الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السريان الآشوريون: القدر التاريخيّ وثورات الحاضر

سعيد لحدو

2024 / 3 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


لعب المسيحيون دوراً مهماً وريادياً في صناعة تاريخ المنطقة على مر القرون. وقد كان هذا الدور استمراراً لما قدمه آباؤهم وأجدادهم من السريان (الآشوريين – الكلدانيين- الآراميين) في العهود الوثنية كورثة نجباء لحضارة مابين النهرين والممالك الصغيرة شبه المستقلة التي تأسست بعد سقوط نينوى 612 ق.م. وبابل 539 ق.م. مثل مملكة الرها 132ق.م – 243 م، ومملكة أديابين أو حدياب بالعربية 15 م - 116م، ومملكة الحضر في القرن الثالث الميلادي. وما قامت به هذه الممالك من دور في مجال العلم والفكر والثقافة، فطالت إشعاعاتها المنطقة بأسرها. وعندما انتشرت المسيحية في هذه البلاد،لم يكن من الممكن تجاهل التأثير الثقافي والعلمي المتفاعل مع الثقافة اليونانية ليتجلى في المدارس الفلسفية واللاهوتية المسيحية التي انتشرت في القرون التالية، من أنطاكية في شمال سوريا وحتى الاسكندرية في مصر مروراً ببيروت والقدس.
ومع مجيء الإسلام وتحول مركز ثقل الدولة الجديدة من مكة والمدينة إلى دمشق، لم يكن بد لوالي بلاد الشام ومن ثم الخليفة ورجل الدولة المحنك معاوية بن أبي سفيان من الاعتماد على المسيحيين في إدارة شؤون الدولة وبرز منهم في عهده خازن بيت المال منصور ومن بعده ابنه سركون الذي استمر في خلافة يزيد بن معاوية أيضاً. وعندما انتقلت عاصمة الخلافة الإسلامية إلى بغداد، استمر هذا الدور بصورة أكثر وأعمق برعاية خلفاء عرفوا قيمة العلم والمعرفة، وأولوها اهتماماً جدياً. فكان حنين بن اسحق وورفاقه أبرز مثال وأكثر الشخصيات التي قدمت الكثير في هذا المجال.وكان لهؤلاء جميعاً دور هام تعدى الشأن المالي والمعرفي إلى النفوذ السياسي المؤثر رغم كونهم من أتباع الديانة المسيحية.
ظلت اللغة والثقافة السريانية تمارس دوراً حيوياً في الدولة الإسلامية في بلاد الشام والعراق حتى سقوط الدولة العباسية على يد هولاكو عام 1258 م. بعد هذا التاريخ عانى المسيحيون كثيراً، وتراجع دورهم بسبب عدم الاستقرار الذي شهدته المنطقة، وبخاصة في مناطق السهول والأرياف. فهجروا مناطق سكناهم التاريخية باتجاه الشمال حيث الجبال الوعرة الجرداء بحيث لاتشكل مطمعاً لأحد من جهة، ومن جهة أخرى يسهل الدفاع عن أنفسهم فيها. واستمر هذا الحال طوال فترة السيطرة العثمانية. لكن هذا الدور عاد للانبعاث مجدداً بعد الحرب العالمية الأولى، والمذابح التي جرت للمسيحيين في تركيا، وبعد عودة الأمن والاستقرار إلى المنطقة في ظل حكم الانتداب الفرنسي في سوريا، والانكليزي في العراق، مما حدا بالكثير من الناجين من تلك المذابح للنزوح إلى سوريا والعراق، والانضمام إلى إخوانهم الذين كانوا مايزالون متواجدين في المدن الكبيرة، والمساهمة معاً وبقوة في بناء وتطوير الدول الجديدة الناشئة. مستفيدين من الدور الذي لعبته الأديرة والكنائس في المحافظة على التواصل المعرفي مع الماضي وتكريس ذلك لخدمة المجتمعات الجديدة التي نشأت في ظل الانتداب وتبدل الهوية للسلطة السياسية من هوية إسلامية متزمتة، إلى شكل من أشكال الهوية المدنية في عهد الانتداب، ومن ثم العربية القومية في عهد الاستقلال.
هذه الرحلة عبر الزمن لم تكن سهلة وميسرة دائماً بل رافقتها بعض المآسي والكوارث ذات الطابع الديني حيناً والسياسي في معظم الأحيان. بدأت بمذابح الأمير الكردي بدرخان بك في مناطق حكاري سنوات 1840-1845. تلتها مشاريع السلطان عبد الحميد بتأسيسه الفرق الحميدية وإطلاق يدها في ممارسة كل مايحلو لهم بحق المسيحيين عموماً عام 1895من قتل ونهب وتهجير، وبخاصة في المناطق الشرقية والجنوبية حيث يتواجد العنصر السرياني الآشوري. تلى كل ذلك، المذابح الكبرى التي جرت عام 1915 بحق الأرمن أولاً، لكنها بعد أن بدأت، لم تفرق بين مسيحي وآخر، فقضت على أكثر من نصف مليون سرياني آشوري في مناطق حكاري ووان وطور عبدين وديار بكر وأضنة وغيرها. فأفرغت مناطق شاسعة من سكانها المسيحيين، وهُجِّر من بقي منهم على قيد الحياة إلى سوريا والعراق بشكل أساسي، وإلى لبنان وفلسطين وأوربا وأمريكا لمن أمكنه ذلك.
وإن كان هؤلاء المستقرون في سوريا قد وجدوا الأمان والظروف الملائمة ليتابعوا دورهم الحضاري. فقد كان مصير آخر ينتظرهم في العراق، فكانت مذبحة سيميل في 7 آب 1933 بانتظارهم ليجري تهجيرهم من جديد مرة أخرى إلى منطقة الخابور في سوريا. واليوم جاء تنظيم داعش ليكمل عملية الاجتثاث لهذا العنصر الأصيل في تاريخ المنطقة وحضارتها، مرتكزاً إلى تفسير مغالٍ في التطرف لكل ما هو إسلامي، ومستفيداً من حالة الصراع (الطائفي-السياسي) الذي وجد له مناخاً ينمو ويتوسع فيه جراء الأزمات والتناقضات التي تعيشها دول المنطقة وسياسات بعض القوى الإقليمية والدولية، عبر استخدام هذا التطرف أداة للوصول إلى أهداف أخرى أو تحقيق مصالح معينة خاصة بكل منها.
إزاء هذا الواقع المتأزم الذي تعيشه دول المنطقة ومجتمعاتها من تصاعد حاد للاصطفافات الطائفية والصراعات المسلحة والاقتتال المدمر للعلاقات الإنسانية والبنى الحضارية التي لايمكن لأي مجتمع أن ينهض إلا بها، تبرز الأهمية الفائقة لدور المسيحيين الذين لم يكونوا طرفاً في هذا الصراع الهدام، في تجسير مساحات الفرقة وتلحيم العلاقات المتحطمة بين شرائح هامة في المجتمعات التي يشكلون جزءاً هاماً منها، وذلك لتسهيل إعادة بناء المستقبل على أسس سليمة. وفي غياب هذا الدور ستكون عملية إعادة اللحمة لهذه المجتمعات من أصعب التحديات المستقبلية. وسيزيد التهجير الحاصل للسريان الآشوريين في منطقة الجزيرة السورية أو ما تم في الموصل وسهل نينوى في العراق، من هذه الصعوبة بتغييب دور العنصر الفاعل في هذه العملية، والقادر على إتمامها بدون أن يثير أية حساسية بين المكونات الأخرى، لأن له مصلحة حقيقية في تلاقيهم وتفاهمهم عوضاً عن تقاتلهم.
لقد أمل الناس في ما سمي بـ "بلدان الربيع العربي" على اختلاف أديانهم وانتماءاتهم الطائفية والسياسية، بالانتقال عبر تلك الثورات إلى مجتمع ونظام سياسي لايلغي تلك التمايزات في الخصوصيات الهوياتية، وإنما يقوننها ضمن إطار وطني جامع يعزز فيها اللحمة بين شرائح المجتمع عوضاً عن تحطيمها والتمترس خلف حدود كل مكون وفئة من تلك الشرائح. لكن ماحصل من تطورات وتدخلات إقليمية لاحقة، جعل من هذا الأمر ،في الوقت الحاضر، أقرب إلى المستحيل. كما ضمنت تلك التدخلات استمرارية الصراع مما جعل الجراح أكثر عمقاً والنتائج أكثر مأساوية. وبات التفكير في المستقبل مرهون بالانتصار على الطرف الآخر الذي أصبح خصماً بعدما كان شريكاً.
لذلك لابد من الالتفات مجدداً إلى عوامل البناء والتطور. بناء جسور الأخوة والمحبة وتطوير علاقات وطنية مافوق طائفية بين المكونات لتخليص المجتمع من انحداره السريع إلى هاوية العدمية، ورفع سوية التفكير بالآخر إلى مستوى الشريك الضامن الذي لاغنى عنه لتحقيق إنجازات على المستوى الوطني والإنساني. أحد أهم هذه العوامل هو استمرارية الوجود المسيحي عامة، والسرياني الآشوري خاصة لأننا تعايشنا وعرفنا أهمية الدور الذي يمكن له أن يلعبه هذا العنصر في الصعود بهذه المجتمعات إلى مصاف راقية، شرط أن تتوفر له المناخات المساعدة من حرية وديمقراطية وعدالة اجتماعية وقوانين تضمن المساواة التامة بين المواطنين، على أن يتم احترامها من قبل الجميع.
نأمل ألا تكون أعمال تنظيم داعش تجاه الأقليات المغايرة وتجاه حتى المسلمين المختلفين معه بالنظرة إلى الحياة والدين، حلقة أولى من مسلسل رعب هوليوودي لم نصل إلى الحبكة فيه بعد.
16 آذار 2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. على خطى حماس وحزب الله.. الحوثيون يطورون شبكة أنفاق وقواعد ع


.. قوة روسية تنتشر في قاعدة عسكرية في النيجر




.. أردوغان: حجم تجارتنا مع إسرائيل بلغ 9.5 مليارات دولار لكننا


.. تركيا تقطع العلاقات التجارية.. وإسرائيل تهدد |#غرفة_الأخبار




.. حماس تؤكد أن وفدها سيتوجه السبت إلى القاهرة