الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هواجس في الثقافة مقتطفات 71

آرام كربيت

2024 / 2 / 25
الادب والفن


انقلاب العام 1970 في سوريا
في فترة الستينيات القرن العشرين كان الضرب الوسيلة الوحيدة للتفاهم بين المعلم والطالب.
ولم أر في حياتي معلماً نزل إلى مستوى عقل الطفل وتعلم منه أو علمه. أو عرف مكامن الحزن والقلق والفرح في نفسية الصغير. أو ملك القدرة والعقل لمعرفة أسباب عزوف الطفل عن الدراسة أو العلم.
ولماذا يفضل اللعب العنيف أو القاسي على الجلوس على المقعد. ولماذا يحب الهواء الطلق ويفضله على الجلوس داخل الجدران العالية.
وعندما كنت أزور بيوت الأغنياء وأقارنها ببيتنا أحس بالفارق الشاسع بيننا وبينهم بالرغم من أن فترة الستينيات لم يكن هناك ذلك البذخ أو الفخفخة التي تذكر في مدينتي رأس العين أو الحسكة. وربما لأنني لم أر حقائق الحياة عن قرب.
إحدى المرات كنا عائدين من المدرسة, أنا وأختاي أنجيل ولوسين. تعرض لي مجموعة من الأطفال من حارتنا يريدون أن يضربوني. حاولتا أختاي أن يحموني، بيد أنهما لم يستطعن.
فجأة رأيت مجموعة من الأطفال طوقوا الشارع, ونصبوا الحواجز وهجموا على هؤلاء الأشرار.
كان بين هؤلاء الأطفال، الطفل ماساك وأخيه مهير وصديقنا آبيك, الطلاب الذين كانوا معي في الصف والمدرسة.
هرب هؤلاء الصغار.
كن أنزف من فمي ووجهي. أخذوني إلى بيت الأخوين ماساك ومهير, صعدنا الدرج ووصلنا إلى الطابق الثاني. وكانت المرة الأولى في حياتي اصعد فيها إلى مكان أعلى من البيوت العادية. كان بيتهم يتآلف من طابقين. دخلنا المطبخ. غسلوا وجهي وأنفي وشعري ونظفوني من آثار الدماء التي نزف مني. ثم لعبنا معهم في الحارة ذاتها, القريب من الفرن الكائن في شارع الفردوس. ثم رافقوننا إلى البيت. وكانوا عشرة أطفال من المدرسة ذاتها.
عندما نجحت, وانتقلت من الصف السادس إلى الصف السابع أحسست بتحول عميق وكبير بشخصيتي وحياتي. لم أشعر يومًا أنني أحب مدينة رأس العين. فهي مدينة معزولة, صغيرة, متقوقعة, العلاقات فيها عشائرية, بدوية ضيقة, بيد أننا كنا مجبرين على العيش فيها نظرًا لظروف عمل والدي.
عندما ماتت أم والدي, جدتي, بقي جدي وحده في القرية. وغادر الكثير من الشباب والعائلات المقيمين في الضيعة للانتقال للعيش والبقاء بجوار أولادهم في مدينة القامشلي لاكمال الدراسة في المدارس الإعدادية أو الثانوية.
لم يبق أحد يخدمه. اضطر والدي لجلبه إلى رأس العين والمكوث بيننا. زاد عددنا فردًا آخر, بيد أن جدي لم يطق العيش بيننا, في الأجواء الضيقة والأماكن المغلقة. كما لم يطق الذهاب إلى الحمام والمرحاض. كان يعتبرهما سجنًا يطبقان على أنفاسه. احيانًا كثيرة كنت اخجل من سلوكه, من ثيابه. من مشيته. كان والدي ووالدتي وأخواتي يلبسون الثياب الحديثة والمدنية, أما جدي فقد يلبس لباس الفلاحين وأهل الريف, طراز قديم يعود للقرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كما كان سائدًا في الاناضول.
طرح علينا والدي فكرة الرحيل إلى مدينة القامشلي. وبمجرد ان نطق هذه الكلمة حتى صرخت بصوت عالي:
ـ موافق. يا ريت ننتقل من هذه المدينة الصغيرة إلى مدينة أكبر وفي أجواء مختلفة. هذه المدينة محنطة وليس في فيها أفاق, ويكثر فيها المهربين عبر الحدود السورية إلى تركيا أو بالعكس. أصوات أزيز الرصاص يبقى مستمرًا بالقرب من بيتنا طوال الليل وخاصة في أيام الشتاء، قال والدي:
ـ سنحتاج إلى إيجاد بيت للإيجار, وموافقة المديرية العامة للزراعة والاصلاح الزراعي في محافظة الحسكة على طلب النقل وموافقة مدير الزراعة والاصلاح الزراعي في القامشلي الذي كان في حينه عدنان شمس الدين.
المهم هللنا للفكرة, ومضت الأيام ونحن على هذا الأمل. سافرت أمي برفقة جدي إلى القامشلي للبحث عن بيت نستأجره.
في هذه الأثناء, أصبحت في الصف السابع وانتقلت إلى ثانوية ابن خلدون المجاورة للدائرة التي يعمل بها والدي.
هذه الثانوية, فتحت لي أفاق جديدة على الحياة. ووسعت مداركي. وأحسست أنني كبرت عشرات السنين دفعة واحدة. كانت الإعدادية والثانوية تابعتان لإدارة واحدة, لكن في مدرستين متجاورتين.
لأول مرة احسست بالحرية والسعادة. تحررت من عبء الذهاب إلى الكنيسة. وسيطرة القسيس كيفورك وهوسه وقسوته وحبه للقومية والدين. بالمجمل تحررت من الدين والقومية بضربة واحدة, وفي بضع أيام.
أصبح لي أصدقاء جدد في المدرسة من جميع القوميات, أرمن, سريان, أكراد, أشوريين, شيشان. الجميع سواسية, لا فرق بيننا.
الدولة في تلك الفترة لم تكن تميز بين زيد أو عبيد داخل المدرسة. جميعنا أبناء وطن واحد. وكل مدرس كنت اعتبره باقة ورد عطرة. واتحين فرصة مجيء مدرس اللغة العربية, بيجو, بحكاياته الجميلة, قصصه.
ودائمًا لديه أفكار جديدة تغني عقل الطالب وفكره. من خلاله عرفت طه حسين, العقاد, المازني. والكثير من شعراء المهجر, وأدباء النهضة العربية. كنت انتظره بشغف لأعرف الكثير عن حياة الأدباء والكتاب. وكان يقص علينا, القصص البوليسية. وعن أبي نواس وابن الرومي وطرقهم. وعن شكسبير وسرفانتس وهوميروس.
واستغربت ان لكل مادة دراسية مدرس, بمجرد أن ينتهي وقته يخرج ليأتي مدرس آخر. لدينا مدرس خاص للغة الانكليزية وآخر للاجتماعيات والرسم والرياضة والعلوم والديانة والرياضيات وغيرهم من المواد. وجميع المدرسين كانوا أكفاء, خريجي جامعات ومختصين في موادهم.
هذا الشيء لم يكن متوفرًا في المدرسة الخاصة. ولأول قرأت عن تاريخ المنطقة قبل المسيح, الفراعنة, الانباط, الاكاديين والبابليين والاشوريين والفرس والرومان واليونان, الاسكندر وكليوبترا وانطونيوا.
وأغلبنا، الطلاب نلتقي ونتحدث مع بعضنا وكأننا رجال كبار في السن
إن المدرسة العامة للدولة, تلغي الحواجز بين أبناء الوطن الواحد. وتوحد مشاعرهم وأفكارهم وتربطهم ببعضهم البعض دون أن يحس المرء بأن هذا ابن فلان أو علان. ولم تكن المدرسة تسمح بالتمايز بين الطلاب من باب ديني أو قومي أو طائفي, غني أو فقير. ولم اشعر يومًا أن هذا الطالب مختلف عني في أي شيء. قلت لوالدي:
ـ يجب علي أن اشتري كتبًا للدراسة. قال:
ـ أليست الكتب بالمجان؟
ـ هذا في المرحلة الابتدائية. أنا الأن في المرحلة الاعدادية, وعلي شراء الكتب من حسابي.
ـ كم ثمنهم يا ترى؟
ـ حوالي ستة وثلاثون ليرة, إلى أربعين.
ـ إنه مبلغ كبير. من أين لي أن أدبرها لك!
ـ لا أعرف. الحياة تمشي دون توقف, وكل يوم يمر, اخسر فيها كثيرًا ان لم أومن الكتب.
ـ سأحاول أن أدبر الأمر.
بعد يومين قال لي والدي, أنه تحدث مع المدير ووعده أن يمنحني كتبًا بالمجان على حساب اتحاد طلبة سورية.
وفي اليوم التالي جاء طالب إلى الصف برفقة زملاء له. وما أن دق الباب وفتح له حتى سأل:
ـ من اسمه آرام؟
ـ أنا.
ـ نحن اعضاء في اتحاد طلبة سورية في رأس العين. اسمك عندنا, وبمجرد ان تصلنا الكتب سنعطيك حاجتك. ما هي الكتب التي تحتاجها.
ـ جميع الكتب.
ـ هذا كثير جداً. لا نستطيع أن نؤمن لك جميع الكتب. لدينا الكثير من الطلاب المحتاجين. على كل حال سنرى ما يمكننا أن نفعله. ثم سمعت صوتًا يتكلم بثق:
ـ اعتمد علي. سأحاول أدبر الأمر. ثم التفت إلى بقية الطلاب وقال:
ـ من يحتاج إلى الكتب الدراسية التي يمكن لاتحاد الطلبة تأمينها لهم. رفع الكثير من الكلاب أصابعهم. ودون هذا الشاب الذي كان في الصف العاشر. ومسؤولًا عن الاتحاد أسماء الذي احتاجوا.
بعد شهرين من هذا التاريخ لم يستطيع الاتحاد تأمين الكتب لنا. وكل يوم يطلب منا المدرسون تقديم الواجبات الدراسية. ودائما نهرب من الجواب ونحيل الأمر إلى اتحاد الطلبة إلى أن تكلم معي طفل بالصدفة, من بيت الكسان على ما أذكر, قال:
ـ هل تريد شراء مجموعة كتب الصف السابع؟
ـ بالطبع أريد. أين, ومن يبيع؟
ـ فتاة من أقربائي, انتقلت إلى الصف الثامن.
ـ هل لنا أن نراها.
بالطبع.
تواعدنا عند الساعة الرابعة أن نكون عند باب بيتها. ما أن وصلت حتى قرع الجرس. خرجت فتاة جميلة, انيقة, بيتها بالقرب من شارع تصليح السيارات وسينما الأهرام. جلسنا عند مصطبة الباب. قالت لي:
ـ هل تريد الكتب؟
ـ نعم.
سأحضرهم لك في الحال.
عادت برفقة مجموعة كاملة. كتب مجلدة بورق أزرق غامق, وعليه جلاتين, نايلون. وعلى كل كتاب ورقة مثل الطابع, بيضاء اللون عليها اسمها واسم المادة. في الحقيقة ذهلت للإناقة والترتيب والنظافة التي كانوا عليهم الكتب. بالإضافة إلى اناقة الفتاة وترتيبها. نظرت إليها وإلى نفسي. إلى همشريتي, فوضويتي. احسست بالفارق الثقافي والحياتي بينها وبيني. شعرت بالخجل من رقتها ونعومتها وطريقة حديثها. سألتها:
ـ ما هو سعرهم
ـ عشرة ليرات. قلت في نفسي:
كتب بهذه الاناقة والجمال بعشرة ليرات. يا لي من فتى محظوظ. ولماذا اشحذ من اتحاد الطلبة واكسر نفسي لهم مدة شهرين. ولماذا خسرت شهرين من الدراسة عبر وعود كاذبة, قلت لها:
ـ عشرة ليرات كثيرة علي. هل لك أن تنزلي السعر. لقد فاتنا الفصل الأول, وموعود بكتب جديدة
ـ أستطيع. ما هو المبلغ الذي تستطيع أن تدفعه.
ـ ثمانية ليرات. قالت:
ـ اتفقنا. ثمانية ليرات.
استغربت من هذه الثقة التي كانت تتمتع بها هذه الفتاة التي كانت في مثل عمري. أن تقرر بالنيابة عن أهلها الأغنياء. كنت أقول لنفسي:
ـ الكثير من العائلات الغنية يتعاملون مع أبناءهم عبر الحوار. ينمون في أنفسهم الثقة بالنفس. عدد أفراد العائلة الواحدة لا يتجاوز الأربعة, طفلين, أم وأب. أما العائلات الشوربة التي تنجب عشرة أطفال أو اكثر فمصير أولادهم الشوارع أو الشحاذة. قلت لها:
ـ هل لي أن أخذ هذه الكتب, اليوم. وسأخبر والدي بالموضوع. وأعطيك النقود غدًا.
ـ خذهم, وأجلب المال عندما يتوفر لديك.
جلبت دراجة عادية ووضعت الكتب عليها. وسرت, وكأنني أحمل كنزًا. كتب نظيفة وجميلة ومرتبة. ذهبت إلى البيت. قلت لأبي:
ـ سعرهم ثماني ليرات. أريد منك أن لا تخجلني أمام الفتاة. أن لا تكسرني. أما اتحاد الطلبة, شغلتهم فاضية, سنبقى منتظرين مجيء كتبهم مدة طويلة جدًا. أريد أن ألحق بالفصل الأول. والامتحانات قبل أن يشارف على الانتهاء. ربما أرسب في حال قصرت بالواجب. قال والدي:
ـ ثماني ليرات، إنه مبلغ زهيد، ما تستاهل أن نكسر أنفسنا للآخرين من أجل هكذا مبلغ. غدًا سأجلب المبلغ. وفي التالي لم يكذب والدي خبرًا. جلب المبلغ وأعطاني إياه. وكنت في قرارة نفسي متشوقًا أن أرى الفتاة, ماري, مرة ثانية.
ذهبت إلى بيتهم. وقرعت الجرس, طلبتها. خرجت. وكنت قد لبست طقمي المخطط الذي اشتراه والدي لي بعد مساومات طويلة بثمانية وعشرين ليرة, بيد أن الفتاة لم تبال بثيابي واناقتي. ولم تهتم لمظهري. أخذت المبلغ من يدي مع ابتسامة لطيفة, ثم ودعتني, ودخلت البيت. بقيت وحدي في الشارع خائبًا. التفت نحو اليمين واليسار, ثم دفعت قدماي للمشي, لاعنًا الفقر والحاجة والأهل الغير مسؤولين عن مشاعر واحاسيس أولادهم وما يعانونه من مشاكل على الصعيد النفسي والروحي.
في هذه الفترة, بعد أيام من شراء الكتب. دخل علينا أفراد من اتحاد الطلبة, قالوا:
ـ البلاد في حالة تحول جذري. نريد همتكم , أن تقفوا مع الشرعية. القوى الانعزالية تريد إعادة الحزب والبلاد إلى الوراء. الحزب في حالة صراع, يقوده رئيس الجمهورية الرفيق نور الدين الأتاسي والأمين العام للحزب الرفيق صلاح جديد ضد رجل أمريكا في بلادنا, وزير الدفاع حافظ الأسد. ثم طلبوا منا الذهاب إلى البيت إلى إشعار آخر. قالوا:
ـ ستعودون عندما ينتهي الحزب من تصفية هذه الزمرة.
لقد وقف الحزب والدولة وجزء من قطاعات الجيش إلى جانب الرئيس نور الدين الاتاسي وصلاح جديد. وكانت جميع منظمات الحزب, اتحاد الفلاحين, اتحاد العمال, اتحاد الطلبة, وغيرهم. وكوادره إلى جانب القيادة السياسية ضد مشروع وزير الدفاع حافظ الأسد.
اغلقت المدارس أبوابها مدة ثلاثة أيام. وانقطعت الأخبار. وفي اليوم الرابع عاد الجميع إلى عمله ودوامه وكأن شيئًا لم يكن. والتحقت جميع المنظمات المعارضة لوزير الدفاع, ووقفت إلى جانبه دون أي تبرير لموقفهم المخجل والمعيب.
حتى أولئك الذين اخبرونا عن خيانة حافظ الأسد للوطن والثورة, بائع الجولان. هم أنفسهم بلعوا كلامهم مثل أي جرو صغير لا يقوى على رفض أوامر سيده.
في طريق العودة إلى البيت قال أولاد بعض المزارعين:
ـ أن حافظ الأسد رجلنا, رجل المزارعين. وأنه سيعيد الزمن إلى الوراء, ويلغي التأميم والأصلاح الزراعي. بيد أنن الواقع كان مختلفًا.
وبينت لنا الأيام أن مشروع حافظ الأسد كان مختلفًا عن جميع الحسابات!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف


.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين




.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص


.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة




.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس