الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فَخِذُ آلشَّرِيف

عبد الله خطوري

2024 / 2 / 22
الادب والفن


●شِعْر :
_ إذا كُفّ صِلٌّ أُفْعوانٌ، فما لهُ
سوى بيتِهِ، يَقتاتُ ما عَمَرَ التُّربا
ولوْ ذهَبتْ عينا هِزَبْرٍ مُساورٍ،
لما راعَ ضأناً، في المراتع، أو سِربْا
أو التُمِعتْ أنوارُ عمروٍ وعامرٍ،
لما حَملا رُمحاً، ولا شهدا حربا
يقولونَ: هلاّ تشهَدُ الجُمَعَ، التي
رجوْنا بها عفواً، من اللَّه، أو قُرْبا
وهل ليَ خيرٌ في الحضورِ، وإنّما
أُزاحمُ، من أخيارهم، إبلاً جُربا
لعمري لقد شاهدتُ عُجماً كثيرة،
وعُرباً، فلا عُجماً حَمدتُ، ولا عُربا
وللموتِ كأسٌ تكرهُ النفسُ شُرْبَها،
ولا بُدّ يوماً أن نكون لها شَربا
من السّعدِ، في دُنياك، أن يهلك الفتى
بهيجاءَ، يغشى أهلُها الطعنَ والضّربا
فإنّ قبيحاً، بالمسوَّدِ، ضِجعَةٌ
على فَرْشِه، يشكو إلى النفَر الكَربا
ولي شرَقٌ بالحتفِ، ما هو مُغَربٌ
، أيمّمتُ شرقاً، في المسالكِ، أم غربا
تَقنّصَ، في الإيوانِ، أملاكَ فارسٍ،
وكم جازَ بحراً، دون قيصر، أو دربا
* (أبو العلاء المعري)

_بَقَيتُ وَما أَدري بِما هُوَ غائِبٌ
لَعَلَّ الَّذي يَمضي إِلى اللَهِ أَقرَبُ
تَوَدُّ البَقاءَ النَفسُ مِن خيفَةِ الرَدى
وَطولُ بَقاءِ المَرءِ سُمٌّ مُجَرَّبُ
عَلى المَوتِ يَجتازُ المَعاشِرُ كُلُّهُم
مُقيمٌ بِأَهلَيهِ وَمَن يَتَغَرَّبُ
وَما الأَرضُ إِلّا مِثلُنا الرِزقَ تَبتَغي
فَتَأكُلُ مِن هَذا الأَنامِ وَتَشرَبُ
وَقَد كَذَبوا حَتّى عَلى الشَمسِ أَنَّها
تُهانُ إِذا حانَ الشُروقُ وَتُضرَبُ
كَأَنَّ هِلالاً لاحَ لِلطَعنِ فيهِم
حَناهُ الرَدى وَهوَ السِنانُ المُجَرَّبُ
كَأَنَّ ضِياءَ الفَجرِ سَيفٌ يَسُلُّهُ
عَلَيهُم صَباحٌ بِالمَنايا مُذَرَّبُ
* (أبو العلاء المعري)

_جُــبِـلَ الأَنَــامُ على الصَّــغَارِ تَـرَاهُـمُ
قَـرْحَـى العُــيُونِ إِلى الجبالِ تُسَــعّــرُ
دِمَنُ الحياةِ كثيرةٌ
تُــخْنِي عَــلَى مَنْ
قالَ : أَهْ !!
للدنيا : أَهْ !!
يَتَحَــسَّــرُ :
_ لا العُمْرُ كَافٍ يَلْحَــــقُ
_لا الشوقُ باقٍ يُـــورقُ
_لا الفكْـــرُ راقٍ حالِــــقُ
إِلا دمُوع في الجِراح تُحْرقُ وتُمَزِّقُ

صَعَـــدُوا النجودَ مسافةً
متتابعين يأملون
ويبتغون مروجها و وهادها
ثم آنْبَروا يتدافعونَ
بالمناكبِ والقلوب وبالعقول
حتى إِذا بلغَ السُّعَارَ وَجــيبُــهُم
طَفِقَ النواحُ بالرجام يرجِّـــمُ ..
وتراكمتْ أجداثُهُمْ تتكورُ
و تُكَوِّرُ
دِمَنُ الحياةِ كثيرةٌ
وآبنُ الترابِ مُدْمِنٌ
في فَيْئِهَا يتحسَّـرُ
* (مِن خربشاتي)

●مقاربة :
أستهلُّ هذه المناورة التأملية بأبيات من لزوميات بائيات المعري مطلقة القافية، تبشر _ رغم تشاؤم صاحبها _ بقيامة منتظرة قريبة يهبُّ فيها الموتى من مراقدهم يشهدوا ميلاد عوالم أخرى لحياة أخرى بطريقة أخرى غير تلك التي أكرهتهم أكرهتنا عليها البيولوجيا الثقيلة بجاذبيتها المثقلة على النفوس .. ولعل أولائك الراقدين هنا هناك في أماكنهم التي قُبروا في حفرها منذ مدد سحيقة يعلمون يفقهون يدركون الكثير من الأشياء لا تخطر على بالنا نحن "الأحياء" المنتشين عبثا بتوالي الشهيق والزفير في قناطر حناجرنا، المتبجحين بكثرة العلوم التي يتقنونها يكتشفونها من يوم لآخر في دنيا أنام لازالت تفاجئ متعلقيها بأسرار ملغزة دون تكشف عن لغز الألغاز الملتبس المفجع الكامن ما وراء الفيزياء والبيولوجيا .. سر أو أسرار ما بعد الموت .. لا أحد يعلم القليل أو الكثير عن هذا السفر الذي سافره الكثيرون ممن نعلم ونعرف وممن لا ندرك حتى الاسم والوسم من جيناتنا السابقات التي ورثناها عن الأسلاف .. كلهم رحلوا بعد أنْ وضعوا بصماتهم الوراثية في أرحام اللائي ولدننا لنشهد تباعا تكرار سمفونية تواتر ملهاة الميلاد تراجيديا الموات .. المجيء والذهاب، الإقبال والإدبار، الكر والفر ... وهلم جرا من توال تتشابه فيه نهايات المصائر تَطَّرد تختلط البدايات بالنهايات بالصياح بالنواح بالفرح بالقرح بحفلات العقيقة بالمآتم بالحداء بالنواح .. وشبيه صوت النعي بصوت البشير في كل ناد .. قال المعري من الخفيف الثقيل .. لقد قالت الأقدار كلمتها الفصل، بذاك جفت الأقلام نشفت الصحف يَمُّوتْ وَوَالْ، فما علينا إلا الصمت قطعان الحسْ وتقبل أمور المعيش كما ترِدُ دون إكثار جلجلة أو صخب أو مناورة لا طائل من ورائها غير مزيد من التيه والحمق والخبل وحنق الجنون ...
الأموات في مدنهم، إذن، قابعون؛ الأحياء في حيواتهم غاطسون؛ وما بين العالميْن، حدود فاصلة لا نعي منها غير اللحود والأحجار والأتربة ومعالم الرموس القديمة والجديدة الظاهرة البارزة للعيان الغابرة المستوية وأديم الأرض أو الغارقة المختلطة بالخشاش والغبار والبوار وآلهوام .. لا شيء يُرَى .. لا هُم يدركوننا ولا نحن نتعالق وإياهم رغم محبتنا وتعلقنا بحديثي الوفاة من آبائنا وأمهاتنا وأخواتنا الأعزاء علينا نتمنى رؤيتهم والحديث وإياهم نتشبت بأن لا يرحلوا .. لا فائدة .. لقد رحلوا .. لا مجال للقاء مادي واضح مكشوف إلا عبر خطوها خطوة جهة عوالمهم .. علينا أن نجرب الموت نعانقه قبل نعانقهم .. تلك هي السبيل الوحيدة المعلومة لحد الآن للإنسان كي يتواصل مع حيواته الراحلة ... بيدَ أن أحلامنا في كثير من الأحايين تفوق عجزنا القاصر، لا تبالي بالضعف والخصاصة التي نحياها، تحاول دائما خرق حجب مفروضة بين عالمَيْن ( أو أكثر من يدري .. ) عبر آستيهامات عجائبية فنطاستيكية يعيشها جلنا في مجالات ذات خصوصية عبر الحلم والرؤى ومناجاة الأرواح في برازخها المعلومة في كتب التراث بكيت وكيت من الأوصاف التي تتجاوز إدراكنا العقلي البسيط .. يستوي في هذا النزوع الأمي بالمتعلم، القارئ وغير القارئ، المؤمن والملحد ... حتى ألفنا آنخراطا جماعيا من أحيائنا في طقوس آستحضار ما غاب من عوالم الراحلين يتواصلون وإياها بطرق غير معقولة من أجل إشفاء غليل أو قضاء حاجة أو أو أو .. ولعل نظرة مختصرة في موروثاتنا وعاداتنا وتقالدنا، تكفي بأخذ آنطباع عن حالة الشرود والذهول التي يعيشها الكثيرون منا في ما وراء الوراء .. مجتمعاتنا ليست آستثناء .. هذا أكيد .. غير أنها مجتمعات ذات خصوصية، أنتج تواصلها وعوالم الغيب المحجوبة طقوس آحتفال لازالت آثارها نعيشها في لمات ولقاءات جماعية لِما يسمى في المغرب عيسَاوا گْناوا حْمادْشا ووو .. وزيارات أولياء وسادات وسيدات ذاع في الآفاق صيتهم صيتهن تجاوز الحدود، ولك أن تذكر تُعَدد وتُحصي دون تقفَ للحظة أسماء المتبرك بهم وأسماءهن، كل سيد ببركته، كل سيدة بيمنها وخيرها وفألها الحسن .. تكفي التصديق والنية والتسليم واللجوء والطلب والتوسل .. وهاااا .. حاجتك مقضية ... مازالت بقايا آلرموس المتلاشية في مدننا وقرانا تشهد على هذا النزوع إلى إحياء الموتى بطريقة معينة تشفي النفس من كلومها المتفاقمة .. (سِيدِي عامَرْ) قرب بلدتي الفحص الأمازيغية .. (للَّا قَضْيَانْ حاجة) ببلدة (بْنِي خْلُو) .. (مولاي عبقادر الجيلاني) بقمة تازَكَّا TAZAKKA .. (للَّا سيدنا جَبْرايَنْ) في أكثر من تلة وهضبة ووهدة ومرتفع دي تِيمُورَانَّغْ .. يعيشون معنا .. نعدهم بنذر ما ونفي بنذورنا كي لا نقع في المحظور .. إنهم حل لما أشكل من المسائل، رتق للمنخرق من العلائق، رأب للصدع، مَنٌّ سلوى ملح طعام الأحياء .. وليس أحدٌ أحوجَ إلى بركاتهم المحمودة، وخصال أخلاقهم المأثورة، منا نحن الضائعون التائهون التالفون في طريق لا هداية فيه لولا ألطاف المكاتيب سُخِرتْ لإرشادنا وإخراجنا من أوهامنا بواسطة هذه الحيوات المخصوصة بما لم يخص به أحد ... غير أن خروقات التشويش Parasite ما تلبث أحيانا تصنع أعاجيب تلوث صفاء هذا التعالق الحميمي بين الروحي والمادي، بين الغيبي والمحسوس، بين الآني والمطلق، بين المعيش والموات .. خروقات اختص بها منذ القديم مجموعة من الكائنات الرعناء الزائغة عن جادة ما تعارفت عليه الجماعات، مساخيط الوالدين جوابي الآفاق الباحثين عن الثروة وكنوز وضعها الزائرون أصحاب النية تحت تصرف المقامات المنتشرة عبر الجبال، ينتح نزق شذاذ الآفاق سبلا معينة يسبرون أغوار الدفائن يسرقونها يستخرجونها يخطفونها بجشع يبلغ أحيانا حد آرتكاب جرائم عنيفة بحق أبرياء من الأطفال أو محدودي العقل .. لقد وقع هذا مرارا في أكثر من موقع ومكان ... في السنين الأخيرة، كَم مرةً سمعنا في بلدات الجبل مثلا بقدوم مثل هؤلاء المجازفين المستكشفين الباحثين عن المغامرة والثروة السهلة، راحوا ينبشون مواقع بعينها يتحسسونها كأمكنة طافحة بالكنوز العتيقة، ولقد وصلت ببعضهم الجرأة والجشع وقلة الإيمان والاحترام لأعراف الجماعة وآنعدام الوازع الديني والأخلاقي إلى درجة تدنيس حرمة المقابر وتلويث فضاءاتها كما حصل مع مقبرة "سيدي عامر" التي غزا مجرمون على حرمة سيدها المدفون منذ قرون ويزيد .. لقد حفروا قبر الضريح حتى وصلوا لرفاته، ومن حذاء رأس الدفين عاينتُ حفرة عميقة تركها هؤلاء كما هي دون أَنْ يكلفوا أنفسهم عناء تغطيتها أو ردم التراب عليها أو إرجاعها لسابق عاهدها، بل إن الزائر للقبر سيلاحظُ بالعين المجردة ملامح من الهيكل العظمي الساكن في مكانه لمدد مديدة.. لقد آعتاد الزائرون والمريدون إعطاء العطايا والصدقات والهِبَات والمكرومات والزكوات هنا هناك في جنبات الضريح وفي صندوق خاص لم يهتم به هؤلاء اللصوص، فقد شغلهم ما شغلهم من المخططات التي يبدو أنهم خططوا لها مليا بعد طول تفكير وتدبر، فعاثوا في حرمة "السيد" فسادا ولاذوا بالفرار ... نعم، يقع هذا في الأرياف والمداشر والقرى، يأتي غُرباء فضوليون وأصحاب النيات السيئة من كل فج عميق يفعلون أفعالهم الشنيعة وأهالي البلدات في سُبات عميق لا يعي أغلبهم ما يحصل قرب أنوفهم .. فيختلط الحبال بالنابل بالخيال بالواقع بالحقيقة بالخرافة بالحلال بالحرام بتاگــزّانْتْ بقراءة الطالع وآستكشاف ما وراء المحسوسات بالجريمة بالغفلة بالسُّبات باليقظة بالغفوة بالمنام بآلعَتَـه بالغباء بالذكاء ب ب ... توابل متناقضة لن تجد لها مثيلا إلا في عوالمنا المرهقة المهيضة الجناح في جبال مغربنا العميق .. الله يحضر السلامة .. !! ..

●سَرْد :
لقد آحتفظَتْ ذاكرتي بأشياء كثيرة من هذا القبيل، لم أشأ أن تضيع مني فضمنتها كنانيشي الخاصة، ولعل من بينها تلك التي جاءت في سياق مخطوط رواية " تِيرْجينْ نَتْنِيمَارْ / جمرات العذاب " عندما كان الطفل الذي كنتُه رفقة الراعي (عبدالسلام) في أجواء فضاءات "سيدي عامر" .. لفت نظرنا أضواء غير عادية خافتة خلناها أنوار تصدرها حشرات الحباحب .. نعم .. لكنها كانت تنبعث من مكان ما داخل مرقد الدفين رابضة ترتعش تَزَلْزل تذهب تجيئ تعلو تنحدر تتراقص تتلولب في كتل مجموعة ومتفرقة .. هي حشرات لا غير بعبوشة دالخلا أوصافي ليس من ورائها ضرر .. يجب عليّ أن أتشجع .. أن لا أغمض عيني .. أن أنتبه .. أن لا أدع الوساوس تُفقدني رصانةَ وَعيي وإدراكي .. تشجعْ اُثبتْ لا تفر كالمعتاد إلى دهاليزك الخائبة .. قلت لنفسي .. ليبقَ عقلك في رأسك ورأسك فوق كتفيك وكتفاك لاصقان ببدنك .. هُزَّهُمَا غير مبال كما هي عادتك عندما ترفض شيئا لا يليق أو لا يستسيغه مزاجك .. لا تبرح المشهد .. أنوار هناك .. وماذا بعد .. أنتَ لستَ تُرَى .. لقد فعل صاحبك كل شيء ليعمي القلوب والأبصار .. لا تنتكس لا تتراجع ... وتقدمتْ خطواتي وراء الراعي أتبعه .. خلسة نتحرك نقطع ليل العرصة الخالي حتى بلغنا مشارف المقبرة .. انتحينا جانبا مستغلين حفرة من الحفر الطبيعة في المكان غطسنا فيها جسمَيْنا وطفقنا نراقب ما يحدث ونحن على آستعداد لجميع الاحتمالات دون ينبس أحد منا ولو بهمهمة قصيرة النفس .. كنا صامتَيْن، لكن يعلم الله في ما كان يفكر صاحبي .. أما أنا فقد وقعتُ في فخ لا عودة، فلا أنا قادر على الرجوع إلى ما كنت أخاله بر أمان ولا أنا أستطيع المواجهة العلنية للمصادفات التي تقطع الطريق، فظللت أقتفي الأثر أتتبع التعليمات أجهد نفسي على بعض ما يمكن أن يساعفني من جأش وشجاعة راجيا خروجا سالما من الورطة التي أوقَعَنا فيها تهور الراعي الأرعن ... وساورتني شكوك وتوجسات وهواجس .. لمَ الاختباء إذا كنا حقيقة لا نُرى ؟ أثَـمَّةَ ما يهدد سلامتنا في تلك الأضواء الطائرة التي ترسلها حشرات حباحب (تَلِليدُورْ) .. أهناك آحتمال خطر ما ؟ أم هي القبور التي ألفتُ أفياءها نهارا ستخرج ألسنة من لهب من بطونها الموصَدَة تكشف عن وجهها الليلي الرهيب ؟ كل شيء وارد في مثل هذه الفراغاااات الليلية القاتمة .. نكستُ رأسي بين أكوام نبات الرَّتم (ألوكي) موغلا بدني الضئيل في عمق الحفرة أكومه على بعضه كقنفذ إينْسِي هاله ما لم يكن في الحسبان .. وعبثا حاولتُ إغلاق عينيَّ آلمتيبستَيْن .. كانت السماء في مداها السحيق صافية بلا سحب وآلاااف النجوم تومض من قريب وبعيد تَسُوحُ بحرية ورشاقة، ومنها ما يعبر خاطفا كبرق خُلَّبِ ومنها ما يتحرك بتُؤدة ومنها ما يتلألأ في مكان واحد لا يبرحه، وصَمْتٌ عجيب لا تشوبه شائبة .. لا حَسيسَ نار يطقطق حطبُها المتقدُ، لا هزيمَ رعود، لا عواءَ كلاب في المدشر، لا نعيبَ غربان، لا صرصرةَ بُزاة إسْغِي في الآفاق القفار .. حتى الضفادع آختفى نقيقها اللاجب، حتى صراصير الخلاء آكتفتْ جوقاتها عن إصدار معزوفاتها الجماعية .. وحدها المطارق في رأسي تدق تدق .. وهواجسي تتوالد تكبر كالعادة، والذي يقع أمامنا لا يعلمه إلا عالم الأسرار والخفايا .. وفي لحظة، ودون يأبهَ لي، دخل المَدفنَ آلأرْعَنُ .. هذا أكيد .. لقد خطف رجليه إلى الداخل ثم عاد .. هذا عاينتُه بجلاء .. تشجعت أنا الآخر .. اقتربت واقفا قرب الباب تمسك حديدتَها الكدماءَ يدايَ، مدخل بمصراع واحد غير مزود بقبضة أو يد مثبتة، مجرد صفيحة مسطحة بالية حَرشاء خرساء عَلا الصدأُ جنباتها المتآكلة ...

_يالله .. آتَفْ ماينْ تْعاينَتْ .. ( يالله ادخلْ ماذا تنتظر؟ )

_هَـــــااااا..؟؟..

_ما تْخَسْ أتسَرَّتْ غارنغ إيودانْ .. يالله كَسْ النعالة نش إيني بسم الله .. (هل تروم فضحنا ازحْ نعليك وادخل)

وجـلا وجدتُني أتوغلُ مخلفا ورائي صريرا آختفى بالسرعة التي آنبجس بها ...

_آيَا وْرَى غْرْدا زْتاتي ما ينْدينْ تْرَوَّانَتْ؟(اُدْنُ مني يا هذا .. ما تلك الفوضى التي تثيرها) ...

لم أكنْ أرَوِّنُ شيئا، وكيف أستطيع إبداء أي رد فعل في جو غير مألوف صامت مخيف قاتم معتم لا نميز شيئا داخله لولا شمعة محتشمة وجدناها مشتعلة في عتبة نافذة ضيقة مغلقة ...

_مالكْ آوْلاَهَلْ ؟ (ما بك يا صاح؟)

قال يتفحص الزوايا والأركان...

_فْشِي شْكَااالْ...

_ شْكُونْ هاذَا فْشي شْكااالْ؟؟

_هادشي كولشي..

_سبحان الله .. آوْرَى آوْرَى ...

أمسَكَ يمناي قادني وراءه ...

_آجي تشوف بعِينَاكْ آحْنيني آشْ كادير تَرِّيكْتْ لَمْسَاخَطْ ... ( تعال تعاين بأم عينيك ما تفعل سلالة المساخيط )

_واش هادشي مزيان ؟؟

_ماگْمَسْ هَاذْ لْمَزْيَانْ آلعَيَّـانْ ؟؟

_ هادْشي للِّي كَانْدِيرُو هْنَـا ..

_آشْ المزيانْ آشْ العَيَّانْ .. آرَاهْ مَا كَانْدِيرُو حتى حاَجَـا آعْزيزي .. آوْرَى بَعْدَا أتِّينيتْ السَّخْطْ وَامَنْ يَـلّا .. ( ماذا دهاك يا هذا إننا لا نفعل شيئا ذا بال .. تعال معي كي ترى السخط بأم عينيك ...)

هرع أمامي جهة المدفن .. هَـااا .. صرخ بهدوء .. لااا .. نَبَسْتُ متوجسا ..

_كيفاشْ لااا ..آتْحَرَّكْ ..

زعق في وجهي يحملني على المضي في الحركة جهته ..

_قَـلْ مزيانْ آلْخيفَانْ ... (لاحِظْ جيدا أيها الرعديد)

كُنا إزاءَ دفينين لا دفينا واحدا، واحد ممتدد بشكل طولي كأن صاحبه من العمالقة، والآخر يقابل نهايته جهة ما يفترض وجود القدمَيْن، مدثريْن بأغطية خضراء بيضاء جعل الأرعنُ يزيلها بحرص لحافا بعد لحاف حتى وصل إلى ما يمكن أن يكون كومة تراب لا تشبه غيرها منتشرة في موضع واحد على شاكلة فوهة من فوهات قرى النمل ...

_لقد حضروا هنا ..

قال متأففا...

_ مَاكْمَـسْ شكووون ..؟؟.. (مَنْ؟؟)

قلتُ خائفا..

_المساخيط ..!!..

أردَفَ ساخطا .. الله يحرقها واعْـدْ ...

_ شنُّو كَايَنْ شنُّو واقعْ ..؟؟..

_ لقد خربوا كل شيء ..

_شكووون؟؟

_ آلَجْوَادْ تِسعةُ رَهْطينْ .. هَــا قَـلْ مْليحْ مَايندَا يِّينْ .. (الأشرار .. انظر مليا ماذا أجرموا ... )

أزاح بحركة مباغتة سريعة ذاك الركام من التراب المكوم لتظهر صندوقة صغيرة التقطها من مكانها وبسرعة فتحها فإذا بها .. خاوية .. إلا من قطع نقدية نحاسية قليلة ورزمة كتاتينَ معقودةٍ ملفوفة على بعضها آحتضنها تَشَمَّمَها ثم أودعها محفظته العتيقة (تاقربت نسْ)..

_آشْ كَادِّيرْ ..؟؟.. (ماذا تفعل ؟؟)

قلتُ محتجا

_..لا شيء..

قالها برأسه دون ينطق بكلمة آمراً إياي آلتزام الهدوء .. آشششتْ .. ثم .. آآآه .. رأسي .. رأسي .. همستُ وقد تفصد جبيني عرقا ..

_مالكْ مالكْ ..؟؟..

_لااا شيء

فاغرا عينيَّ عاينتُ كتلة بيضاء ممتدة أسفل المدفن المترب ..

_ما ذاااااك .. ؟؟ ..

_تلك يُمناااه ..

_هاااا ..!!..

قلت متعجبا وجلا خائفا مرتبكا

_هذا فخذ الشريف ..

عَقَّبَ يتأمل الرُّفاتَ المركون بدِعَة لا يتململ لا يتحرك غارقا في مطلق الجمود..

_ماذا آشْنووو ..؟؟..

_إييييه .. هذا جزء مما كان يشكل كُلا كيانا متحركا ذات يوم .. سْقَااارْ قْطَعْ الحَسْ هو ذا مصيرنا كلنا سنقبع هاهنا غفاة نياما صُحاة مَن يدري آنشْوَى الرَّاحْتْ دي تَرْكِينْتْ أونْ خِي هَانْ شَا يِييتْ .. تبا تَفْتْ حَيْحَا لقد أخذ الملاعينُ ما أخذوا وتركوا الفوضى وراءهم تسعة رهط يفسدون في الخلق لا يصلحون ..

وددتُ لحظتئذ أن أقول وأعيدَ أتأتئَ .. لاااا .. لماذا .. عْ .. لاااا .. شْ .. كيـ .. فَااااشْ .. حْرَاااامْ .. لكني تصلَّبتُ في مكاني أبكما لا يفقه ما يقع في هذه الحياة ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بدء التجهيز للدورة الـ 17 من مهرجان المسرح المصرى (دورة سميح


.. عرض يضم الفنون الأدائية في قطر من الرقص بالسيف إلى المسرح ال




.. #كريم_عبدالعزيز فظيع في التمثيل.. #دينا_الشربيني: نفسي أمثل


.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع




.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو