الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوثيقة السياسية لجماعة العدل والاحسان والاسئلة العالقة

أحمد بيات

2024 / 2 / 28
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان والأسئلة العالقة
أصدرت جماعة العدل والإحسان - وهي جماعة دعوية/سياسية، ذات مرجعية إسلامية – يوم الثلاثاء 06 فبراير 2024 ما عنونته بالوثيقة السياسية. وقد استقطبت هذه الوثيقة اهتمام الرأي العام، أفرادا وتنظيمات. رحب بها البعض، وتعامل معها بعض اخر بالحذر والتوجس. بينما هناك من رأى فيها تهديدا حالا أو مرتقبا. وقد تعرضت الوثيقة للعرض والتحليل والنقد، وطالت الأسئلة المطروحة بصددها، توقيتها، وخلفياتها، وعناصرها، وأهدافها، وحتى بنيتها اللغوية، وجهازها المفاهيمي.
بدوري وكمساهمة في النقاش، سأحاول في هذه السطور، الاشتباك مع بعض مقولات الورقة السياسية لجماعة العدل والإحسان، ومناقشة بعض عناصرها، وطرح بعض الأسئلة التي أرى أنها لا زالت عالقة.
أين تكمن قيمة الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان؟
الوثيقة السياسية لأي تنظيم سياسي، لا قيمة لها في ذاتها. فالوثيقة السياسية/البرنامج السياسي، بالاضافة الى الورقة المذهبية/المرجعية، والبنية التنظيمية/طرائق العمل، هي من مرتكزات العمل السياسي. وتوفر أي حزب عليها هي من صميم واجباته. وبالتالي فاصدارها في هذا الاطار، هو من باب لزوم ما يلزم. لكن بالنسبة لجماعة العدل والإحسان، فمجرد التوفر على وثيقة سياسية له قيمة كبيرة. فجل التنظيمات الدينية المشتغلة في الحقل السياسي، تستنكف عن طرح وثائقها وبرامجها السياسية. اما لعدم التوفر عليها أصلا، واما لاعتقادها بأن لديها في الدين كل الإجابات المطلوبة. الورقة في ذاتها علامة دالة على امتلاك الجماعة للمقومات الأساسية لطرح نفسها في الساحة كفاعل سياسي قد يحدث فارقا.
تكمن قيمة الورقة أيضا من وجهة نظري، في التحول الذي طال خطاب الجماعة. من خطاب وعظي، تربوي يستهدف الوجدان، الى خطاب ينهل من معجم الحقل السياسي، والحقوقي، والمدني. من خطاب صدامي، يستعمل مفردات كاليسار الجاهلي..الى خطاب حواري. من خطاب مشروط ( المؤمن بالإسلام/ المؤمن بطرح الجماعة)، الى خطاب مفتوح الى كل الفرقاء السياسيين. من خطاب شعاراتي عام، الى خطاب مفصل وشامل. ومن خطاب متردد يحوم حول الحمى الى خطاب مخترق لقضايا بكر. ان هذا التحول الذي طرأ على خطاب الجماعة، يعكس في نظري تطور رِؤية الجماعة، وتطورمقارباتها لقضايا المجتمع والسياسة، وأيضا افادتها من التراكم المعرفي. لكن قد يعكس تطور الخطاب هذا، نهجا براغماتيا اقتضته متطلبات المرحلة ، وتكتيكات السياسة، وفقه الواقع.


لما ذا أصدرت الجماعة وثيقتها في هذا الوقت بالذات؟

لا أعني بالتوقيت هنا، زمن الحدوث، أي الزمن المحدد بالثانية والساعة. كما لا أعني به الزمن الفيزيائي المعطى قبليا. ولكن أعني به الزمن السياسي الذي صدرت فيه الوثيقة. وهو زمن ممتد يؤطر الوثيقة ويشكل خلفيتها التاريخية. وهنا، الزمن قد يقاس بكثلة زمنية ضئيلة، وقد يمتد الى شهور أو سنوات. والزمن السياسي زمن غير محايد، زمن غير مبرئ من شبهة التوظيف والاستغلال، زمن تفاعلي، علائقي، ذو أبعاد ومستويات مختلفة ومتداخلة.
ولا أعتقد بأن سؤال التوقيت، سؤال نمطي، يتم طرحه بحكم العادة والتقليد. ولا هو بسؤال صحفي يطرح من أجل ملئ المساحات الورقية البيضاء. ولكنه سؤال جوهري يستمد فاعليته من مركزية الزمن في الحقل السياسي. فبالاضافة الى اعتباره عنصرا بنيويا في أي عمل، وأي تخطيط، وأي فعل، فانه قد يكون في أحيان كثيرة هو العنصر الحاسم. فسوء تقدير العامل الزمني أو اغفاله، أو عدم التعامل معه بالجدية المنهجية اللازمة، قد يؤدي في أحيان كثيرة الى نتائج عكسية، ويفرغ العمل من محتواه، ويزيغ به عن الأهداف المتوخاة منه.
لم ترم جماعة العدل والاحسان وثيقتها في الساحة السياسية هكذا، كما يرمي صياد قليل الخبرة صنارته في مصيد لم يسبر أغواره من قبل. ولم تصدرها في تقديري في هذا الزمن بالذات بشكل عفوي، غير مفكر فيه. بل لقد اختارت زمن اصدارها بامتياز. أما ايعاز اخراجها الى ترتيبات الشأن الداخلي، أو زمن كورونا، فهو في رأيي كلام اعلامي، يعفيها من حرج توضيح ما لا يوضح في السياسة. فلنبحث عن سبب النزول في مكان اخر.
التابث أن الوضع بالمغرب هو هو من حيث الجوهر، وعلى جميع الأصعدة، والحبل على الجرار نحو المزيد من التدهور. هناك بعض المؤشرات المحلية الدالة -الانتخابات، ضرورة ممارسة التوضيح أمام الحلفاء المحتملين، التحول الذي طال حزب العدالة والتنمية، وما رافقه من ضمور الخطاب الإسلامي المقنع والجاد، واستمرار تطبيع العلاقة مع الكيان الصهيوني ضدا على الإرادة الشعبية – والتي يمكن أخذها بعين الاعتبار في مقاربة زمن الإصدار، لكنها في اعتقادي، لا يمكن التأسيس عليها لاصدارالوثيقة الا جزئيا.
المتغير، الحاكم، في رأيي لزمن التنزيل، هو ما يجري على المستوى الدولي. اختلال موازين القوى ضد الامبريالية الأمريكية وحلفائها وبالتبعية وكلائها، أصبح باديا للعيان. والعد العكسي لانكفاء هذه الإمبراطورية على نفسها، يتجلى في كل الساحات والمجالات، وطال حتى جهازها القيمي والأخلاقي التي صدرته للعالم.
ان التاريخ لا يعرف المساحات الفارغة. فالدول والأنظمة والمنظمات والتنظيمات، وكل التشكيلات الاجتماعية والسياسية مدعوة بحكم سيرورة الأحداث الى البحث عن موطئ قدم، وتحقيق المكتسبات الممكنة والمحتملة في هكذا واقع سيعرف توازنات جديدة، وأحلاف جديدة، وربما سترسم فيه خرائط جديدة. وأعتقد بأن الجماعة التي يضيق بها الحيز الذي تشغله، من حقها أن تتلمس ما يسعها.
المتغير الثاني، هو الانتصار الاستراتيجي للمقاومة الفلسطينية، التي هشمت الصورة الأسطورية للكيان الصهيوني. وعرت حقيقة الحكومات الغربية. وأسقطت الأقنعة من على وجوه العديد من الأنظمة، والحكام، والساسة، والأقلام المأجورة. هذا الانتصار بعد استكمال حلقاته، سيشكل الحافز المعنوي والمادي للشعوب التواقة الى وطن حر. ان انتصار الشعب الفلسطيني في هذه المحطة من حرب تحريره، لا يقاس فقط بعدد الجنود الذين أسروا، ولا بالجنود الذين قتلوا، ولا بالاليات العسكرية التي دمرت، ولا بنوع الأسلحة المستعملة، وانما يقاس بالروح القتالية، بالمعنويات العالية، بالصمود والتباث، بالقدرة الفائقة على التضحية والبذل، بالايمان بالقضية والاستعداد المطلق للتضحية من أجلها. هذه هي روزنامة الانتصار (ميزان الإرادة مقابل ميزان القوى المادي).
الفكر المقاوم يخترق الساحة السياسية الإقليمية والعالمية هنا والان. الفكر المستعد لدفع الأكلاف رغم جسامتها، هو الذي يقول كلمته اليوم. ان عدوى النضال عابرة للحدود. وان الشعوب تصاب بعدوى النضال كما تصاب بعدوى كورونا. وأعتقد بأن جماعة العدل والإحسان، وهي تصدر وثيقتها اليوم، قد أخذت علما بهذا المتغير الذي يمكن البناء عليه، من أجل طرح نفسها في الساحة كقوة سياسية مقاومة.
المتغير الثالث لا يقل أهمية عن المتغيرين السابقين، يتعلق الأمر باللون السياسي القائد لفصائل المقاومة الفلسطينية، وهو الإسلام السياسي. وانتصار المقاومة، هو انتصار لطرحها الأيديولوجي والسياسي، والذي سيعطي دفعة معنوية لكل التنظيمات المشابهة وفي مختلف مواقع تواجدها ( حدث ذلك ابان الثورة الايران، وبالأمس القريب ابان حركات الربيع العربي...) . ان انتصار المقاومة الإسلامية في فلسطين، سيعطي لجماعة العدل والإحسان، جرعة، بل جرعات من الاكسجين، هي في أمس الحاجة اليها، لتتنفس من وضعية الاختناق والاحتباس، التي تئن تحت وطأتهما.
بقي أن أشيرأخيرا، الى أن جماعة العدل والإحسان، قد أبانت من خلال ممارستها، أنها تجيد استغلال "الهنات، والفجوات، و الفرص" التاريخية. فهل ستستغل الجماعة هذه المتغيرات لبناء قوة سياسية وازنة تخدم المجتمع؟ أم أن الأمر متعلق فقط بما يمكن للجماعة أن تكسبه لصالح تنظيمها وتصوراتها؟.
تلكم كانت، تقديراتي التي قد تجانب الصواب، حول سؤال الزمن السياسي الحاضن للوثيقة السياسية، لجماعة لم تكن لتستمر في الوجود، لو لم تكن تعرف متى، وأين، وكيف تتحرك. وعلى أية سرعة تضبط إيقاع حركتها.
ماهي المنطلقات المرجعية للجماعة؟
المرجعية هي ما يتم الرجوع اليه، المرجعية هي الاطار الفكري والنظري المشكل من الأفكار، والمعتقدات، والقيم، والتمثلات الذهنية والسلوكية...، . المرجعية هي البوصلة التي يهتدي بها التنظيم السياسي فكرا وممارسة. وأعتقد بأن سؤال المرجعية، هو من بين أكثر الأسئلة تعقيدا، ان لم يكن هو السؤال الاشكالي الأول.
مرجعية الجماعة، هي المرجعية الإسلامية، وهي الاطار الحاضن للمقولات والمبادئ التأسيسية لفكر الجماعة وممارستها. والجماعة تتبنى المرجعية حسب الورقة السياسية، وحسب أدبياتها، من خلال الارتكاز على مصدريها الأساسيين، القران والسنة الطاهرة، وكذا ما تركه الشيخ عبد السلام ياسين يرحمه الله، من ارث كتابي، وتوجيهي.
ان سؤال المرجعية، هو سؤال الوضوح المعرفي والمنهجي. فهل حققت الجماعة هذا الشرط وهي تحيل على مرجعيتها، أو توظف مقولاتها، أو تنحت مفاهيمها؟
لقد تم التركيز في الوثيقة السياسية للجماعة، على ذكرالقران والسنة، دونما إشارة الى باقي الأصول ( اجتهادات السلف الصالح بمختلف مسمياتها وتفريعاتها)، والتي تعتبر ولا زالت من أساسيات المرجعية لدى جل التنظيمات الإسلامية. فهل يعني ذلك، استبعادا لها؟ واذا كان كذلك، فهل هو استبعاد واعي توصلت اليه الجماعة بالنظر والاجتهاد؟ أم هو استبعاد اقتضته ضرورة المرحلة؟
لقد تم ملأ هذا الفراغ، بتراث الشيخ عبد السلام ياسين، وهو في اعتقادي رجل، ومن سبقه رجال أيضا. يؤخذ أو لا يؤخذ منهم، طالما هي اراء، وقراءات، مشروطة - شئنا أم أبينا - بالبيئة التي أنتجتها، وبالقضايا التي عالجتها، وبالأرضية الفكرية والمعرفية التي أطرتها.
فيما يلي سأحاول التركيز على القران والسنة باعتبارهما المصدرين الرئيسين الذين استقت منهما الجماعة مرجعيتها، وصاغت منهما، أو من خلالهما مقولاتها ومبادئها وشعاراتها.
أ- القران
القران دستور "المؤمنين" كلهم، أفراد أو جماعات، طيبون أوسيؤوا النيات.... كلهم يلجؤون الى القران. تنظيم القاعدة الإرهابي اعتمد على القران لتبرير قتله الأبرياء، الامنين. تنظيم داعش وجد ضالته في القران، لمحاولة بناء دولته بسفك الدماء وسبي النساء والمتاجرة في الرضع والأطفال. حزب الله، جبهة النصرة، تنظيم الاخوان المسلمين، حزب النهضة، الشيعة والسنة. كل الفرق الكلامية والسياسية التي عرفها التاريخ الإسلامي، شكلت مبادئها ومقولاتها التأسيية من القران. بعض اليسار أيضا. حتى نابليون بونابارت تدثر بعباءة القران وهو يستبيح أرض المسلمين، ويسرق خيرات شعوبها.
كل يختار من القران ما يناسبه، وينتقي منه ما سيند به فكرته . لقد تمت قراءة القران، قراءة انتقائية، جعلته مشاعا للكل، للصالح والطالح، لحسن النية واللئيم، للمخلص لقضيته وللانتهازي، للعالم والمتطفل. القران تعرض ويتعرض عن وعي و بدونه، لعملية سطو ممنهجة. منذ فجر التاريخ الإسلامي استعملت السلطة السياسية القران، مرة لاضفاء الشرعية على سلطتها، ومرات عدة لتبرير تسلطها، وفتكها بمعارضيها، وحتى ذبحهم تحت المنابرأمام مرأى المستقبلين للقبلة. عندما تم استدعاء القران الى ساحة السياسة في الصراع على السلطة، وأوتي بالاية، والاية التي تقابلها، كان الحسم للأكثر تطرفا من الفرقاء، والأكثر مكرا ودهاء، وليس للمتشبع بالقران، والعارف بأنه حمال أوجه، وبأنه لا ينطق، وانما ينطق به الرجال. منذ ذلك الحين، تأسست العلاقة المقلوبة التي نسجها المسلمون مع القران. فعوض أن يكون القران هو الجامع، أصبح وجهة كل ذي فرقة. وعوض أن يكون هو الأصل، أصبح فرعا أو دونه. وبدل أن يكون هو الكل، أصبح جزءا. ، وعوض أن يكون ساحة للتدبر، حولته السياسة الى ساحة للتوتر.
ليس للقران قابلية ذاتية لهذا النوع من القراءة، ولكن هي هوى النفس، ونوازع المصلحة، ومطامح السياسة، فصلت كلياته عن جزئياته، وبترت اياته عن سياقاتها، واجتزأته من سياقه اللغوي، والتاريخي، والتواصلي...
جماعة العدل والإحسان في اعتقادي، لم تخرج بعد من عباءة هذه القراءة الانتقائية، الأحادية، وغير المنضبطة معرفيا ومنهجيا. ان انتاج قراءة علمية، تستنطق النص القراني، وتتتبع دلالاته الظاهرة والمضمرة، في سياقاتها المختلفة التي يتكامل فيها اللغوي والدلالي والتاريخي والتواصلي و..، من أجل تجاوز المازق، المنهجية، والفكرية، وكذا الأثر الذي تخلفه القراءة الانتقائية للقران، ليس بالأمر الهين، ولا هو مناط فرد أو تنظيم لوحده. لكن الاعتماد على القران كأساس مرجعي بالنسبة للجماعة، يدفع الى مساءلتها عن الأطر المعرفية والفكرية وعن المحددات المعيارية والمنهجية التي قرأت بها القران، وأنتجت على أساسها مقولاتها ومفاهيمها؟.
ب-السنة الطاهرة
1- هل تقصد بالسنة، كل السنة (القولية، الفعلية، التقريرية، والوصفية؟) أم بعضها؟.
2- هل تقصد بالسنة، كل كتب الحديث أم تقصد الكتب التسعة، أم الستة، أم كتابي الشيخين،أم أحدهما؟
3- هل المقصود بالسنة ما تم انتقاؤه بعناية من كلها أو بعضها؟
4- على أي أساس منهجي اعتمدت الجماعة الأحاديث، التي تشكل عناصر مرجعيتها؟
5- مصطلح "طاهرة": أضفت جماعة العدل والإحسان على السنة صفة "طاهرة" بعد أن وسمتها سابقا بالصحيحة. مصطلح " صحيحة" وان كان يحصر السنة في السند دون المتن، فانه مصطلح اجرائي/معياري، على أساسه يتم تحديد نوع السنة التي يرجع اليها. فماذا تعني السنة الطاهرة؟ أليست كل السنة طاهرة؟ ثانيا هل الطهرانية ذاتية في السنة، أم هي توصيف مسبغ عليها؟. واذا كانت من فعل فاعل، فعلى أي أساس؟. ان مصطلح " طاهرة" مصطلح ملتبس ليس فقط على المستوى المنهجي، وانما أيضا على مستوى حمولته الدلالية، الفضفاضة، القابلة للانكماش والتمدد.
وأخيرا ما نوع العلاقة التي تربط القران والسنة ضمن الرؤية المرجعية للجماعة؟. القران نص متعال/ السنة منتج بشري. القران أصل حاكم/ السنة فرع تابع. القران قطعي التبوث/ السنة ظنية التبوث. ان تحديد نوع العلاقة، وحدودها، ومداها،.. بين القران والسنة تعتبرمن متطلبات وضوح المرجعية لتنظيم يقدم نفسه دعويا وسياسيا.
الى من تتوجه الجماعة بوثيقتها السياسية؟
تؤكد الجماعة بأن "مشاكل المغرب تعقدت وتضخمت لدرجة أصبحت أكبر من أن يواجهها طرف واحد مهما بلغت قوته وحسنت نيته. مما يتطلب حلا جماعيا".
فالجماعة لا تعتبر العمل الجماعي، المشترك، مجرد دعوة تعبر عن حسن النوايا ( المطلوبة طبعا)، ولا هو مجرد تكتيك ظرفي. وانما تعتبر ذلك واجبا فرضه الواقع بتعقيداته وحجم مشاكله، كشرط موضوعي حاكم. وأن التغيير بالنسبة اليها لا يكون "بضربة لازب" وانما هو فعل "جماعي عميق". فما هي الأطراف التي تعنيها الجماعة بهذة الوثيقة؟
تخاطب الجماعة "الغيورين، والوطنيين، والصادقين، والفضلاء، وذوي النيات الحسنة..." وهي في رأيي توصيفات نسبية، تتغير حمولاتها الدلالية حسب تغير الزمان والمكان. كما أن مضمونها مرتبط بزاوية النظر التي من خلاله ينظر الى هذه القيم والمفاهيم . وهي أيضا توصيفات عابرة للحدود. فالغيور والصادق والفاضل..يوجدون في كل التنظيمات، والأحزاب، والمؤسسات، والادارات مهما اختلفت، أو تناقضت مرجعياتها ومواقعها وأهدافها. فكيف يمكن تجميع ما لا يجتمع في السياسة؟ وهل العمل الجماعي من وجهة نظر الجماعة سيبنى على أرضية وبرنامج واضحين؟ أم هو فقط تجميع قيمي، أخلاقي مفتوح على كل "الغيورين..." ؟.
تخاطب الوثيقة السياسية أيضا، التنظيمات الإسلامية ( حزب الأمة والبديل الحضاري). ورغم التقارب المرجعي بين الجماعة وهذه التنظيمات، الا أن هناك فروقا كثيرة بينهما، سواء على مستوى المقاربات، أو على مستوى الشعارات المطروحة. حزب العدالة والتنمية معني أيضا، لكن ليس كجسم تنظيمي، ولكن كأفراد، وكتنظيمات موازية. الوثيقة في رأيي ستلقى اذانا صاغية لدى الغاضبين من أداء الحزب، واليائسين منه، والذين جمدوا عضويتهم.. أتوقع أن تلعب وثيقة الجماعة، دورا حاسما في اكتمال سيرورة تحول حزب العدالة والتنمية الى محض حزب انتخابي.
تتوجه الوثيقة أيضا الى الدولة المغربية، لكن هذه المرة ليس بالنصح والارشاد، ولكم بروح مطلبية طالت " كل شيئ". جماعة العدل والإحسان ترفض المشاركة السياسية بالشروط القائمة. فهل ستعمد الدولة الى تقديم تنازلات في هذا الاطار، وإدخال الجماعة ضمن مربعات اللعب؟ وهل ستقبل الجماعة بدورها أي شيئ مقابل الشرعية؟ أم أنه لا زالت هناك فجوات كبيرة لا بد من سدها؟.
تتوجه الوثيقة على الخصوص الى الفرقاء السياسيين. وهي في ذلك تلمح ولا تصرح، تعمم ولا تخصص. رغم ذلك، فهي تقصد قصدا، التنظيمات السياسية اليسارية ذات النفحة النضالية، والغير مثقلة بعبئ التسيير الحكومي، والتي سبق للجماعة أن تقاسمت معها تجربة العمل المشترك في حراك 20 فبراير، والجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع. فهل قدمت الوثيقة السياسية الى هذا اليسار كل الإجابات المطلوبة؟ وهل بددت كل تخوفاته؟. أعتقد بأن الجماعة قد قدمت في وثيقتها ما يجلي كثيرا من الغموض الذي لازم مطالبها وشعاراتها (الديمقراطية، الدولة المدنية، المساواة، حرية المعتقد، حقوق المرأة والشباب...). بل ان تشخيصها للواقع المغربي، يتطابق مع اليسار المعني في كثير من عناصره. ورغم العوائق النفسية، والتاريخية، والتنظيمية التي يمكن أن تعرقل العمل المشترك بين التنظيمين، أو تحد من فعاليته، فان إمكانات الفعل المشترك أصبحت متاحة أكثر من أي وقت مضى.
الوثيقة السياسية، الرهانات والتوقعات المفتوحة
تقديم الوثيقة في ذاتها تعني رغبة الجماعة، بل عزمها على دخول معترك السياسة في شكله المؤسساتي. وأعتقد بأن الجواب عن كيفية تفاعل الأطراف التي تستهدفها الوثيقة مشروط بتوازنات المرحلة وقراءة كل طرف لطبيعتها.
تعامل الدولة مع الجماعة في المرحلة المقبلة مفتوح على إمكانية الاستعمال الأدواتي للجماعة ( كما استعملت أختا لها من قبل)، وذلك للعب دور خشبة الإنقاذ من أجل انتقال سلس، أو من أجل لجم الحراك الاجتماعي وتسقيف مطالبه.... وهو احتمال مرشح بالنظر الى سجل تحالفات حركات الإسلام السياسي التي عقدتها من أجل إعادة تموقعها السياسي والمؤسساتي.
أما بالنسبة لليسار الممانع، والذي يلتقي مع الجماعة مطلبيا وميدانيا، فان الكرة في ملعبه. وهو مطالب بنقاش مسألة التحالفات في علاقتها بطبيعة المرحلة، وليس فقط في علاقتها بالصرامة الايديلوجية، أوبترسبات التاريخ ومخلفاته المعنوية.
بالنسبة للجماعة، دخول السياسة يعني التعامل بأدوات السياسة من توافقات، ومساومات، وتنازلات، واعتماد الواقعية والحلول الوسطى... فكيف ستوفق الجماعة بين خطاب مستعمل، لأدوات فارغة من أي حمولة دينية أو أخلاقية، وبين خطابها المبني على الدين والأخلاق؟
دخول السياسة يعني القيام بمراجعات نقدية للتراث الفكري والسياسي والمؤسساتي التي تستند عليه. فكيف ستقنع الدعويين، والمتعاطفين مع الجماعة من المتدينين؟ ألن تكون السياسة مقدمة الدخول في مرحلة الارتباك الفكري والنظري التي تسبق مخاض التحول التي تعرفه الجماعة؟.
ان مستلزمات الدخول في السياسة، من المراجعات الفكرية المطلوبة، ومن الخطاب الجديد المراعي لضرورات الواقع ومستلزمات الدولة المدنية. ستجعل الصراع محتدما بين الحرس القديم، والشبيبة المؤمنة بثقافة الحوار والتدافع والواقعية. بين خطاب الدعوة وخطاب السياسة. بين الجمود الفكري والعقدي وبين الخطاب النقدي المقيد بالواقع ومصالح العباد المتغيرة على الدوام.
وأخيرا ألن تكون التصدعات التنظيمية، المصاحبة لهكذا تحول، هو الثمن الذي ستقدمه الجماعة وهي تدخل غمار السياسة؟.
ملحوظة:
بالنظر الى طبيعة المقالة، لم أشر الى أصحاب بعض الأفكار والاراء الواردة بها، ولم أحل على الكتب المستقاة منها. فكل الاعتذار.
اسفي في: 23 فبراير 2024
بعد التحية، أرسلها اليكم من أجل النشر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفاوضات القاهرة بين الموقف الاسرائيلي وضغط الشارع؟


.. محادثات القاهرة .. حديث عن ضمانات أميركية وتفاصيل عن مقترح ا




.. استمرار التصعيد على حدود لبنان رغم الحديث عن تقدم في المبادر


.. الحوثيون يوسعون رقعة أهدافهم لتطال سفنا متوجهة لموانئ إسرائي




.. تقرير: ارتفاع عوائد النفط الإيرانية يغذي الفوضى في الشرق الأ