الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاوركا الحوت القاتل طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن

2024 / 2 / 26
الادب والفن


الاوركا الحوت القاتل







طلال حسن



" 1 "
ـــــــــــــــــــ
منذ نشأته الأولى ، والأوركا الأم تراقبه ، بشيء من الخوف والحذر ، فهو يوماً بعد يوم ، يغذي شعورها بأنه يشبه أباه ، وكم كانت تخشى أن يكون مصيره ، مثل مصير أبيه ، الذي هاجم وحده ، في يوم ما حوت العنبر الضخم ، وانتهى بضربات قاتلة من ذيله الثقيل .
والآن ، وصغيرها صار فتياً ، وبدل أن يكون مع فتيان الأوركا ، الذين يلهون معاً ، في محيط امهاتهم ، اللائي يعشن بمعزل عن الذكور ، اختار أن يسبح وحيداً ، برفقة أمه وحدها ، وهو يطارد معها الأسماك ، ويتعلم منها أساليب الصيد .
وسايرته أمه على مضض ، فهي تعرف عناده ، الذي يشبه عناد أبيه الراحل ، وراحت تسبح على مقربة منه ، فهي تخشى عليه من وحوش البحر ، التي لم يعرف خطورتها بعد ، مثل القروش وخاصة القرش الأبيض الشرس ، وكذلك الحيتان الضخمة .
وتباطأ الأوركا الفتيّ متوجساً ، إذ لمح من بعيد قرشاً أبيض ، يشق ماء البحر باتجاهه ، دون عمد على ما يبدو ، والأسماك المختلفة ، وحتى الكبيرة منها ، تحاول الابتعاد عن طريقه ، فهي تعرف شراسته وجنونه ، وجوعه الذي لا يشبع أبداً .
والتمعت عينا الاوركا الفتي ، فقد تذكر المذاق الطيب لقطة الكبد التي قدمتها له أمه مرة ، وقالت له : تذوق قطعة الكبد هذه ، إنها من كبد القرش الأبيض .
وها هو القرش الأبيض ، يشق الماء على مرأى منه ، وفي داخله الكبد اللذيذ بأكمله ، إنها فرصته ، ولن يفوتها مهما كان الأمر ، ولمحت الاوركا الأم بدورها القرش الأبيض ، وخافت أن يهاجم صغيرها ، ويفتك به ، فهو حيوان شرس ، غادر لا يُؤتمن .
وعلى الفور ، أسرعت الاوركا الأم إلى صغيرها ، وقالت له : بنيّ ، لنبتعد من هنا ، يبدو أن هذا المكان شديد الخطورة .
وردّ الاوركا الفتيّ ، دون أن يحول عينيه عن القرش الأبيض ، الذي كان يشق الماء باتجاهه : كلا ، لا تنسي أنني اوركا ، يا أمي .
وسكت لحظة ، ثمّ قال كأنه يحدث نفسه : إنه القرش الأبيض ، ولا ألذّ من كبده .
ورمقت الأم القرش الأبيض بنظرة سريعة ، ثمّ قالت بصوت يشي بترددها : لا أظنّ أنك جائع الآن ، يا بنيّ ، لقد أكلت فقمة كبيرة قبل قليل .
وردّ الاوركا الفتيّ قائلاً : إنني أشتهي كبد هذا القرش الأبيض ، ويجب أن آكله .
وتباطأ القرش الأبيض ، حين وقعت عيناه الناريتان على الاوركا الفتيّ وأمه ، وهمّ أن يستدير ، ويمضي مبتعداً ، لكن الاوركا الفتيّ اندفع نحوه ، وهو يقول : سأهاجمه وحدي ، وأفتك به ، وأحصل على كبده اللذيذ .
وخفق قلب الاوركا الأم بشدة ، فهذا الصغير المتهور ، ليس مؤهلاً بعد للتصدي ، لمثل هذا القرش الضخم ، الشديد الخطورة ، فانطلقت في أثره ، وتجاوزته ، وهي تقول : مهلاً ، يا بنيّ ، سأصطاده لك .
لم يتمهل الاوركا الفتيّ ، بل زاد من سرعته نحو القرش الأبيض ، الذي استدار على عجل ، وحاول أن يلوذ بالفرار ، لكن الاوركا الأم ، قفزت عالياً خارج مياه البحر ، وهبطت عمودياً على ظهر القرش الأبيض ، وصدمته بجسمها الثقيل ، وأفقدته توازنه ، ثمّ راحت تجهز عليه بأـسنانها القوية الحادة .
وشارك الاوركا الفتي ، منذ البداية ، في الفتك بالقرش الأبيض ، واتاحت له أمه الفرصة ، للوصول إلى كبده ، الغني بالدهون ، والاستحواذ عليه وحده ، وتركته يأكله وحده ، دون أن تأخذ منه ، ولو لقمة واحدو .



" 2 "
ـــــــــــــــــ
انتهى الاوركا الفتيّ ، من التهام كبد القرش الابيض ، ونظر إلى أمه منتشياً ، وقال : ما ألذّ كبد هذا القرش الأبيض ، يا أمي .
وابتسمت له أمه ، وقالت بصوت فرح هادئ : ولهذا فإننا ، نحن حيتان الاوركا ، لا نأكل من القرش الأبيض ، أي جزء منه عدا كبده .
وهزّ الاوركا الفتيّ رأسه ، وقال : لعكس السمك والفقمة ، فإننا نأكلها كلها .
وتلفتت الأم حولها ، لا أحد في مدى البصر ، عدا ماء البحر ، الذي يمتدّ من الأفق إلى الأفق ، ثم نظرت إلى الاوركا الفتيّ ، وقالت : بنيّ ، لقد ابتعدنا كثيراً عن مجموعتنا ، وعلينا أن نعود الآن إليهم .
فردّ الاوركا الفتيّ قائلاً : سنعود ، يا امي ، لا تتعجلي ، إنني مرتاح هكذا .
فقالت الأم بصوت هادئ : أنا أيضاً مرتاحة ، لكننا سنرتاح أكثر ، ونحن وسط المجموعة ، حيث القوة والأمان ودفء الرفقة الحميمية .
ونظر الاوركا الفتيّ إلى البعيد ، ثمّ قال : اطمئني ، يا أمي ، سنعود ، ولكن ليس الآن .
ولاذت الأم بالصمت ، إن الاوركا الفتيّ عنيد ، مثل أبيه الراحل ، ولعله مثله مندفع حدّ التهور ، وهذا ما يخيفها منه ، وعلى حين غرة ، اندفع الاوركا الفتيّ ، وراح يشق ماء البحر ، وهو يهتف بصوت مرتفع : هيا يا أمي ، فلنتمتع بهذا الجو الرائع ، هيا .. هيا .
وكالعادة انطلقت الأم في أثره ، فهي لا تريد أن تفارقه ، في اندفاعاته هذه ، وإنما أن تبقى قريبة منه ، عند أي خطر قد يواجهه ، أو يزج نفسه في أتونه ، كما فعل أبوه ، وخسر نفسه في معركة يائسة .
وظلّ الاوركا الفتيّ ، منطلقاً بسرعة وحماس ، وكأنه يريد أن يصل الأفق السراب ، الذي كلما حاول الاقتراب منه ، ابتعد عنه أكثر وأكثر .
وعند المساء ، والشمس تغوص متعبة ، في أعماق البحر ، هتفت الأم بالاوركا الفتيّ ، والذي كان ما يزال يشق ماء البحر بسرعة وحماس : بنيّ ، توقف ، لقد أفل النهار ، والشمس تغيب .
عندئذ تباطأ الاوركا الفتي ، حتى توقف تماماً ، وتقدمت الأم منه ، وتوقفت على مقربة منه ، وقالت : ينيّ ، عليك أن تراعيني ، فأنا لم أعد شابة .
وابتسم الاوركا الفتيّ ، وقال : أنت أقوى مني ، يا أمي ، لكنك تخافين عليّ .
فرمقته أمه بنظرة سريعة محبة ، وقالت بصوت لاهث متعب : نعم ، يا بنيّ ، أنا أخاف جداً عليك ، فليس لي في هذا العالم غيرك .
وصمت الاوركا الفتيّ ، وصمتت الأم معه ، وراحا يراقبان معاً ، قرص الشمس اللاهب ، وهو يذهب إلى أعماق البحر المظلمة ، ويأخذ النهار وضوؤه معه ، ويترك البحر على سعته لعتمة الليل .
وتطلعت الأم إلى الاوركا الفتيّ ، ورأته بقلبها المحبّ ، رغم عتمة الليل ، وقالت له : بنيّ ، اصغي إليّ ، إن ما نفعله خطأ ، وأنا لا أريد أن تتعرض ، إلى ما تعرض له أبوك ، إنني لا أحتمل الحياة بدونك .
ودار الاوركا حول أمه ببطء ، وراح يلامسها بين حين وأخر ، وهو يقول لها : لا عليكِ ، يا أمي ، سنعود غداً إلى مجموعتنا ، ونبقى بينهم كما تريدين .
وبدا الارتياح على الأم ، فقالت بصوت فرح : أشكرك ، يا بنيّ ، لقد أرحت قلبي ، لننم الآن ، ونستعد للغد ، إن مجموعتنا سيفرحون جداً بعودتنا إليهم .






" 3 "
ـــــــــــــــــــ
قبل أن تفيق الشمس ، من النوم في عتمة أعماق البحر ، وتطل بالنهار على العالم ، أفاق الاوركا الفتيّ خائفاً ، وأمه أفاقت معه ، على ماء البحر يرتج بقوة ، يرافقه ارتفاع صوت قويّ مزعج ، ماذا جرى ؟
وفتحا أعينهما الخائفة المتسائلة ، وإذا جبل ضخم يبرز على مقربة منهما ، فوق سطح البحر ، فصاح الاوركا الفتيّ ، وهو يحاول الابتعاد عن الجبل : ماما ..
ودفعته الأم بعيداً ، وهي تقول بصوت خائف : اهرب ، يا بني ، إنه حوت العنبر .
وفغر الاوركا الفتيّ فاه ، وهو يواصل ابتعاده عن الجبل الضخم : حوت العنبر !
وصاحت الأم ثانية ، وهي ما زالت تدفعه بعيداً : اهرب ، يا بنيّ ، اهرب ، إنه اضخم وأخطر حوت مسنن في البحار والمحيطات كلها .
ويبدو أن حوت العنبر ، الذي بدا كالجبل فعلاً ، انتبه إلى وجود الاوركا الفتيّ وأمه ، على مقربة منه ، وربما فكر أنهما يريدان أن يهاجمانه ، فالاوركا من ألدّ أعداء الحيتان ، فاستشاط غضباً ، ورفع ذيله الثقيل عالياً ، وأهوى به على الأم ، وألقت الأمواج ، التي أحدثها حوت العنبر ، بالاوركا الفتيّ بعيداً .
ورغم الآمها الشديدة ، والشلل الذي اصيبت به الأم ، إلا أنها تحاملت على نفسها ، وصاحت بالاوركا الفتيّ بصوت واهن متحشرج : بني ، اهرب ، إنّ حوت العنبر هذا ، قاتل لا يرحم ، اهرب .. اهرب ..
وتراجع الاوركا الفتيّ مرعوباً إلى الوراء ، وهو يرى حوت العنبر ، يرفع ذيله الثقيل ثانية ، وثانية يهوي به على الأم ، التي انهارت تماماً ، وبدا أنها غدت جثة هامدة ، لا حياة فيها .
ولاذ الاوركا الفتيّ بالهرب ، وقد استبد به الرعب ، حين رأى حوت العنبر ، يلتفت إليه ، ويرميه بنظرة غاضبة ، مفعمة بالتهديد والوعيد .
ولم يتوقف حتى غاب حوت العنبر عنه تماماً ، ماذا جرى ؟ الويل لحوت العنبر هذا ، فبعد أن فقد أباه ، ها هو يفقده أمه أيضاً ، و ..
وتلفت حوله ، والغيض يمزقه ، إنه اوركا ، ينتمي إلى أقوى الحيتان ، وكما قالت أمه ، إنهم سادة البحار ، يا له من سيد خائر القوى ، جبان ، إنه لم يفعل شيئاً ، حين رأى حوت العنبر ، يجهز على أمه ، سوى الهرب ، والنجاة بجلده ..
وتلفت حوله ، وكأنه يبحث عن ملجأ من هزيمته ، لكنه لم يرَ كالعادة سوى المياه ، تمتد في جميع الاتجاهات حتى الأفاق البعيدة ، التي لا تحدها حدود .
إلى أين ؟
كانت أمه إلى جانبه ، تحيط به ، تعطيه العزم والقوة والمحبة ، لكن حوت العنبر اللعين ، الذي أخذ منه أباه منذ فترة طويلة ، ها هو يأخذ منه أمه اليوم ، ويتركه في هذه المتاهة الواسعة المتوحشة من المياه .
وعلى غير هدى ، راح الاوركا الفتيّ ، يشق ببطء ماء البحر اللانهائي ، وصور الجبل الضخم ، حوت العنبر ، وهو يقتل أمه بذيله الثقيل ، تسدّ عليه الآفاق ، لكن .. حوت العنبر اللعين هذا ، ومهما كانت قوته وضخامته ، لابدّ أن يدفع الثمن ..
وتراءت له أمه ، تقول له بصوتها الهادئ الطيب المليء بالثقة والمحبة : سنرتاح وسط مجموعتنا ، حيث القوة والأمان ودفء الرفقة الحميمة .







" 4 "
ــــــــــــــــ
طوال الليل ، الذي غاب عنه القمر ، لم ينم الاوركا الفتيّ ، إلا دقائق قليلة جداً ، فهو رغم أنه لم يعد صغيراً ، إلا أنه لم ينم وحده حتى الآن ، لا ليلاً ولا نهاراً ، فأمه كانت معه دائماً ، وسط المجموعة كلها ، التي لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها .
وحين أفاق في اليوم التالي ، والشمس تطل بأشعتها الدافئة ، من فوق الافق المائيّ ، شعر بأن الجوع يقرص أحشاءه ، وتراءت له أمه ، وهي توقظه صباحاً ، وتقول له : بني أفق ، لقد اصطدت لك سمكة .
وغالباً ما كان يمازحها ، ويقول لها : لقد مللتُ السمك ، يا أمي ، أريد فقمة .
والآن هو وحده ، وأمه التي كانت ترعاه ، رحلت أمام عينيه ، قتلها اللعين حوت العنبر ، ولن يراها ثانية ، ولن تقدم له لا سمكة ولا فقمة ولا أي شيء ، لا الآن ولا في أي وقت آخر .
عليه إذن ، منذ اليوم ، أن يعتمد على نفسه ، في تأمين طعامه ، صحيح أنه تعلم من أمه كيف يصيد السمك ، لكنه في الحقيقة لم يصطد إلا أسماكاً قليلة ، وتحت اشراف أمه ، ومساعدتها .
وتلفت حوله ، لعله يرى سمكة تقترب من سطح البحر ، أو طائر نورس يحط فوق الماء ، أو .. وتراءت له أمه ، وخيل إليه أنها تخاطبه ، وبدا له وكأنها تقول له : بنيّ الأسماك في الأعماق ، غص إلى الماء ، واصطد ما تشاء ، أنت اوركا .
وعلى الفور ، غاص في الأعماق ، باحثاً عن الأسماك ، ولاحت له سمكة كبيرة ، تهاجم سمكة صغيرة وتفترسها في الحال ، فانطلق نحوها بسرعة ، ممنياً نفسه باصطيادها ، لعله يسكت بها جوعه ، وقبل أن يدركها ، انتبهت إليه ، فاستدارت مرتعبة، ولاذت بالفرار .
وصعد إلى السطح ، وتنفس الهواء الطلق ، ثم غاص ثانية ، وطارد أكثر من سمكة ، لكنه لم يوفق إلى اصطياد واحدة منها .
وعند منتصف النهار ، رأى سمكة متوسطة الحجم ، تتحرك بصعوبة بالغة ، وبدا وكأنها تتهاوى إلى الأعماق ، أهي مريضة أم .. ؟ مهما يكن ، فهذه السمكة طعام ، وهو بحاجة إلى ما يسكت جوعه ، فأسرع إليها ، وافترسها في الحال ، آه كم هي لذيذة .
لم تشبعه تلك السمكة ، فهو لم يأكل أيّ شيء منذ البارحة ، فراح يسبح في الأعماق ، لعله يعثر على سمكة أو أكثر ، و .. توقف وقلبه يخفق بشدة ، فقد رأى على البعد ، قرشاً يشق الماء ، وزعنفته الظهرية كالسيف ، تبرز فوق سطح الماء .
وفكر الاوركا الفتيّ ، ما العمل ؟
إنه الآن وحده ، وأمه ليست معه ، وتراءى له كبد القرش ، آه ما ألذه ، لكن .. صحيح أن هذا القرش ليس القرش الأبيض ، إلا أنه قرش ، والقرش قرش ، وتململ لحظة ، ثم استدار ببطء ، ومضى مبتعداً عن طريق ذلك القرش ، لا يادلوي على شيء .
وتوقف متعباً عند غروب الشمس ، وحين هبط الليل ، وقف عمودياً في الماء ، وأغمض عينيه ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق .
وفي منامه ، جاءته أمه ، وقالت له بصوتها الهادئ : بنيّ ، أنت اوركا ، وفتيّ أيضاً ، والاوركا لا يكون اوركا ، سيد البحار ، مهما كان عمره ، إلا وسط مجموعه من حيتان الأوركا ..



،




" 5 "
ـــــــــــــــــ
أفاق الاوركا الفتيّ ، صباح اليوم التالي ، قبل أن تفيق الشمس ، وانطلق يشق مياه البحر بهمة ، لعله يعثر على أثر ، لمجموعته التي ولد وترعرع بين ظهرانيها ، ويعمل بما نصحته به أمه .
وحوالي منتصف النهار ، تناهت إليه أصوات ضجة وصخب ، من مسافة ليست بعيدة ، ونظر إلى مصدر هذه الأصوات ، وإذا مجموعة من حيتان الاوركا ، يبلغ عددها حوالي العشرين حوتاً ، تشق الماء معاً بسرعة ، وتتوثب متزاحمة ، وكأنها في سباق مع لعضها ، تحت أشعة الشمس الدافئة .
وخفق قلبه فرحاً ، إنها المجموعة ، مجموعته نفسها ، وكما قالت أمه ، إنّ في المجموعة قوة وأمان ، وأحسّ بالقوة والأمان يشيعان في أعماقه ، وتابعهم بعينيه الفرحتين ، لكن حيتان المجموعة كلها ، مرت به ، الواحد تلو الآخر ، دون أن يلتفتوا إليه ، ثمّ إنه هو نفسه ، لم يتعرف إلى واحد منهم ، وتوقف محبطاً ، إن هذه المجموعة الكبيرة ، من حيتان الاوركا ، ليست مجموعته التي يبحث عنها .
لم تفتر همته ، رغم ما يواجهه من مشقة وصعاب ، وأدرك أنه بحاجة أكثر وأكثر ، إلى مجموعته ، فليبحث عنها حتى يصل إليها ، ويعود إلى أحضانها ، التي ستعطيه الدفء والمحبة والامان .
وعند المساء ، والشمس تغوص متعبة في أعماق البحر ، لاحت له اوركا ، تسبح ببطء ، وبدت متعبة ، متقدمة في السن ، وتوقفت على مقربة منه ، وقالت : مرحباً يا بنيّ .
وردّ الاوركا الفتيّ ، وهو يدقق النظر فيها : أهلاً ومرحباً بكِ ، أيتها الجدة .
وحدقت الاوركا المسنة فيه ملياً ، ثمّ قالت : يخيل إليّ أنني أعرفك ، يا بنيّ .
وحدق الاوركا الفتيّ فيها بدوره ، وخفق قلبه بشيء من الأمل ، وقال لها : أنا أيضاً أعرفك .
واقتربت الاوركا المسنة منه ، وهي ما زالت تحدق فيه بعينيها الكليلتين ، وقالت : أنت الاوركا الفتيّ الذي اختفى ، ومعك امك ، منذ أيام عديدة ، لقد بحثنا عنكما طويلاً ، وها أنت تعود .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : لكن أين أمك ؟
وردّالاوركا الفتيّ ، وقد بدا الحزن على وجهه : أمي قتلها حوت العنبر .
فهزت الاوركا العجوز رأسها ، وقالت : يا للأسف ، أمك اوركا طيبة القلب ، ومحبوبة .
وصمت الاوركا العجوز ، وقد بدا عليها الحزن والتأثر ، فنظر الاوركا الفتيّ إليها ، وقال : أراك وحيدة في هذا المكان ، أأنت تائهة مثلي ؟
وابتسمت الاوركا العجوز ، وردّت قائلة : لا ، لستُ تائهة ، إن المجموعة سبقتني قليلاً ، وسيتوقفون في مكان قريب ، وتباطأت لأني تعبت ..
وصمتت مبتسمة ، ثمّ قالت : إنني كما ترى ، اوركا عجوز متعبة ..
وقال الاوركا الفتيّ : حسناً ، ما دمت ستلحقين بالمجموعة ، خذيني إليهم معكِ .
وتلفتت الاوركا المسنة حولها ، وقد هبط الليل ، وغطى البحر بعتمته القاتمة ، فردت قائلة : لقد حلّ الليل ، ومن الصعب الآن أن نتبين طريقنا ، لنقضِ الليل هنا ، ثم نلحق بالمجموعة ، قبل شروق الشمس .







" 6 "
ــــــــــــــــــ
وكما وعدته الاوركا العجوز ، في الليلة الماضية ، وقبل شروق الشمس ، أيقظت الاوركا الفتيّ من النوم ، وقالت له : بنيّ ، ستشرق الشمس بعد قليل ، هيا نلحق بالمجموعة ، قبل أن ينطلقوا ، ويبدؤوا يومهم بمطاردة الأسماك ، والافطار بما يصطادونه منها .
وهبّ الاوركا الفتيّ مستيقظاً ، وقال بحماس : هيا.. إنني متلهف للقاء بهم .
وأخذته الاوركا العجوز ، إلى حيث قضت المجموعة ليلتها ، وقدمته إلى الاوركا القائدة ، وقالت ، وقد أحاط بهما معظم حيتان الأوركا : أيتها القائدة ، هذا هو الاوركا الفتي ، الذي اختفى هو وامه قبل أيام .
وحدقت الاوركا القائدة به ، ثمّ قالت : لقد بحثنا عنكم طويلاً دون جدوى .
ونظر الاوركا الفتيّ إليها ، وقال : لعل الذنب ذنبي ، أنا الذي أقنعت أمي ، بالابتعاد قليلاً عن الجماعة ، والتجول بعض الوقت في الجوار .
ولاذت الاوركا القائدة بالصمت ، ثم قالت : ها أنت قد عدت ، لكني لا أرى أمك ، أين هي ؟
وأطرق الاوركا الفتي ، دون أن ينبس بكلمة ، فقالت الاوركا العجوز : لقد قتلها حوت العنبر .
ونظرت الاوركا القائدة إلى الاوركا الفتيّ ، فرفع هذا رأسه ، وقال بحماس : قتلها أمام عينيّ ، لكنه لن يفلت مني ، لابدّ أن يدفع الثمن .
وران على الجميع ، صمت حزين غاضب ، وبقيت الاوركا القائدة صامتة ، ثمّ قالت : حوت العنبر من الحيتان المسننة المفترسة ، وهو من أكبر الحيتان واقواها ، حتى أنه أقوى من الحوت الأزرق نفسه ، الذي يعتبر أضخم كائن حيّ في العالم .
وصمتت لحظة ، ثم قالت من بين أسنانها : لكن حوت العنبر هذا ، قتل واحدة منّا ، رغم أنها لم تهاجمه ، وهذا ما لن نغفره له ، علينا أن نعاقبه ، وسنعاقبه .
وحدقت في الاوركا الفتيّ ، وقتات متسائلة : حوت العنبر هذا ، ترى أتعرفه إذا رأيته ؟
فهزّ الاوركا الفتيّ رأسه ، وقال : نعم أعرفه ، ولن أنساه حتى اليوم الأخير من عمري .
فقالت الاوركا القائدة ، وهي تتهيأ للانطلاق : خذنا إلى المكان ، الذي قتل فيه أمك ، لعلنا نراه هناك ، أو في مكان قريب منه .
وتلفت الاوركا الفتيّ حوله ، وتوقفت عيناه على الجهة التي جاء منها ، ثمّ مضى يسبح بسرعة متزايدة ، نحو المكان الذي التقى فيه وامه بحوت العنبر ، والاوركا القائدة تسبح بثبات وراءه ، وفي اثرهما تسبح جميع حيتان المجموعة .
وتباطأ عند منتصف النهار ، ثم توقف متلفتاً حوله ، فاقتربت الاوركا القائدة منه ، وقالت : دقق في المكان جيداً ، في البحر لا توجد معالم ثابتة .
فردّ الاوركا الفتيّ قائلاً : نعم ، هذا هو المكان .
وتلفتت الاوركا القائدة حولها ، ونظرت على امتداد جميع الاتجاهات ، حتى التقاء السماء بماء البحر ، لكن دون جدوى ، فالتفتت إلى الاوركا الفتيّ ، وقالت : لن أقول لك أنك مخطئ ، لكن كما ترى ، لا أثر لحوت العنبر الي تحدثت عنه .
ولاذ الاوركا الفتي بالصمت ، ثم ثال : لابد أنه الآن ، في مكان ما من محيط هذا المكان .
وتظرت الاوركا القائدة إليه ، ثم راحت تنقل نظرها الغاضب بين حيتان المجموعة الملتفين حولها ، وهب تقول : ليكن حيثما يكون ، سنبحث عنه حتى نجده ، وننزل به العقاب الذي يستحقه ، نحن اوركا .





" 7 "
ــــــــــــــــــــ
طوال الأيام التالية ، وخلال بحثهم عما يأكلونه ، من الأسماك والفقمات والطيور البحرية ، لم تغفل الاوركا القائدة ، ولا الاوركا العجوز ، ولا الاوركا الفتيّ ، وكذلك بقية حيتان المجموعة ، عمن قتل الاوركا الأم ، عن حوت العنبر ، لقد قتل اللعين واحدة منهم ، ولن يدعوه يفلت بدون عقاب .
وحتى عندما تتوقف المجموعة للراحة ، كان الاوركا الفتيّ ، يتسلل خلسة من بينهم ، ويجوب محيط ذلك المكان ، لعله يقف على أثر لحوت العنبر ، الذي قتل أمه أمام عينيه ، وهذا أمر لن ينساه أبداً .
وأخيراً ، وفي إحدى فترات الراحة ، بعد أكثر من عشرين يوماً ، على مقتل أمه ، رأى حوت العنبر ، يشق ماء البحر ، متجهاً نحو الشمال ، وخفق قلبه الفتيّ بشدة ، وهو يحدق فيه ملياً ، نعم إنه هو ، لا غيره ، ولقد آن أوان دفعه لثمن جريمته .
وعلى الفور ، أسرع إلى الاوركة القائدة ، وقال لها ، وهو يلهث : سيدتي ، لقد وجدته .
وحدقت الاوركا القائدة فيه ، وتساءلت قائلة : وجدت من ؟
فردّ الاوركا الفتيّ ، وهو مازال يلهث : حوت العنبر ، الذي قتل امي ، يا سيدتي .
وتلفتت الاوركا القائدة حولها ، محدقة في حيتان المجموعة ، وقالت : أخيراً وجدنا القاتل ، وآن الأوان لننزل فيه العقاب الي يستحقه ، مهما كان الثمن .
ولاذ الجميع بالصمت ، وقد هيمن عليهم جو من الرهبة والتوجس والتردد ، وفي وسط هذا الجو ، تقدمت اوركا أم ، وإلى جانبها اوركا صغير ، وقالت : سيدتي ..
ولعل الاوركا القائدة ، شعرت بما تريد هذه الاوركا الأم أن تقوله ، فنظرت إليها ، وقالت : نعم .
فتابعت الاوركا الأم قائلة : نحن اوركا ، نعم ، ونحن شجعان ، نعم ، وقد فقدنا اوركا أم ، ومن واجبنا أن نفتص لها ، لكن من سنهاجمه هو .. حوت العنبر .
ولاذت الاوركا القائدة بالصمت ، وصمت معها الجميع ، لا يعرفون ما عليهم أن يفعلوه ، وتفدم اوركا في مقتبل العمر ، وقال : سيدتي ، إذا كان نقاتل علينا أن نقانل ، فلنلحق بحوت العنبر ، قبل أن يبتعد .
وتململت الاوركا القائدة ، وتقدمت سابحة إلى الامام ، ثمّ قالت : سنذهب للفتل ، وهي معركة مصيرية وخطرة ، ومن يريد الاقتصاص من القاتل فليلحق بي .
والتفتت الاوركا القائدة إلى الاوركا الفتيّ ، وقالت له : قدنا إلى حيث حوت العنبر ، ولتبدأ المعركة .
وعلى الفور ، تقدم الاوركا الفتيّ الجميع ، ومضى يشق الماء نحو حوت العنبر ، ومضت الاوركا القائدة في أثره ، وبدون تردد تبعتهما حيتان المجموعة جميعاً ، الواحدة تلو الأخرى ، عدا الاوركا الأم وصغيرها .
ونظر الاوركا الصغير إلى أمه ، وقال بنبرة مستنكرة : ماما ، إنهم يبتعدون ..
ولدون أن تلتفت الاوركا الأم ، إلى الاوركا الصغير ، مضت مسرعة ، وانضمت إلى صفوف جموع الاوركا ، المتجهين نحو حوت العنبر ، للاقتصاص منه .














" 8 "
ـــــــــــــــــــــ
تباطأ الاوركا الفتي ، وهو يتقدم مجموعة الاوركا ، في مطاردة حوت العنبر ، الذي فتك بأمه الطيبة أمام عينيه ، وهذا ما لن ينساه العمر كله .
ثمّ التفت إلى الاوركا القائدة ، وأشار برأسه ، وقلبه يخفق بشدة ، وهو يصيح : انظري ، سيدتي ، انظري جيداً ، ذاك هو حوت العنبر ، الذي قتل أمي .
ونظرت الاوركا القائدة ، ومعها نظر الجميع ، حيث يشير الاوركا الفتي ، وإذا حوت ضخم ، يشق الماء بقوة ، والرذاذ الضبابي ، الذي يخرج من فتحة النفث ، يلوح لهم من مسافة بعيدة ، كلما خرج الحوت إلى السطح ، ليملأ رئتيه بالهواء النقيّ .
واقتربت الاوركا القائدة منه ، وعيناها لا تفارقان حوت العنبر ، وقالت : نعم إنه هو ، حوت العنبر .
وصاح حوت اوركا فتيّ : آه ما أضخمه .
وصاح آخر : إن مهاجمته لن تكون بالأمر الهين .
ولعل الاوركا القائدة ، أرادت أن تسكت مثل هذه الأصوات ، فقالت بحزم : نعم ، هذا الحوت ضخم ، وقويّ ، ومهاجمته ليس بالأمر الهين ، لكنه قتل واحدة منّا ، قتل أوركا أم ، ونحن اوركا ، سادة البحار ، وهذا امتحان انا ، علينا أن نؤكد لأنفسنا ، قبل أن نؤكد لغيرنا من كائنات البحر ، بأننا اوركا حقاً .
وتقدمت الاوركا القائدة ببطء ، نحو حوت العنبر ، وهي تقول ، دون أن تلتفت إلى أحد : هيا لنهاجم هذا الحوت اللعين ، وننتقم للاوركا الام التي فتك بها ، وليكن هذا درساً للحيتان الاخرى ، مهما كان نوعها .
وازداد حماسها ، وثقتها بنفسها وبحيتان المجموعة كلها ، عندما شعرت بهم يسبحون بثبات خلفها ، وينتظرون ما تشير لهم به .
ولاح حوت العنبر من مسافة ليست بعيدة ، فتوقفت الاوركا القائدة ، والتفتت إلى حيتان المجموعة ، وتطلعت إليهم ملياً ، ثم قالت بصوت هادئ : حوت العنبر صار قريباً منّا ، وستهجم عليه بعد قليل ، وكلي ثقة بأننا سنهزمه ، ونفتك به ، ونولمه لنا ، بأقل خسائر ممكنة ، هل أنتم جاهزون ؟
ردوا جميعاً : كلنا معك ، تقدمينا .
وبدا الارتياح على الاوركا القائدة ، وقالت : انتم تعرفون الخطة ، عندما نهاجم حوتاً ما ، وخاصة من نوع حوت العنبر .
هزّ البعض رؤوسهم ، وتمتم آخرون : نعم ، نعرف .
وتابعت الاوركا القائدة قائلة : سأتقدمكم الآن ، ومعي اوركا آخر ، وستأتون أنتم في اثري ، وتنفذون الخطة بحذافيرها ، وسترون ، قبل المساء ، سيتحول حوت العنبر وليمة لا تنس ، هيا ورائي .
واستدارت الاوركا القائدة ، ومضت تشق ماء البحر بقوة وثبات ، نحو حوت العنبر ، وإلى جانبها اوركا آخر معروف بقوته وشجاعته ، يتبعهما حوتان آخران ، والخطة ستنفذ بحذافيرها ، وكما بينتها لهم الاوركا القائدة .
ومضى حوت العنبر في طريقه ، يشق ماء البحر بقوة ، يغوص تحت الماء ، ثم يخرج إلى السطح ، وينفث الرذاذ من فتحة النفث ، دون أن يعرف ما تبيته له مجموعة الاوركا ، التي قتل احدى الأمهات منها ، قبل أيام قلائل .
وتقدمت الاوركا القائدة ، تقودهم في تنفيذ الخطة ، حيث ستحيط حيتان الاوركا بحوت العنبر ، ويحاصرونه من جميع الجهات ، حتى لا يتمكن من الهرب .
ثمّ يقوم عدد من حيتان الاوركا ، بالقفز عالياً ، والنزول على حوت العنبر من الخلف ، لإرباكه واضعاف مقاومته ، واغراقه ، بينما تقوم الاوركا القائدة والحيتان الاخرى ، بمهاجمته من جميع الجهات ، والقضاء عليه ، حتى يروه مائدة هامدة ، مهيأة ليأكلوا منها حتى يشبعوا ، ويشفوا غليلهم منه .
10 / 8 / 2023








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط


.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش




.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح