الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-الآلهة عطشى-: رائعة أناتول فرانس في الذكرى المئوية لرحيله

شيماء الشريف

2024 / 2 / 29
الادب والفن


يحتل أديب نوبل أناتول فرانس (1844-1924) منزلة رفيعة في تاريخ الأدب الفرنسي والعالمي، وتحل هذا العام (2024) الذكرى المئوية لرحيله، والثمانين بعد المائة لميلاده، وقد سطرت أعماله الخالدة اسمه بحروف من نور في تاريخ الأدب الإنساني، فهو مبدع "تاييس" و"جريمة سيلفستر بونار" و"ثورة الملائكة" وغيرها من التحف الروائية الممتعة.

وفي إطار ما يحدث في العالم حاليا من صراعات، نجد أنفسنا نتذكر أصداء وجوانب الرواية التاريخية البديعة: "الآلهة عطشى" التي نشرها فرانس عام 1912، وهو بهذا العنوان يصف – من وجهة نظره – رجال الثورة الفرنسية الذين نصبوا أنفسهم آلهة وتفرغوا لمحاكمة الآخرين، ثم أخذوا يتقاتلون فيما بينهم لا ترويهم بحور الدماء المراقة، فصاروا "عطشى" للدماء لا يرتوون أبدا.

تدور أحداث الرواية في 29 فصلا في الفترة التي تقع بين عامي 1793-1794، وهي الفترة التي تمثل جزءًا مما يسمى تاريخيا بسنوات "الرعب" التي تمتد تقريبا لأربعة أعوام في تاريخ فرنسا، وسنوات "الرعب" هي تلك التي حكم فيها ما كان يسمى مجلس "الاتفاق الوطني" الذي كان مكونا من الفريقين اللذين قد انقسم إليهما الثوار: المونتانيار وهم اليساريون المنحازون بشدة لمبادئ الجمهورية، والجيروندان وهم المنحازون إلى مبادئ الجمهورية أيضا، ولكنهم لاختلاف توجهاتهم الفكرية والسياسية، ورغم أنهم كانوا يمثلون أغلبية المجلس، إلا أنهم اختلفوا فيما بينهم وبدأوا يناقضون مبادئ الثورة حتى أنهم أبدوا مرونة فيما يختص بعودة الملكية وضرورة كبح جماح الثورة والثوار! مما أدى إلى اعتبارهم لاحقا من أعداء الثورة!

وتطورت الخلافات الحادة بين الفريقين إلى الاقتتال، وكانت النتيجة عشرات الآلاف من المعتقلين والقتلى، منهم رموز الثورة نفسها، ومنهم من عموم الناس حينما انتشر التناحر والاقتتال انتشارا محموما في فرنسا. حدث كل ذلك بعد إسقاط الملكية، وإعلان الجمهورية، وإعلان ميثاق حقوق الإنسان والمواطن، وإعدام الملك والملكة وحاشيتهما وأعوانهما على المقصلة!

بطل الرواية الرسام الشاب "إيفاريست جاملان"، من المتعصبين لتطبيق المبادئ المثالية للجمهورية، وهو ذاته شاب مثالي ينتهج الفضيلة ويكره الظلم والقهر، وهو ينتمي إلى "نادي اليعاقبة" الذي كان يترأسه "روبسبيير"، ويحمل "إيفاريست" كل الاحترام لرجال الثورة الكبار "روبسبيير" و"مارا"! ولابد أن نذكر في هذا السياق أن "مكسيميليان روبسبيير" كان رمزا من رموز الثورة الفرنسية، وعندما ازدادت شعبيته وصدقته الجماهير واعتلى أعلى المناصب، بدأ في تصفية جميع معارضيه تحت مسمى أنهم من أعداء الثورة! فتآمر عليه "باراس" – وكان أيضا من رجال الثورة – وتم القبض على "روبسبيير" وأعدم على المقصلة عام 1794 وسط هتافات الجماهير التي كانت منذ وقت قصير تهتف له وتتأثر بسحر خطابه البليغ! وانتهت بإعدامه سنوات "الرعب" كما انتهت معه مجموعة "الجيروندان" وتفرقت بين هارب ومعتقل ومقتول في مواجهات أو على المقصلة! أما "جان بول مارا" فهو طاغية آخر وسفاح عتيد وخطيب مُفوه، أصيب بمرض جلدي جعله يقضي كل أيامه الأخيرة في مغطس من الماء الكبريتي الدافئ محيطا رأسه بعمامة مغمورة بالخل لتخفيف الآلام الحادة للصداع النصفي، ومع ذلك لم يوقفه مرضه العضال عن اجتثاث كل من اعتقد أنهم من أعداء الثورة، فكان يمارس الوشاية والأمر بالقتل من فوق مكتب تم بناءه خصيصا له فوق هذا المغطس، حتى وافق مخدوعا ذات يوم على مقابلة الشابة "شارلوت كورديه" التي قتلته في مغطسه عام 1793 بطعنة في الصدر. أعدمت محكمة الثورة شارلوت كورديه على المقصلة، وتمتع "مارا" بلقب الشهيد لفترة من الوقت ونال تعاطف الكثيرين، حتى أنه دُفن في البداية في مقبرة عظماء فرنسا "البانتيون" لبضعة شهور، ثم تقرر نقل رفاته للأبد إلى مقبرة عادية.

نعود إلى بطل الرواية "إيفاريست" الذي يحب "إيلودي"، ويعيش مع والدته الحنونة، ويستنير بنصائح حكيمة من العجوز "موريس بروتو". تساعد حبيبة قديمة للعجوز "بروتو" الرسام الشاب بعلاقاتها في أن يصبح عضوا في محكمة الثورة، فيظهر أسوأ ما فيه، ويتسبب تباعا في إرسال "بروتو" نفسه إلى المقصلة بتهم واهية! ثم إرسال بريء آخر أيضا إلى المقصلة بعد شكه في مغازلته لحبيبته "إيلودي"! ثم إرسال حبيب أخته الوحيدة بالطريقة نفسها إلى حتفه! اندمج "إيفاريست" تماما في دموية سنوات "الرعب"، وأصبح إحدى الأدوات المباشرة للدولة في ممارسة المذابح والمجازر، حتى انقلبت الأحوال على "روبسبيير"، وتم إعدام "إيفاريست" معه، بين أكثر من مائة آخرين من أتباع "روبسببير" الذين تم إعدامهم جميعا على المقصلة. وبعد ذلك، تكمل "إيلودي" حياتها مع "ديماهي" النحات الذي يعرف كيف يعيش الحياة ببساطة ودون أن يكون سجينا لأفكاره ومثالياته، ودون أن يكون تابعا لأحد.

تتميز هذه الرواية – مثل أغلب روايات فرانس – بالوصف الدقيق لشكل الحياة والأفراد في حقبتها التاريخية، ويتدفق سردها كالسهل الممتنع وفي لغة ميسورة وفي متناول الجميع، وقد يظهر من سياق الرواية أن أناتول فرانس يحمل موقفا ضد الثورة الفرنسية، لكن من يعرف أسلوبه في الكتابة يتفهم إنه يقدم نقدا شديدا لما آلت إليه الأوضاع لثورة بدأت شرارتها العظيمة في 14 يوليو 1789 باقتحام سجن الباستيل الرهيب، وتحرير من فيه من المظلومين الذين كانت جريمة أغلبهم هي معارضة الملك والنظام! إنها الثورة التي نادت أول ما نادت بالحرية والمساواة والإخاء، فكيف لقادتها أنفسهم أن يتفننوا بعد ذلك في القتل وسفك الدماء والتنكيل بكل معارضيهم بشكل أسوأ مما كان يحدث أيام الملك!

نجح فرانس في الدمج المتناسق بين الشخصيات الحقيقية والخيالية، فلا يكاد القارئ يتبين أدنى فارق بينهما في السياق السردي، كما نجح في كسب القارئ لصالح وجهة نظره بسلاسة فائقة. وبشكل عام، تعد هذه الرواية من أفضل ما كُتب في الأدب الفرنسي تأريخا للسنوات الأولى من الثورة الفرنسية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي