الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما التآلفية؟ (حوار مع هشام عقيل)

هشام عقيل
كاتب

(Hisham Aqeel)

2024 / 2 / 24
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


ملاحظة: أعيدُ نشر حوار خاصِ أجراهُ بعضُ الأصدقاء معي، عبرَ برنامج الزّوم، ليقرأهُ المهتمونَ في موقعِ الحوار المتمدّن. لم يرغب الأصدقاءُ بأن أذكرَ أسماءهم علناً، إذ كان اللّقاءُ ناجماً عَن فضولِهم الشّخصيّ والفرديّ بما طرحتهُ في بعض المقالات وكتابي (رأس المال الكولونياليّ). ولم تكن الغايةُ هوَ النّشر العلنيّ أبداً. في هذا الحوار، لم استنفذ جميعَ أبعاد التّآلفيّة، الّتي تناولتها في مقالاتٍ أخرى، ولم أعطِ تعريفاً لمفاهيمَ كثيرة (مثلَ الإنسان الأقوى وعصر الكارثة) قد تكون جوهريّة لفهمِ التّآلفيّة. يُمكن القولُ إنّ هذا الحوارَ هوَ عبارةٌ عَن تقديمٍ عام ووصفيّ (ولا يُمكن عدّهُ تقديماً نظريّاً) للتّآلفيّة.


*لم نسمع بالتآلفيّة مِن قبل، هل يُمكنك - باختصار - أن تعطينا تعريفك لها؟ *

إنّها المذهبُ العلميّ الوحيدُ القائم اليوم، في عصرِ الكارثة، لخلاصِ المعمّرين أو المضطهَدين. 


*عادة تُفهم عبارات مثل ”تحرير المضطهَدين“ على أساس أنها أحلام سياسيّة واجتماعيّة، ولكنكَ تُضيف أن ما تقوله هو قولٌ علميّ. هل يُمكنك أن تفسّرَ لنا ذلك؟* 

التّآلفيّة مِن دون علم العمران هي وهمٌ وحلم. 

يقولُ العلمُ العمرانيّ إن كُلّ نمطٍ إنتاجيّ في التّاريخِ هو عبارة عن اقتران، وكُلّ اقترانٍ عمران. ولا تقترن عناصر أيّ نمطٍ إنتاجيّ في التاريخ إلّا في منطقةٍ محدّدة ومعيّنة، وهي الشّكل الاجتماعي للاقتران. 

لا يقترنُ العمران الشّيوعيّ-العشائريّ إلّا في منطقةِ العلاقات العشائريّة أو القرابيّة. ولا يقترنُ العمران العبوديّ إلّا في منطقةِ العلاقات الحربيّة. ولا يقترنُ العمران الخراجيّ إلّا في منطقةِ العلاقات الاستبداديّة. ولا يقترنُ العمران الإقطاعيّ إلّا في منطقةِ العلاقات اللورديّة. ولا يقترن العمران الرّأسماليّ إلّا في منطقةِ العلاقات الفيتشيّة. 

كيفَ يقترنُ العمران الشّيوعيّ؟ لا يقترن هذا العمرانُ إلّا في منطقةِ العلاقات التّآلفيّة. 

ما هي العناصر الّتي يجب أن تقترن؟ المؤتلَف من جهة، والوسائل الإنتاجيّة مِن جهةٍ أخرى. 


*لنقف هنا. أنتَ تطرح مصطلحاتٍ لم نسمعها وتحتاج إلى توضيح. هل يُمكنك أن تحدّدَ بالضبط ما هي العلاقات التّآلفيّة؟*

في العادة، تُفهم عبارة التّآلفيّة بالمعنى العاطفيّ والأخلاقيّ، أي الحب، والألفة، والوحدة الوجدانيّة. لكن هذا ليسَ المقصود إطلاقاً. التّآلف هو بالتّحديد الاتّحاد، أو التّضامن، أو التّلاحم الطّوعيّ في سياقِ امتلاك المؤتلَف كافة الوسائل الإنتاجيّة، مثلَ المصانع، والأراضي، والسّفن، والأدوات، والمواد الخام، إلخ.

عليكَ أن تفهم التّآلف أيضاً مِن خلال نقيضه، أي التّخالف. حينَ يتآلف النّاسُ فإنّهم قد دخلوا طوعيّاً في علاقةٍ لا تتضمّن أيّ تخالفٍ على الإطلاق، أي إنّهم ليسوا مقسّمين إلى طبقاتٍ ولا يستغِلون بعضهم الآخر سياسيّاً، واقتصاديّاً، وآيديولوجيّاً. 


*… وما هو بالضبط المؤتلَف؟*


لنُجيب عن هذا السّؤال علينا أن نبدأ بالشّعبِ أوّلاً. 

طالما يوجد المجتمع الطّبقيّ، لا بد أن يوجد معه الشّعب. 

إن مفهوم الشّعبِ لا بدّ أن يختزنَ على انقسامٍ تخالفيّ بطبيعةِ الحال. ما المقصودُ بهذا الكلام؟ ظَهَرَ مفهومُ الشّعبِ كنتيجةٍ حصريّةٍ لانقسام المجتمع البشريّ إلى طبقات. مثل الدولة، ليسَ الشّعبُ مفهوماً عائماً عابراً للتاريخ، وإنّما هوَ نتيجة لحالة تاريخيّة معيّنة، وبكلماتٍ أخرى: لا يظهر الشّعبُ في المشهد التّاريخيّ إلّا على نحوٍ مذيّلٍ لبداية التّاريخ الطبقيّ، وسينتهي الشّعبُ في نهايةِ التّاريخ الطّبقيّ. 

لعلّك مدركٌ أنّ الفلاسفةَ الّذينَ قالوا وقالوا في العقدِ الاجتماعيّ أستندوا في قولهم كلّيّاً إلى الشّعب وأسلوب تعاقده. ولعلّك مدركٌ أنّ التعاقدَ بينَ الحاكم والمحكوم يقومُ على التّخالف في مفهوم الشّعب؛ حتى في تعاقدٍ يتّسم بالمساواة، كالذي كتب عنه روسو. منذ فجر التّاريخ الطّبقيّ انقسم مفهوم الشّعب، بشكلٍ تخالفيّ، إلى سادة وعموم، ولا يُمكن أن يوجد الشّعب إلّا على هذا الأساس. 

إذن، وبهذا المعنى، لا يُمكنُ لنا الافتراض أنّ المجتمعَ التآلفيّ سيتضمّن أيّ مكانٍ للشعب. إن سألتَ: إن لم يكن هناكَ شعب، ماذا سيكون هناك؟ نُجيبكَ: سيكون هناك مؤتلَف. 

باختصار، المؤتلفُ هو شكلُ اجتماع البشر الّذين تحكمهم العلاقات التآلفيّة. 


*هل وُجدت التّآلفيّة في السّابق؟ هل وُجد هذا المؤتلَف في التّاريخ؟* 


طبعاً التّآلفيّة لم تكن موجودةً بمعناها النظريّ الكامل الّذي نطرحهُ الآن. لكنها لم تسقط مِن السماء مِن دونِ أيّ أساسٍ تاريخيّ. حتى الآن، وَجَدَ التّاريخُ التّآلفيّة في ثلاثةِ مواضعَ مهمة: مجتمعات الألفة، واليعاقبة، والبلاشفة. لكن في كُلّ موضعٍ لم يتأسّس المؤتلَف بشكله الكامل، رغمَ أنّ العلاقات التّآلفيّة كانت غايةَ هذه الحركات.

(1) لم تتمكّن الحركات التحرّريّة (مثل الثّورة المزدكيّة، أو البابكيّة، أو الزنج، إلخ) في ظلّ العمران الاستبداديّ مِن الوصولِ إلى المؤتلَف، وذلك لأنّ الظّروفَ العمرانيّة لم تساند تحقّق ذلك، ليسَ بمعنى عدم تطوّر القوى الإنتاجيّة فحسب، وإنّما وجود العمران الاستبداديّ نفسه كعائقٍ على تكوّن الشرط المسبق للمؤتلَف، وهو انتشار الوضع الطبقيّ البروليتاريّ؛ كما هو الحال الآن. لهذا السبب، حتّى في ذروةِ التجربة معَ القرامطة، نجدهم قد نظّموا مجتمعهم وفقاً لتخالفٍ معيّن. كان المؤتلَفُ مجردَ خيالٍ طوباويّ في أذهان الفلاسفة والحالمين.

(2) في القرن الثامن عشر، نجد أنّ التّآلفيّةَ قد بلغت طوراً جديداً. على العكس مِن الحركات التّآلفيّة السّالفة، الّتي كانت معاكسة لحركة العمران نفسها، ظهر اليعاقبة على نحوٍ متماشٍ مع الحركةِ العمرانيّة في التحوّل مِن المجتمع الإقطاعيّ إلى الرأسماليّ. لكن اليعاقبة حاولوا أن يتصوّرا المؤتلَف في غير موضعه، أي إنّ الثّورةَ البورجوازيّة كان عليها أن تحقّق الالتحام الشعبيّ كأمةٍ وليسَ الالتحام التآلفيّ كمؤتلف، ولهذا فشلوا في تحقيقِ غايتهم. 

(3) أمّا البلاشفة، فإنهم مثّلوا ذروةَ التّآلفيّة. على العكس مِن الحركات السابقة، فَهِم البلاشفةُ سيرورة الحركة العمرانيّة، إلّا أنّهم لم ينجحوا بفعلِ سيرورة الصّراع الطّبقيّ نفسها، إذ هذه السّيرورةُ حظرت عليهم التّطوير العلميّ لفهم أسلوب تحقّق المؤتلَف، والعلاقات التآلفيّة. حالما تفرّق البلاشفة، بدأ تاريخُ النّكوصِ والتّخالف حتى يومنا هذا. كانت الثّورةُ الثّقافيّةُ البروليتاريّةُ العظمى هي الصّرخةَ الأخيرة لتعديل هذا المسار، إلّا أنها أيضاً فشلت. 

هكذا، مثل نور الشّمسِ المحتجبة وراء السحب، كانت التّآلفيّةُ حاضرةً في العصورِ القديمة إلّا أنّ المؤتلَف نفسه لم يظهر أبداً. 


*لكن ألا تعتقد أن ثمّة تجاربَ أخرى تستحق الوقوف عندها؟*


طبعاً لا استثني تلكَ التجارب أبداً، ولكنني أقومُ بذلك في سبيل التبسيط والحصر. الحركة اليعقوبيّة خلّفت تجاربَ ثوريّة عديدة، بلغت ذروتها في كوميونة باريس في 1871. والحركة البولشفيّة خلّفت تجاربَ ثوريّة عديدة، وبلغت ذروتها في الثورة الثقافيّة الصينيّة في 1966. لكن جميعها، كما هو واضحٌ لنا، فشلت. 


*إذا كانَ الفشل مرافقاً للتآلفيّة، ما الذي يجعلكَ تعتقد أنها ممكنة الآن؟* 


لذلكَ سببان. سببٌ موضوعيّ يتّصل بالظّروف العمرانيّة، وسببٌ علميّ يتّصل بالنّظريّة العمرانيّة. 

تتّجه الرّأسماليّةُ، الإمبرياليّة والكولونياليّة، منذُ الرّبع الأخير مِن القرن العشرين، نحو السّلطويّة. 

السّلطويّةُ تؤدي إلى انعزال الجهاز التنفيذيّ-الإداريّ، وفي الوقت نفسه تعني تعميم الوضع الطبقيّ البروليتاريّ على كافةِ الطبقات الشعبيّة.

تعميم هذا الوضعَ الطبقيّ ترافقَ مع أفول ثورة التّحرّر الوطنيّ في العالم، وانتقال التناقض الرّئيس ليكون حولَ المشاركة الديموقراطيّة. هذا كُلّه مذكورٌ في كتابي الّذي صدر مؤخراً، (رأس المال الكولونياليّ)، لذا لَن أسهب في الحديث عنه الآن. 

هذا كُلّه أدّى إلى تفرّد مفهوم الشعب نفسه، الّذي أصبحَ يطالبُ بالمشاركةِ الديموقراطيّة في كُلّ مكانٍ في العالم؛ الحركات الاجتماعيّة، والبيئيّة، والجندريّة، والنسويّة، والعرقيّة إلخ. 

هذا الظّرفُ الموضوعيّ لم يكن حاضراً دائماً.

مفهوم الشعبِ أمام طريقين، إمّا أن يبقى شعباً بالمعنى العموم للكلمة، وإمّا أن يتحوّل إلى مؤتلَف. 


*… والسّبب العلميّ؟* 


السّبب العلميّ يتّصلُ بحقيقةِ تنظير نمط الإنتاج الكولونياليّ، إذ هذا التنظير أدّى إلى تثويرِ علم التاريخ (أو ما كان يُعرف بالماديّة التاريخيّة) كعلم العمران وتاريخه. إنّ دراسةَ العمران دفعتني إلى التفكّر في طبيعة العمران الشّيوعيّ، هذا المجتمعُ اللاطبقيّ، وحاولت الإجابة عن العديد مِن الأسئلةِ الّتي لم يجب عليها العلم بعد.  


*هل يُمكنك أن تُعطينا أمثلةً على تلك الأسئلة؟*


مثلاً، كيف يقترن نمط الإنتاج الشيوعيّ؟ أنتَ تعلم أنّ الجواب الاعتياديّ لهذا السؤال هو: ”العلاقات الاجتماعيّة الشيوعيّة هي علاقة تعاون حرّ، وإنها تعبّر عن مجتمع حرّ مكوّن مِن أفراد أحرار“. لكن لا يُمكن أن نعدّ ذلك جواباً جاداً. الإجابة على هذا السّؤال تنيرُ لنا الطّريق حولَ مسائلَ عديدةٍ مثل: القوانين التي تحكم الانتقال التآلفيّ، وطبيعة الاقتصاد التآلفيّ، وديكتاتوريّة البروليتاريا، والميل العام للمجتمع التآلفيّ، إلخ. الإجابة على هذه الأسئلة ستجعل مِن التّآلفيّة الشّكل الوحيد للاشتراكيّة العلميّة المعاصرة. 

ماذا سيكون عليه المجتمع في حال تمّ تطبيق النّموذجَ التآلفيّ؟

غريبٌ أمركَ! سمعتَ مقالي كُلّه حولَ علمِ العمران، ومع ذلكَ تسألني عن ”النّموذج التآلفيّ“، كما لو كانت التّآلفيّةُ حلماً في خيالي أردتُ تطبيقه على أرض الواقع فكتبتُ عنه. واقعيّةُ التآلفيّة محصورةٌ في واقعيّةِ إمكانيّةِ اقتران عناصرها في عصرنا اليوم فقط؛ لا أكثر ولا أقلّ. جميع العناصر حاضرةٌ معنا كما تقدّم لكَ، هذا لا خلافَ عليه. أنا لم ابتدعها مِن خيالي. الشّعبُ هو العنصر الّذي يجب العمل عليه، أي تحويله إلى مؤتلَف. ولا بدّ اقترانه، في تحوّله هذا، مع الوسائل الإنتاجيّة. لا شيءَ في قولي يوحي بأحلامٍ ورديّة أو نماذجَ  تتحدثَ عنها أنت. فلا تسألني عن النماذج، ولا الأحلام، ولا الجنان.

*لعلّي لم أصيغ السؤالَ بشكلٍ صحيح. التآلفيّةُ لا بد أن تكون مشروعاً اجتماعيّاً يُغيّر العالم. أليس مِن حقنا معرفة ما هي هيئة هذا العالم؟* 


الأحلام ليست شأني، فلا تسألني عنها.

*أنتَ تقول إنّه مجتمعٌ يخلو مِن الطبقات، وسيكون هناك مؤتلفٌ بدلاً مِن شعبٍ، لماذا لا يُمكنك أن ترسم لنا صورةً عامة لهكذا مجتمع؟* 


لأنك مصرٌّ على أن أعطيكَ صورةً، أو مثالاً، لمجتمعٍ شيوعيّ-تآلفيّ. المثالُ مدخل النوم، النّومُ مدخل الحلم، والحلمُ نقيض العلم. فلا تسألني عن الجِنان ولا الأحلام، فلا شأن لي بها. 


لا تقل صورة، أو مشروع، أو نموذج. قل اقترانٌ عمرانيّ. 


*إن سألتكَ عن المميّزات البنيويّة العامة التي سيولّدها الاقتران العمراني للمجتمع التآلفيّ، تُجيبني؟*


أجبتك.

العمران التّآلفيّ يفترضُ اقتصاداً محكوماً بقانون التّوجيه التّآلفيّ للإنتاج. في الوقت نفسه، يفترضُ غياب السّياسة، إذ وجود المؤتلَف، كالاجتماع الذي يجمعُ مباشرةً بينَ ”صنع القرار“ والتوجيه الاقتصاديّ نفسه، هو نقيض وجود الدولة؛ كما أنّ غيابَ الطبقات يعني مباشرةً غياب السّياسة. أمّا آيديولوجيّاً فإنه يفترض تمرّكزهُ في المنطقةِ الأخلاقيّة، إذ يفترض تقويضاً للمنطقةِ الفلسفيّة، والسّياسيّة، والحقوقيّة، إلخ. 


*ما الّذي تعنيه بقانون التوجيه التّآلفيّ للإنتاج؟* 


في ظلّ الرّأسماليّة، دافع الإنتاج هو معدّل الرّبح. في ظلّ التآلفيّة، دافع الإنتاج هو معدّل الألفة. في ظلّ الرّأسماليّة، القانون الذي يحكم الإنتاج هو قانون القيمة. في ظلّ التآلفيّة، القانون الذي يحكم الإنتاج هو التّوجيه التّآلفيّ. 

الإنتاج التّآلفيّ يقومُ على تخطيط، وحساب، الحاجات التّآلفيّة للإنسانِ في المجتمع. في ظلّ الرّأسماليّة، يكون الإنتاجُ فوضويّاً، بينما في التّآلفيّةِ يقوم الإنتاجُ وفقاً لتوزيعِ الحاجات التّآلفيّة للإنسان على مختلف القطاعات الإنتاجيّة والصّنائع. مِن مركز المؤتلَف إلى أصغرِ وحدة، والعكس بالعكس. لكن علينا ألّا نفهم كلمة ”حاجات“ على نحوٍ خاطئ، إذ المجتمعُ التآلفيّ ينتجُ وفقاً للحاجةِ التّآلفيّة بالتّحديد، أي تلك الحاجة التي لها غايةٌ محدّدةٌ وهي: رفع الإنسان إلى مراتبَ عليا مِن التطوّر، أي إلى مرتبةِ الإنسان الأقوى.


*لكن مِن دون مفهوم الدولة، كيف سيتمّ ذلك؟ ألا تعتقد أن غياب الدول يعني الفوضى؟* 


المؤتلَفُ مؤلفٌ مِن ألفاتٍ متعدّدة، أي يمتازُ بطبيعةٍ توزيعيّة. أنّكَ تخلطُ بينَ مفهوميّن: جهاز الدولة وصنع القرار. كُلّ مؤتلفٍ يتمثّل عبر مجالسَ مؤتلفيّة، وكُلّها تدخل في صنع القرار؛ مِن الوحدة الخاصة إلى الوحدة العامة. الجسمُ واحدٌ، ولا يشوبه تخالف، فتنتفي الحاجة لوجودِ مفهوم الدولة. على العكس مِن الرّأسماليّة، إذ حتّى في أكثر البلدان ديموقراطيّةً تنعزلُ النخبة السياسيّة مِن خلال نظام الاقتراع السريّ؛ وتبقى غالبيّة النّاس محظورةً مِن صنع القرار. جهاز الدولة دائماً يمثّل مصلحة طبقيّة معيّنة موجّهة ضد طبقة أخرى. أمّا المؤتلفُ، كما يبيّن الاسم نفسه، لا يمثّل أيّ مصلحةٍ خاصة ومنعزلة.

*أنا متعاطفٌ مع ما تطرحه، ولكن هل في اعتقادكَ أن اقتراناً عمرانيّاً مثل هذا سيدخل فيه البشر؟ ألن يحتاجوا إلى الوعي أوّلاً؟*


فيكَ ذاتيّةٌ، ولهذا تسأل هذا السؤال. 

طبعاً ماركس كان على حقٍ في أن يصرّ على مرحلةٍ انتقاليّةٍ تنصّ على ضرورة السّلطة السّياسيّة البروليتاريّة الّتي تمحو الطبقات. والتآلفيّةُ تؤكدُ على هذه الضّرورة. لكن ماركس لم يستكمل طرح ضرورة ذلك، ولأسبابٍ مفهومة تماماً. تدركُ التّآلفيّةُ أنّ في أوّلِ الأمر سيكون عليها أن تتعاملَ، سياسيّاً بالتحديد، مع وقائعَ عمرانيّة يخلّفها الماضي الرأسماليّ: الدّولة، السّوق، العملة، الأجور، الإمبرياليّة، إلخ. في أوّل الأمر سنكونُ أمام مؤتلَفٍ ولكنه مؤتلفٌ في تخالفٍ بضرورة الحال. وهذا التّخالفُ يولّد كُلّ التّناقضاتِ بينَ سيادة قانون التوجيه التآلفيّ للإنتاج وقانون القيمة نفسه.

*كيف ستظهر هذه التّناقضات؟* 


مثلاً، لنا أن نتصوّر أنّ في هذه المراحل سيحصل الفرد مدخولاً مكوّناً مِن قسمين: مكافأة العمل (أي يتلقّى مكافأة مساوية للعمل الّذي بذله)، والألفة. الألفةُ هي هذا المقسومُ المتساوي الّذي يحصلُ عليهِ الجميعُ على هيئةِ خدماتٍ صحيّة، وتعليميّة، وسكانيّة، وغدائيّة، ومهنيّة، والبنية التحتيّة مجانيّة وذات جودةٍ عالية. كُلّما استقوت العلاقات التّآلفيّة، اضمحلت الحاجة لمكافأةِ العمل واكتفى المؤتلفُ بالألفةِ وحدها، إذ كُلّ الحاجاتِ الإنسانيّةِ ستكون ضمن الألفة. في المؤتلَف المتآلف، كُلّ المنتوجات ستكون ضِمنَ الألفة. 


*حين تقول ”حاجات الإنسانيّة“ هل تعني الحاجات الأساسيّة فقط؟* 


على الإطلاق! التّآلفيّةُ تعني أنّ على الإنسانِ أن يستمتعَ بالحياةِ إلى أقصى درجةٍ ممكنة، وأن يستهلك كُلّ ما يستطيع إنتاجه؛ سواء أكان أساسيّاً أم كماليّاً. الاستهلاك في ظلّ الرّأسماليّةِ سيكون لا شيء مقارنةً بالاستهلاكِ المتضمّن في التّآلفيّة. لكن الإنتاجَ التآلفيّ إنتاجٌ نافعٌ، وبالتالي الاستهلاك التآلفيّ استهلاكٌ نافعٌ، وتدخل فيه منفعةُ كوكب الأرض، والبيئة، والحيوان أيضاً. على الإنسان ألّا يتخيّل نفسه الكائن المركزيّ، والوحيد، على هذا الكوكب. سيكون علينا، بالأحرى، الحديث عن حاجات الإنسان بوصفهِ كائناً كوكبيّاً. 

لكن اليوم، أي الآنَ الّذي ليسَ بعدهُ آن، الإنسانُ بحاجةٍ إلى أبسط حاجات الحياة، ولا يستطيع الحصول عليها. الرّأسماليّةُ لا تتّسم بشحٍ في الإنتاج، بل - على العكس - بفائض في الإنتاج؛ ومع ذلكَ يعيش الناس في شحٍ وغيض. ألا يعدّ ذلكَ تناقضاً مأساويّاً؟ 


*اتّفق معكَ في ذلك، ولكنني أرى أن بعض الرّأسماليين أيضاً يطرحون ضرورة مجانيّة التعليم، والصّحة، والخدمات، إلخ. فما الفرق؟*


حين يطالب الرّأسماليّونَ بذلك، عبر آيديولوجييهم التّخالفيّين، فإنهم يقومونَ بذلكَ وفقاً لمصالحَ بنيويّة خاصة بالرأسماليّة؛ وهي دائماً مؤقّتة وعابرة. مثلاً، ثمة نظريّةٌ اقتصاديّةٌ شائعةٌ لدى بعضهم تقول إنّ كلّما شجّعنا استهلاك الفرد، وجودة حياته الاجتماعيّة، سيتقدّم الاقتصادُ إلى الأمام بالضّرورة. أمّا التّآلفيّة فإنّها ليست معنيةً بذلك، إذ إنّها لا تطالب بالمساواة الفارغة، والعدالة الاجتماعيّة، وتقليص الفجوة بينَ المداخيل، إلخ. إنها تطالب بمجتمعٍ جديدٍ كُلّيّاً: ليس فيه دولةٌ، ولا سوقٌ، ولا طبقات. إنها حقيقةٌ عمرانيّة مختلفة نوعيّاً عن الرأسماليّة. 

التّآلفيّةُ لا تعني أن الإنسانَ لَن يشعر بجوعٍ بعد اليوم فحسب، بل تعني أن الإنسانَ سيشعرُ بشبعٍ دائم، ولَن يخشى الجوعَ أبداً؛ ما سيستهلكهُ الإنسانُ التآلفيّ سينمّي بدنه على نحوٍ لا نتخيّله نحن أبناء اليوم. إنّها لا تعني توفّر النّظام الصحيّ المجانيّ ذي جودةٍ عاليةٍ فحسب، بل إن الإنسانَ جسديّاً سيتغلّب على الكثير مِن الأمراضِ الّتي يخشاها اليوم، وسيبلغ حالةً عليا مِن التطوّر البايولوجيّ. إنّهُ سيتجاوزُ المرحلةَ البايولوجيّةَ الحالية، أي الإنسان العاقل (homo sapiens)، نحوَ مرحلةٍ بايولوجيّة مختلفةٍ تسمّى الإنسانَ الأقوي (homo potens). إنّها لا تعني توفّر النظام التعليميّ المجانيّ في جودةٍ عاليةٍ فحسب، بل إنّ الإنسانَ سيصلُ إلى درجاتٍ عليا مِن المعرفة؛ درجاتٌ محصورةٌ اليوم على عدةِ أفراد فائقي الذّكاء. إنّها لا تعني أن الإنسانَ سيجدُ دائماً مسكناً مجانيّاً لهُ بجودةٍ عاليّة فحسب، وإنّما يعيشُ في مسكنٍ يتناسب معماريّاً معَ شخصيته، ورغباته، وتطلّعاته. إنّها لا تعني حرّية الإنسان مِن القمعِ والإكراه الآيديولوجيّ والسّياسيّ فحسب، وإنّما سيعيشُ في ظلّ مؤتلَفٍ تتبادل فيه الأفكارُ، والتّوجّهات، والرّغباتُ على نحوٍ متآلفٍ وحر. إنّها لا تعني أنّ الإنسانَ لَن يكون عاطلاً عن العملِ أبداً بعدَ اليوم فحسب، وإنّما سيكون الإنسانُ خلّاقاً فيما يقوم به، حسب مواهبه وأهوائه، وسيعملُ على نحوٍ طوعيّ، إذ إنها تلبّي حاجةً اجتماعيّةً؛ كُلّ صنيعةٍ ستكون نافعةً بغض النّظر عَن طبيعتها. 


*ما الفرقُ بينَ الاشتراكيّةِ العلميّةِ القديمة والتّآلفيّة؟* 


هو بالضبط الفرقُ بينَ علم العمران والماديّة التاريخيّة، إذ إن الأوّلَ هو الحالةُ العلميّةُ المتطوّرةُ للماديّةِ التاريخيّة. بالتاّلي، وعلى نحوٍ منطقيّ، لا بد أن تتطوّرَ نظريّةُ الاشتراكيّة كذلكَ معَ التّطوّرِ العلميّ الّذي نشهده. 

وفقاً للنّظريّة الاشتراكيّة العلميّة الماقبل-العمرانيّة، المجتمعُ اللاطبقيّ هو نتيجةٌ لعمليّةٍ انتقاليّةٍ يجرى فيها محو، أو تطهير، الطّبقات. في هذه المرحلةِ الانتقاليّة، تكونُ جميع الوسائل الإنتاجيّة ملكاً مشتركاً، أي ملك الدولة. بعدها، حالما يتمُّ الانتقالُ إلى المجتمع اللاطبقيّ في العالم كُلّه، تكون الوسائل الإنتاجيّة ملكيّةً تشريكيّة أو اجتماعيّة. 

الإشكالُ في ذلكَ هو: غياب أيّ تحديدٍ للطبيعةِ الاقترانيّةِ للنمطِ الإنتاجيّ المنشود. إذا كانت البروليتاريا تستولي على السلطة، وبالتّالي تقود الطّبقات المقهورة الأخرى، وفي هذا يكونُ واجبها محو الطبقات. فإن علينا أن نسأل: ما هي بالضبط طبيعةُ الاجتماع الّذي سيستبدل الموجود؟ الجواب الاعتياديّ هو: المجتمع. ولكنَ لكَ أن تفكّرَ في الجملةِ الكارثيّةِ والفارغةِ مِن أيّ معنى حقيقيّ الّتي يولّدها هذا الجواب: الاجتماع في المجتمعِ اللاطبقيّ هو اجتماعُ المجتمع! 

في حقيقةِ الأمر، الاكتفاء بسلطةِ البروليتاريا، عبر قيادتها الطّبقيّة للطبقاتِ الأخرى، تحتَ مشروعٍ اجتماعيّ تقوده الطليعة، لا بدّ، وفقاً للضرورةِ العمرانيّةِ نفسها، أن يؤدّي إلى استبدالِ هذه السلطة ببورجوازيّةِ الدولة في نهايةِ المطاف (قضيّة ظهور البيروقراطيّة واضحةٌ هنا). هذه حقيقةٌ مثبتة تاريخيّاً.

تقول التآلفيّةُ شيئاً آخرَ: السّلطةُ البروليتاريّةُ هي ضروريّةٌ في حدود أنها تمثّل تعميم الوضع الطّبقيّ البروليتاريّ. لكن المؤتلَفَ سيكون حاضراً مِن اللحظةِ الأولى، رغم أنه موجود - في المرحلة الانتقاليّة - كمؤتلفٍ متخالف. المسألةُ ليست مسألةَ التّحالف الطبقيّ، تحت قيادةِ الطليعة، الّذي سيؤدّي إلى مجتمعِ كذا وكذا، وإنّما هي مسألةُ تعميم العلاقات التآلفيّة، عبر المؤتلَف، بوجود المؤتلَف الأوّليّ (أو ما يسمى بالطليعة). ليست الدولة مَن ستملك الوسائل الإنتاجيّة، بل المؤتلَف. 

إنّ هذه القضيّةَ هي أساسُ كُلّ خلافٍ بيني وبينَ النّكوصيّين.

*مَن هُم النّكوصيّون؟*

قلتُ إنّ علمَ العمران حَدّثَ الوضعَ النّظريّ الكُلّيّ للماديّةِ التّاريخيّة القديمة، أي أختتمتُ العلم العمرانيّ، الّذي دشّنهُ ابن خلدون، والّذي حقّقاه ماركس وإنغلز. بالتّالي، وفقاً لهذا الكلام، لا بدّ أن يغيّرَ ذلكَ مفهومنا العلميّ للاشتراكيّة، أليسَ كذلك؟ وهذا هوَ بالتّحديدِ ما أعنيه بالتّآلفيّة. لكن ماذا عَن تلكَ المذاهب الباقية اليوم، ومعَها الأحزابُ والحركات، الّتي تزعم إنّها اشتراكيّة؟ سيكونُ علينا أن نقول، مِن دونِ أيّ مواربة، إنّ كُلَّ مذهبٍ يدّعي الاشتراكيّة وهوَ ليسَ على العقيدةِ التّآلفيّةِ، هوَ - في الحقيقةِ - نكوصيّ. إنّهُ ينتمي إلى مراحلَ معرفيّة تسبقُ التّحديثَ الأخير لعلمِ العمران.

اسمح لي أن أرسمَ لكَ الخطوط الفاصلة بينَ التّآلفيّة والنّكوصيّة، بوصفِها الشّكل المعاصر للاشتراكيّةِ الطّوباويّة.

في العصرِ الراهن، تكتسبُ النّكوصيّةُ شكلها الكامل، إذ ساهمَ صعود البلدان الكولونياليّة المهيّمنة (مثل روسيا، والصين، والهند، إلخ)، وسيساهمُ على نحوٍ متعاظم، في صعودٍ آيديولوجيّ بورجوازيّ جديد، يُمكننا أن نسميه بآيديولوجيا ما-بعد-الاستعمار، أذ أثّر مباشرةً على جميعِ التيارات اليساريّة (والليبراليّة أيضاً) في العالم. هذه الآيديولوجيا، حالما تسيطر على هذا التّيار أو ذاك، تُعطي اليسار طابعاً نكوصيّاً بالطبع، إذ ينتكص إلى حالة اللاعلم.

آيات النّكوصيّةِ الرّجعيّةِ التّعويميّة هي: العالم المتعدّد الأقطاب، والعدالة الكونيّة، والتّبادل المتكافئ، والمساواة بينَ الطبقات، وتقديس البرلمان، والتّعويم الآيديولوجيّ، وتقديس الاتّحاد السوفيتيّ (في بعض الحالات، كما نجد في البحرين والخليج)، والعالم المتعدّد الهويّات، والتّوزيع ”العادل“ للثروات، وسياسات الهويّة، إلخ.

بعضهم يُطالبُ بكُلّ ذلكَ مِن منطلقٍ سلطويّ: الدّولة الأبويّة الّتي تقوم بالتّأميم، والتي تقود ”الاقتصاد“، وفيهِ يتغلّبُ ”القطاع العام“ على ”القطاع الخاص“. وهذا كلّه، بالطبع، محض هراء. وهناك بعضٌ آخر يطالب بكُلّ ذلك مِن منطلقٍ ليبراليّ-ديموقراطيّ: التّعددّيّة السّياسيّة والحزبيّة، ودولة الرفاه الاجتماعيّ، وتقليص ”الفارق“ بينَ الطّبقات. وهذا كلّه، أيضاً، محض هراء.

هؤلاء هُم النّكوصيّونَ الرّجعيونَ التّعويميّون.

مَن تظهر عليهِ آياتُ النّكوصيّةِ الرّجعيّةِ نعدّه مِن اليسار التّخالفيّ (الذي يؤبّد العلاقات التّخالفيّة)، ولكنهُ ليسَ اشتراكيّاً على الإطلاق. لا مجالَ للنّقاشِ في هذه النّقطةِ أبداً.

أمّا النّكوصيّةُ العقائديّة، الّتي لم تقع تحت سطوة هذه الآيديولوجيا بعد، ولكنها ما زالت في الحالةِ العلميّةِ القديمة مِن دونِ أن تتبنّى جديدَ علم العمران، هي بطبيعةِ الحال أمام خيارين: إمّا أن ترتقي إلى التّآلفيّةِ وإمّا أن تقبع في المراحلِ السّابقة للعلم، فتصبحُ، بالتّالي، أحدَ عناصرَ الاشتراكيّة الطّوباويّة المعاصرة.

هؤلاء هُم النّكوصيّونَ العقائديّون.

لمّا كان مِن الضروريّ أن تكون الاشتراكيّة العلميّة المعاصرة تآلفيّةً، فإن ذلكَ يعني أنّ الاشتراكيّات القديّمة هي طوباويّة اليوم. لكن هذا لا يمنع مِن العمل المشترك نحو عالمٍ يتجاوز الرأسماليّة كُلّيّاً، بل - على العكس - التّعددّيّة هي شرطُ ذلك. مَن مِنا سينكر ما يعانيه الكثير مِن اليسار مِن شللٍ حقيقيّ؟ ومَن مِنا سينكر العمياويّة الطّاغية؟ لكن رغم كُلّ الإحباطات، أدعو المناهضين للرأسماليّةِ أن يتفكّروا فيما يطرحه العلم العمرانيّ، وفيما تطرحهُ التّآلفيّة، فإنّ وحدهُ العلم سيخرجنا مِن هذا السّبات العميق، إذ حان الوقت أن نخرجَ مِن هذا الظّلامِ نحوَ نور العمل. 

فمَن تآلف رأى، ومَن تخالف رأى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل


.. مراسلة الجزيرة: مواجهات وقعت بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهري




.. الاتحاد السوفييتي وتأسيس الدولة السعودية


.. غزة اليوم (26 إبريل 2024): 80% من مشافي غزة خارج الخدمة وتأج




.. اعتقال عشرات الطلاب المتظاهرين المطالبين بوقف حرب غزة في جام