الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل الشيوعية وهم ويوتوبيا ؟

عبدالرحمن مصطفى

2024 / 2 / 28
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


الفكرة الرئيسية للنظام الشيوعي تتمثل بحكم العمال لأنفسهم دون أن يمثلهم أي طرف سواء كان مجلسا نيابيا أو أي هيئة تمثيلية أخرى،المشكلة بهذا التصور أن تطبيق مثل هذا النظام على نطاق دول كبيرة يبدو مشروعا طوباويا ،في كتاب منشور في التسعينيات بعنوان (اشتراكية السوق نقاش بين اشتراكيين) يرى ديفيد شويكارت وهو من المدافعين عن اشتراكية السوق أن فكرة اقامة مجتمع محكوم ذاتيا بواسطة أفراده لا تعدو أن تكون فكرة طوباوية خيالية ،وهي غير قابلة للتحقيق في حالة المجتمعات الكبيرة ،يمكن تصور هذا النموذج في بلدة صغيرة لكن أن يصوت ملايين الأفراد على كل قرار اقتصادي واجتماعي يعني ذلك أن المجتمع سيتحول الى فوضى وحالة أناركية بالكامل ،وسوف لن يتخذ قرارا واحدا هذا اذا جاز لنا أن نتصور مثل هذه الحالة ،ديفيد شويكارت عالم سياسة أمريكي مؤمن بفكرة اشتراكية السوق ،فالعمال يديرون مصانعهم ويتخذون القرارات التي يرونها مناسبة والمقصد بالعمال ليس الطبقة العاملة بأسرها التي ستتخذ القرارات الاقتصادية في كل مصنع ومؤسسة بل أفراد كل مصنع يتخذون القرارات التي تناسبهم ،في مثل هذا المجتمع سيكون هناك سوق لإن كل مصنع سيتصرف كوحدة انتاجية ويصرف سلعه الى السوق حتى تباع الى المستهلكين ،الأمر مشابه لحالة اقتصاد السوق التقليدي ،لكن الإختلاف هنا بالملكية ،فبينما تكون الملكية في اقتصاد السوق الرأسمالي ملكية خاصة ستكون في اشتراكية السوق ملكية عامة يملكها أفرد المؤسسة والمؤسسات المدنية الاجتماعية لهذا لا غنى عن السوق والسوق فعليا موجود قبل ظهور الرأسمالية كنمط انتاجي ..

كارل ماركس لم يفصل في مسألة طبيعة النظام الشيوعي،لكنه وضع بعض المعالم الرئيسية لهذا النظام ،وهذه المعالم هي في الحقيقة نفي لبعض الخصائص الأساسية للرأسمالية أكثر من كونها معالم واضحة لما سيكون عليه المجتمع الشيوعي ،كمثال إلغاء التمييز بين المدينة والقرية ،وإلغاء حكم الطبقة البرجوازية،وإلغاء العمل المأجور ،والقضاء على تقسيم العمل وبين العمل الذهني واليدوي والقضاء على التنافس بين العمال وخلق اقتصاد الحاجات الخ...
هناك انتقادات عدة وردت من مفكرين مختلفين ومن تيارات عدة على هذه التصورات ،والكثير منها يربطها بالرؤى الخيالية وعدم الواقعية ،بعض هذه الانتقادات تركز على مسألة الطبيعية البشرية وهي نقطة اشكالية مجردة بشكل كبير ،فالرافضون لفكرة الشيوعية من هذا الاتجاه يرون أن النظام الشيوعي منافي للطبيعة البشرية ،لإن هذه الطبيعة تتضمن نزوع الأفراد للتملك الفردي ومعارضتهم لكل أشكال القهر ،من الناحية النظرية يبدو هذا الأمر معقولا ،وهناك أبحاث لفلاسفة مختلفين تتضمن خلاصة نزوع الإنسان للحرية ومن فلاسفة يساريين كنعوم تشومسكي وأن الإنسان لايولد وذهنه صفحة بيضاء،لكن الطبيعة البشرية التي تقتضي أن يكون الإنسان راغبا بالاستقلال ورافضا لكل أشكال القهر يمكن أن تستخدم كسلاح مضاد للإيديولوجيا الرأسمالية ،فالإنسان يرغب في أن يكون مستقلا عن كل أشكال الهيمنة (البيروقراطيين أو الملاك الفرديين ومدراء الشركات) ،فرؤية النقاد الليبراليين لاستحالة الشيوعية من هذه الزاوية تنقلب الى سلاح ضدهم فالمؤسسات الخاصة في عصرنا هذا محكومة ديكتاتوريا من قبل فرد أو مجموعة من الأفراد ،لكن هذا النقد الذي يستند على مفهوم غامض للطبيعة البشرية لايختلف عن الرؤى القديمة التي كانت تبرر العبودية والقنانة من زاوية أن الطبيعة البشرية تقتضي ذلك ،ولا ننسى أن أعظم الفلاسفة في التاريخ كأفلاطون وأرسطو واعتمادا على هذه الفكرة أقصوا معظم الجنس البشري من مملكة الحرية باستثناء الأثينيين ،فنظام العبودية كان مبررا في كتابات هؤلاء الفلاسفة العظام بحجة أن طبيعتهم تقتضي ذلك ..

لكن الكلام عن الطبيعة البشرية لايمثل النقد الأكثر وجاهة للمجتمع الشيوعي ،فهناك زوايا غامضة في هذا النظام ويصعب تصورها ،من قبيل أن المجتمع الشيوعي يقتضي الغاء تقسيم العمل ،ويصعب تصور هذا بأن هناك الكثير من المجالات تزداد تخصصا بحيث يقضي الفرد وقتا كبيرا في محاولة اتقانها ،وعملية تقسيم العمل هي جزء من تطور الحضارة بما تتضمنه من تسهيل لعملية الإنتاج والتوزيع ،وهذه ملاحظة آدم سميث مؤسس علم الاقتصاد السياسي ،فتقسيم العمل هو وسيلة لإتمام عملية الإنتاج بأفضل الطرق وتجنب الهدر والأخطاء مع انتاج كمية أكبر من السلع في وقت أقصر وتقسيم العمل في زمن كارل ماركس كان أكثر التصاقا بالقسيم اليدوي للعمل مع ظهور الالات وما نتج من ذلك من إفلاس للمنتجين الحرفيين بعد عجزهم عن مجاراة الالات ،وبعد أن سهلت الآلات عملية الانتاج وأصبح العمل أكثر سهولة ولا يتطلب جهدا ذهنيا لإتمامه وبذلك يمكن للعامل أن يدخل في أقسام مختلفة في عملية الإنتاج والتوزيع وكارل ماركس طبعا لم يقصد بذلك أن نظام الإنتاج القديم ينبغي أن يعود وأن لا تستخدم الالآت على النحو الذي كان ينادي به الرومانسيون وجميع الأدباء والفلاسفة المحافظين الذين كانوا ينادون بعودة النظام الإقطاعي القديم ،لكن مقصد ماركس أن الإنتاج الآلي يحط من قدرات الإنسان الذهنية ويحوله الى ترس في آلة وهذه كانت ملاحظة آدم سميث أيضا ،لكن مع تطور عملية الإنتاج تطورت أفرع فنية جديدة وازدادت المعارف اختصاصا (المقصد العلوم الطبيعية وما يتفرع منها من معارف تطبيقية وإلا فالعلوم الاجتماعية كان التخصص في كثير من الأحيان معيقا بدلا من أن يكون مساندا في تطورها)
المشكلة الأخرى في كيفية اقامة نظام توزيع بدون وجود سوق ،الفرضية الماركسية الأساسية فيما يتعلق بتطور المجتمعات تتمثل في أن التناقض بين علاقات الانتاج من جهة وقوى الانتاج من جهة أخرى يقتضي ازاحة لعلاقات الانتاج الموجودة حتى ينجح المجتمع في تطوير قواه المنتجة ،لكن المجتمع متطور وحاجاته تخضع لقانون التطور أيضا ،وبالضرورة قوى الانتاج تخضع للتطور في المجتمع الرأسمالي كما يفترض ذلك أيضا في المجتمع الشيوعي وفي أي نظام انتاجي ،وتطور قوى الانتاج يعني ضمنا أن هناك سلع وخدمات جديدة سيحصل عليها الناس ،ومن الصعب تصور امكانية تحقيق توزيع للسلع والخدمات الجديدة دون آلية غربلة للسلع والخدمات الرديئة ودون وجود سوق يصعب تصور اشباع رغبات الناس ،يمكن أن نتصور تنسيقا معينا بين الخطة والسوق فيما يتعلق بإشباع الرغبات لكن السوق ونظام التبادل (الذي يفترض أن يختفي في ظل الشيوعية) سيبقى ..فضلا عن أن فرضية تطور المجتمع انطلاقا من تناقض قوى الانتاج وعلاقاته ؛تفترض ضمنا أن ليس هناك نهاية للتاريخ وهذا مبدأ الديالكتيك ،وتطور قوى الإنتاج في المجتمع الشيوعي يعني أن المجتمع هذا يقتضي تغيرا في علاقاته ...
يمكن أن نتصور نظام توزيع مخطط أو شبه مخطط بعد الرأسمالية ،لكن بعد أن يرتفع المستوى المعيشي للناس ستزاد متطلباتهم وسينفقون أموالهم على حاجات جديدة وذلك يقتضي توسعا في الإنتاج (الدرس السوفيتي حاضرا هنا بعد ارتفاع المستوى المعيشي للسوفييت ،أصبح الاهتمام بجودة السلع والخدمات بدلا من كميتها وهذا ما لم تنجح به نظم التخطيط السوفيتية) ..ومن الصعب معرفة احتياجات الناس وتحديد رغباتهم بفعل أنظمة التخطيط ،لذا سيلعب السوق دورا مهما في هذه العملية ..
أما بالنسبة لإلغاء الملكية الخاصة ،الأمر المهم هنا أن ندرك بأن الملكية لم تعد كم كان عليه الحال في القرن التاسع عشر من حيث حجم الملكية ونوعيتها ،فنظام الملكية في عالم اليوم مختلف تماما عن ما كان عليه الحال في القرن التاسع عشر من ملكيات صغيرة ومحدودة ،وكانت شركات المساهمة آنذاك محدودة ،بالطبع هذا لايعني التسليم بسطوة الملكية الخاصة على المجتمع فهناك مرافق ينبغي أن تلغى فيها سيطرة الملكية الخاصة ،لكن هل من الممكن إلغاء الملكية الخاصة وتحقيق ديكتاتورية البروليتاريا دفعة واحدة ؟ الدعاية الرأسمالية تصور أن الملكية الخاصة أصبحت أقرب للملكية التشاركية من حيث عدد المالكين للمؤسسات الخاصة ،لكن هذا لا يجلي من صورة الواقع شيئا ،فهناك تفاوت هائل في توزيع ملكية الأسهم بحيث أصبح هناك طبقة ال 1 بالمئة التي تستحوذ على أغلب الأصول والأسهم (وهذا التعبير ليس من ابتداع مفكر ماركسي بل جوزيف ستيغلتز الاقتصادي الفائز بجائزة البنك السويدي المركزي المسماة بنوبل التذكارية )
ديفيد هارفي تحدث عن صعوبة تأميم المؤسسات الاحتكارية الكبيرة وإلغاء المساهمة الخاصة فيها ليس لصعوبة اتخاذ القرار بل للعواقب الناجمة عن مثل هذا القرار ،فالشركات الكبيرة تحتكر عمليات التسويق والتوزيع والمعرفة فمن الصعب أن يتم توجيه هذه التروستات في يوم وليلة ..
أما فيما يتعلق بديكتاتورية البروليتاريا، هذه الفكرة نتاج بالدرجة الأولى لظروف القرن التاسع عشر وشكل النظام الإنتاجي آنذاك ،كان هناك مصانع صغيرة ومحصورة في ملكيتها لأفراد وكان هناك تفاوت واضح طبقة برجوازية ثرية من جهة ومن جهة أخرى طبقة عاملة مفقرة ،لم يكن هناك طبقة وسطى واضحة فالطبقة الوسطى كانت هي الطبقة البرجوازية التي أزاحت طبقة ملاك الأرض عن حكم السياسة والاقتصاد ،الطبقة الوسطى هي اختراع القرن العشرين وهي نتاج لتجاوز فلسفة نظام السوق الحر ،لهذا الموضوع الطبقي معقد بعض الشيء وهو ليس بدرجة الوضوح التي كان عليها أيام كارل ماركس ، فهناك الكثير من الأفراد المأجورين الذين يكتسبون دخول أكبر من (رأسماليين كثر) ،فضلا عن أن الطبقة العاملة ليس لها كيان واضح في الكثير من دول العالم الثالث (الأمر لايتعلق بفكرة أن الانتاج المادي لايمثل نسبة معتبرة من الناتج العالمي وفي هذه النقطة هناك تضخيم ومبالغة ) بل في كثير من دول العالم الثالث هناك نسبة لاتقل عن 50 بالمئة أو أكثر من القوى العاملة يمكن تصنيفها على اعتبارها قطاع غير رسمي ، الطبقة العاملة كجهة منظمة ومنضبطة غير موجود الا في دول الغرب والعديد من دول العالم الثالث (كالصين والهند وبعض دول أمريكا الجنوبية ) في العالم العربي وفي أفريقيا ليس هناك طبقة منظمة ،إنما عمال مؤقتين وفي مشاريع وقتية وليست دائمة ..

ختاما ليس الهدف من هذه المقالة نفي إمكانية أي بديل عن الرأسمالية ،فالرأسمالية بلغت حداً من العبث والهدر وتفكيك البنى الاجتماعية وتدمير البيئة ما لايمكن معه أن يكون موضوع مجابهتها وطرح بديل عنها موضوعا نظريا صرفاً فضلا عن أن يكون النقاش في هذا الموضوع نقاشا طوباويا مع رؤى متناقضة غير قابلة للتحقق لا اقتصاد السوق الحرة النيوليبرالي كما هو مطروح في كتب الاقتصاد الأكاديمي موجود ولا الاقتصاد الشيوعي متحقق ،لذلك طرح أفكار من قبيل ديكتاتورية البروليتاريا والديمقراطية المباشرة هي أكثر قابلية للتصنيف ضمن إطار الترف الفكري عوضا عن أن تكون تصورات واقعية لمجتمع المستقبل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الراسمالية الشعبية والعدالة الاجتماعية
منير كريم ( 2024 / 2 / 28 - 19:58 )
الاستاذ عبد الرحمن مصطفى المحترم
كل انواع الاشتراكيات الخيالية والثورية والديمقراطية والتعاونية فشلت في التطبيق لانها استندت على فرضيات وتخمينات لاعلمية
الراسمالية في عصرنا تتطور كراسمالية شعبية
وليس امام الناس الا عقلنة هذه الراسمالية والكفاح من اجل العدالة الاجتماعية التي تنصف جميع الطبقات
شكرا لك


2 - الى منير كريم
جلال عبد الحق سعيد ( 2024 / 2 / 29 - 00:54 )
تقول ايها المنير جدا
وليس امام الناس الا عقلنة هذه الراسمالية
كيف يمكن عقلنة الراسمالية وتحويلها الى راسمالية شعبية
كيف يمكن عقلنة التجار ورجال الاعمال والشركات المتعددة الجنسيات
يعني انت مثلا هل لك محاولات سابقة في عقلنة رجل اعمال وتحويله الى كائن عاقل ويسمع الكلام ويكثر من الصدقات ويكفل الايتام أم ماذا تقصد بالضبط
ومن هم هؤلاء الناس الذين تناشدهم بحرارة . من هم هؤلاء الذين سيكافحون من اجل ماتسميه انت عقلنة الراسمالية وتحقيق العدالة الاجتماعية التي تنصف جميع الطبقات . اي باختصار تحقيق اشتركية الصدقات
والراسمالية الشعبية المزعومة


3 - الاشتراكية الممكنة التطبيق
عبدالرحمن مصطفى ( 2024 / 2 / 29 - 05:17 )
الصديق العزيز منير كريم ..

دعنا نتفق أن الشيوعية يستحيل تطبيقها في المدى المنظور على
الأقل وهي أشبه باليوتوبيا
أما بخصوص الرأسمالية وامكانية اصلاحها ..أنا أرى أن الاقتصاد المختلط الموجه من الدولة هو الأكثر قابلية للنجاح خصوصا في الدول النامية التي تقاتل وتبذل كل ما في وسعها لجذب الرأس المال الأجنبي لكن دون جدوى في أغلب الأحوال ..في مثل هذا الظروف ينبغي أن يكون هناك بديل يقوم بما عجز عنه رأس المال المحلي والعالمي ..هذه التجربة يمكن تسميتها باشتراكية السوق كما هو الحال في الصين مثلا

الرأسمالية غير قابلة للإصلاح ..هناك الكثير من الاقتصاديين والمفكرين الذين يسعون الى اصلاح الرأسمالية بإعادة نموذج دولة الرفاه والسياسات الكينيزية ..لكن في الظروف العالمية الحالية الأمر صعب جدا خصوصا للدول النامية ، فالكينيزية كانت تصلح في ظروف اقتصاد قومي مكتفي بذاته أو شبه مكتفي بذاته في مثل هذا الاقتصاد سيكون للنقابات العمالية سطوة ونفوذ أما في عالم اليوم فالشركات تملك هامش مرونة تستطيع ببساطة أن تنقل انتاجها الى أي مكان في العالم وتضعف سطوة النقابات
خالص تحياتي.

اخر الافلام

.. الجزيرة ترصد مطالب متظاهرين مؤيدين لفلسطين في العاصمة البريط


.. آلاف المتظاهرين في مدريد يطالبون رئيس الوزراء الإسباني بمواص




.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل


.. مراسلة الجزيرة: مواجهات وقعت بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهري




.. الاتحاد السوفييتي وتأسيس الدولة السعودية