الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هواجس في الثقافة مقتطفات 77

آرام كربيت

2024 / 2 / 29
الادب والفن


لن يكون لدينا فنًا، أدبًا حقيقيًا، فيه إبداع إذا كانت أظافرنا مقلمة لا تقوى على الصعود.
إن خشونة الأظافر أكثر من ضرورية، من أجل تمزيق الصورة النمطية والذهنية لما هو مألوف ومكرر في حياتنا.
إن العلاقة بين الأظافر والحرية النابعة من الذات المتمردة، هي التي تستطيع أن تبدع وتكسر جدران الصمت والقيء.
ولأننا مؤدبين، خجولين، مقموعين ذاتيًا، لهذا فإننا ما زلنا نحاول أن نتعربش على جدران الأمل.
عندما نصل إلى الوقاحة المقرونة بالصدق الداخلي، وقتها سنكون مختلفين عما نحن عليه في زمننا الحالي.

في الأرض المسرة ـ مقطع
أمسك الكمنجة يا ولدي وأعزف، لنجن قليلاً، لنخرج من غيبوبتنا.
دع عنك الوعي، والتصق بالروح والأفق، لنرقص، لتشاركنا هذه البراري العذبة والأنهار العظيمة.
الألم ذاته سيحابينا، ولتنهض الرياح والنار من غفوتهما ويتحررا من القيد، قيدنا ونطير معاً.
مرات كثيرة، كنت أهيم مع نفسي، أجلب الدودوك وأعزف، أخرج روحي، يأسي، قلقي، كأمرأة وإنسان، وأضعه في فمي. أنفخه ثم أنفثه في هذا الناي. عندئذ، تتبدد عني الكآبة واليأس وتقلب المزاج. وعندما أشعر أن الدودوك فرغ كل الكبت الساكن في داخلي أتوقف عن العزف.
لا زالت هذه اللوثة في عقلي، أنشد العيش مع الرموز لافككها من حمولتها. كل ذلك هو إغواء وغواية وتجربة.
ـ أنت أبنة أبيك. الشيطان.
ـ الشيطان؟
ـ أقصد، الشيطان ساكن في عقلك.
ـ إحدى المرات، نزلت برفقة والدي الى الشارع الموحل. المطر يزداد خفوتا. رائحة غليونه يعبق في الجو، يختلط بهواء البحر والأشجار الراقصة. تركنا والدتي في سريرها، في انتظار موعد ذهابها إلى المدرسة لتعلم طلابها دروس الموسيقى والرسم والنحت.
وقفت إلى جانب والدي، نتأمل البحر والموج والمراكب المبحرة. وأصوات الباعة الجوالة. ومرت بالقرب منّا العربات التي تجرها الخيول. وفتاحي الفال والغجر، والرحالة. الهواء الرطب يعبق في الهواء، يحمل معه رائحة البحر والأسماك وعدم الاطمئنان!
مسك والدي بيدي وركض. ركضت وراءه، بيد أني لم أكن أعرف لماذا هذا الانزياح عن المكان. اعتراني الخوف. سألته:
ـ ما بك أبي؟
ـ خطر في بالي لحنًا عن رائحة البحر والأسماك وعدم الاطمئنان!
ومضى يرقص في الشارع طربًا. يداه ترتعشان وقدميه وشفتيه. قلت:
ـ دموعك مدرارة يا أبي. كفكفهم.
لم يسمع. جال ببصره حول المكان. عدنا بسرعة إلى البيت، حجرة البيانو في الزاوية، الدودوك معلقا كمزمار الزمن المدلى في الواجهة. الكرسي الهزاز، اللوحات الفنية التي رسمها والدي ووالدتي. وبعضها الآخر، تم جلبه على أثر رحلات جدي الغني، إلى الصين والهند. المكتب، النوتات الموسيقية المبعثرة على الطاولة، الدفاتر والكمنجة والأقلام.
ماذا حدث؟
ـ أراد أن يدون السماء على الأرض، أو الأرض على السماء، يسرق منهما ما تختزنه من ألوان.
ابتسمت قليلًا.
ـ عليك نور يا فاركيس. لكن، رجاءًا، لا تقاطعني.
ـ أردت تذكيرك، ليس إلا؟
خمنت أن كفيه بدأتا تتشنجان:
ـ ما بك يا أبي؟
لم يعرني أي اهتمام. راح يدون كل ما جال في عقله، بنزق وسرعة. كان وجهي ملتصقًا بالنافذة في انتظار المراكب القادمة أو الراحلة. شعرت أنه نسى العالم كله، وتوحد بشؤونه وأفكاره، وامتزج بالزمن كله.
لمحت أنه مشغول:
ـ دعيني.
خفت عليه:
ـ أبي، ما بك؟ أراك على غير عادتك؟
ـ هدئي روعك.
كان إلمامه واهتمامه ودراسته منصبًا على الموسيقى القديمة. مددت كفي بحنو إلى ستارة النافذة.
ـ اطمئني، غدًا سيبان كل شيء.
كنت مستلقيًا على فراشي اتابع الحديث، واضعًا رأسي بين أصابع يدي، ومستندًا عليهما.
تسري القشعريرة في صدر فاركيس:
ـ أليس لقاءنا اليوم جميلًا، فتح لنا الأفاق أن نقول ما يجول في دواخلنا من هموم. أقصد أن نعرف المزيد. إنه يوم جميل جدًا، لا يتكرر في العمر كله الا مرة واحدة. فتح لنا شهوة الفرح والتفكير الحر.
تستدير نازلي رأسها فجأة دون أن تعر كلام فاركيس أي انتباه:
ـ هل كان والدك خارج سياق الزمن؟
تطاطأ رأسها بالنفي. بيد أنها تلح:
ـ أراك مكتئبة منذ فترة، وبالضبط منذ اليوم الذي دخل عبد الله المشفى. ما زلت أتساءل ما الذي جعلك هكذا؟
ـ إني أتالم بسبب أوضاع بلدنا ووطننا. مصيرنا مربوط بمصير الناس جميعهم. إننا بشر من منبت واحد.
ـ دعينا من موضوع المنبت والناس والحكومة والحرب. لقد تعبت وقرفت منهم. لنبقى في الحديث عن والدك الذي تتحدثين عنه. ما الذي يقلقه؟ ربما يهرب من الملل؟
ـ أنت مخطئة. الأمر لا يتعلق بهذا الجانب. لقد صادفت الكثير من الناس بيد أن لا أحدًا يشبه والدي.
يتأمل:
ـ شغفي يا أبنتي سيلفا، أن أعرف أسباب وزمن نشوء الفرق الموسيقية ومسيرتها التاريخية وعلاقتها بالآلهة والمعابد والمرأة والملاحم والمسرح والرقص والرسم والنحت. درست الأوزان الموسيقية، زمن ظهورها، تشكلها. الألحان القديمة، الألحان المعقدة بكتاباتها وعلاماتها. الأبجدية الموسيقية وتاريخها وتاريخيتها، المقامات الموسيقية. زمن دمج الموسيقى المحلية بالعالمية، الأغريقية والرومانية والبيزنطية، العربية والسريانية والكردية والفارسية والتركية والأرمنية.
ـ الا تتعب؟
ـ إنني أبحث عن علاقة المسرح والشعر والملحمة والموسيقى ببعضهم. أكاد أقول، الإنسان مصنوع من رموز وإشارات، من خلالهما، يخفي عريه وعيبه، هزاله وضعفه. تفكيك هذه الرموز، يفسح لنا المجال لدخول الحياة ومعرفة الواقع. الأدب والفن يفككان العيب الإنساني، يعريان الرموز والإشارات الخفية.
وقال لي في إحدى الأمسيات:
ـ أريد أن اكتشف من خلالهما، الحقائق المدفونة في عمق الحياة. نعري المخفي. نعري السلطان من رموزه حتى يبان على حقيقته كإنسان، ضعفه وهزاله وعريه.
ـ خفض صوتك، للحيطان أذان كما يقول المثل.
وأضافت سيلفا:
ـ تبقى نظراتي معلقة على البحر، زرقة السماء، رشاقة النوارس. أرى والدي يشهق، ويدخل الهواء إلى أعماق صدره
يسرح بخاطره:
ـ إنه جميل، بشوش هذا الماء المالح يا أبنتي. يسقينا رشاقة الحياة ودفق الموج، وأرى من خلاله أحذية الجنود. طرابزون حيرة القاتل، نصل سكينه.
دون قيد أو تحضير مسبق، قلت:
ـ آه، يبدو أن والدك رجل حالم جدًا. ويسكنه الهاجس الوجودي! إنه خارج الواقع، محلق في ترانيم نفسه..
تقطع سيلفا الحديث:
ـ إنه حالم يا عبد الله، بيد أن هاجسه المعرفة.
تستدير نازلي فجأة نحوها.
ـ كلامك صحيح. إنه رقيق، حالم، مثل شجرة البرتقال والنارنج والليمون. أليس كذلك؟
ـ لدي حدس، شيء ما، سيعكر علي حياتي، لا أدري كنهه. شيء ما سيقع في موش وطرابزون ووان وأردهان وديار بكر وسيواس. هذا لا علاقة له بالامزجة وتقلب وجه الريح.
تتدخل نازلي. وبنزق:
ـ فال الله ولا فالك. إنك تثقلين على نفسك وعلينا.
ـ على مقربة منه، يشير دائمًا إلى لون الذبول والألم وزهر البنفسج. يلتفت. يصبح عقله ممزوجًا بالشرق وسحره، ويميل إلى الهدوء والسكينة. كنت إلى جانبه عندما قال بغصة:
ـ دائمًا، المراكب العظيمة، تشيخ وتموت.
ثم غرقنا في التأمل مرة ثانية بعد هذا الحديث. فاحت من الأرض رائحة مطر هارب. نغل الربيع عميقًا في قلب الطبيعة. ومن خلال النافذة المفتوحة، في ذلك الزمن البعيد:
ـ أنظر، هناك، على مقربة منا، ثياب صبايا مغتصبات.
بيد أنه لم يعر كلامي أي اهتمام. رومانسيته، حبه الجارف للإنسان جعله لا يهتم.
صوت استهزاء نازلي جاء صاعدًا.
ـ أخشى أن أكون قد فهمت..
كانت سيلفا في نشوة، لم تسمع صوت نازلي.
ـ وبين الفينة والأخرى، كنا نهرع أنا وأمي من الفراش، نستيقظ من النوم مذعورين على صوته وصراخه. نركض إلى غرفته حيث يكون. نراه منهمكًا في عمله. ندرك أنها لحظة القشعريرة الموجعة. الاكتشاف. نقترب أكثر فأكثر من غرفته ونخطو. نمد خطواتنا على رؤوس أصابعنا مخافة أن نرى ما لا تحمد عقباه. وعندما نراه يبكي ويضحك نعلم أنه بخير وأن هناك شيء جديد، مولود جديد في طريقه للحياة.
قلت له:
مسرح جديد أم معبد!
ـ مدينة جديدة مخبئة تحت الرماد بالقرب من ديار بكر. وجدتها، إنه تاريخ الإنسان. من الأن فصاعدًا أصبحت متيقنًا عندما نريد أن نبعث شيئًا مهمًا، علينا أن ننقب تحت الأرض.
وأضاف:
الحرية تحت الأنقاض.
ـ ولماذا كنت مهمومًا طوال الليل؟
أرد أن يهرب من أسئلتي، من إلحاحي:
ـ مجرد كابوس، أثقل علي الليلة الماضية.
راودته في الحال فكرة:
الفلاح هو أكبر مبدع، علينا أن نتعلم منه. الأرض الذي يقف عليها تتمثل أمام عيني كمكانٍ مقدّسٍ للفن، الأغاني، الدبكات، الزغاريد، المحراث والمنجل والأحجار.
ـ هذا الذي يشغل بالك؟ المقدس.
ـ وهل المقدس موضوع سهل؟ إنه الغواية التي تطيح بعقل الإنسان وتقذفه في عمق المجهول.
شعرت بالاختناق. أغلقت الباب ورائي، ومشيت. أردت أن التصق بالمدى والضوء. التفت ورائي، كان والدي غارقًا في الكتابة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عادل إمام: أحب التمثيل جدا وعمرى ما اشتغلت بدراستى فى الهندس


.. حلقة TheStage عن -مختار المخاتير- الممثل ايلي صنيفر الجمعة 8




.. الزعيم عادل إمام: لا يجب أن ينفصل الممثل عن مشاكل المجتمع و


.. الوحيد اللى مثل مع أم كلثوم وليلى مراد وأسمهان.. مفاجآت في ح




.. لقاء مع الناقد السينمائي الكويتي عبد الستار ناجي حول الدورة