الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الألسنية الاعتباطية و الإيقونية التعليلية

كاظم مؤنس

2024 / 2 / 28
الادب والفن


• كـاظـم مـؤنـس
• الألسـنية الاعتـباطية والإيـقـونـية التعـلـيلـية
لقد أهتم النقد كثيرا بتحليل الصورة، تلك الصورة التي غـُرست في وجدان الأنسان وفكره منذ أمد بعيد، فجعل منها مرآة عاكسه لإنفعالاته وهواجسه، فباتت ذاكرة للإنسانية عبر العديد من الرسومات والمنحوتات. وإذا ما تجاوزنا عن وعي دور سرديات نظرية الإنتقالات ومراحل تطور المجتمعات الإنسانية، فسنجدنا أمام حالة من الإزاحة لكل التمثل المناظر للواقع، إذ ثمة نزعة عارمة يظهرُها الخطاب الإنساني المعاصر بكافة أنواعه، متمثلة بإنغماسه في الدلالات والرموز التي شحنته بطبقات من المعنى ومستويات من التأويل لتجعل منه رديفا محايثا للحداثة والمعاصرة التي خلعت عليه سلطة التميز والمعرفة. وهذا الأمر يقود بالضرورة إلى سلسلة من النظم، أبرزها الدلالية، والسياقية، ونظام المعنى الذي يستحث المرجعيات التي ينطلق منها النص الألسني أو المرئي للحضور في عمليتي التفسير والتحليل، ولعل أولها يتمثل باعتبار أدوات التعبير البصري هي أدوات للتخاطب، فإذا سلمنا بذلك، عندئذ يتوجب التفريق بين حضورها العياني، وحضورها الحسي، مع الإقرار بوجود الشيء الكثير من التداخل البيني مع بعضهما، فالإستبصارات التي سيستند إليها النقد فيما نراه على الشاشة هو محاكاة لقرائن واقعية، أما التركيبات السياقية في المشهد البصري فهي إحالات ذهنية، تختص بالمتلقي، وتنظوي تحتها سمات تجريدية تتجسد بما يسمى "النص الموازي" على حد تعبير جيرار جنيت.
بالتأكيد لن ننكر على الصورة مكانتها ولا خاصيتها كخطاب ناجز مكتفيا بذاته، وقد وفرت الدراسات النظرية الحديثة الكثير من الإمكانات التي أزالت عنها اللبس والغموض خصوصا الدراسات السيميائية، التي أكدت وجودها كأداة لغوية لها نسقها الحامل للدلالة والتواصل. فتلبست ظاهر وباطن الخطاب السمعي المرئي بامتياز فعمقت فلسفته الجمالية، كماعمقت بنيته التعبيرية فباتت أهم علاماته الفارقة، لنجدنا إزاء فضاءا علاماتيا يتأسس على تقابلات وحداتها المتسقة والمتنافرة، بيد َ أنها تتظافر في تشكيل حقلا دلاليا في المستويين الأفقي والعمودي وتلك خاصية ملازمة لماهية اللغة اللفظية والإيقونية على حد ٍ سواء.
ولعل الفرنسي رولان بارث كان من أوائل الذين عملوا على المقاربة بين النص المكتوب والمرئي، إذ لم يتأخر كثيرا في إطلاق نظريته ذات الصلة بالمعنى الثالث (الذي اصدره لاحقا بكتاب مع مقالات أخرى) حين تعرض لفلم سيرجي آيزنشتين – إيفان الرهيب- كما تعرض لنظرية المعنى في مقاله الشهير " الرسالة الفوتوغرافية" في العام 1961 " موضحا بأن الصورة عبارة عن نص لغوي ولأنها كذلك فهي حامل لمعنى أو أكثر، وأن الصورة حاملة لثلاث مستويات من التعبير أولها المستوى الرمز والمستوى التاريخي والاتصالي أو الإبلاغي وكلها متورطة في لعبة المعنى، وكل منها يحيلك إلى إطاره الخاص، إلى شجرة من النصوص الغائبة. ولأن اللغة القولية بحسب دي سوسير هي الأخرى نسق من العلامات الصوتية، وهو ما يتفق مع طروحات كل من الأمريكيين برنارد بلوك وجورج .ل. تراجر بقولهما "بأن اللغة نظام من الرموز اللفظية الاعتباطية" ومن المفيد الإشارة إلى أن رموز اللغة لا تعني بالضرورة مفاهيم أو مصطلحات أو مسميات حرة، بل عناصر في نظام متظافر لا نتحراه إلا بالكشف عن ترابطه بباقي العناصر. وعلى فكرة النظام في اللغة قامت البنيوية "Structuralism" والصورة بحسب البنيويين عالم مكتمل من العلامات، وهي كحال الكلمة قادرة على إطلاق نسق لغوي يحرر المعنى، هذا التحايث السيميائي على مستوى البعد الظاهري للغة لدى الوسيطين التعبيريين أغفل التباينات النوعية في مستوى التعبير الإيقوني و القولي، ولعل من أبرز هذه الأختلافات مرده إلى الأعتباطية التي خص بها سويسر العلاقة الترابطية بين الدال والمدلول عند تعريفه للعلامات كونها المجموع الناجم من هذا الترابط العلائقي، بينما الرموز الإيقونية ليست إعتباطية بقدر ما هي تعليلية تواشج بين الصورة المرئية ومرجعيتها الواقعية أو الخارجية عبر المشابهة أو المماثلة، وعبارة " غي غوتييه " ( الشهيرة إذا كانت اللسانية تميل إلى الاعتباطية فأن الصورة أكثر ميلا إلى التعليل) وتلك هي العلة يانفسي ( كما وضعها شكسبير على لسان بطله عطيل) العلة التي تجعل اللسانيات عصية على التحليل، لأنها كثيفة التشفير، بينما تبدو الصورة على الشاشة نقلا لواقع مألوف، للحد الذي وصفها بارث بأنها رسالة خالية التشفير، كونها إعادة إنتاج أو محاكاة لموجودات واقعية على حد تعبير جوديث لازار. أو تمثيلا ونسخا لأشياء مادية ذات مرجعيات حقيقية، الأمر الذي يضعها على الدوام في إطار العلاقة بين الدال والمرجع، بمعنى التماثل بين الشيء ومرجعيته.
وفي هذا السياق تأتي تصورات سعيد بنكراد الذي يرى بأن الحاضرات البصرية في تباينها وثراها تشكل لغة مسننة – مكودة - وأن الدلالات التي تحررها العلامات هي نتاج تسنين ثقافي وليست مضامين يوحى بها، و يتفق في أنها تحيل إلى مرجعيات تتواجد خارجها، ولا تنتج مدلولاتها إلا وفق هذا المبدأ. لكن تبقى خاصية المماثلة أمر متفق عليه بين الدارسين، وهي خاصية تقتصر على الصورة دون غيرها من الوسائط التعبيرية، التي يعدها ـ ساندرس بورس ـ الصفة الجوهرية للرمز الإيقوني، مشيرا لطبيعة العلاقة بين الرمز والقرينة، مهما كان جنس العلامة، على اعتبار ما يخصصها يتمثل بالمشابهة للشيء المحالة إليه .
ولن ننسى فرضيات الفرنسي ـ كرستيان ميتزـ التي خص بها صفة المماثلة في مقاله الموسوم " الصورة، ما بعد المماثلة" وهو في الوقت الذي يؤكد فيه على خاصيتها في التماثلية إلا أنه يجعل ذلك حصرا في شكلها العام، كونها تنطوي على عدد من العلاقات الاعتباطية ذات الصلة بالدال الذي عملت على محاكاته، من دون تحويلها إلى عالم مغلق كونها عالما مفتوحا، تكون المماثلة فيه جزء من تكوينه العام، ومع ذلك فهو يحددها بشكل كامل كونها االسمة الأكثر ظهورا، فعن طريقها تتأتى إمكانية حضور الرمز وقراءته، وفك كودات تسنين المعنى وإمكانية التأويل.
وعودة مرة أخرى إلى بارث الذي يصفها بالشفافية، لأنها تشير إلى الموجودات التي تصورها، فهي دال يتقنع تحت ظل المدلول بحسب تعبيره، وإن إدراك دوال الشفرة الإيقونية المتموضع في مجال الصورة غير مشروط بإدراكه خطيا، كما هو الأمر في بنية الجملة، لأنه لا يشترط الإدراك المتزامن لشفرات فضاء الصورة. مع إننا نتناول إرتباطهما كشيء عادي ربما لأننا ألفناه من دون أن نعي وندرك أسراره وطبيعته الاستقلالية التي لاتقبل غير نوعها أو مفردات جنسها، وهو أمر لو تأملناه قليلا لوجدنا الهوة الكبيرة التي تفصل الحقلين في ميدان المعرفة الإنسانية، ويختصر رومان غوربان هذه الفكرة بقوله " ليس ثمة معنى أن نكون ضد اللغة أو معها، ولا مع الصورة أو ضدها، أن قناعاتنا بأن سيميولوجيا الصورة ستشتغل جنبا إلى جنب مع سيميولوجيا الموضوعات اللسانية، وهو أمر يؤكده ميـتـز بقوله "ان اللغة البصرية تقيم مع باقي اللغات علاقات نسقية متعددة، ولا أهمية لوجود تعارض بين الخطابين اللغوي والبصري". غير أن "ادموند بيرك" يذكر بان الأختلاف بين الألسني والإيقوني يشكل فرصة لممارسة مهارتين بلاغيتين، هما الذكاء والحكم، ويقصد بالذكاء الخبرة في تقصي أوجه الشبه والحكم يُعنى بأكتشاف الخلافات.
وإذا ما قمنا بعمل مقاربة نظرية سريعة بين الأداتين فسنجد أن اللغة القولية لها القدرة على التجزء وإعادة التركيب للحصول على المعنى، بينما الخطاب البصري تركيبي في الأصل، بمعنى لا يقبل التقسيم إلى عناصر منعزلة أومنفصلة، كما أن التراسل الخطي لمتسلسلات الدوال الألسني ليس لها القدرة على إحضار أكثر من عنصر في ذات اللحظة، بينما نجد غريمتها ترصف عالما كاملا من الشفرات المرئية في اللحظة الواحدة، فهي بحد ذاتها عالم كامل كما وصفها البنيويون آنفا، بالإضافة إلى كونها لا تتقيد بقواعد نحويه كما هو الأمر في الخطاب الألسني، كونها لا تدلل على نفسها، بقدر ما تدلل على الموجودات التي تلتقطها ، فهي دال يتقنع بمدلوله، وهذه النعت هو الميزة الأكثر حضورا في وصف الخطاب البصري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس


.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-




.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو