الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجبنة المدوّدة ومحاكم التفتيش

خليل الشيخة
كاتب وقاص وناقد

(Kalil Chikha)

2024 / 2 / 26
الادب والفن


كتاب الجبنة والدود:
نشر مؤرخ إيطالي محترم كتاباً صنع ضجة في الأوساط الثقافية الغربية بعنوان (الجبن والدود) كان أسمه ( كارول غينسبورغ)(1). اختص هذا الكاتب بما يسمى التاريخ الجزئي أو التاريخ المجهري(2). وهي مدرسة انطلقت في منتصف القرن العشرين من إيطاليا ومن ثم انتشرت في الولايات المتحدة والكاتب نفسه انتقل إلى الولايات المتحدة بغية التدريس. يبحث هذا النوع من التاريخ بتفاصيل الحياة الإجتماعية والثقافية من خلال شخص أو أشخاص أو حادثة. نشرالكتاب عام 1975 تحت عنوان (الجبن والدود) يدرس بالتفصيل حياة شخصية تاريخية عاشت في عصر الظلمات الأوروبي بإيطاليا ونالت كماً هائلاً من التنكيل والاضطهاد والعذاب بسبب الأراء. هذه الشخصية هي الفلاح البسيط (دومينيكو سكانديلا) الملقب في قريته باسم (منيوكيو)(3). وقبل أن أدخل بالموضوع، أريد التحدث عن الجبنة الفاسدة الإيطالية وهي لها صلة بموضوعنا هذا. يأكلها بعض القروييين في إيطاليا، فهي من أخطر أنواع الجبنة في العالم، تفسد بسبب وضع الذباب لبيوضها ومن ثم تفقس البيوض وتصبح يرقات ثم تتحول إلى دود يأكلها هؤلاء الفلاحون. هذه الجبنة (كاسو مارزو) ممكن أن تسبب ثقوباً في الأمعاء وموت للشخص. لهذا السبب اختار الكاتب هذا العنوان لأن نظرية هذا الفلاح دومينيكو أو منيوكيو مؤسسة على الجبن الفاسد. ورغم أن هذا المؤرخ نشر الكتاب قبل أن تسمح الكنيسة بنشر الوثائق السرية لمحاكم التفتيش في أوائل التسعينيات إلا أنه أجاد في التفاصيل حول هذه القضية التي ستسبب هي وغيرها ببدء عصر التنوير الأوروبي. ترجم الكتاب في عام 1980 إلى الانكليزية واوقع ضجة ليس فقط لأنه تطبيق للمدرسة التاريخية هذه، بل لأنه يكشف وحشية رجال الكنيسة وسلطتهم الجائرة. ولد منيوكيو في عام 1532 وهو العصر الذي كان فيه العقل معطلاً والرأي محرماً. عاش منيوكيو في قرية صغيرة مع أسرته على زراعة الأرض وطحن الدقيق، ورغم فقره كان شغوفا ومولعاً بالمعرفة والعلم، فقد التحق بمدرسة القرية التي افتتحت حديثاً للأولاد والكبار ليتعلم فك الحرف والكتابة. بعدها، أخذ يستأجر الكتب ويشتري بعضها. من هذه الكتب كان القرآن الكريم الذي غير نوعاً من آراءه فيما يتعلق بطبيعة المسيح. تلك المدارس المجانية التي احدثها الميسورون في القرى خلقت ثورة ووعياً أبطل فيما بعد سلطة الكنيسة وعصر الاستبداد الذي ساد اوروبا. لكن الثورة التي حصلت قبل ذلك كانت عند الألماني العبقري (يوهان غوتنبرغ ) في عام 1440 عندما تيسر له اختراع المطبعة التي قسمت عصر البشرية إلى ماقبل الطباعة ومابعد الطباعة. كان منيوكيو حاد الذكاء أعطته تلك الكتب وعياً بالكون والوجود حوله. فقد تصوّر أن هذا العالم عبارة عن كم هائل من الحليب تخثر وتحول إلى جبنة، ثم انتجت هذه الجبنة ديدان حية ومن هنا بدأت الحياة على الأرض. هذه الأفكار غير علمية، لكنها كانت في عصرها ثورة، إذ أنه خالف المعتاد وطرح شيئاّ جديداً.
كفريات منيوكيو:
أدانته الكنيسة الكاثولوكية مرتين، في الأولى سجنته سنتين وفي الثانية أعدمته حرقاّ حتى الموت. والحرق كان يمارس ضد المخالفين من المفكرين والمشعوذين لأن النار كونها أداة يعذّب فيها الله الكفرة، فالكنيسة تنشئ مايسمى في الانكليزية (simulation) أي محاكاة لهذا العذاب كي يتعود عليه الكافر عندما يلاقي ربه. أول كفريات هذا الرجل هي أنه قال أن الكون بدأ دون خالق، فعندما أنتجت هذه الجبنة الدود كان الإله أول هذه الديدان ومن ثم أنتشرت كل أنواع الحياة على الأرض وحتى الجن والملائكة نتجت من هذا الفساد الذي نتج عن الجبن. كفرية أخرى هي أن الكون ليس فيه معجزات أو استثناءات، فالمسيح لم يولد من عذراء، فإما مريم كانت متزوجة من خطيبها ونتج عنهما المسيح أو مريم تبنت هذا الولد (الحرام) وظلت عذراء. فهو يتساءل كيف لإمرأة أن تلد طفلاً ولادة طبيعية وتظل عذراء. كفرية أخرى هي أن المسيح ليس له أي معجزات وكل ذلك نقل بالخطأ من مجمل الخرافات. ثم رمى كفرية أخرى في سؤال حيث قال مازال الإله قادر قدير فلماذا لم يقدر على إظهار نفسه للبشر، فلما هو خائف ومتخفي ويرسل رسلاً دون دليل، فمن المنطق أن يكذّب الناس هؤلاء الأنبياء والمرسلين. أما كفريته الأخرى ليست ثقيلة، وهي أن الانسان يعيش ويحيا مثل الكائنات الأخرى ويموت مثلها، ليس في حياته تبجيل أو رفعة. فهو يموت كما تموت الحشرات ولا أحد في هذا الكون مهتم لعذابه أو موته.
بعد كل هذه الكفريات الثقيلة ماذا تفعل الكنيسة به. ربما قال رجال الدين فيما بينهم: من هذا المفعوص حتى يتجرأ على الذات الإلهية! فهو لايستأهل الحرق مرة واحدة، بل ألف مرة على هذه الأفكار المدمرة.
مأساة الطحان الهرطوق الكافر:
لا تتشكل مأساة هذا الفلاح في مسألة الحبس الإنفرادي فقط بل في ضياع جميع أفراد أسرته، فقد ماتت زوجته من الجوع والمرض ومات أطفاله لذات السبب وأهل القرية ينظرون إليهم وهم يموتون فرداً تلو الآخر. كم من الحزن والعذاب المعنوي قد عانى منه هذا الرجل الفلاح الذي فكر. عندما خرج من السجن وجد نفسه وحيداً لايكلمه أحد من القرية. رغم أن الكنيسة تسامحت مع كفرياته في المرة السابقة وتاب ووضعه في السجن الإنفرادي لكي يتعلم وأن تتشذب نفسه وتعقل وتستقيم، لكن كانت نفسه أمارة بالسوء، فرجع يبث كفرياته بالسر لأنداده الفلاحين بأن الإله بدأ وتشكل من الجبنة على هيئة دودة. ولأن الفلاحين هؤلاء كانوا مؤمنين بالأقانيم الثلاثة لايشوب إيمانهم شائبه ولايزيزل معتقدهم إنسان طائش مثل مينوكيو، فقد فشوا به للكهنة كي لايتحملوا وزر سيئاته. أمسك به البابوات المبجلين وحاكموه مرة أخرى محاكمة ليس فيها رحمة، وهم لايطلبون منه المغفرة أو التوبة، وحكموا على هذا المسكين بالحرق على مرأى من الفلاحين كي يكون عبرة لمن اعتبر، أما هو فقد وقف دون كلام أو حزن، لأنه عرف أنه لم يعد ينفع الكلام أو التوبة أو الترجي، فربطوه على جذع شجرة ووضعوا تحته أخشاب يابسة ثم أضافوا إليها كثيراً من الزيت كي تكون أكثر عذاباً ثم أشعلوها، فولول الرجل وصرخ ثم مات مسجلاً نقاطاً ضد الكنيسة الكاثوليكية الظالمة وضد أهل قريته الذين وقفوا يشاهدون مأساته دون أن يحرك فيهم أي تعاطف أو حزن.
أخيراً، أقول لمن يسخر من عصر الظلام المسيحي أو الأوروبي أن يتذكر أيضاً تاريخنا المشرق، فقد فعلوا أكثر من ذلك بأبن المقفع والحلاج. وفعلت داعش بالطيار الأردني ذات الشيء ووقف الناس يتفرجون دون أن يحرك فيهم أي حزن أو تعاطف مع أنسان يولول بينما تأكل من جسده النار دون رحمة.
شباط -25 - 2024
..................................................................................................
1. The Cheese and the Worms – Carlo Ginzburg – 1980
2. Marohistory and Microhistory
3. Menocchio – Domenico Scandella (1532-1599








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - جرائم محاكم التفتيش
سامي محمد ( 2024 / 2 / 27 - 06:24 )
نعم لقد ظلموا هذا الرجل وتابوا فيما بعد
الشكر للاستاذ خليل على هذا المقال


2 - ورد خطٱ-;- سهوا
خليل الشبخة ( 2024 / 2 / 29 - 02:48 )
ورد سهوا عن التاريخ الجزء.. بالإنكليزية والصحه
Macro history


3 - ‎نفس الدور ونفس القضية لازالت تمارس اليوم
د. لبيب سلطان ( 2024 / 2 / 29 - 11:25 )
استاذ خليل الشيخة
شكرا لعرضكم الجميل لهذا الكتاب وعن عرض نموذج من ممارسات الاستبداد الديني في القرون الوسطى ...ونحن نرى ان قمع الاراء بالحبس الانفرادي والتنكيل والتسميم وتحريض الرعاع اولتشريد والاغتيال للمخالفين من الحكام فيالدول الديكتاتورية في القرن العشرين وحتى الحالي هي لاتقل عن ممارسات القرون الوسطى ..قرأت مؤخرا كتابا لكاتب صيني عن الثورة الثقافية في الصين واورد الكاتب كيف تمت معاملة ليوشاوشي العجوز رئيس مجلس الشعب الصيني باهانته على يد مراهقين للتنكيل به بعد ان اتهمه ماو تحريفي برجوازي ..ومات العجوز في ضيمه وهي طريقة اخرى تبتكرها النظم الديكتاتورية..وتصفية نافالني بتسميمه اولا ثم فبركة قضايا ملفقة عليه لاراءه كما رأينا مؤخرا ..هي والاف غيرها على يد اسد وصدام وستالين وغيرهم منىالطغاة ..جميعها هي نفس قصة تصفية الفلاح منيوكيو...في الشرق دوما يتم تصفية النخب بدء من ابن
المقفع والحلاج وصولا اخير لمحاولة اغتيال مثقف وناشر عراقي الاستاذ فخري كريم
لكم التحية والتقدير


4 - الأستاذ لبيب سلطان
خليل الشيخة ( 2024 / 3 / 1 - 00:27 )

الشكر على هذا العرض السريع لما أوردته
كل ماقلته صح وأصبت عين الحقيقة
الشكر لمرورك
تحياتي

اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال