحيد يرى كل شيء و لا يقوى على القول إلاّ لماما ، أقتصد بالكلام قدر الإمكان ، بعض الأحيان أكتفي بالإيماءة ، لي لسان و شفتان و لكن غير متحررين ، و عليّ أن أبقى هكذا حتى يُؤذن لي .. متى ؟ لا أعلم ... ربما إلى ما شاء الله ، و عليّ أن أحتمل ... " ص 6 .
ثم يقول عن نفسه قبل أن يتحوّل إلى بصّاص : " و قبل أن يتغيّر نمط وظيفتي ، لا أخفي على أحد ، أيضا أخذت جرعة من ذلك التوجيه الصارم ، كل ثانية و دقيقة و ساعة نبضاتها تسري في الأعماق ، فهي كأنّها مكتوبة على شكل وصايا و توجيهات ، و معلّقة على جدران هذا القصر المنيف ، تحذيرات تلاحقك أنّى تكون ، حتى و إن لم بها أحد ، إيعازها يفرض عليك أن تنتبه لنفسك كالمرآة " ص 7 .
يبدو بطل الرواية ( الأنا ) فاقدا للحريّة و الإرادة والمسؤوليّة . فقد تحوّل إلى مجرّد أداة روبوتيّة ( آليّة ) أو رهينة في يد رجل القصر الأكبر، الذي أحاط نفسه بمجموعة من البصّاصين ( المخبرين السريين ) من ذوي الأشكال المستفزة . " حاسرو ؛ الرؤوس و الشباب يتدفق بحيوية في أجسام راوية و مفتونة ، لا تميّز فيها الأعمار كلّهم يتمتّعون بلياقة بدنيّة سرّها لا يعلمها غير الله ، لا يتكلّمون مع أحد و لا يسمحون بالتحدّث معهم ، الكتمان هو عمل هذا الصنف من البشر ، و مع ذلك تراهم ملوكا أكثر من الملك نفسه " ص 7 .
ظاهرة " البصاصة " أو ما نسميّه بلغة السياسيين " الجوسسة " قديمة في المجتمعات البشريّة ، خاصة تلك التي يحكمها الاستبداد و تديرها المكائد البينيّة . و هي ظاهرة لا أخلاقيّة هدفها الإيقاع بالخصوم ، و خدمة السلطان المستبدّ و إبداء آيات الولاء له . و هذا ما اتصف به بطل هذه الرواية ، حين سخّر عقله و قلبه لخدمة " رجل القصر الأكبر " عندما استفسره عن واجبه . يجيب البطل ( البصّاص ) : " افتح الشفرات عن الاتّصالات الغامضة " ص 7 . فطلب منه قائلا : " أريدك أن تفتح لنا شفرات من هم فوق الشبهات لا نريد الالتباس ... و الشكّ آجلا أم عاجلا سيظهر هنا أو هناك " ص 7 .
يحاول الروائي عباس خلف علي أن يستحضر فترات من التاريخ العربي الإسلامي المليء بالغموض و التشويه و التزييف ، من خلال سفراته المتعدّدة ، فهاهو ينزل بمصر و يقابل رجلا بمقهى "الفيشاوي " " بحي الأزهر " معتقدا أنّه " ابن إياس " الذي عاصر فترتين ؛ { العهد المملوكي و العهد العثماني } . و هنا يتحوّل التاريخ إلى معضلة حقيقية في ذاكرة الأجيال المتعاقبة ، تحتاج إلى إعادة غربلته و تطهيره من النحل و الانتحال ( على غرار موقف طه حسين من الشعر الجاهلي ) ، لأنّ الذين دوّنوا الأحداث التاريخيّة ، سواء الشهود بالعين المجرّدة أو بوساطة السماع و الرواية ، لم يلتزموا الحياد و الموضوعيّة و الاعتدال و الحقيقة . قال ذلك المٍؤرخ الصبور : " إنّ معشر الكتاب لا سيطرة عليهم في تناول الموضوعات ، لديهم خيال لا يتوقف ، خصب ، يفوق ما يحدث في الواقع ، فالتاريخ الذي نعرفه غير ما يتبنّاه المؤلفون ، فهم يرون ما يناسبهم لمحاكاة شخصياتهم " ص 9 .

و في سفر التاريخ ( ابن إياس ) ، يتوغّل الروائي عباس خلف علي في حلكة التاريخ المملوكي و العثماني . فقد تحوّلت الرعيّة ( الشعب ) في فترتهما إلى رهينة في أيدي الحكم المؤلّه . لكن ابن إياس ، لم يكن بصاصا و عميلا و انتهازيا ، رغم أنّه من سلالة المماليك و أسلافهم ، و عانى من وطأة الرقّ و آلامه ، و أبى " أن يطلب التعويض عن ذلك لأنّه يريد أن يعيش مثل أبناء الآخرين الذين ينحدرون من العلم و الفقه و المؤرخ و الجندي و الحرفي و التاجر " ص 20 . لأنّه أدرك ، بفضل حكمته و وعيه و صدقه أن " المجتمع لا يُبنى بالامتيازات بل بالمساواة و احترام حقوق الغير ، فلم يكن في كتابه منحازا بل واضحا كنور الشمس في كشف ألاعيب الحكام التي تفوق أساليب الشيطان ، أوهام هذه اللعبة ، الحكم ثلثه أله ، لم ينته ، بل يوغل في الاستخفاف بالرعية و تشويه مصائرها و رغباتها " ص 20 .
حين يجيد الروائي الغوص في الذاكرة ، يتبوأ رتبة الفنّان المطبوع ، و يكتسب الملكة و القدرة على تأديب ( من الأدب ) التاريخ و إخضاعه إلى فلسفة المخيال الاجتماعي و السياسي . و يقوم – بذكائه و فطنته و وعيه و حيلته الفنيّة - بتفكيك العقد التاريخيّة الماضيّة ، و صبّها في قوالب الحاضر و الواقع المعيش . التاريخ بالنسبة للروائي ، وسيلة و ليس غاية ، جسر عبور لمساءلة الذات و استفزاز الثابت الممنوع و المحرّم ( الطابو) السياسي و الإيديولوجي . هذا الإسقاط ، الذي مارسه الروائي من خلال شخصيّة المؤرخ الصبور ( ابن إياس ) ، و من خلال حكم المماليك و العثمانيين ، يظهر حجم المأساة الفكريّة و العقائديّة و المذهبيّة التي يعاني منها العالم العربي اليوم . و هي مأساة ناجمة عن غياب تأصيل مفهومي العدل و المساواة و شيوع الظلم و الاستبداد و المحاباة ، و تغليب منطق القوّة على منطق الحقّ . فصار البقاء للأقوى ، لا للأصلح .


في سفر التجلّي ( ما يقطفه الحلم من النافذة ) ، تتجلّى لنا شخصيّة البطل ( الأنا ) ، عندما ينخرط في عالم البصّاصين و العملاء و الجواسيس لخدمة رجل القصر الأكبر . " دخلت ورشة اسمها غريب بعض الشيء " الصيانة النفسيّة " ... كنت و أنا أتلقّى تلك الدروس ألعن في سرّي ذلك اليوم الذي قادني إلى هذا القصر " . " ص 21 .

نعم ، أنا في حالة سيئة ، و لكن ما الفائدة ؟ هم يقولون : " هذا كلّه من أجل بلدك . و عليك أن تضحي بالغالي و النفيس "... طيب ، و متى أخدم نفسي ، إذا أفنيت العمر كلّه من أجله ، ماذا تبقى لدي ؟ صراع و مجازفة .... و لا تعلم أنّك منخرط بالتوجيهات حد النخاع ؛ و عليك أن تتصرّف بما لا يرضيك ، و قد يكون ضدّ قناعاتك ... " ص 21 / 22 . هكذا تنكشف لنا صورة البطل ، و تتجلّى مهمّته ، التي فُرضت عليه ، أو سُخّر لها ، تحت عنوان { خدمة الوطن } و المصلحة العامة . و هي سياسة المستبد و الديكتاتور، حين يريد استغلال عاطفة الوطنيّة ، شعور الانتماء ، و يحرّف معاني التضحيّة عن معناها الحقيقي . إنّ المستبّد ثعلب ماكر ، يستعمل جميع الوسائل ( الغاية تبرّر الوسيلة ) من أجل الاستيلاء على كرسي السلطة ، و البقاء على عرش السلطان مدى الحياة ، بل و يسعى إلى توريث الحكم ، باسم الوطنيّة و الروح الثوريّة ، لأبنائه أو حاشيته . و هذا حال الواقع المعيش في البلاد العربيّة ، إلاّ ما شذّ ، عنه ، و هو نادر عموما .
الاستبداد صناعة ( بصاصيّة ) مخابراتية ، جاسوسيّة ، لا خير من ورائه ، للفرد و لا الجماعة . و يحمل هذا الإسقاط – دائما – رفضا صريحا ، وإدانة شديدة لما آلت إليه البلاد العربيّة ، التي تحرّرت من الاحتلال الأجنبي ، و وقعت فريسة في شرك الاستبداد . " الدنيا في القصر لا تشبه الحياة في مكان آخر ، عندما تتعرّض إلى شيء لا تفقد توازنك ، و تسأل ماذا يجري ، كل شخص تابع لخليّة و كل خليّة مثل " مشبك الورق " عتد النازيّة لا تعرف م يدور حولها فقط ما يهمّها ، الإنسان هنا كائن مسيّر بامتياز و ليس مخيّرا " ص 28 .
في مثل هذه البيئة يفقد الإنسان إرادته و توازنه . مثلما فقد بطل الرواية عند انضمامه إلى القصر الأكبر . صار البطل ( الأنا ) في الرواية كائنا " بصّاصا " و مسيّرو مسخّرا و مجبرا ( النظريّة الجبريّة ) لا خيار له ، فاقدا للإرادة و التمييز و الاختيار ، ( فقدان الحريّة ) . يعيش في جوّ أشبه بالعبوديّة الفكريّة و السلوكيّة . يعيش صراعا روحيّا بين قناعاته قبل " وظيفته الجديدة " ، و ما يملى عليه من أوامر بعد انخراطه في عالم " البصّاصين " .
في ثنايا رواية " البصّاصون " ، انتهج الروائي عباس خلف علي ، أسلوب الفلاش باك أو الاسترجاع ، و غرف من معين التاريخ الإنساني القديم بكل ما فيه مآس و خدع و حيل و شرور و بطولات و هزائم و انتصارات . ( تاريخ العرب و المسلمين ، تاريخ الروم ، تاريخ الفرس ) . و سكب المادة التاريخيّة في قالب سردي، معتمدا في ذلك على العناصر المختزنة في أعماق الذاكرة الفرديّة و الجمعيّة ( الذوات المتكلّمة و الغائبة ) و المخيال التاريخي ، المستمد من عنصر التراكم الحضاري ، بالإضافة إلى الرؤى الفنيّة المستخلصة من الخبرات و التجارب الشعوريّة و المدركات المتنوّعة ، ممّا أظهر لدى الروائي عباس خلف قدرة فائقة على خرق التسلسل الزمني في أحداث الرواية ، و تحكّما في (العبث الإيجابي ) بتواتر الأحداث و سيرورتها ، ومراوغة بالمعاني و تلاعبا مفيدا بذائقة المتلقي . إنّ الرواية عند عباس خلف علي ليست تأريخا سرديا لأحداث روتينيّة ، معتادة ، في قالب فنيّ متخيّل ، تعقبها نهاية ( حل ما ، أو لحظة تنوير ما ) تسعد القاريء أو تؤلمه ، أو تنتهي أحداثها بنهاية مفتوحة ، لتوضع في رفّ النصوص المقروءة و المفروغ منها ، بل نهايتها بداية أخرى لفكّ معضلة الوجوديّة ، كما رآها كل من كيركجارد ، جبرييل مارسيل . و الملاحظ أن بطل الرواية ، قد أدرك حقيقة وجوده من عدمه ، فقد لقّنته التجارب دروسا في فقه الحياة ، و لولا شبكة الإنترنت ، ما استطاع الحصول على الإجابة لممارسة فنّ الكتابة المثيرة و غوايتها . لقد " انهارت أمامها كل الحواجز ، لم يعد هناك ضوء خافت و ضوء ساطع ، الكل تحت المجهر ، و الشاطر يعرف من أين تؤكل الكتف " ص 55 .
يقول البطل في معرض حديثه عن الإنترنت : " أصبح هو العالم الداخلي للإنسان أسمّيه " عش الدبابير " إن لم تحذر يلسعك ، و لكن الأغلب لا يهمّه اللسع ، مجنون من يعتقد أنّه في منأى عن الاستهزاء و السخرية " ص 55 .
لقد سمعهم يقولون ( و الأغلب أنّهم البصّاصون ) أنّ الدنيا قد تغيّرت ، و انقلبت ، و " الزمن الذي كانت فيه المقولة السائدة " حدّثهم على قدر عقولهم " انتهى و ولّى إلى غير رجعة ، الوسيلة الوحيدة للعيش إما أن تفكّر ، و إلاّ تنقرض " ص 56 .
كما قال جان بول سارتر : " أنا موجود فأنا أفكر" ، أو على غرار مقولة ديكارت : " أنا أفكر فأنا موجود " . و هذا يعني أنّ البطل ( الأنا ) ، صيّرته وظيفة " البصاصة " إنسانا وجوديّا في تفكيره و سلوكه الاجتماعي . لكن وجوديّة سلبيّة ، لأنّ ممارسة الفرد للتفكير في بيئة " البصاصة " تعني الاتصّاف بالأنانيّة و الساديّة و الإضرار بالآخر من أجل إرضاء ( رجل القصر الأكبر ) و إشباع رغبة نفسيّة مرضيّة ذاتيّة .
و من الشخصيات ، التي كان لها حضور قويّ ( شخصيّات ثانوية حاسمة ) ، شخصيّة الأب و الأم و الخال و ابن إياس .)
شخصيّة الخال :
تاجر الأحجار الكريمة ، مهذار ، يكسب مالا كثيرا من تجارته تلك ، لكنّه يبدو مفلسا ، لا يملك شيئا منه ، غير نشوة الحكي " تأخذه النشوة بالحكي دون أن يلتفت إلى من ينصت إليه ، لا يهم ، هو لا يبالي لهمس الأبناء و يستمرّ في الحديث ، لا شيء يعكّر مزاجه ، عندما تطيب نفسه لا يكترث لأحد ، هذه طبيعته " ص 62 . ضائع القصد . لا مأوى له . كثير الغياب ، طويله ، و بحجج واهيّة . بخيل ، يصفه الأب بقوله : " يا لك من ثريّ بخيل ، حتى الصعاليك في العصور البائدة تضحك من تصرّفك " ص 64 . يعاني من انفصام الشخصيّة يكره الموت و تذكّر الأموات . وصفه البطل قائلا : " خالي كان يكره ذكر الأموات و يحاول نسيانهم ، عندما تتذكّر أمي شيئا ذلك يهرب إلى مرقد الشيخ " السيد صروط " ؛ يطلب منه أن يشفي صدره بالذكر الحكيم ، و مع ذلك كان البعض يراه آخر الليل في بار " شمعون " يحتسي الخمر و يبكي " . متناقض في سلوكه و أقواله ، لا يرسو على حديث أو فعل " لا قبلة له بالحديث ، و من كثرة تناقضاته يقول عنه أبي ، " جنت على أهلها براقش " ص 59 . و قال عنه البطل أيضا ما يلي : " خالي ؛ كل الدهر كان يستلف من أمي مصروفه ، لا أفهم معادلة الثراء و الإفلاس لديه ، آخر تقرير يحتفظ به في جيبه ، عقابيل شدّة على رأسه ، هذا ليس سببا لتدهور وضعه المادي و الذي لا يريد أن يفصح عنه و يكذب ما نقوله أنه تعرّض للنصب و الاحتيال مرات و مرات " ص 62 . " يغيب حتى تنقطع أخباره ، أمّي لا يخيب ظنّها ، حين تقول : إنّه سوف يظهر بعذر جديد ، استهلكت كل الأعذار و لم يبق أمامه سوى المرض ، أبي دائما ما كان يزدريه و يخفي ذلك عنّا " ص 62 . و تقول عنه الأم ( أخته ) : " عاش حياته عبثا في عبث " ص 65 . و رغم هذه الهنّات ، فإن صبر الخال ، كان يثير إعجاب الأبناء و الأطفال " و الأجمل ما في هذا الخال ؛ أنّه يصبر على شقاوتنا الساذجة و نزقنا الطفولي " ص 64 .
و لو قمنا بعمليّة الإسقاط لشخصيّة الخال على واقعنا الاجتماعي و السياسي و الأخلاقي . لتوصّلنا إلى قناعة ، مفادها ، أنّ سمات شخصيّة الخال تعكس ما وصل إليه العالمين العربي و الإسلامي ، بعد سنة 656 هـ ( 1258 م ) ، سنة السقوط المروّع للخلافة الإسلاميّة ، و بداية عصر الضعف و الانحطاط ( عصر المماليك و الأتراك العثمانيين ) في حواضر الشام و العراق و مصر و جزيرة العرب . ثم أعقب ذلك السقوط المدوّي سقوط غرناطة ثم استيلاء الغرب الصليبي على معظم بلاد العرب في المشرق و المغرب ، ثم سقوط القدس بين مخالب الصهاينة ، ثم استسلام العرب لفضيحة تقسيم فلسطين ، ثم جاءت النكبة فالنكسة فمعاهدات الاستسلام ، ليصل قطارها إلى محطة التطبيع ، تحت مسميات برّاقة ، و يحوّل ( الربيع العربيّ ) المزعوم إلى ( فوضي خلاّقة ) برعاية أمريكيّة و صهيونيّة ، و مازال ( الحبل على الجرار ) . إنّ الأمة التي لا تستقريء تاريخها بنظرة ثاقبة و عقل نافذ ، و ضمير واع ، و لا تعتبر من أحداثه و لا تستشرف المستقبل ، مآلها الزوال ، و لو بعد حين من الدهر .

شخصيّة الأب :
أما شخصيّة الأب ، فتبدو عكس شخصيّة الخال المحبّ للمال والتجارة و زخرف الدنيا . فهو رجل حكيم في تصرفاته و حديثه . تختزن ذاكرته الكثير من أخبار روايات السلف ، في مجال العلم و التصوّف ، رجل معجب بقصصهم ، متيّم بما صنعه العلماء المسلمون في سالف العصور الذهبيّة . كان يحدّث أبناءه عن الطبيب ( ابن سينا ) " تذكّرت في الحال أبي و هو يحدّثنا عن ابن سينا الجرّاح " ص 60
شخصيّة الأم : امرأة شجاعة ، مجاهدة ، مقاتلة ، وطنيّة الفعل ، وهبت روحها للثورة و الحريّة ، حاربت الإنجليز دون هوادة . " كانت تتنكّر بلباس الرجال ، و تقتحم مع المتطوّعين معاقل الإنجليز من أجل الظفر بعدد من الأسرى و الاستيلاء على بعض أنواع من الأسلحة النادرة ، فيكون ردّ الأعداء طائشا في أغلب الأحيان " ص 58 / ص 59 .
هي خولة بنت الأزورعصرها ، هي شجرة الدر ، هي صورة المرأة العربيّة الحرّة ، الأبيّة ، التي أنجبت الأبطال و الفاتحين و الشهداء ، و انزرعت في كل بقعة من البلاد العربيّة . هي الخنساء في صدر الإسلام ، و خولة بنت الأزور ، و زنوبيا ، و فاطمة لالة نسومر و جميلة بوحيرد و جميلة بوباشا في الجزائر و دلال المغربي في فلسطين الحبيبة . هي المرأة العربيّة التي أنجبت الرجال الأشاوس ، الذين قهروا المحتل الأجنبي ، فكانت - على قول شاعر النيل ، حافظ إبراهيم – مدرسة تحرّج الأبطال و العظماء .

في الجزء المعنون بـ ( سفر الهروب .. كاسرة الوهم ) ، استهلّ الروائي عباس خلف علي بعتبة ، جاء فيها : " قاسيّة .... هي ...شهوة الأمنيّات .. تخطو نحو السراب ...لتقطف من موجه ؛ موطنا للأثر " . ص 159 .
لم يسلم الإنسان العربي ؛ في مشرقه و مغربه ، من عورات التخلّف و مظاهره القاسيّة ؛ الجهل المميت و الأمراض الفتّاكة و الفقر المادي و المعنوي . و مازال هذا المخلوق العربيّ الضمآن يجري وراء السراب و هو يحسبه ماء . غايته القصوى ، رغيف خبز لسدّ الرمق ، و تأجيل موته الحتمي . و منذ سقوط بغداد ، و ضياع غرناطة ، و تقسيمات سايكس – بيكو وعد بلفور ، ما فتئء المواطن العربي يدفع ثمن الخيانة . و مازالت رحى الاستبداد تطحن جسده و روحه .. " غرفة الصفيح هي المأوى ، و بساط بال ؛ تنطرح عليه الصبيّة " ص 163 .
هذا المواطن الذي شغلته يوميّات البحث عن المأوى الآمن ، و يفتش عن حبل ينجيه من أنياب الفقر و المتربة . و يدفع - بكل قواه الضعيفة - عن نفسه وحش العوز . هذا المواطن الذي انعتق من أغلال المحتل الأجنبي ، ليقع فريسة و لقمة سائغة في قبضة الاستبداد ( القطري ) ، تحت مسميّات برّاقة و متعدّدة ؛ تارة باسم الوطنية ، و تارة باسم القوميّة ، و تارة باسم الصمود و التصدّي و الممانعة ، و تارة باسم الثورة وووو ... أجل لم هذا المواطن ( المهروس ) ، سوى صورة اللحم و الدم ، أمّا الروح فقد غيّبتها رحى الحاجة . و هاهو الرجل الملثّم يبيع ابنته ، عندما اشتدّ به الفقر و العزو ، مقابل ثمن بخس . " و لمّا اشتدّ به الفقر و العوز و رأى نفسه بدأت العجلة تهرس ما تبقّى منه .. قبل بأقلّ الخسائر ، قبض ثمنا بخسا لقاء بيعها " ص 163 . ثم ولّى هاربا إلى وجهة مجهولة . " ولّى هاربا ، هروبا مجهولا ، لا يعلمه غير الله ، و الراسخين في العلم " ص 164 .
و هذه المشهد الأسود ، يعكس لنا عمق المأساة . " تصوّر أيّ فقر هذا يدفعك إلى عصر الجواري ، ذلك الجرح التاريخي في جبين الإنسانية ، يفتح أبوابه من جديد أمام صراصير الفقر ، فهل هناك من هو أشقى و أقبح منه ؟ " ص 163 .
شخصيّة ابن إياس :
لقد كان ( ابن أياس ) ثائر عصره ضدّ أساليب الظلم و القهر ، و رمزا للمعارض و المصلح . كان " لا يتحدّث عن ازدهار الأقليّات من العوائل المملوكيّة التي عاثت في الأرض فسادا ، و لكنّه أشار إلى الظلم الذي تمارسه لا يدوم طويلا و أنّه سوف ينقلب على هذه الطبقة إن أجلا أم عاجلا ، المجتمع المصري مثل أي مجتمع عربي آخر يكره الظلم و الطبقيّة و الطغيان و المحتل و يحب وطنه خاليا من العملاء و الجواسيس و ينادي بالحرية و العدل و المساواة ." ص 19 / ص 20 . " ابن إياس يا أولادي يرى في الظلم و الفساد هلاكا للشعب أمام أطماع العثمانيين من جهة ، و الفرس الصفويين من جهة أخرى " ص 20 .
" فهو كان يجد مكانه في الأسواق و المقاهي و الدكاكين ، و لا يجالس الأمراء و السلاطين و لا يدخل قصورهم و لا يقتدي بمشيتهم أو لبسهم ، لا أريد أن أقول زاهدا أوعفيفا ، و لكنه كان لا يحب هذه المظاهر و لا يطمع بالترف " ص 20 .
وظّف الروائي عباس خلف علي ، عنصر الإسقاط في رسم ملامح شخصية " ابن إياس " . و هو أسلوب فنّي فلسفي و سيكولوجي ، استغلّه المبدعون للتملّص من مقص الرقيب ، و التستّر وراءه ، مستعنين في ذلك بالرمز و التلميح و الانزياح الاستبدالي . تمثّل شخصيّة ابن إياس المحامي عن المجتمع العميق ، القائم على الطبقة المسحوقة تحت نعال المستبدّين ؛ طبقة الفقراء و المساكين و المحرومين و المضطهدين و المستعبَدين . فهو بمثابة ضوء المنارة الذي تهتدي به السفن و البواخر إلى مراسيها . و من خلالها يبرز لنا دور العلم و مكانته في حياة الأمم الحرّة . إنّ ثورات الشعوب المقهورة تندلع شراراتها من البيئة الدنيا في المجتمع ، و قادتها و أبطالها هم أولئك الموسومين بـ " الصعاليك و المتسوّلين و أرباب الحرف " ص 20 .
جاءت ملامح شخصيات الرواية ( أسوف ، نرجس ، الأب ، الخال ، الأم ، أبن إياس ، لمى ، مشعل .. ) ، تعكس النسيج الاجتماعي العراقي و العربي . شخصيات مهزوزة اجتماعيّا ، مأزومة نفسيّا ، تبحث عن تعويض النقص الاجتماعي و الاقتصادي في بيئة مزقتها الأهواء السياسيّة و الإيديولوجيّة و الثقافات القبليّة .
شخصيات تعيش – بكل جوارحها - المآسي التي أفرزتها الحروب البينيّة و النزاعات الإقليميّة و الإرهاب القاعدي و الداعشي و الأزمات السياسيّة القاسيّة . شخصيات تبحث عن جرعات الأمن و رغيف الخبز و نسائم الحريّة و الكرامة ، في بيئة موبوءة ، استولت عليها مظاهر الفساد و الاستبداد و الساديّة و الأنانيّة . و هي شخصيات جسّدت " مرحلة السقوط و الانهيار " في حياة الأمّة العربيّة و الاسلاميّة . لقد انهزم - للأسف – المثقفون في معاركهم مع السباسيين . و استسلم سلطان العلم لسلطان السياسة . مّما أدّى إلى أفول شمس العرب ، التي أشرقت على مدى قرون على الغرب .
و هي – أيضا - شخصيات متباينة الملامح و التوجّهات و الأمنيات ، إلى درجة التناقض . فالأب و الخال و مشعل ، شخصيات عاشت على النقيض ، و كذلك الأم و نرجس . بينما عاشا كل من لمى وأسوف حياة ملؤها الحب و التآلف . و هما يرمزان إلى الجيل الجديد ، جيل ما بعد الحروب الداميّة و الأزمات الخانقة . و هي رؤية من رؤى الروائي ، و حلما من أحلامه المعسولة .

خلاصة :
لجأ الروائي عباس خلف علي إلى استغلال التراث العربي و الإسلامي ، من بوابة الإسقاط و الرمز . و كانت غايته من ذلك المسعى ، زلزلة الواقع العراقي المرّ ، من جراء الحرب العراقيّة / الإيرانيّة ، و الناجم – أيضا - عن الحصار السياسي و الاقتصادي و العلمي الذي فرضه الغرب الصليبي بإيعاز من الولايات المتحدة الأمريكيّة و الكيان الصهيوني و العملاء من أبناء العمومة . ثم الغزو الغربي للعراق في مطلع القرن الواحد و العشرين ؛ هذا الأخير ، الذي سبّب دمارا و انهيارا هائلين في البنيّة النفسيّة و الاجتماعيّة و الاقتصاديّة و الأمنيّة العراقيّة . ثم تلته الأزمات الاجتماعيّة و السياسيّة ( الصراع الحزبي و العشائري و الحرب ضد إرهاب القاعدة و داعش ) . و هي أزمات أنهكت الإنسان العراقي ، و أعادته سنينا إلى الوراء . " الحصار الخانق دمّر الحرث و النسل " ص 163
يمكن أن ندرج رواية " البصّاصون " ضمن تيار السرديّات الواقعية السحريّة ، و هو تيار تزّعمه في أمريكا اللاتينيّة الروائي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز ، من خلال رواياته : ألف عام من الحنين ، و الحب في زمن الكوليرى .
و ما يلفت نظر القاريء – حقّا – هو الأسلوب المتميّز للروائي عباس خلف علي . فقد أضاءت لنا لغته السرديّة و الحواريّة نقاط و زوايا التحوّل في حياة شخصيات الرواية ، كما غاصت لغة الرواية في أعماق تلك الشخصيات ، سوااء ذات السلوكات الإيجابيّة السلبيّة ، أو ذات السلوكات السلبيّة . فدور اللغة في سيرورة الفنّ الروائي و القصصي - على السواء – و نموّهما دور أساسيّ و مركزي ، كما هو الشأن في رواية " البصَّاصُون " للروائي عباس خلف علي .
لقد أبانت رواية " البصّاصون " للروائي عباس خلف علي ، عن قدرة صاحبها على استغلال مناجم التاريخ العربي و الإسلامي ، و استنطاق التراث الزاخر بالأحداث و الوقائع و الأخبار و الرموز .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بطل الفنون القتالية حبيب نورمحمدوف يطالب ترمب بوقف الحرب في


.. حريق في شقة الفنانة سمية الا?لفي بـ الجيزة وتعرضها للاختناق




.. منصة بحرينية عالمية لتعليم تلاوة القرآن الكريم واللغة العربي


.. -الفن ضربة حظ-... هذا ما قاله الفنان علي جاسم عن -المشاهدات




.. إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها بالجيزة