الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول جوهر الدين

مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)

2024 / 2 / 27
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


مؤلف المقالة: يوري ايفانوفيتش سيمينوف*

ترجمة مالك أبوعليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

لا يُمكن لمقالة سيرجي توكاريف (حول الدين كظاهرةٍ اجتماعية (أفكار عالم اثنوغرافيا))(1)، الا أن تلفِتَ الانتباه. يطرَحُ فيه أحد أبرز الخُبراء في هذا المجال نقداً لبعض المفاهيم الراسخة حول الدين، وفي الوقت نفسه، يطرحُ فهمه الخاص لهذه الظاهرة. يُمكن للمرء أن يتفق أو أن لا يتفق مع توكاريف، ولكن ليس هناك شك في أن مقالته تفرض نظرةً جديدةً على مسألة جوهر الدين.
ان التحليل النقدي للآراء الواردة في مقال توكاريف مُعقّد الى حدٍّ كبير بسبب حقيقة أن آراءه ليست دقيقة ومُتسقة على طول المقال. لكن على أيّة حال، بقَدَر ما يُمكن للمرء أن يفهمه من مقال توكاريف، فمِنَ الواضح أن المؤلف لا يتفق مع المفهوم السائد في أدبنا، والذي بموجبه يكون المعيار الرئيسي والأساسي للدين، هو الايمان بما هو خارقٌ للطبيعة. وفي مقالته، كما نرى، وعلى الرغم من التصريحات العَرَضية المُختلفة بعض الشيء، فإنه يسعى بشكلٍ أساسي،، إن لم يكن لإسقاط هذا الرأي، أن يُشكك فيه على الأقل. يفعل توكاريف ذلك، في حين يُشير الى أن اللاهوتيين يفهمون الدين أيضاً على أنه مجموعةٍ من الأفكار حول قوةٍ ما، في العالم الآخر، تقف فوق الانسان. وأخيراً، انه يتحدى بشكلٍ مُباشر هذا الفهم للدين، ويتسائل عما اذا كان مُحتوى الأفكار الدينية هو المُهم بالنسبة للدين، وما "اذا كانت الاله (أو الأرواح، أو الشيطان، وما الى ذلك)، هي التي تُشكّل جوهراً للدين". مُباشرةً، يُقدّم المؤلف على هذا السؤال إجابةً سلبيةً عنه، بشكلٍ مُباشرٍ.
في الأساس، يربط توكاريف نفسه بـ" الاستنتاجٍ الجريءٍ، ولكن المتين" للأنثروبولجي الأمريكي بول رادين، والذي مفادُهُ وهو "أن غالبية المُعتقدات التي وصف العلماء أنها مُنتشرة بين شعوب مُختلف البُلدان، ليست حقاً مُنتشرة بين الأغلبية الساحقة منهم، بل فقط بين شريحةٍ صغيرةٍ من الشامانات والكهنة وغيرهم. انهم ليسوا مُجرّد أوصياء وخُبراء في المُعتقدات (ومنهم حصل الانثروبولوجيين على معلوماتهم في مُعظم الأحيان)، بل انهم هُم مُنشِؤوها كذلك. أما العوام، أي الأغلبية الساحقة من "المؤمنين" فلا يعرفون هذه المعتقدات ولا يهتمون بها...". ان توكاريف لا يتحدى هذه النظرية، بل أنه يُحاول اثبات صحتها فيما يتعلق بديانات العالم القديم والأديان العالمية كذلك.
ولكن دعونا نطرحُ سؤالاً: ما الذي يعنيه حقاً، أنهم "لا يعرفون هذه المعتقدات"؟ هل يعني هذا أنه ليس لديهم مُعتقدات، أي أنهم لا يؤمنون بقوةٍ خارقةٍ للطبيعة؟ لم يبذُل توكاريف أي جهدٍ لتوضيح هذا الأمر. لكن المنطق الكامل لاستعراضه يسمح لنا أن نفهَمَ الأمر على هذا النَحوَ بالذات. انه في المقام الأول، يتعامَلُ في هذا القسم مع مفاهيم "مُحتوى المُعتقدات الدينية" و"الايمان يقوى خارقة للطبيعة" و"المُعتقدات". تهدُفُ حُججه بالكامل، الى إظهار أن الايمان بما هو خارقٌ للطبيعة ليس معياراً مُهماً للدين على الاطلاق. ولنُلاحِظ هُنا أن توكاريف يستخدم كلمة "مُعتقدات" عندما قال: " فلا يعرفون هذه المعتقدات ولا يهتمون بها".
ولكن اذا كان هؤلاء الناس لا يؤمنون بقوةٍ خارقة للطبيعة، فما هي الأرض التي يستند عليها لكي يعتبرهم توكاريف مؤمنين أو مُلحدين؟ من الناحية العمَلية، لا يطرَح توكاريف إجابةً واحدة، بل عدة اجابات على هذا السؤال، والتي أهملَ أحدها بشكلٍ عابِر. قائلاً أن الناس العاديين لا يعرفون المُعتقدات وليسوا مُهتمين بها، ثم يُضيف على الفور: "فيكفي عند هؤلاء أداء الطقوس المطلوبة وتقديم القرابين". ولكن لماذا أدّى هؤلاء الناس الطقوس وقدموا القرابين؟ لا يُمكن أن يكون هناك سوى اجابة واحدة: لقد أدوا الطقوس وقدّموا القرابين لتتأثيرِ على القوى الخارقة للطبيعة. بمعنى آخر، يُظهِر أداء الطقوس بشكلٍ لا يقبل الجَدَل أن هؤلاء الناس كانوا يؤمنون بقوةٍ خارقةٍ للطبيعة، وبهذا كانت هناك لديهم فكرةً ما عنهم. لا يُمكن للمرء أن يكون لديه مُعتقداتٌ ولا يعرف ما هي. وهكذا، يُناقِضُ توكاريف نفسه عندما يطرحُ هذه الاجابة. ومن الناحية العمَلية، انه لا يعترف فقط بأن العوام الذين يقول بأنهم يجهلون المُعتقدات يؤمنون في الواقع بقوةٍ خارقةٍ للطبيعة، بل يعترف أيضاً بأن مُعتقداتهم كانت معياراً ضرورياً وهاماً للدين. ولكنه لا يعترف بذلك الا على المستوى العمَلي. ان جميع الاجابات التي يطرحها توكاريف عن مسألة جوهر الدين، بما في ذلك تلك التي يطرحها ويُحاولُ قصارى جهده للتحقق من صحتها، مُتناقضة.
وان لم يكن مُحتوى المفاهيم الدينية ذو أهميةٍ في الدين، كما يُشير لنا مراراً، فإن شكلها يكون أقل أهمية. اذا كان من المُمكن عدم وجود أفكار دينية، ويوجد جهلٌ بالمعُتقدات، وفي الوقت نفسه يكون المرء مُتديناً، فهذا يعني أن الدين لا يدخُلُ في مجال الوعي، وليس شكلاً من أشكال الوعي الاجتماعي. لكن توكاريف لا يتوصل الى هذا الاستنتاج مُباشرةً. على العكس من ذلك، يؤكّد في صفحاتٍ تالية، أن الدين هو "شكل من أشكال الوعي الاجتماعي"، وهو يُضيف على الفور التوضيح التالي: " إنه أحد أشكال العلاقات الايديولوجية بين البشر". في البداية، علينا أن نُشير أنه يقول أنه من المُستحيل أن نُطابِق الوعي الاجتماعي ككل أو أي شكل من أشكال الوعي الاجتماعي مع المواقف الايديولوجية. على الرغم من أن الوعي الاجتماعي والمواقف الايديولوجية مُرتبطان ارتباطاً وثيقاً، الا أنهما مع ذلك ظاهرتان مُختلفتان، ويجب تمييزهما بوضوح عن بعضهما البعض. بعد ذلك، يقوم توكاريف بشكلٍ مؤسف، مُبتعداً عن تقديمِ طرحٍ نظريٍّ واضح، بطرحِ تعريفه الخاص للدين: "هو ليس موقف الانسان تجاه الإله أو الآلهة، بقدر ما هو موقف البشر تجاهَ بعضهم البعض فيما يتعلق بمفاهيمهم عن الإله أو الآلهة".
يجب أن نذكرُ على الفور أن هذه الفكرة غير موضّحة. ومع ذلك، وبدون أن نخوضَ بعد في مسألة ما الذي ينبغي على المرء أن يفهمَهُ من "علاقات البشر ببعضهم البعض فيما يتعلق بالإله"، دعونا نُلاحُظُ أن توكاريف، في استعراضهِ لتعريفه، يُناقض وجهات نظره الخاصة.
إن أخذنا هذا التعريف بشكله الحرفي، فإننا مُجبَرون على إستنتاج أن الدينَ نشأ فقط مع بداية الانتقال الى المُجتمع الطبقي. فمِنَ المعروف أن الأفكار المُتعلقة بالآلهة لم تكن موجودةً في المُجتمع البدائي. ومن أجل جَعلِ الدين البدائي يتناسَبُ مع هذا التعريف، من الضروري استبدال فكرة "الاله والآلهة" بأفكارٍ أُخرى أوسع، ومثل هذه الأفكار الأوسع موجودة. انها مفاهيم "القوى الخارقة للطبيعة". لكن لا يحتاجُ المرء الا الى إدراجها في التعريف الذي طَرَحَهُ توكاريف، ويُصبح الايمان بقوةٍ خارقةٍ للطبيعة، على الفور، معياراً ضرورياً وهاماً للدين. إن كان الدين هو موقف الناس من بعضهم البعض من حيث أفكارهم حول القوى الخارقة للطبيعة بشكلٍ عام، والآلهة بشكلٍ خاص، فلا شك أن الناس لا يُمكنهم الدخولُ في هذه العلاقات الا اذا كانت لديهم مثل هذه الأفكار والمُعتقدات، وليس ذلكَ فقط، بل يجبُ أن تؤمِن وتعتقدُ بالقُوى الخارقة للطبيعة والآلهة. ولكن حتى لو لم يُغير المرء شيئاً في تعريفِ توكاريف للدين، فإنه يَظهَرُ أنَّ الايمان بقوةٍ خارقةٍ للطبيعة هو معيارٌ ضروريٌّ للدين، لأنه لا شك أن فكرة الآلهة هو فكرة حول قوىً خارقةٍ للطبيعة. وهكذا، يَقبَلُ توكاريف عَمَلياً، في وضعهِ لتعريف الدين، الافتراض القائل بأن الايمانَ بقوةٍ خارقةٍ للطبيعة هو معيارٌ ضروريُّ وهامٌّ لوجود الدين. وهو يَقبَلُ ذلك عملياً وليس نظرياً، ومن ثُم يواصِلُ الاعتراضَ عليها من الناحيةِ النظرية.
في حين أن توكاريف، في القسمين الثاني والثالث من مقالته، يختزل مُحتوى المفاهيم الدينية الى الايمان بالقوى الخارقة للطبيعة، ويُعلِنُ أنها غير جوهريةٍ بالنسبةِ للدين، الا أنه يَطرَحُ في القسم السادسِ إجابةً مُختلفةً عن هذه المسألة، وهو يُشيرُ هُنا، أن مُحتوى المفاهيم الدينية لا يحتوي على معلوماتٍ عن الآلهةِ وحَسب، بل يتضمّنُ أيضاً أفكاراً حول أصل وجوهر الشر في حياة الانسان، وهذا هوَ على وجه التحديد، وليس الايمانُ بما هو خارقٍ للطبيعة، هو الأكثرُ أهميةً في الأفكار الدينية.
وبِقدر ما يدرُسُ توكاريف الدين في هذا القسم والقسم الذي يليه، باعتبارهِ مُجرّدَ شكلٍ من أشكال الوعي الاجتماعي ليسَ أكثر، فإنهُ يُعلِنُ بذلك أن الأفكارَ حولَ أصلِ وجوهرِ الشر أنها هي الشيءُ الجوهريُّ في الدين. اذا أخذنا ذلكَ في الاعتبار، فإن المؤلِّفَ يطرحُ السؤال التالي، مُلاحظاً التنوّع الواسع للمُعتقدات الدينية: " ما هو الشيء المُشترك الذي يَجمَع بين كل هذه الأفكار الدينية من حيث مُحتواها، وما هو العامِل المُشتَرَك بين كُل هذه الأفكار الدينية من جانب مُحتواها بحيث يُمكن تصنيفها جميعاً في مجالٍ واحدٍ من الوعي الاجتماعي، وفصلها عن جميع المجالات "غير الدينية" الأُخرى؟". إن القول بأن الأفكار حول طبيعة الشر هي العُنصرٍ المركزيٍّ في الدين، هو الاجابةُ على هذا السؤال، وليس من الصعب أن نفهَم، تبعاً لهذه الاجابة، أنه يرى أن السمة التي تُميّز الدين وتُمثّلِ جوهره، هي هذه الأفكار تحديداً.
الا أن وجهة النظر هذه تتناقض بوضوحٍ مع الحقائق. كما نَعلَم، إهتَمَّ المُفكرون القُدامى والبعيدون عن الدين أيضاً بمُشكلة أصلِ الشر وجوهره. وقد أجابوا عن هذه المسألة ليس فقط من مواقِعَ مُختلفةٍ عن الدين، بل مُناقِضَةٍ له تماماً. ومن ناحيةٍ أُخرى، لم يهتَم الدين البدائي بمسألة أصل الشر وجوهره. لم يطرَح الدين البدائيُّ في مُجملِهِ أي مشاكِلَ عامةٍ من أي نوع. بالطبع، كان الدينُ البدائي يحوي أفكاراً حول الأخطار والمصائِبِ والإصابةُ بالسحر وما الى ذلك، وبالتالي احتوى على طُقوسٍ لردّ أذاها والقضاءِ على السِحر. لكن القولَ بأننا نتعامَلُ هُنا مع الصيغة البدائية الأُولى لمسألة سبب الشر في حياة الانسان، ليس دقيقاً. فقط أديانُ المُجتمع الطبقي هي التي طَرَحَت مسألة أصل الشر وجوهرهِ بالمعنى الدقيقِ للكلمة.
ان ما يُميّز التأطيرَ الديني لهذه المسألةِ وحلّها، هو ارتباطهُ بالايمانِ بالقُوى الخارقة للطبيعة. لا يوجَدُ دينٌ حيثُ لا يوجَدُ ايمانٌ بوجود تلك القُوى الخارقة للطبيعة، بصرف النظر عما اذا كانت مُشكلة أصل الشر مطروقةً فيه أم لا. هذا ما يعتَرِفُ بهِ توكاريف نفسه: "ما هُو مُشترَك بين جميع التفسيرات الدينية للشر، أن سببه يُطرَح بشكلٍ مُشوّهٍ وغامضٍ ومُزيّف وخيالي، ويُمكننا أن نعثُرَ عليه في مجال الميتافيزيق والعالم ما فوق الأرضي. لذلك، فإن وسائل التغلّب على الشر مأخوذة أيضاً من ترسانة "العالم ما فوق الأرضي"، والصلاة والدُعاء والتعويذات والاسترضاء والتضحيات والكفّارات، والسعي الى الخَلاص". ولكن يُمكِنُ من هذا أن يظهَرَ حتماً استنتاجٌ لا يرغَبُ سيرجي توكاريف في الموافقةِ عليه: "لا يوجدُ شيءٌ آخر، سوى الايمان بقوةٍ خارقةٍ للطبيعة، ليَكونَ معياراً ضرورياً ومُميزاً للدين. ان وجود هذا المُعتقَد بالتحديد، هو العامِل المُشتَرَك الذي يجمع المفاهيم الدينية جميعها ويُميزها عن ما هو غير ديني. من المُستحيل العثورُ على سمةٍ أُخرى تُميّز الدين.
لم يتوقّف توكاريف عند حدودِ قولهِ بأن صياغة وحل مسألة جوهر الشر هو الجوهري للدين، بل أعلَنَ، على غير المُتوقّع، بأن الظاهرة الدينية "تُؤدي وظيفةً اجتماعيةً مُهمةً للغاية: انها تُوحّد وتُرسّخ مجموعة من البشر، وتضعها في مُواجهة المجموعات الأُخرى. ان هذا الدور المُزدوج للدين، كعامل اندماجٍ وفصلٍ في نفس الوقت، هو سمة تُميّز جميع عناصر الثقافة دون أي استثناء. الدين هو أحد تلك العناصر، ولعله يؤدي هذا الدور، وهو يؤديه بشكلٍ أكثر وضوحاً أكثر من أي دورٍ آخر".
نقول "على غير المُتوقّع" لأنهُ من المُستحيل العثورُ على أي علاقةٍ منطقية بين مفهوم الدينِ كمنظومةِ أفكارٍ حولَ طبيعة الشر في المقام الأول، وفهمهِ كعاملٍ من عواملِ الاندماج والانفصال. ووجود هذه المفاهيم الدينية جنباً الى جنب في المقال، هو ظاهرةٌ خارجيةٌ صَرف.
ان وجود مُجتمعاتٍ على أساسٍ اثنيٍّ وديني، أمرٌ لا جدالَ فيه، كما هو الحال بالنسبة لحقيقة أنه يُمكن للدين أن يُعزز الوحدة أو الانقسام بين الجماعات البشرية. ولكن، مما لا شكَّ فيه أيضاً أنه لا يُمكن للمرء أن ينظُرَ الى ذلك على أنه سِمةٌ تُميّز الدين. حتى أن توكاريف نفسهُ يقول: "ليس الدين استثناءاً بين الظواهر الاجتماعية. على العكس من ذلك، فهو مثل أي ظاهرةٍ ثقافيةٍ أُخرى... تُوحّد وتُرسّخ مجموعة من البشر، وتضعها في مُواجهة المجموعات الأُخرى". من الصعب اعتبار الدين أهم عامِلٍ في الدمج والفصل، لأنه كما يُوضِّحُ توكاريف نفسهُ بشكلٍ مُقنع: " سيَكون من السذاجة الشديدة الاعتقاد بأن الخلافات العقائدية، والفهم المُتنوع للنصوص اللاهوتية، هي التي تكمُن وراء هذا الانفصال والانشقاقات والصراعات من كُل نوع". ويُعَدُّ تشكّلُ الدول المركزية عاملاً قوياً بشكلٍ خاص في هذا الصدد. هُنا، لا يلعب الدين سوى دور تعزيزه أو احباطهِ الى درجةٍ مُعينة، ليس أكثر. ويعتَرِفُ توكاريف نفسه، فيما يخص مراحله الأُولى: "ظَهَرَ الدين، في مراحله الأُولى، ليس كعامل انفصال، بل كمؤشرٍ عليه". وبالتالي، لا شيءَ مما يقوله توكاريف حول الدور الاندماجي والانفصالي للدين، يقتَرِب ولو من بعيد من فِهمِ تفاصيل هذه الظاهرة أو جوهرها. وهذا ليس من قبيل الصُدفة. النقطة ليس فقط أن المؤلّف اتخذَ كوظيفةٍ للدين، ما لا يُشكّلُ في الواقعِ تلك الوظيفة، وهو عامِلٌ ثانويٌّ فيها. على أية حال، لا يُمكن لأي مُقاربةٍ للدين من حيث دراسة وظائفهِ أن تُقربنا من فِهمِ جوهره. من أجل الكشف عن جوهر الدين، من الضروري أن نسأل، ليس عن الدور الذي يَلعَبُهُ، ولكن لماذا نشأ، ما الذي استدعاهُ الى الوجود؟(أ).
لكن يتجنّب توكاريف الاجابة على هذا السؤال. يقول الكاتب: "قد يتسائل المرء، لماذا لم يَقُل كاتب المقال شيئاً حتى الآن عن الخوف والعجز باعتبارهما أصل كل الأديان؟ ولماذا لم يَذكُر شيئاً عن وظيفة الدين كوسيلة لتَعزِية الفرد في مُعاناته؟ هل عفى الزَمَن هذه الطروحات الماركسية المعروفة؟ هل هي خاطئة؟ لا، انها صحيحة تماماً. ولكن من الضروري أن نَفهَمَ بوضوح ما هي المسألة هُنا. إن خَوف الانسان وعَجزِهِ أمام قُوى الطبيعة العَمياء أو أمامَ القُوى الاجتماعية العفوية التي تضطهده، هُما الشرط السيكولوجي المُسبَق للدين، ولكن ليس جَذرَهُ الحقيقي". بدايةً، يستحيل عدم مُلاحظة تناقض ما في هذا التصريح. يصرّح توكاريف، من ناحية، أن الافتراض بأن خوف الانسان وعجزه هما أصل جميع الأديان صحيح تماماً، بينما يؤكّد من ناحيةٍ أُخرى، أنه لا خوف الانسان ولا عجزه هما الجذور الحقيقية للدين. وبقدر ما يُمكن للمرء أن يفهَمَ من هذا، فهو يتمسك من بين هذين الرأيين المُتناقضين بالرأي الأخير. ولكن على الرغم من عدم موافقته على هذا الحل لمسألة جذور الدين، فإنه لا يطرح أي بديلٍ له في مقاله. من خلال تخلّيه عن أي مُحاولةٍ لحل مسألة جذور الدين، يقضي توكاريف بذلك على أي إمكانية يستطيع عبرها الكشف عن جوهر هذه الظاهرة.
ان وجهة النظر حول جذور الدين الواردة في الفقرة المُقتبسة أعلاه، يعتبرها توكاريف ماركسية، ويبدو أن هذا هو سبب التناقض الذي أشرنا اليه. ومع ذلك، فليس هذا هو الحال فعلياً. يعتبر توكاريف العجز، كما هو واضحٌ من السياق، بأنه الشعور بالعجز، ونتيجةً لذلك يتبيّن من استعراضه أن الماركسية ترى أن جذر كُل الأديان في بعض المشاعر الانسانية: الشعور بالخوف والعجز، أي في الوعي الانساني. لكن البحث عن جذور الدين في الوعي الانساني هو اسلوبٌ مثاليٌّ صرف. تبحث الماركسية عن جذور الدين وتجدها خارج وعي الناس(2).
لقد رأى مؤسسو الماركسية أن الجذر الأساسي للدين هو عجز الانسان في مواجهة الضرورة العمياء التي تفرضها الطبيعة، وبالتالي أيضاً في الحاجة الى التطور الاجتماعي. لقد فهموا "العجز" على أنه شعور-كما يعتقد توكاريف-ولكن العجز الموضوعي. ولا يجوز تحت أي ظرفٍ من الظروف أن يُختزَل الى عجز الانسان في مواجهة الظواهر الطبيعية الرهيبة: الزلازل والبراكين وحرائق الغابات والعواصف الرعدية، كما يفعل غالباً العديد من مؤلفي المنشورات الشائعة المُكرسة لبحث أصل الدين. إن أصل الدين هو عجز الانسان الذي يظهر في كُل خُطوةٍ يوميةٍ. إن فهم كيفَ ولماذا نشأ الدين، أمرٌ مُستحيل ما لم يَفهم المرء مُكونات ذلك العجز اليومي للانسان وكيف يتجلّى بشكلٍ عيانيّ.

***

ان العجز الانساني الحقيقي هو افتقار الانسان الى القوة، ويتجلّى ذلك دائماً في نفس ذلك الشيء الذي تتجلّى فيه قُوته، الا وهو نشاطهُ العمَلي. يتجلّى افتقار الانسان الى القوة في حقيقة أنه غير قادر على تحقيق الأهداف التي نصبها لنفسه، وبأنه لا يُمكنه أن يضمن نتيجةً ناجحةً لنشاطه. ان عجز الانسان هو عجز نشاطه العملي.
ان النشاط العمَلي للانسان ظاهرةٌ مُعقدة، فهو يشمل كُلّاً من تأثير البشر على الطبيعة وتأثيرهم على بعضهم البعض وعلى المُجتمع. كان الجذر الأولي للدين هو عجز الانسان في مُواجهة الطبيعة، ولكي لا نُعقّد المسألة، دعونا نقصِرُ حديثنا على دراسة العلاقة العملية بين البشر والطبيعة. يؤثر الانسان على الطبيعة بمساعدة وسائل خاصة، وتكمن قُوته في امتلاكه لهذه الوسائل. انه يكون عاجزاً حينما تكون تلك الوسائل ضعيفة وغير مُجهّزة بشكلٍ كافٍ.
ان عجز النشاط العملي هو في نفس الوقت نتيجة وتمظهر لحالته (النشاط) غير المُتطورة. ان التطور غير الكافي لنشاط الانسان العمَلي يُحدد بالضرورة التطور غير الكافي لنشاطه الادراكي، ويَحرم الانسان من إمكانية الكشف عن الروابط الداخلية والضرورية للظواهر.
عندما يجهَلُ الانسان العلاقة الداخلية والضرورية للظواهر، فإنه يجدُ نفسهُ غيرَ قادرٍ على التنبؤ بمسار الأحداث ونتائج أفعاله، ويُثبِتُ أنه غير قادرٍ على استشراف مسار الفِعلِ-الذي سيؤدي الى تحقيق هدفه المنصوب بدقّة- من بين كُل الأفعال المُمكنة. الانسان هُنا، مُجبَرٌ على التصرف بشكلٍ أعمى. ان اعتماد حلٍّ مُعيّن واختيارِ أي شكلٍ من أشكال الفعل، لا يعتمد في هذه الحالة على وعي الانسان وارادته، بقدر ما يعتمِدُ على التسلسل العَرضي للظروف المُستقلة عنه.
وهكذا، عندما يجهَلُ الانسان الضرورة الموضوعية، فإن شكل فعله يتحدد بالصُدف، الى حدٍّ كبير. وعند تشكُّلِ نمط سلوك الانسان، فإن الأحداث العشوائية تُحدد أيضاً الى حدٍّ كبير نتائجَ أفعالهِ أيضاً. ان التقاء تلك الأحداث العشوائية، والتي لا يُمكن حسابها والسيطرةُ عليها، وليس جهود الانسان نفسه، هو الذي يُحدد ما اذا كانت أفعالهُ ستُتوَّجُ بالنجاح أو ما اذا كان الفشلُ سيُحيقُ بها. يكون الانسان عاجزاً، في ظل هذه الظروف، عن ضمان نجاحِ نشاطهِ. انه يجِدُ نفسهُ تحت سُلطة الأحداث العشوائية والصدفية، أو يُمكن القولُ، أنه يكون عبداً للضرورةِ العمياء.
بعبارةٍ أُخرى، فإن عجز الانسان في مُواجهة الطبيعة يَكمُنُ في اعتمادِ نتائجِ نشاطه العملي على مسرحِ أحداثٍ صدفيةٍ لا تخضعُ لحساباته وسيطرته، تتجلّى فيها الضرورة العمياء للطبيعة. يكون الانسان عاجزاً عندما لا يكون نشاطُهُ العمليُّ حُراً، ولا يكون حُرّاً ما لم يعرف، وبالتالي يُسيطر، على الضرورة الموضوعية. ان عجز الانسان أمام الضرورة العمياء هو جانُبٌ من الأمر، والجانب الآخر هو سُلطة هذه الضرورة على الانسان، وقهر الأحداث الصدفية والعشوائية له، بوصفها تجلياتٍ للضرورة العمياء. وهكذا، عندما لا يعرف الانسان الضرورة الموضوعية، لا يكونُ حُرّاً، ولا يكون نشاطُهُ العملي حُرّاً.
ومع ذلك، عندما يعرف الانسان الضرورة الموضوعية للظواهر، فيكون بمقدورهِ حينئذٍ أن يتنبأ بمسار الأحداث ونتاج نشاطه، ويحصُلُ على الفرصة للفعلِ، ليس بشكلٍ أعمى، ولكن بمعرفه ما هُوَ مُقبِلٌ عليه. يكون الانسان حُرّاً في هذه الحالة: يتخذ قراراته بحُريّةٍ ويتصرّفُ بحرية ونشاطُهُ العمليّ حُر. كلما كان انعكاس الضرورة الموضوعية في الفكر الانساني أعمقُ وأكمل، كلما كان نشاطُهُ أكثر حُريّة. وكلما كانت نتائج نشاطِهِ تعتمدِ على جُهوده الخاصة وليس على الالتقاء العشوائي للظروف، كلما زادَت سُلطتهُ على العالَم الموضوعي. ان مسألة عجز الانسان في مُواجهة العالَم الموضوعي وسُلطتهِ عليه هي في الأساس جانب من جوانب مسألة الحُرية والضرورة.
وهكذا، يُمكن تقسيم النشاط العملي للانسان الى نوعين: نشاط تعتمد نتائجهُ على الانسان نفسه بالدرجة الأُولى-نشاط عملي حُر، والنشاط الذي تتوسّط نتيجته مسرح أحداث عشوائيةٍ لا تخضع لسيطرة الانسان-نشاط عملي غير حُر. ان الحد الفاصل بين هذين النوعين من النشاط نسبي للغاية، لأنه لا يُمكن أن يكون هُناك نشاط عملي حُرّ صر، أو نشاط عملي غير حُرّ صرف، وهناك امكانيات انتقالية تقع بينهما.
انقسَمَ النشاط العملَي الانساني، القائم على الانتاج، منذ البداية،-على عكس نشاط الحيوانات، نشاطٍ حُرّ وغير حر(3). هذا الانقسام بالتحديد-على الرغم من الهيمنة الساحقة للنشاط غير الحر على النشاط الحُر-هو الذي استدعى الدين الى الحياة. كانَ النشاط الحُر يتألفُ أساساً من نشاط صُنع الأدوات، ونشاط الانتاج بمعناه الضيّق.
أما فيما يتعلّق بنشاط الانسان، الذي يَهدُفُ بشكلٍ مُباشرٍ الى ضمانِ بقائه، فإن نتائجهُ لم تعتمد بشكلٍ كُلّي على جُهود الانسانِ نفسه، بل على مسرح الأحداث العشوائية الذي لم يكن من المُمكن السيطرة عليه. وينطَبِقُ هذا قبل كُل شيء على الصيد، الذي كان مصدراً مُهماً لحياة الجماعات البدائية.
ودون الاستشهاد بأمثلةٍ يُمكن استخلاصها بوفرةٍ من الأدبيات الاثنوغرافية، دعونا نقتَصِرُ على أحد تصريحات الاثنوغرافي السوفييتي ليف ياكوفليفيتش شتيرنبيرغ Lev Yakovlevich Sternberg، والتي تُعممُ، الى حدٍّ ما، نتائجَ عددٍ هائلٍ من المُلاحظات عن حياة الشعوب المُعاصرة التي لا زالت تعيش مرحلة المُجتمع البدائي: "ما هي الأساليب التي يُكافِحُ بها الانسان لأجل وجوده؟"... "أولاً وقبل كُل شيء، أنه يبذلُ جُهوده الخاصة. الى جانبِ قوته البدنية، يستخدمُ ادواته-عقلهُ واختراعاته-الأسلحة التي كانت موجودةً منذ أبعدِ حُقبةٍ بشريةٍ معروفةٍ لنا. ان طريقته الرئيسية في الكفاح من أجل البقاء هي طريقة التكنيك والاختراعات. ولكن تبيّنَ أن جميع ابتكاراته لم تكن كافيةً للنضالِ ضد الطبيعة. على الرغم من خبرته، يوجّه في احدى المرات سهمهُ نحوَ حيوانٍ في ظروفِ طقسٍ غير مواتية: لقد أطلَقَ سهمهُ لكنهُ أخطأ الهدف. تمكّنَ في احدى المرّات من اصطيادِ الكثير من الأسماكِ في يومٍ واحد بحيث صارَ لديهِ ما يكفي لفترةٍ طويلة، وفي حالةٍ أُخرى، مرّت أشهُرٌ كاملة دون أن يتمكّنَ من اصطيادِ سمكةٍ واحدة. بعبارةٍ أُخرى، لقد وجَدَ نفسه خلال كفاحِهِ من أجلِ وُجودهِ أمام (حَضرَةِ) الصُدفة، ما نُسميه الحظ، وهي ظاهِرةٌ كانت غامضةً وغير مفهومةٍ تماماً بالنسبةِ له"(4).إن كانَ دور الأحداث العشوائية عظيماً الى هذا الحد في حياة مُعاصرينا، الذينَ لديهم خبرةٌ مُتراكمةٌ عمرها مئات السنين، فلا بُدَّ أن يكون دورها أكبرَ بكثيرٍ في الفترات الأولى من تاريخ البشرية.
لقد أظهَرَ مسار النشاط العمَلي للانسان بما لا يقبَلُ الجَدَل وُجودَ قُوىً تُؤثّرُ على نتائج ذلك النشاط وبالتالي تؤثر على حياة الانسان نفسها. من ناحية، لم يكن بوسع الانسانِ الا أن يكون مُلاحظاً لتأثير الأحداث العشوائية، بينما، من ناحيةٍ أُخرى، لم يكن قادراً على أن يفهَمَ بشكلٍ صحيح ماهية الضرورة العمياء التي تُسيطِرُ عليه، لأنه لو كان الأمر كذلك، لما كانت عمياء، وبالتالي لكانت قد انتهَت هيمنة الصُدفةِ عليه. لا يُمكن إدراك سُلطة الحوادثِ والضرورة العمياء للطبيعة الا في شكلٍ وهمي. كان يُنظَرُ الى قوى الطبيعة العفوية المُسيطرة على الانسان، والتي حددت مسار ونتائج نشاطهِ العملي، على أنها قُوىً خارقة للطبيعة. هكذا نشأ الدين.
كَتَبَ فريدريك انجلز: "ان الدين، أياً كان، ما هو الا انعكاسٌ خياليٌّ في أذهان الناس للقوى الخارجية التي تُسيطر عليهم في حياتهم اليومية، وهو انعكاسٌ تتخذُ فيه القُوى الأرضية شكل القُوى غير الأرضية"(5). كان الايمان يهيمنة القُوى الخارقة للطبيعة على البشر، انعكاساً وهمياً للسُلطة التي تُمارسها القوى الطبيعية الموضوعية عليهم. لا يُوجد أي شكلٍ وهمي من الوعي بسُلطة القُوى الطبيعية على الانسان سوى الايمانَ بالقوى الخارقة للطبيعة.
ثبتت مُعظم الأبحاث السوفييتية الايمان بما هو خارقٌ للطبيعة بأنه المعيار الرئيسي للدين. وهذا ليس دقيقاً وبالتالي ليس صحيحاً تماماً. ان جوهر الدين يكمن في الايمان ليس بما هو خارقٌ للطبيعة بشكلٍ عام، بل بقوةٍ خارقةٍ للطبيعة. اضافةً الى ذلك، ليس بقوةٍ خارقةٍ للطبيعة بشكلٍ عام، بل بقُوةٍ تُسيطر على كُل انسانٍ ملموس في حياته اليومية، اي الايمان بتلك القوة التي يعتمدُ عليها ما اذا كان سيُحقق النتائج المرغوبة أم أنه سيفشل في تحقيقها، ستجعلهُ سعيداً أم تعسياً، بصحة جيدةٍ أم مريضاً، سيموت مُبكراً أم سيعيش طويلاً، سينال النعيم بعد موته أم سيُحكَمُ عليه بالعذاب، وما الى ذلك. وحيثما يغيب الايمان بهذه القوة، لا يوجد دين. وبهذا المعنى، ان الربوبية، التي تؤمنُ بإلهٍ خارقٍ للطبيعة خلقَ العالم ولم يتدخل في شؤونه، ليست دين.
لم ينشأ الدين من خلال عملية التفكّر ملياً في أسباب الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية من كُل نوع. لقد جاءَ قبول اعتماد نشاط البشر على قُوىً غير القُدرات الطبيعية للانسان، في سياق الجهود العملية لضمان تحقيق النتائج المرجوّة بأي وسيلةٍ مُمكنة. تم التعبير عن ذلك، في البداية، في حقيقة أن الأنشطة التي كانت تَهدُفُ بشكلٍ واقعي الى تحقيق النتيجة المرجوة، ولكنها أثبتت مراراً أنها غير كافيةٍ لتحقيق ذلك، بدأت تُستَكمَل بأفعالٍ سلوكية طقوس لم تُعزز في الواقع تحقيق الأهداف، ولكن إعتُبِرَت ضرورية لتحقيقها.
ان اسلوب السلوك أو الفعل الرمزي الطُفيلي، الذي نشأ، كمُكمِّلٍ وهمي لعجز النشاط غير الحُر، أدّى بالضرورةِ الى ظهورِ نمطِ تفكيرٍ وهميٍّ طُفيلي. جنباً الى جنب مع المعارف حول القُدرات الطبيعية للانسان والعلاقات الحقيقية الناتجة عن الخبرة الحياتية، نشأ-في أفعال الناس-أيضاً الايمان بالقُدرة على بلوغِ الهدف المرغوب بطريقةٍ غامضة، أي الايمان بوجودِ مؤثراتٍ وارتباطاتٍ غامضة وخارقة للطبيعة. وهُنا أيضاً "في البدء كانَ الفعل". ليس الوهم العقلي هو الذي أدّى الى ظهور الوهم العمَلي، بل على العكس، العملي هو الذي أدّى الى ظهور العقلي. كان نمط النشاط الطُفيلي، الى جانب نمط التفكير الطُفيلي الوهمي الذي نشأ على أساسه، هو ما أصبَحَ من المُعتاد تسميته بالسحر. كان السُحر هو أقدَم أشكال الدين(6).
يكشف السحر، الذي نشأ كطُفيليٍّ على شجرة النشاط العملي الانساني الحيّة، بوضوح عن أصلِهِ. إنه يَطرَحُ نفسه دائماً على أنه مجموعةٌ من الأفعال التي تضمن، بوسائلِ خارقة، تحقيق النتيجة المرجوة. ان المُعتقدات السحرية المُرتبطة بهذه الأفعال بشكلٍ لا ينفصم، ليس لها أهميةٌ مُستقلة.
تتخذ المُعتقداتُ في الأشكال الأكثر تقدماً للدين والتي نشأت عن السحر، طابعاً أكثرَ تعقيداً. هُنا، لا يقتصر وضع العالم الطبيعي في مُواجهة القوة الخارقة للطبيعة على الفرق بين التأثير الطبيعي و التأثير الخارق للطبيعي على النشاط الانساني، بل يكتسب طابع مُواجهة الكائنات الطبيعية مع تلك الخارقة للطبيعة والعوالم الطبيعية والعوالم الخارقة للطبيعة ببعضها البعض(7). ومع ذلك، على الرغم من كُل التغيرات التي طرأت على الدين، لم يفقد الدينُ طابعه العملي السائد. نظراً لأنه لم يتألف أبداً من مُجرّد الايمان بعالمٍ خارقٍ للطبيعة، بل كان دائماً ايماناً بقوةٍ خارقةٍ للطبيعة يعتمد عليها حاضرُ ومُستقبل كُل فرد، لذلك كان محور الاهتمام دائماً ليس مسألة طبيعة وتنظيم العالم الخارق للطبيعة، بل تلك الأفعال التي كان لا بُدَّ من القيامِ بها لضمانِ أن القُوى الخارقة للطبيعة ستُجيب بشكلٍ ايجابي وتؤثر على مصير الفرد وتدرأ النتائج غير المحمودة.
لا يُمكن فصل هذين الجانبين عن بعضهما: الايمان بقوةٍ خارقةٍ للطبيعة تُحدد نتيجة أفعال البشر العمَلية ومصيرهُ، وثانياً، الايمان بالأفعال التي تستطيعُ أن تؤثرَ على القوى الخارقة للطبيعة بحيث تُسهّل تنفيذَ نشاطهِ، وهما وجهانِ لعُملةٍ واحدة. وحيثما يغيب أحد هذين العاملين، يغيب الآخر. لقد كانت الطقوس عنصراً لا ينفصلُ عن كُل دين، الى جانب المُعتقدات التي تظهرُ في هذه الأنشطة ولا تقومُ بدونها، وهي أفعالُ يُمكن تسميتها بالمُعتقدات العملية. في البداية كان الدين يتكوّن من مُعتقداتٍ عملية وأفعالٍ طُقسية.
ان الدين بالنسبة للمؤمن العادي دائماً مسألةً عمليةً قبلَ كُل شيء، وهو دائماً مُهتَمٌّ بما يجب القيام (أو عدم القيام به) لضمان الاستجابة الالهية بخصوص نتيجة نشاطهِ ودرء ما هو غير مرغوب فيه. ان طبيعة القُوى الخارقة هي أقل اثارةً للاهتمام بالنسبة له. وهو يرى أن وجود قُوىً خارقة للطبيعة هو أمرٌ بديهيٌ ولا يحتاج الى أدلةٍ أو تفسيرات، ولهذا السبب لا يُحاولُ تفسيرَ مُعتقداتهِ أو الكشف عن الروابطِ بينها. لم يكن الدين البدائي نظاماً صارماً من نوعٍ ما. لقد كانَ كومةً من المُعتقداتِ والأفكارِ والطقوس الأكثر تنوعاً، والتي غالباً لم تكن مُتناقضةً وحسب، بل وتنفي احدها الأُخرى كذلك.
ان توكاريف مُحقٌّ تماماً عندما كَتَب: "كان لا بد، لكل مرءٍ تعامل مع الأبحاث الاثنوغرافية أو غيرها من وصفيات مُعتقدات أي شعب، أن يُلاحظ الطبيعة المُبعثرة وغير الواضحة والمُتناقضة في كثيرٍ من الأحيان لتلك المُعتقدات. يُمكننا أن نُلاحظ، عند النظر في مُعالجة هذا الباحث أو ذاك للمُعتقدات الدينية، اختلافاً بينهم (وهذا يعتمد على اختيار البيانات وعوامل أُخرى)". ومع ذلك، لا يُمكن للمرء أن يتفقَ مع النتيجة التي يتوصل اليها. انه يعتَبِرُ أن هذه البيانات تُظهِرُ أن مُحتوى المفاهيم الدينية، وبالتالي الايمان بقوةٍ خارقةٍ للطبيعة، ليسَ جانباً مُهماً من الدين، وفي رأيهِ أن هذا الاستنتاج تؤكدهُ تماماً البيانات المُتعلقة بالدين في المُجتمع الطبقي. "وليس ببساطة أن عَبَدَة الآلهة القديمة لم يكن لديهم مفهومٌ واضحٌ عنها". لكن أهم ما يؤيد هذا الرأي، برأي توكاريف، هو حقيقة وجود اختلافاتٍ حادّة في "مُحتوى الأفكار" ليس فقط في "ديانات الدولة القومية"، بل وفي "عقائد الديانات العالمية الثلاث".
صحيح أن مُحتوى المفاهيم الدينية، الى حدٍّ ما، ليس ذو أهمية. ما ليس مُهماً هو الطريقة التي يتصوّرُ بها الناس بشكلٍ ملموس القوة الخارقة للطبيعة، وكم هي أفكارهم واضحةً ودقيقةً حولها. ولكن المُهم هو القَدَر الذي تتضمن فيها المفاهيم الدينية الايمان بقوةٍ خارقةٍ للطبيعة. ان تنوّع المفاهيم الدينية هو أمرٌ لا لُبسَ فيه، لأن الدين ليس انعكاساً صحيحاً للقوى الطبيعية والاجتماعية المُسيطرة على الانسان، بل هي انعكاسٌ وهمي، يتنوّع حسب الظروف. ولذلك، فإن الوعي بهيمنة تلك القُوى مُحدد مُسبقاً من جانبٍ واحدٍ فقط: انه يتكون دائماً من الايمانِ بقوةٍ خارقةٍ للطبيعة. ومع ذلك، فإن الأشكال المُتنوعة الملموسة لهذا الوعي ليست مُتحددة مُسبقاً، ولكن هذا لا يُغيّر جوهرَ الدين على الاطلاق.
ان فكرة أن الدين قد نشأ من أجل تلبية حاجة الانسان لتفسيرِ ظواهرَ لا يفهمها، كانت مُنتَشرةً في زمنٍ ما، ولم تختفِ بعدُ تماماً. هذه الفكرة، من وجهة نظرنا، خاطئة. لم ينشأ الدين بأي حالٍ لتلبية هذه الحاجة أو أي حاجةٍ اجتماعيةٍ أُخرى. لم يظهَر الدين ليقوم بأي وظيفةٍ اجتماعيةٍ ضرورية.
لقد نشأ الدين ببساطة، لأنه كان عليه أن ينشأ. كان لا بُد من ادراك أن هُناكَ ضرورة عمياء تُسيطر على الانسان، ولكن في نفس الوقت، لم يكن من المُمكن فهمها بشكلٍ كافٍ. وكانت نتيجة ذلك ظهورُ تصوّرٍ وهميٍ عن قوة الضرورة العمياء هذه على الانسان وفي نفس الوقت عجز الانسان عن مُواجهتها. لقد نشأ الدين كطُفيليٍّ على الشجرة الحيّة لنشاط الانسان العملي. ولكن بعدَ أن ظَهَرَ الدين، بدأ يؤدي وظائفَ مُحددة.
تم توظيفه، على وجه الخصوص، لأجل تفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية، جنباً الى جنب مع ظهور المُحاولات الأُولى للتفسير، في بُنية بعض المُعتقدات الدينية والطقوس نفسها. ونتيجةً لذلك، ظَهَرَت أفكار دينية، حتى في مرحلة مُعينة من تطور المُجتمع ما قبل الطبقي، بالرُغم من أنها كانت مُتضمنة في المُعتقدات العملية الدينية، الا أنها كانت الى حدٍّ ما، مُستقلّة عنها. يتعلّق هذا، بجزءٍ من أساطير الدين، على وجه الخصوص. ومع ذلك، لم تلعب دوراً مُهماً، وكانت، من بينِ أُمورٍ أُخرى، تخصصاً لفئةٍ صغيرةٍ من الأشخاص، وهم الشامانات والكَهنة وما الى ذلك، ولم يكن للغالبية العُظمى من المؤمنين سوى معرفةٍ ضئيلةٌ بها. هذه الحقائق بالتحديد، وغيرها من الحقائق المذكورة أعلاه، هي التي دفَعَت بول رادين، وتوكاريف من بعده، الى استنتاجٍ مفادُهُ أن مُعظم المُتدينين لا يعرفون المُعتقدات. ولكن حتى الجهل الكامل بهذه الأفكار الدينية الثانوية، وحتى انتشار الأفكار الدينية وأشدّها تناقضاً، لم يمنَع هؤلاء الأشخاص من الاقتناع بوجودِ قُوىً خارقةٍ للطبيعة والحاجة الى أداء الطقوس.

***

يُحدد توكاريف 3 مراحل في تطور الدين: مرحلة العبادات القَبَلية-العشائرية، ومرحلة الديانات القومية ودين الدولة، ومرحلة الديانات العالمية. ومع ذلك، فإن أعمق خط فاصل وتقسيم للأديان، هو ذلك الذي يفصل دين المُجتمع ما قَبلَ الطبقي عن دين المُجتمع الطبقي(8). كان الانتقال من المُجتمع ما قَبلَ الطبقي الى المُجتمع الطبقي مصحوباً بإعادة تنظيم عميقة للدين، كان أساسها تحوّر في جذوره.
ففي حين كان المصدر الرئيسي للدين، قبل ظهور المُجتمتع الطبقي، هو عجز الانسان العملي في مُواجهة الضرورة الطبيعية العمياء، أصبَحَ جذره الرئيسي، مع ظهور الطبقات، عجز الانسان العملي بشكلٍ مُتزايد في مُواجهة الضرورة العمياء للتطور الاجتماعي.
تتجلّى القُوى الاجتماعية العمياء بطُرُقٍ مُختلفة. ومثل قُوة الضرورة الطبيعية العمياء، فقد تجلّت في اضطهاد كُل فردٍ بذاته من خلال الأحداث العشوائية، وفي اعتماد مصير كُل فرد على دفق الظروف الخارجة عن السيطرة، وعلى مسرح الظروف الصدفية. كَتَبَ لينين، في معرض كشفه عن أسباب وجود الدين في ظل الرأسمالية: "الخوف صَنَعَ الآلهة. الخوف هو القوة العمياء للرأسمال-عمياء لأن جماهير الشعب لا يُمكن أن تُدرِكَ مُقدماً ما تحمل معها-قُوةٌ تُهدد بأن تُنزِلَ وفعلاً تُنزلِ بالبروليتاري والمالك الصغير الخراب الفجائي، غير المُتوقع، والعَرَضي، وتُسبب الخراب، التسول، الانسلاخ الطبقي والبغاء والموت جوعاً-هذه هي جذور الدين الحديث التي يجب أن يضعها المادي نُصبَ عينيه أولاً وقبل كُل شيء، اذا كان لا يُريد فعلاً أن يبقى مادياً بدائياً"(9). لقد كان هذا الشكل من تمظهرات هيمنة القُوى الاجتماعية العمياء، في حد ذاته، هو الذي عزز لاحقاً الحفاظَ على المُعتقدات والطقوس العمَلية.
ان انقسام المُجتمع الى طبقات، يتجلّى في الشكل الموصوف أعلاه، حيث يُنظَر الى قُوى الأحداث العشوائية التي تُؤثّر على كُل شخص، بشكلٍ معزول. لكن هذا الانقسام في المُجتمع، الذي بدأ وكأنهُ نتيجةٌ لفعل الضرورة العمياء للتطور الاجتماعي، تجلّى أيضاً بشكلٍ مُباشرٍ في التفاعلِ بين الطبقات، في صراع المصالح الطبقية. وبظهور هذا الشكل، أدت قُوة الضرورة الاجتماعية العمياء الى تحوّل في البُنية الداخلية للدين، وظهورِ عُنصرٍ جديدٍ فيه: الآيديولوجيا(10).
لقد كانت المصلحة الرئيسية للمُستَغِلّين دائماً هو إدامة أمد النظام الاجتماعي القائم والحفاظ عليه، وبالتالي، القمع المنهجي لمُقاومة المُستَغَلّين. تم فرض نمط من السلوك المُفيد للطبقة الحاكمة على المُستَغَلّين عن طريق الأجهزة الحكومية في المقام الأول. ومع ذلك، فإن الاكراه الجسدي لم يكن كافياً أبداً، كان الاضطهاد الروحي ضرورياً دائماً. فقط المُفكر الايديولوجي يُمكن أن يكون الوسيط لفرض هذا هذا الأخير.
توجد الايديولوجيا دائماً في شكل عقائد، ويتكون جوهر كل عقيدةٍ في المقام الأول من حقيقة أنها تُعلّم الناس، وبالاضافة الى ذلك، تُعلمهم كيف يعيشوا، أي تُصبحُ مُرشداً للفعل. وفي حين يكون برنامجَ عملٍ مُحدد، تُمليه المصالح الطبقية، فإن أي عقيدةٍ تتضمن حتماً تبريراً لهذا البرنامج، والذي لا يُمكن أن يكون سوى تفسيراً ما للظواهر الاجتماعية. عندما تكون ايديولوجية الطبقة الحاكمة الاستغلالية هي المسألة، فإن تفسير الظواهر الاجتماعية هو في ذات الوقت تبريرٌ للأمر الواقعِ كما هو.
لا يُمكن لأي عقيدةً أن تظهر بدون مُعلمين. كان الايديولوجيين الأوائل هُم الكهنة، وكانت المادة التي انطلقوا منها في وضع التعاليم الأُولى تتكون من المُعتقدات والأساسيطر الدينية وما الى ذلك. وقد نشأت الايديولوجيا في الأصل في شكلِ عقائدَ دينية، وكانت هذه العقائد تُقدم دائماً تفسيراً مُحدداً للظواهر الاجتماعية والطبيعية. في هذه الظواهر، يظهَرُ أن النظام الاجتماعي القائم مُستمدٌّ من أفعالِ قُوىً خارقةٍ للطبيعة، وقِيلَ أن اتباعَ مسارِ سلوكٍ مُحدد، بأنه الطريقة الوحيدة لكسب رضا هذه الأخيرة وصرف غضبها.
وهكذا، كانت العقائد الدينية عمليةً بدرجةٍ لا تقل عن المُعتقدات العملية. ولكن في حين أن الأخيرة كانت مُرتبطةً قبل كُل شيء بالأفعال المراسيمية والطقوسية، فإن الأُولى كانت تتعلق بسلوك الانسان ككل. النقطة الأساسية لجميع التعاليم الدينية، تكمنُ في فكرة أنه من المُستحيل الحصول على المُساعدة من القُوى الخارقة للطبيعة، عن طريق الطقوس وحدها. ما كان مطلوباً أيضاً نمطٌ مُعيّنٌ من السلوك اليومي للانسان في المُجتمع، ونمطُ حياةٍ مُعيّن. فكل تعاليمٍ دينيةٍ، مهما كانت مُتطورة، هي في الضرورة، تعاليمٌ أخلاقية. ان الأخلاق الدينية هي تطبيقٌ لهذه التعاليم.
كانت الحاجة الى تبرير قبول الناس لنموذجٍ مُعيّنٍ من السلوك، في أي ايديولوجيةٍ دينية، من خلال القول بأن هذا (النموذج) هو إرادةُ قوةٍ خارقةٍ للطبيعة. كان يُعتَقَدُ أن القوة الخارقة للطبيعة، تتدخل باستمرار، من خلال ارساء قواعدَ سلوكيةٍ مُحددة، في حياة الانسان لكسب رضاهُ عن طريق اتباعها. وكُلُّ انحرافٍ عنها يؤدي حتماً الى العقاب عاجلاً أم آجلاً، في حين أن مُراعاة القواعد تجلب المُكافأة الحسنة.
ان قوة الضرورة الاجتماعية العمياء على الانسان في المُجتمع الطبقي تجلّت في أوضح صورها في الاضطهاد الطبقي الذي كان عبئاً ثقيلاً على أكتاف العُمّال، يظلمهم ويحكمُ عليهم بالجوع والعذاب والانتهاكات، والوجود غير الحُر. تجلّى عجزُ الناس في مُواجهة قُوى المُجتمع العمياء في المقام الأول في الاستحالة الموضوعية، على مدار آلاف السنين، لإلغاء استغلال الانسان للانسان، وبالتالي، في العجز الموضوعي للمُنتجين المُباشرين، أي العُمال، عن وضعِ حدٍّ للاضطهاد والاستغلاليين.
وبعبارةٍ أُخرى، تم التعبير عن سُلطة الضرورة الاجتماعية العمياء في المُجتمع الطبقي في هيمنة الظُلم والشر الاجتماعيين، وحقيقة أن هذا الشر لم يكُن من المُمكن اقتلاعهُ من جذورهِ سوى في مراحلهِ الأخيرة، حيث نشأت الشروط المادية والفكرية لتفكيك استغلال الانسان للانسان. كانت إحدى المهام الضرورية جداً لآيديولوجية الطبقة الحاكمة، هي إجبارُ المضطهدين على التصالحِ مع الشر، وليس اتخاذَ موقفٍ ضده. لذلك، كان من الضروري لأي عقيدةٍ دينية أن تُقدم بعض التفسيرات لأصل الشر، وتفسيراً يُبرر وجودهُ كذلك. وبدون ذلك، لن تستطيع الاستحواذَ على قبول المُستَغلَّينَ لها كمُرشدٍ لسلوكهم.
ان مسألة أصل الشر وجوهره تحتل فعلاً مكانةً مُهمةً في الدين، ولكن ليسَ في الدين بشكلٍ عام كما يؤكّد توكاريف، بل فقط في دين المُجتمع الطبقي، وهو نفسه يتوصل الى هذه النتيجة. يكتب: "إن تفسير أسباب الشر، يعني أيضاً في القكر الديني: تبريره. برَّرَت أديان جميع الشعوب، على مر القرون، الشر الاجتماعي بدلاً من مُكافحته". ليس من الصعب أن نفهم أن جميع ما سَبَق يُمكن تطبيقهُ بالكامل فقط على أديان المُجتمع الطبقي.
إن تفسيرات الشر ومُبرراته من قِبَل أديان المُجتمع الطبقي كانت بعيدةً كُل البُعد عن التطابق. دعونا نتوقف لنتأمل في التفسيرات والتبريرات المُتعلقة بالشر على طول مسار تطور الدين في المُجتمع الطبقي.
ومن أجلِ فرضِ نمطٍ من السلوك على المُضطهَدين يُفيد الاستغلاليين، لا يكفي بأي حال تخويفهم بالعقاب. من الضروري الوعد بمُكافأةٍ على الالتزام الثابت بالأحكام الدينية. ولكن من الصعب أن نَعِدَ بالمُكافأةِ في العالم الأرضي. هذا الوعد لن يصمدَ مع الواقع. وكانَ المخرَجُ في نقل عالم النِعَمِ والمكافئاتِ الى العالم الخارق للطبيعة. لكن لا ينبغي للمرء أن يعتقِدَ أن ظهور عقيدة النِعَم بعد القبر كان نتيجةً لمكائدَ واعيةً من جانب ايديولوجيي الطبقة المُهيمنة، الذين يسعون جاهدين الى مواساة المُضطَهَدين واجبارهم على التصالح مع الواقع. لقد وُلِدَت هذه الفكرة وسطَ الجماهير المُستَغَلَّة.
نشأت فكرة النعيم والعقاب بعد القبر، كشكلٍ وهميٍ لحل التناقض بين الرغبة العاطفية للجماهير الكادحة في الانتقام من الظالمين وضمانِ مُستقبلٍ سعيدٍ من ناحية، والاستحالة الموضوعية لتحقيق ذلكَ من جِهةً أُخرى. كَتَبَ لينين: "الدين هو أحد مظاهر القمع الروحي الذي يُرهقُ دائماً، وفي كُل مكان، الجماهير الشعبية بالعمل الدائم في خدمة الغير وتحت أعباء البؤس والعُزلة. الايمان بحياةٍ أُخرى أفضل فيما بعد الموت يولَدُ حتماً من عجز الطبقات المظلومة في نضالها ضد ظالميها، تماماً كما يُولَدُالاعتقاد في الآلهة والشياطين من عجز الانسان الوحشي في نضالهِ ضد الطبيعة"(11). كانت فكرة القصاصِ والعقابِ بعد القبر شكلاً من أشكال احتجاج الجماهير ضد الظُلم الاجتماعي الذي أُجبِرَت على قُبوله. ولهذا السبب بالتحديد، فإن هذه الفكرة، التي وُلِدَت في البداية في أعماق المُجتمع، تغلغلت تدريجياً في ايديولوجية الطبقة المُهيمنة، وتبناها المُدافعين عن مصالحها وطوروها.
ان ظهور فكرة العقاب بعد الموت جَعَلَ للدين امكانية التسليم بوجود الظُلم الاجتماعي وتبريره في نفس الوقت. وقد تم ذلك في شكل فكرة حتمية الشر الدنيوي، وكذلك الحاجة الى وضع الناس على ميزان الاختبار في العالم الأرضي من أجل تحديد من الذي يستحق المُكافأة في العالم الخارق للطبيعة، وبهذا اتخذَ الحد الفاصل بين العالم الأرضي والعالم الخارق للطبيعة طابعاً جديداً. يظهَرُ العالَم الطبيعي الآن، وهو العالم الذي يحكم فيه الشر، والعالم الخارق للطبيعة تُستعادُ فيه العدالة التي تُتنتَهَكُ باستمرار في العالم الطبيعي، وسيُعاقَبُ فيه الناس على كل ما فعلوه في الحياة على الأرض. بدأ الدين في هذه المرحلة يطرَح نفسهُ حقاً، على أنه أفيونٌ حقيقيٌّ للشعب.
كُل هذا يُمكن رؤيته بوضوح في مثال تطورِ ديانةٍ قوميةٍ مثل الديانة المصرية القديمة. وقد وَجَدَ هذا الطريق من التطور ذروته في دينٍ عالميٍّ مثل المسيحية. على عكس رأي توكاريف القائل: "تقوم المسيحية بمفهومها عن الشر والخطيئة، بخَرق الصورة العامة والمُنتَظَمة للغاية للصعود التدريجي للفكر الفلسفي وطرحه حلولاً أكثر اتساقاً وتعميماً لمسألة الشر في العالم"، فإن حل مسألة أصل وجوهر الشر الذي تطرحهُ المسيحية ليس انحرافاً عن الخط الرئيسي لتطور الدين. على العكس من ذلك، ففي المسيحية بالتحديد تجلّت جميع السمات الرئيسية للدين في المُجتمع الطبقي في أكملِ صُوَرِها.
يجدُ هذا تفسيراً لهُ، في حقيقة أن المسيحية، بادئِ ذي بدء، تدينُ بأُصولها الى عجز الناسِ في مواجهة الضرورة الاجتماعية العمياء وحدها، وليس الضرورة الطبيعية. ثانياً، انها نشأت فقط كعقيدةٍ دينية. وثالثاً، وُلِدَت كآيديولوجية الجماهير المُستَغَلَّة من الشعب وليس كآيديولوجية الطبقة المُسيطرة، أي وُلِدَت كتيارٍ ايديولوجي مُعارضٍ لنظام الأشياء السائد.
عندما ظَهَرَت المسيحية كانت تتكون فقط من ايديولوجيةٍ دينيةٍ سهّلَت انتشارها على نطاقٍ واسع. كَتَبَ انجلز: "ان المسيحية تجهَلُ هذه الطقوس التي تُكرّس العزل...وهي اذ رَفَضَت على هذا النحو سائر الأديان القومية والطقوس الشائعة فيها، اذ توجهَت الى الشعوب كافةً بدون تمييز، أصبحَت هي ذاتها أول دينٍ عالميٍّ مُمكن"(12). ومع ذلك، بما أن المسيحية نشأت كتعاليمٍ دينية، لم يكن من المُمكن أن تظلَّ كذلك لفترةٍ طويلة، وكان من المُحتّم ان تنمو في أحشاءها كل أنواع الطقوس، وتتحوّلَ من عقيدةٍ دينيةٍ صرف، الى دينٍ حقيقي يتكونُ من نفس العناصر التي تحتويها ديانات المُجتمع الطبقي السابقة عليه. ولكن على النقيضِ من هذه الأخيرة، فإن المسيحية (وكذلك الديانتان العالميتان الأُخريان: البوذية والاسلام) لم تتطور من الأسفل الى الأعلى (من العبادة والمُعتقدات العَملية الى التعاليم)، بل على العكس من ذلك، تطورت من الأعلى الى الأسفل (من العقيدة الى أشكال العبادات والمُعتقدات العملية)، مما تَركَ بصمته على النظام الديني بأكمله. وقد حدد هذا بدرجةٍ كبيرة الاستقلال التنظيمي للمسيحية. فقط فيما يتعلق بهذا بالذات، يكون المرء على حق في الحديث عن الكنيسة كمُنظمةٍ مُستقلة.
كُل هذا مُجتمعاً، جَعَلَ من الكنيسة التجسيد الأكثر مُلائمةً للمرحلة العُليا والأخيرة من تطور الدين في المُجتمع الطبقي، وبالتالي، الدين بشكلٍ عام. وكما أكّدَ انجلز، مع ظهور المسيحية "تم استنفاد جميع امكانات الدين، فبعد المسيحية، بعد الدين المُطلَق، أي الدين المُجرّد، لم يكن من المُمكن أن يظهَرَ أي شكلٍ آخرَ من أشكال الدين فيما بعد"(13).
وفي الختام، لا بُدّ من التريث قليلاً للنظر في تمييز توكاريف بين الفهمين الالحادي والديني لجوهر الدين، حيث يَكتب: "يُمكننا أن نقول أن الاختلاف الحقيقي في فِهم جوهر الدين من جانب المؤمنين والمٌلحدين، لا يَكمُن في التكرار اليائس وعديم الهَدَف لعبارَتي: "يُوجد إله" أو "لا يوجد إله"، بل في تناقضٍ أساسيٍّ تماماً بين خطّينِ من السلوك العَمَلي: اما مُناشدة الاله (أو الآلهة) لتخليص المرء من الشر والمُعاناة والظُلم، أو مُحاربة الشر والمُعاناة والظُلم بقُواه الخاصة".
ان الجهد المبذول لدحض، الافتراض القائل بأن السمة الرئيسية للدين هي الايمان بقوةٍ خارقةٍ للطبيعة، أو للتنازلِ عنه على الأقل، يقود توكاريف الى وضعٍ تصويرٍ كاريكاتوري للفهم العادي بين وجهات النظر الالحادية والدينية للدين. ان النظرة الالحادية العادية لجوهر الدين لا تتألف على الاطلاق من تكرارٍ غير هادفٍ لعبارة "لا يوجد إله". انها تتألف من النظرة الى الدين على انه انعكاسٌ وهمي في عقول للبشر لتلك القُوى الطبيعية التي تحكمهم في حياتهم اليومية، بالاضافة الى أنها نظرة ترى أن القوى الطبيعية تكتسبُ مظهر قوىً خارقةٍ للطبيعة. ان القُوى الخارقة للطبيعة لا تُوجد الا في أذهان البشر باعتبارها انعكاساً وهمياً للقُوى الطبيعية التي تُهيمن عليهم في الواقع. انها في الواقع غير موجودة. لا يوجد في الواقع، سوى العالم الطبيعي والمادي. يرى المتدينون، في مُقابل المُلحدين، أنه لا يُوجد عالمٌ طبيعي فحسب، بل عالمٌ خارقٌ للطبيعة، وليس فقط قُوىً طبيعية بل خارقة للطبيعة. فالدين بالنسبة لهم هو الحقيقة. وليس من الصعب أن نفهَمَ الفرق بين هاتين النظرتين للدين هو اختلافٌ أساسي ومبدأي.
ومن غير المنطقي على الاطلاق، أن نُواجه التمييز بين هذين المفهومين لجوهر الدين، بالتمييز بين الخطين العمليين في حل مسألة الشر، لأن حل هذه الأخيرة يعتمد اعتماداً كُلياً على ما اذا كان الشر نابعاً من العالم الأرضي أم العالم العُلوي، أي يعتمد على ما اذا كانت النظرة الحاديةً أم دينية.
اذا كانت هُناك قُوةٌ خارقةٌ للطبيعة مُسيطرةٌ على البشر، وتتوقف عليها حياتهم، فلا بُدّ من اللجوء الى تلك القُوى لتجنّب الشر والمُعاناة والظُلم. اذا لم تكن هُناك قُوةٌ خارقةٌ للطبيعة في الواقع، فيُمكن للناس أن يعتمدوا على أنفسهم وحدهم في النضال ضد الشر والمُعاناة والظُلم.

* يوري ايفانوفيتش سيمينوف 1929-2023 مؤرخ ماركسي وفيلسوف واثنوغرافي ومُتخصص في فلسفة التاريخ وتاريخ المُجتمع البدائي ونظرية المعرفة. تخرج من كلية التاريخ في معهد كراسنويارسك التربوي، وقسم الفلسفة من معهد مُعلمي العلوم الاجتماعية في جامعة الأورال. قام بتدريس الفلسفة في جامعات ذاتها. دافَعَ عام 1963 عن اطروحته في الدكتوراة في معهد الاثنوغرافيا، وأصبحَ في عام 1967 أُستاذاً في قسم الفلسفة في معهد موسكو للفيزياء والتكنولوجيا، حيث عَمِلَ لمدة نصف قرن هناك. كما عَمِلَ بدوامٍ جُزئي لفترةٍ طويلة في معهد تاريخ العالم التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية. كان يعمل في الأبحاث المُتعلقة بمسألة المُجتمعات الطبقية الأولى التي سبقت العبودية. في الخمسينات اصبَحَ سيمينوف مُهتماً بمسائل نظرية المعرفة ونمط الانتاج الآسيوي. قدّمَ عام 1956 اطروحة درجة مُرشح العلوم الفلسفية بعنوان (بعض مسائل التفكير الانساني لما قبل التاريخ). نَشَرَ عام 1957 أعمالاً تتعلق بالمُجتمعات الطبقية الأولى، وجادَلَ فيها بأن التكوين الاجتماعي الاقتصادي للطبقة الأولى لم يكونوا مُلّاكاً للعبيد، بل كان يعتمد على نمط الانتاج الآسيوي.
نَشَرَ دراسةً حول نشأة المُجتمع الطبقي عام 1962، وقدّمها الى معهد الاثنوغرافيا وحصل على درجة الدكتوراة في العلوم التاريخية.
كان سيميونوف في العام 1967 استاذاً في قسم الفلسفة في معهد موسكو للفيزياء والتكنولوجيا حتى انهيار الاتحاد السوفييتي، وصار منذ 1980-1984 رئيساً لهذا القسم.
من كُتبه: (نشوء المُجتمعات البشرية) 1962، (كيف نشأت البشرية) 1966، (أصل الزواج والعائلة) 1974، (تطور التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية والمنطق الموضوعي لتطور الدين-مسائل الالحاد العلمي) 1976، (من فجر تاريخ الانسانية) 1989

1- المقالة على الحوار المُتمدن:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=820904
أ- فيما يخص مسألة "الاندماج والانفصال". لم أُلاحِظ أن توكاريف إدّعى في مقاله أن "عامِل الدمج والفصل" هو سمة جوهرية للدين. لقد قالَ بأن الدين هو ظاهرة مثل أي ظاهرةٍ إجتماعية، وقامَ بشرح هذه الوظيفة التي لاحَظها كإثنوغرافي. لم يكن توكاريف يفعل، في مقالته، سوى أن يتحدث عن أحد وظائف الدين، ولم يدّعِ، حسبما فَهِمت، وحسبما يقول سيمينوف، أن هذه الوظيفة جوهرية لظاهرة الدين.
2- The question of the roots of religion, including the socalled "epistemological" roots, is examined in Iu. I. Semenov, "Idealizm, religiia: skhodstvo i razlichie," Nauka i religiia, 1976, no. 9
3- وفي هذا الصدد، تجدُرُ الاشارةُ الى أن الفكرة التي طرحناها بشأن انقسام النشاط الانساني العملي الى حُرٍّ وغير حُر منذ عصور البشرية القديمة قد حَظِيَت بدعم سيرجيه توكاريف نفسه في مقالته:
Problemy obshchestvennogo soznaniia doklassovoi epokhi," in Okhotniki, sobirateli, rybolovy, Leningrad, 1972, pp. 244-45
4- L. Ia. Shternberg, Pervobytnaia religiia v svete etnografii, Leningrad, 1936, pp. 246-47
5- ضد دوهرينغ، فريدريك انجلز، دار التقدم 1984، ص366-367
6- For fuller detail on the origin of religion, see Iu. I. Semenov, Kak vozniklo chelovechestvo, MOSCOW, 1966, pp. 347-79
7- For further details on the forms and stages of the evolution of primitive religion, see ibid., pp. 319-446
8- For fuller details on the basic stages in the evolution of religion, see Iu. I. Semenov, "Religiia: logika evoliutsii," Nauka i religiia, 1974, no. 11 idem., "Razvitie obshchestvennoekonomicheskikh formatsii i ob ektivnaia logika evoliutsii religii," Voprosy nauchnogo ateizma, issue 20, Moscow, 1976
9- نصوص حول الموقف من الدين، فلاديمير لينين، ترجمة محمد كيّة، دار الطليعة 1972، ص103-104
وكما هو واضحٌ من السياق، فإن لينين، عندما تحدث عن الخوف باعتباره أصل الدين، كان يقصدُ في المقام الأول العجز اليومي الحقيقي للبشر في مُواجهة القُوة العمياء لرأس المال.
10- إن الدين في المُجتمع الطبقي، رغم احتوائه على ايديولوجيا دينية، لا يُمكن اختزالهُ اليها تماماً. وبالاضافةِ الى المذاهب الدينية، فهو عادةً ما يشتملُ أيضاً على المُعتقدات والطقوس العملية. نشأت التعاليم الدينية، في الديانات القومية المُبكرة، كنوعٍ مُتميزٍ من البناء الفوقي فوق المُعتقدات العملية والأفعال الطُقسية. ومن المفهوم أن ظهور الايديولوجيا الدينية كان لهُ تأثيرٌ على العُنصرين الأخيرين من الدين، والذي يُعبّرُ عنهُ في تحوّل المُعتقدات والطقوس العملية القديمة وظهور نمطٍ جديدٍ منها. كان لظهور الايديولوجيا الدينية أيضاً نتيجةً تتمثل في التحوّل التدريجي للدين من كومةٍ غير مُنتظمةٍ من المُعتقدات والطقوس الأكثر تبايناً، والتي كانت عليه طوال تاريخ المُجتمع ما قبل الطبقي، الى نظامٍ مُحددٍ بدقة. وكلما كان هذا النظام أكثر تنظيماً زاد الدور الذي تلعبهُ الايديولوجيا الدينية فيه. وغنيٌّ عن القول أن الغالبية العُظمى لم تكن على درايةٍ به تماماً.
11- نصوص حول الموقف من الدين، فلاديمير لينين، ترجمة محمد كيّة، دار الطليعة 1972، ص83-84
12- حول الدين، كارل ماركس وفريدريك انجلز، ترجمة ياسين الحافظ، دار الطليعة 1981، ص153
13- K. Marx and F. Engels, -Soch 9 vol. 1, p519

ترجمة لمقالة:
ON THE ESSENCE OF RELIGION, Iu. I. Semenov, 1980








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل


.. مراسلة الجزيرة: مواجهات وقعت بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهري




.. الاتحاد السوفييتي وتأسيس الدولة السعودية


.. غزة اليوم (26 إبريل 2024): 80% من مشافي غزة خارج الخدمة وتأج




.. اعتقال عشرات الطلاب المتظاهرين المطالبين بوقف حرب غزة في جام