الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحيل صامت حياة حافلة

أمل جمعة
(Amal Juma)

2024 / 2 / 22
الادب والفن


رحيل صامت.. حياة حافلة

أن تموت في المخيم، أن تعيش طوال الوقت لاجئاً
4 تموز 2023

ماذا أفعل إن كنت أمتلك صوتاً جهورياً يصل عالياً ويشقُّ السماء؟
لم تقل هذه العبارة في يوم من الأيام لكنها ملائمة لها أكثر من أي وصف آخر، لا تمل راوية حكاية زواجها وهي عجيّة (طفلة باللهجة البدوية) لا تقوى على حمل قلادتها الذهبية الثقيلة فمن كانت مثلها يكون مهرها كذلك، كانت تضحك وهي تعدد أسماء أبنائها وكيف أنها كانت تحمل كلّ عام لتنجب 11 ولداً وبنتاً واسقطت الكثير خداجاً ومع ذلك لم ينحي لها ظهر.
في الحارة حيث تشكل البلاد أساساً لبناء العلاقات والنسب والقرابة، ولأن البداوة لا تطيق حصار البيوت الضيقة وخنقة المخيم لذا تواجد البدو بشكل عام على أطراف المخيم منذ تهجيرهم عام 48، بل كانوا أول من خرج للخلاء بعد استقرار لجوئهم بأعوام وسكنوا خيماً مع اغنامهم ليعودوا في الشتاء إلى المخيم، ومع الوقت استقر الكثير منهم خارج المخيم قريبين من الأرض أو الجبل.
لسنوات كانت أم صدقي وزوجها يتضمون أرضا زراعية في سهل عرابة يمضون فيها غالبية الوقت، قبل أن يكبر الأبناء ويختارون عملهم الخاص، لماذا هي بالذات من أكتب عنها الآن؟ ليس فقط بسبب رحيلها في اليوم الثالث للاجتياح بعد غيوبة دامت لعام ونصف وليس بسبب كونها أماّ لشهيدين: الأول لطفي عام 92 والثاني الشهيد المفقود حتى الآن محمد 2002 وليس لأنها شخصية خاصة ذات حضور طاغٍ ، وليس لأنني وعدتها أن اكتب عنها وكتبت، وليس لأنها صديقة أمي القريبة جداً والتي فركت وغسلت معنا جسد أمي في وفاتها، أكتب عنها لأنها هي الشخصية القائمة بحد ذاتها، البدوية الصرفة بلا لحن في لهجتها، الممتدة في حياتنا وفي حياة المخيم لأكثر من 80 عاماً.
في الانتفاضة الأولى وفي يوم شديد الرياح والزوابع من شهر كانون ثاني خرجت على صراخ في باحة بيتها لتجد ابنها مرمياً على الأرض ورصاصة اخترقت صدره وسقط من علو ثلاثة أمتار، كانت دمه يرش وجهها كما تقول وهي تحتضنه وقد أدركت موته، كان لطفي رياضياً يحضر للزواج وأمه تبحث عن عروس تليق، وفي اجتياح المخيم الكبير أصيب ابنها محمد وفقدت أثار جسده، على مدى عامين بحثت العائلة بلا توقف ورفعت قضايا ولم تترك سبيلاً دولياً أو محلياً لكن دون فائدة، بقيت تنتظر والأمل يسير معها أن يعود محمد يوماً، أعلن محمد شهيداً بعد عامين، وماتت وفي قلبها حسرتين من ضمته واغتسلت بدمه ومن مات وهي تحلم بلمس جسده ولو مرة واحدة.
مرارة الموت في ظلّ حرب، طعنة الموت والبيت ينهدم، أن يتوقف قلبك ويدك عن الصراع ليس خياراً ولكنه طعم القهر المضاعف وطويل الأمد.
قبل عام ونصف سقط الجسد القوي مثلما تسقط شجرة في وداعها الأخير، دخلت غيبوبتها، وتنقل جسدها في الاجتياح من بيت لبيت ومن مشفى لمشفى حتى أعلنت هي ذاتها الرحيل بنزيف حادّ فاض من أنفها، كأنه الدم المختزن من شهيدها الأول،
ماتت من قالت لي يوماً جيبي كل الرؤساء والوزراء وأنا أجادلهم واتجاوزهم،
تعبر الآن من أمامي بثوبها المخملي، فلقد أحبت الحياة رقصت ودبكت وغنّت وصدح صوتها بالزغاريد لعودة ابنها من السجن ولوداع بناتها في أعراسهن، كانت تسير مثل زرافة بثوبٍ طويل يتراقص مع مشيتها المعتدة وصوتها الجهوري الخاص، وحكايتها التي لا تستطيع إلا تصديقها لطريقتها السردية الواثقة والمتمكنة، فهي تحكي عن الرياح التي كانت تهب والمطر الذي كان يسقط ولون ثوبها واي من الأطفال كان يدور حولها ومن قابلت وماذا كانت تضع على النار من لحم أو قمح تسلقه، كل هذه التفاصيل ترويها وهي تحكي لك حدثاً صار أو لتشدد روايتها بالشواهد واليقين.
بعد أن رحلت أمي كانت تزورني كلما وصلت جنين وكنت أقول حقّك على أنا من تأتي إليك فتقول أنت الغالية، نعم هي الغالية، لم أحتمل أن أراها في غيبوبة بجسد مسجى على سرير معدني، ولكنني سأراها دواماً كما عهدتها شجرة باسقة تتناثر منها الحكايات والألوان.
وداعاً خالتي "أم صدقي" وداعاً ايتها الحبيبة القريبة، وداعاً يا سرّ أمي وبوحها الذي صار الآن رهناً للسماء








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا