الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسامه مهران : الشاعر المؤثث بالقلق والتفاصيل

كاظم مؤنس

2024 / 2 / 28
الادب والفن


• أسامه مهران : الشاعر المؤثـث بالقلق والتفاصيل
• صوت لا يشبه إلا نفسه
• أستاذ دكتور كاظم مؤنس

أسامه مهران : شاعر وإعلامي صاحب تجربة حياتية وثقافية واسعة جدا يتميز بطاقات فنية خلاقة ولغة هادئة ..غنية بالصياغات المكثفة، ومخيلة ذات رؤى نافذة مفتوحة على الأفق البعيد، يلغف رؤاه وذاته كشاعرو يتفرد بصوته الجهوري، مسكونا بقلق دائم، مستثار التفاصيل الصغيرة التي تؤثث هذيانه وتؤكد حضوره كحقيقة شعرية لايمكن أن تغيب عن المشهد الشعري، بل تفرض نفسها على مستويات عدة من خلال ثلاث مجاميع صدرت مؤخرا لأسامه مهران تتعانق مع ثيمات ذاتية وموضوعية تغترف من مخيلته ورؤاه الإنسانية الصافية ما ينبض بالحقيقة والحلم فترهن قصائده لأسلوبية فاتنة رشقة على مستوى عال من التعالق الجمالي والتعبيري في نصه الشعري .

:البناء اللغوي:،
ومهران في رصفه لنص القصيدة ينجرف في شاعريتها و موسيقاها فلا يرهق جسد النص ، ولا يستفيض بطولها واتساعها بل يترك القصيدة، مُناسبة تأتي بسلاسةٍ على قدرِ طول الموضوع الذي تتمحور حوله فلا يُنهك اللغة ولا يضعف بنيتها وتراكيبها، ولذلك فمساحة الصورة وإضاءتها السريعة في الغالب تأتي متسقة مع مساحة إنفعال الشاعر والتماعة هاجسه الشعري كما في قصيدته " محنة منتصف الليل :
رُحماكَ
يا شيطان النومْ
يا آخر منقلبٍ
في أوراق اليوم
قد تأتي
أو لا
تأتي
لكن لا تتمنع
كالقط الضال المتخفي
وعادة ما ينطوي النص الشعري على أجزاء من عنوان القصيدة لدى مهران، وينسل فيها على شكل تكرارات تتجلى بصورة لازمات منتظمة ذات إيقاعات بنائية متواترة تظهر بعد كل لازمة لتصبح منطلقا يقوم بمهمتين الأولى أن يتظافر مقطعيا مع الوحدات الأخرى في الترتيب والثاني حاضنة لقصائد ضمنية أو مقاطع عنقودية،وبمجوعها لا تشكل الفضاء العام لنص القصيدة فحسب بل هي ايضا الوحدة الجوهرية في القصيدة ويتجسد ذلك بوضوح في العديد من قصائده في مجموعة " لا ينتظر الورد طويلا في الشرفات" ونسوق هنا على سبيل المثال قصديته الرائعة " رحلة في ملكوت الأب" :ـ
في غمضة عينٍ
رحل ألأب ْ
بسرعة عصفورٍ أنهكهُ
نبضُ المشوار الصعب ْ
أنطفأت ضوضاءُ الشارعِ
إيذانا بترجل شعبْ
كان الأفق مليئا بشظايا محترقة
وعذاري منتحرة
وبقايا منتشرة
وغنائم حرب ْ
وتتوالى القصيدة مبحرة في نسقها المتواتر فتواشج بين النسغ والنسغ يغذي بعضها البعض فتستحيل القصيدة إلى سوناتات موسيقية تنكشف على إنفعالية ذاتية طاغية :ـ
بعد عناءٍ
هبط العصفور ُ
على آنية الماءْ
ارتشف القطرة َ تلو الأخرى
هبت سيدة المنزل مسرعة ً
هرب العصفورُ
من النافذة الصغرى


والدارس المتأمل في شعرأسامه مهران يمكن أن يتلمس بوضح جلي صوتا مهما، يتسم بالنضج والإدراك الواعي لفهم وإنتاج تراكيب لغوية تميز نـَفسَهُ الطويل في تحرير قصيدته من قيودها وطوفانها في فضاء واسع من الثيمات المتجاورة والمتظافرة في نصه الشعري،فضلا عن تحكمه الواضح بمعجم أدواته اللغوية المسخرة لتركيز أسلوبه الشعري وتحرير أقصى طاقة تعبيرية وجمالية كقوله في قصيدته " ظرف مكان " من مجموعته الشعرية : لاينتظر الوردُ طويلا في الشرفات ) التي نتعرض لها هنا بما تسمح به مساحة هذه الصفحة الكريمة :ـ
بكيت على معبر ٍ من دماء ْ
وجدت شبابا بعمر السماءْ
يغرد في عنفوان بطيء
ويصعد في الأفق وسط الصخور ْ
لينقذ شيخا ضريرا
وينسى الطيورْ
ثمة مشهد مؤثث باللوعة مسكونا بالقلق مشحونا بالإنفعالات والإنكسارات، تلك خاصية تسري في أعلب قصائد مهران تتفاوت في حدتها ودرجاتها لكنها، تلامس هاجسه الشعري لتثور في مجمل قصائده كيانا خصبا يتشيء بأسلوبٍ متفرد وصوت ينبض بالجرأة فتنكشف قصيدته على موسيقية آسرة تتواشج مع رؤية شعرية خالصة إزاء العالم والوجود ، ومن نفس القصيدة يتجلى بوضوح قلق الشاعر فيتساءل بصوت صادح "لماذا ولماذا تغير هذا الوطن " عبارة يستهل بها القصيدة ويكررها كمتلازمة، يبحر عبرها من مقطع إلى آخر عساه يتلمس الأسباب فيطل من نافذة الجرح، ينقب عن أفق ناصع، يتلمس فيه أجوبة لتغير الوطن وتوحش طير السنونو ؟
لماذا توحش طير السنونو
وصار النخيلُ بنادق ؟
لماذا تحول هذا الوطنْ
لأكياس رملٍ
وبعض خنادق
أسئلة مهران هي مصادر قلقه المستعر بمرارة التوحش والإنكسارات ليس في هذا النص فحسب بل في العديد من أشعار المجموعة البالغة واحد وثلاثين قصيدة كالتي وقفت على عتبة عنوان المجموعة :
أيقنت أخيرا
أن الورد المترامي قسرا
والشوك المتعثر دهرا
في النبضات
ينطلق أخيرا
في معصم سيدة ٍحافية القدمين
أو في سيد قوم معصوب العينين
أو في عبوات
لا ينتظر الورد ُ طويلا
في الشرفات
أن ثمة علاقة ترابطية وصميمية بين الصيغة التشكيلية وما تثيره من إنفعالات وأحاسيس عاطفية، حيث تتقنع القيم التعبيرية دائما في أعماق التعبير اللغوي وهي ميزه أو خاصية ثابتة في لغة مهران الشعرية، فليس من السهل القبض على معاني أسامه مهران لأنه يغور عميقا في تفاصيل قصائد عنقودية مما يجعل من طبيعة البناء الصوري حاضنة لمنظومة من الأفكار المتواشجة والمتظافرة مع أفكار أخرى تحايثها ولا تهيمن عليها، ولذلك فالقصيدة بأبياتها وصورها تفصح عن إحساس الشاعر وقوة نظمه وهي كلما كانت كذلك، كلما أكتسبت عمقا دلاليا وجماليا يستدعي إثارة الذهن والخيال لدى المتلقي:ـ
صممت بلادا
بجميع الطرق المنزوعة
من بنيان
مجهول الأرضية
هل قيدت مكانك
هل سرجت حصانك
وتحسست الأغلال الصدئة
في أحضانك أو جربت خطايا شخصية ؟
لا شيء يعذبني غيري
لاشيء يقربني من
غوغاء المشهد
فجميع الرفقة مرتحلون
إلى الطوفان الأبعد
منتظرون على كرسي مجهد ْ
وتتجلى لوعة مهران بأجمل صور الوطنية في قصيدته " والله زمان " عن وطنه، حيث يتوحد فيه ويتلبسه كثوب راهب ذاب في عشق أبدي يسكنه كمثقال الذرة في الأحشاء يتكامل فيه ويحلق نحوه ولو من دون ريش وجناح مقصوص :
أسكن حيرتك
واستجوب أحوالي
واشتت فيك
المشتت من أنحائي
أقتبس النور الطالع منك ِ
واحزم أمتعتي
واحلق نحوك
بجناح مقصوص الريش
بآخر جزءٍ
من أجزائي
مهران شاعر متمكن من قصيدته يحتفي بها ويخالطها بثقافته الواسعة، فيضفي على الكلمات شكلا يرتبط جدليا بمضمونه، فيستوعبه ويتسع له في إطار حالة من الإتساق الهارموني، فلا يتقدم أحدهما على الآخر، بل يتحايثان و يتوازيان بقدر كاف باعتبارهما كيانا عضويا واحدا يطبع مجمل فضاء القصيدة . كما في قصيدته " كتاب للأزمنة الجميلة "
أيتها العصفورة انطلقي
من لحظة على الغصن
لتأخذ الأشياءُ أشكال البكاء
ويأخذ البكاء اشكال الوطن

لعل ابرز ما يميز مجموعة مهران أنه لا يمارس عملية مشابهة الواقع فنيا ، بل يسعى بجد إلى إنتاج واقع جديد بشروط الشاعر، واقع لا ينغلق على إنموذج ما، بل واقع ينفتح على عالم واسع يتمرى في أعماق الشاعر ويتجسد في تهويمات حلمية ، يتأسس ذلك على رفض واقعه الوجودي وقد يتمادى فيرفض حتى إنسانه فيه ، فالعالم من حوله مرآة لغابة تأكل نفسها وتخيط قميصها على قياسها لستر عورتها. كما في قصيدته "دعوة للخروج" :
الناس اليوم ملامح
الكل شبيه بالإنسان
اللص – الذئب- المهر الجامح ْ
وجه الأحزانْ
أغلقُ مجلسنا عن هذا العالم
حتى لا أشعر َ بالغثيان
لا تجعلني أرفض فيّ
حتى الإنسان ْ
في عالم مهران يتحرك ويحيى الجامد والمتعارض، فهو بهي جميل في وصفهما وتوظيفهما، فارا لا يستكين لسطوة أو وصاية، بهذه الروح الوثابة تتأجج حواس الشاعر وتلتهب كلماته جمرا متقدا بالإنفعال والمشاكسة ففي قصيدته "جسد ":
امشي
ساعة الموج تجرد أبنية الرؤى
وتذيب ُ الأرض تحتي
امشي
تجرفني البقاعُ وأنسدُ
فلا تدخلني النساء
وتتواصل القصيدة في حسن بناءها وجمال صورها متنامية متواترة، وصوت الشاعر يتعالى كغيث في رماد مخبأ، ينتفض بالحلم كي، لا تُقطعُ أوردة الفرح المغطى :ـ
لا أسمع الناس تمشي
أسمع أن الأماكن تمشي
وأن المقابر تمشي
وأني أنا لا أسيرْ
تتشرد تحتي الضفاف ْ
تتبعثر فوقي السماء ْ
يتساقط بُعدُ المدى
فأخاف ْ
أصوات مهران :ـ
إن منطق النص الشعري هنا لايتحدد بالأقتصارعلى التعارضات الثنائية بقدر ما يعادل قوة ( صوت) الشاعركونه القائم بالاتصال، وسيصبح منطق النص أقرب إلينا عندما ندرك بأن المقطع الشعري لدى الشاعر حمال أوجه: من حيث تعلقه أساسا بطرفي المعادلة، كما أن رصانة القصيدة والتكثيف الشديد الذي يمارسه مهران في نظم القصيدة، إنما يرتكزان على كبت هذه الثنائية من الولوج إلى السطح .ولأنها كذلك فهي بنية تمتلك تعددية صوتية، فالقصيدة لديه متعددة الأصوات وأن بدت صوتا واحدا من الخارج، والصوت ينطوي على صوت آخر في داخله، والآخر هذا نجده ينسل تدريجيا وخفية في وعي الشاعر.ليصبح من وحدات بناء القصيده كما في " ظرف زمان " :ـ
العمر تناثر في أوراق الدفتر ْ
كان نهارا أخضر ُ
يتدلى من أعناق الفتية
ويثبت أكثرهم فهما في الإبحار ْ
ثم ينتقل الشاعر من صوت الراصد الذي يشرف على كامل فضاء القصيدة، إلى ممارسة لعبة توزيع الأصوات من زوايا رؤيوية مختلفة، ولن يتوانى الشاعر بين مقطع وآخر من تقمص دور السارد العارف بكل شيء، فلا تخفى عليه لواعج الأصوات الأخرى التي يسند لها أدوارا مختلفة ، كما في المقطع الآتي: حيث يكتفي برؤية محايثة لما تقوله الحسناء، فيتحول صوت الشاعر إلى شاهد عليها :ـ
قالت حسناء الساحة :
لا أرغب في أي حوارٍ لايطلقه الفرسان ْ
لا أرغب في أي حوارْ
وانصرفت تحت عيون الحراس ْ
وانبطحت في الدَرج الأسفل ِ
خلف الأسوارْ
وميزة الغياب والحضور واستبدال وتلون صوت الشاعر هي لعبة مهران المفضلة في الخفاء والتجلي يمارسها في أغلب قصائده إن لم نقل كلها بالذات تلك الطويلة منها، إذ سرعان ما نجد بأن صوته المنكشف ظاهريا، ممتزجا مصهورا في صوته المراقب الناقل، لذلك فأن نصه الشعري لا يقتصر على التواصل كونه الأداة أو الوسيط الحركي الذي تتقاطع فيه الأصوات وتتبادل أدوارها فحسب، بل هو منظومة للتلاقي، وقصائده تدفعنا إلى الاستبصار بواسطة الصورة التي تنطوي على صورة أخرى، كونها حاضنة لتعددية صوتية متناغمة ومتداخلة، الأمر الذي يفيد في إطالة القصيدة وأنفتاح فضاءاتها للتعبير عن كل الذي يتمثله الشاعر داخل خطابه الشعري ويرغب في قوله، ويتجلى ذلك بكل وضح في القصيدة السابقة الذكر " ظرف زمان " : .......
ما هذا المستلقي في رحم الأوثان ْ
هل يتكونْ
مثل الكون
ومثل اللوم
ومثل الإنسانْ ؟
ثم سرعان ما يتخلى الشاعر عن صوت الراصد متحولا إلى صوت الأنا:ـ
كنت كمثل صديقي التائه ِ
في الميدان
أتحدث عفوا
عن زمن ٍ
يخرج من أوديةٍ
من أزمان ْ

وهو أمر يقترب كثيرا لما يسميه باختين بالنص المونولوجي، والمقصود به هنا أن يكون نصا تنصهر فيه التعددية الصوتية إلى حد ما لصالح الأستحواذ الآيديولوجي، كون الهدف الأساسي يتجسد بالرسالة التي يبغي الشاعر نقلها وليس بالكيفية التي يُشيئُها فيها، ومع ذلك فمهران يهتم كثيرا بصياغة سوناتاته الإيقاعية مركزا إنتباهه على الكيفية البنائية والموسيقية للقصيدة أكثر من اهتمامه بالحبكة، بيدَ أنه يبدي قلقا كبيرا وحرصا شديدا في أغلب قصائده على أن تنتهي القصيدة بما نسميه بدهشة الشعرالتي تصدم المتلقي بركوزها المشحون بأقصى طاقة من الإنفعال الصادم للإحساس، على سبيل المثال قصيدته " وجدان" :ـ
لم أصنع من بعدك أقواما
تتشتت في حضرة من فيه
لم أنجح في فك طلاسمك
ولم اسبر أغوار التنبيه
فكلانا مخلوق يتمنى
وكلانا من دون أمانيه
ونختار من قصيدته "حالة حرب " حيث يمكن ملاحظة تنامي الصورة الشعرية بالحفاظ على إيقاعها الموسيقي الجميل في مقطعها النهائي :ـ
غيرت ملامح وجهي
مرة
أكثر من مرة ِ
وحصدتُ جوائزَ بالعشرات ِ
لكني لم أعثر عن وجهٍ يرضيني
يحميني
أو يكفيني
شر مهاراتي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو


.. في عيد ميلاد عادل إمام الـ 84 فيلم -زهايمر- يعود إلى دور الس




.. مفاجآت في محاكمة ترمب بقضية شراء صمت الممثلة السابقة ستورمي