الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هواجس في الثقافة مقتطفات 69

آرام كربيت

2024 / 2 / 24
الادب والفن


كان كربيس بيدروسيان صديقًا مفضلًا لي في مدرسة الشهداء الخاصة للارمن الأرتذوكس في مدينة رأس العين في محافظ الحسكة السورية.
طفل هادئ جدًا، مستقر ومتوازن نفسيًا, أهله مزارعين. ممشط الشعر دائمًا، وثيابه أنيقة ونظيفة, ووسيم. نجلس على مصطبة الكنيسة أو في فناءها الكبير أو نمشي معًا في شوارع المدينة الصغيرة القريب من المدرسة والكنيسة, أو نركب الدراجات العادية وندور في الأحياء ونتكلم
لم يكن شارع بيتنا معبدًا بالزفت على الرغم من أن قاطنيه كانوا من العائلات العريقة، كعائلة الباشات والحرفيين والمزارعين الأرمن.
كان الشارع مرصوفًا ببقايا مقالع بجوار بيتنا باتجاه الشرق، شارع يوصلنا إلى المدرسة.
ثم بيت عائلة أرمنية لديهم طفل من عمري اسمه هاكوب, يتأتأ عندما يتكلم. وعلى مسافة خمسة عشرة مترًا يسكن عبد الرزاق الباشا ابو قيس.
وقيس كان صديقًا لي في الحي الذي كنت أعيش فيه مع أهلي، نلعب كرة القدم معًا برفقة تمو ومعمو محمد أسماعيل الباشا.
بظهر هذه العائلة الأرمنية، أهل هاكوب, رأيت لأول مرة في حياتي بيتًا من الصفيح لعائلة كردية صاحبته امرأة أرملة اسمها كوجر.
وكوجر كانت ترتدي الثياب الكردية التقليدية، بدينة قليلًا
لا أعرف كيف اشرح مواصفات هذا البيت. علب تنك كبيرة تسور البيت من الخارج كبديل لحجر البلوك أو الحجر أو التوريقة, عليه طبقة زنجار أو صدأ الحديد المأكسد، سميك إلى حد ما, ربما واحد ملمتر، مقصوص بشكل طولاني. ومسمر على الجدار من الخارج. ويغطي أجزاء البيت من كل جانب. وفي داخله طبقة من اللبن الرقيق.
استغربت جدًا لوضع هذا البيت, بؤسه من الخارج. تساءلت في قرارة نفسي:
ـ كيف استطاعت هذه العائلة المسكينة أن تعيش في هذا المكان, كيف يأكلون أو يطهون طعامهم أو يغسلون أواعيهم أو الصحون والملاعق, أو يتحممون ويقضون الحاجة في المرحاض.
وفي المدينة لم يحفروا فيها مجاري للمياه المالحة والحلوة في وقتنا، في العام 1968. ومع هذا كان لدى كوجر طفلين أحدهم صغيرًا يقارب عمري وصديقًا لي، والأخر أكبر مني، هذا الآخير كنت أراه دائمًا حاملًا بيده كرة القدم ودائم الابتسام. ويتدرب في الملعب كحارس للمرمى، وأراه دائمًا أما ذاهبًا للملعب او عائدًا منه.
كنت أنفر من هكذا نوع من البيوت, أحس بالكآبة منهم.
وكان هذا النوع من البيوت كثيرة في مدينة رأس العين. ولصغر سني لم يكن لدي إجابات على أسئلة كبيرة. وكانت تتلقى هذه العائلة مساعدات من الباشات بالرغم من شح ذات اليد لهذا الأخير. ولله والتاريخ أقول, أن الباشات كانوا كرماء النفس والروح. في قرارة أنفسهم أيمان لا يتزعز بالنبل والخير والعطاء دون مقابل. لقد تركوا في نفسي جمال أرواحهم الخيرة. وتعلمت منهم أشياء كثيرة رائعة.
في أعياد الفطر والأضحى كانوا يلبسون الثياب الفاخرة والجميلة, وأحدث الموديلات بيد أنهم كانوا متواضعين جدًا. لم أر عليهم مظاهر الاستعلاء أو الفوقية أو الاستهزاء بالاضعف منهم.
لقد عاشرت في طفولتي الكثير من الأطفال ورأيت عن قرب إن الأغنياء كانوا أكثر توازنًا نفسيًا وروحيًا. وأكثر انفتاحًا على الناس والحياة. ولم أر في وجوههم أية علامة على القلق أو التوتر. هناك استقرار نفسي لدى أغلبهم. في سلوكهم وممارساتهم أو حياتهم. ربما لعدم تعرضهم لاهتزازت معاشية أو خلافات عائلية. أو لاستقرار البيت وحسن تربية الأهل. كنت أميل لهذا النوع من الأطفال, ألعب أو أمشي معهم. ولا أذكر أنني صادقت طفلًا من الفقراء على هذه السوية. ربما لم يكن لديهم الوقت ليلعبوا أو يقيموا علاقات مع الأخرين، وعمليًا كانت أغلب العائلات الأرمنية من أصحاب الدخل المتوسط والعالي، أي نادرًا كنت أرى فقراء معدمين لأن أغلبهم حرفيين حرف عالية المستوى، كحرفة الذهب أو التصوير أو ميكانيك السيارات.
في المرحلة الابتدائية, الصف الثاني والثالث والرابع, في مدرسة اللواء الخاصة للأرمن الارتذكس في الحسكة, كنت اعتقد أن الطفل أفرام سلاطيان هو الأذكى بيننا, لنضارة وجهه وابتسامته الدائمة, وحيويته, والبريق الصافي الساكن فيه والخارج من عينيه, بيد أن أغلب التلاميذ كانوا يقولون لي:
ـ انترانيك, هو الأذكى في الصف. كنت أقول:
ـ لا, أفرام هو الأذكى.
كان مقياسي للذكاء نابعة من سيماء الوجه والثياب. لقد كان انترانيك ذو وجه اصفر وشاحب ورث الثياب. وعلامات الفقر والقهر بادية بوضوح على وجهه وملامحه. ذابلا, قليل الضحك أو الابتسام. ينظر إلي بحزن, بابتسامة ذابلة وخجولة, يقول:
ـ كيف عرفت أن أفرام هو الأشطر. والأذكى.
ـ من وجهه، ثم أن أمه معلمتنا في دروس الديانة والقواعد والقراءة الأرمنية، ولكونها صارمة كان هذا يترك أثرًا في نفسي
حتى سلوكنا نحن أبناء العائلات الكبيرة العدد, الكثيرة الأطفال فيه شيء غير طبيعي. نفرغ طاقاتنا في المزيد من اللعب, في الحركة, في عدم الالتفات إلى رأي الآخرين أو تقبل آرائهم. لا نعرف لغة الحوار بيننا, ولا نسمع لأحاديث أباءنا وأمهاتنا. ربما لأنهم لا يعرفون القراءة والكتابة أو لأن المعلمين والمعلمات بثيابهم الجديدة والانيقة يلفتون النظر ويهيمنون علينا دون أن ندري أو نعرف.
المعلم يملك قدرات غير متوفرة عند الوالدين, يعلمك, يمنحك العلامة, يرفع من شأنك عندما يمدحك أو يهبط من معنوياتك عندما ينال من قواك العقلية.
يستطيع هذا المعلم أن يقول لك يا كسلان أو يضع قرن من الورق فوق أذنك، ويمسك أذنك الثانية ويمشي بك إلى بقية صفوف المدرسة ليذلك. ويعريك أمام جميع الطلاب والمعلمين. ويستطيع أن يحولك إلى أضحوكة ومهزلة بين لحظة وأخرى أمام الجميع. أو يمنحك حبًا لا حدود له. أويفتح لك أبواب الحياة بكلماته المشجعة.
علاقة المعلم بالطالب كانت فوقية, مسورة بالحواجز. لغته يغلب عليها التعالي والنرجسية. وعدم القدرة في النزول إلى عقل الصغير. أو لم يكن في حسبانهم أهمية هذا الموضوع. حتى ابتسامات المعلمات كانت مفتعلة. والطفل يميز بدقة شديدة سلوك معلمه، يراقب الضحكة أو الابتسامة الصادقة, النابعة من القلب عن تلك الأخرى المزيفة.
كنت أحب أجواء المدرسة، جمال المدرسة، البناء والصفوف والباحة، ثياب المعلمات الجميلة الملونة، وجوههن وأحذيتهم، شعرهن أشكال تسريحتهن، لكني كنت أكره الدراسة والحفظ والأملاء والاستظهار والقراءة والحساب.
وكان الضرب قائمًا، والإهانة أيضًا، لم يكن يراعوا مشاعر الصغير وحساسيته، ورهافته وانعكاس الضرب عليه في المراحل القادمة من العمر.

الروائيون ـ رواية لغالب هلسا
في رواية الروائيون لغالب هلسا، الذي يحلل واقع مرحلة جمال عبد الناصر، يقول أحد شخصيات الرواية لأبناء الضيعة:
ـ أبن ضيعتكم أصبح شخصية مهمة كتير؟
سألوه:
ـ شو صار؟
ـ شيء رائع
ـ هل أصبح وزيرًا؟
ـ لا.
ـ هل أصبح محافظًا؟
ـ لا.
ـ رئيس وزارة؟
ـ لا.
ـ رئيس الجمهورية؟
ـ لا.
ـ حيرتنا، ماذا أصبح؟
قال:
ابن ضيعتكم صار سجين سياسي.
وقفوا ينظرون إلى بعضهم، ثم سألوه:
ـ ماذا يعني سجين سياسي؟ قال:
ـ سجن من أجل مبادئه.
ضحكوا طويلًا حتى وقعوا على قفاهم. وذهب كل واحد في طريقه يضحك ويردد:
ـ قال سجين سياسي قال؟
في البلدان المتخلفة الناس يعرفون سيد عبوديتهم، الله والدولة والمال، أما من يحمل قدر بلاده على كفه فهو مرذوم، نكرة، غير محبوب في ذهنهم وعقلهم الباطك.
عندما انتهيت من كتابة هذا النص، رحت اقرأه وأضحك.
أضحك من كل قلبي، أضحك على نفسي وعلى مجتمعنا، على ذلنا وهزيمتنا الداخلية. مجتمع قطيعي غائب عن زمانه وعالمه.
قلت لنفسي:
هل هذا المجتمع الجاهل يستحق أن يعيش في القرن العشرين أو قبله أو بعده.
مجتمع يعشق التراتبية الاجتماعية العمودية، ويقدسها، لكنه مع الذين فوق فوق، أنه مع القوي، ويعرف مصالحه الضيقة الأنية، أما الشأن العام لا يستحق أي اهتمام منه.
يشم رائحة السيد من بعيد، يخر أرضًا تلبية لدونيته وناكرًا لذاته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منصة بحرينية عالمية لتعليم تلاوة القرآن الكريم واللغة العربي


.. -الفن ضربة حظ-... هذا ما قاله الفنان علي جاسم عن -المشاهدات




.. إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها بالجيزة


.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها




.. الممثلة ستورمي دانييلز تدعو إلى تحويل ترمب لـ-كيس ملاكمة-