الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بصدد الفهم الماركسي للدين

مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)

2024 / 3 / 2
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


تأليف: ديميتري موديستوفيتش اوغرينوفيتش*

ترجمة مالك أبوعليا

ان سيرجي توكاريف معروفٌ على نطاقٍ واسعٍ في بلادنا كأحد أهم دارسي قضايا الدين، وقد كَتَبَ مقالةً بعنوان (حول الدين كظاهرةٍ اجتماعية (أفكار عالِم إثنوغرافيا))(1). لا تزالُ أعماله المُخصصة للدين البدائي وتاريخ الدين مراجِعَ مُهمةٍ للعديد من القُراء السوفييت المُهتمين بمسائل الالحاد العلمي. ولذلك، فإن نشر توكاريف لمقالةٍ مُخصصةٍ للمسائل المنهجية للدراسة الماركسية للدين تجذِبُ اهتماماً كبيراً.
تتميّز مقالة توكاريف بثراءِ المواد التاريخية والاثنوغرافية. يحتوي المقال على العديد من الأحكام والمُلاحظات والاستنتاجات الصحيحة والمُثيرة للاهتمام. لكن في الوقت نفسه، تُثير مُعالجته لعدد من المسائل المنهجية الأساسية اعتراضاتٍ ورغبةٌ في تحدّي المؤلف. ان رد الفعل الحالي هو مُساهمةٌ في مثل هذا النقاش. أنه يُعالجُ تلك المسائل التي التي يبدو تناولهُ لها غيرَ مُقنعٍ لنا.
تُعتَبَر فكرة الدين، كظاهرةٍ اجتماعيةٍ، في البحوث الماركسية، مقبولةً بشكلٍ عام. ولا يُوجد باحثٌ يتمسك بالمواقف الماركسية يتحدّى تلك الفكرة. تبدأ الخلافات عندما ينتقل المرء الى تفسيرِ تلك الفكرة العامة.
برأي توكاريف (وهذا يُعبّر على ما يبدو عن الفكرة الأساسية للمقالته): "إن الوظيفة الرئيسية لمؤرّخ الدين ليس النفاذ الى جوهر صور الخيال الديني وأوجهة التشابه والاختلاف بينها، بل دراسة وسطه الاجتماعي الثقافي، والظروف التاريخية الملموسة التي خُلِقَت فيها تلك الصور، ووحدة الناس وانفصالهم والذي انعَكَسَ في خلق المفاهيم الدينية". يأتي هذا الاستنتاج العام من تعريف توكاريف للدين الذي طَرَحَهُ في بداية المقال: "أنه ليس علاقة الانسان بالاله أو الآله بِقَدر ما هو علاقة بين البشر ببعضهم فيما يتعلق بمفاهيمهم وتصوراتهم عن الاله (أو الآلهة)".
وبرأينا أن تصريحات توكاريف تتطلب تعديلاً جدياً. في البداية، فإن وضع المؤلف للمُعتقد الديني (العقل الديني) في مُقابل العلاقات بين البشر التي تشكلَت فيما يتعلق بالايمان الديني ونتيجةً لهُ، والتي، في رأي المؤلف، ينبغي أن تكون أساس موضوع البحث للمؤرخ والاثنوغرافي، بوصف الأُولى ذات أهمية ضئيلة، قابل للاعتراض عليه بشكلٍ جدّي. لا يُمكن أن يكون هناك شك في أن هذه العلاقات (التي يُشار لها في الأدبيات الدينية المُعاصرة باسم "العلاقات الدينية"(2)، تتطلب دراسةً وثيقة، وهي عُنصر هام في البناء الفوقي للدين. ومع ذلك، هل ينبغي وضعها مُقابلَ مُعتقدات الناس الدينية، والقول بأن هذه المُعتقدات ذات أهمية ثانوية بالمقارنة مع العلاقات؟ برأينا لا ينبغي للمسألة أن تكون بهذه الصورة. النقطة الهامة هي أن العلاقات الدينية (وهذا ما يعتَرِفُ به توكاريف نفسه) تقع ضمن فئة المُصطلحات التي سمّاها لينين بالعلاقات "الايديولوجية"، والتي تختلف عن العلاقات "المادية"-أي علاقات الانتاج-من حيث أنها تتشكل من خلال المرور عبر الوعي الانساني(3)، أي وفقاً لآراء الناس وتصوراتهم. ليس من الصحيح، على سبيل المثال،, وضع علاقات الناس في مجال الإخلاق، في مُقابل تقييماتهم وأحكامهم الأخلاقية. ففي النهاية العلاقات في مجال الأخلاق مُستحيلة بدون هذه القِيَم والأحكام الأخلاقية (حتى في شكلها الأولي وغير المُتطور). وبالتالي، لا يُمكن تطبيق المعايير الأخلاقية على سلوكِ طفلٍ رضيع أو شخصٍ مريضٍ عقلياً. وهذا الوضع ينطبق على مجال الدين. ومن المُستحيل، بدون تحليل المُعتقدات الدينية، أن نفهم المعنى الحقيقي للمُجتمع Community الديني الذي يوحّد أعضاء العقيدة الواحدة ويربطهم معاً، طالما أن الطقوس التي تُجرى في ذلك المُجتمع الديني هي تجسيدٌ لأفكارٍ وتصوراتٍ دينيةٍ مُعينة(4). ان العلاقات بين البشر فيما يتعلق بالايمان بالاله مُستحيلة، اذا كان هذا الايمان المُعتقدي نفسهُ مفقوداً. إضافةً الى ذلك، يؤثّرُ مُحتوى هذا المُعتَقَد بشكلٍ كبير على مُحتوى وشكل العلاقات الدينية. دعونا نُقارن في هذا الصدد، العلاقات بين رجال الدين و"الرعية"، أي المؤمنين العاديين في الكاثوليكية، حيث ينبع الدور الخاص لرجال الدين من العقيدة القائلة بأنه "لا خلاصَ خارج الكنيسة" من جهة، مع نفس العلاقات في بعض المُنظمات البروتستانتية، والتي تنطلق من الايمان بأن الايمان الفردي وحدهُ هو الذي يُمكنه أن يُخلّصَ المرء، وأن "الكهنوتية العامة" هي مبدأٌ مُرشد، من جهةٍ ثانية. من الواضحِ هُنا، أن مُحتوى المُعتقدات الدينية ليس ثانوياً على الاطلاق بالنسبة لفهم العناصر الأُخرى للبناء الفوقي الديني: الطقوس والعلاقات الدينية والمؤسسات.
لا تتناول مقالة توكاريف العلاقة بين المُعتقد الديني والعلاقات الدينية فحسب، بل يُحاول المؤلف أيضاً أن يضع دراسة المُعتقدات الدينية والعقل الديني في مُواجهة البحث في الجذور الاجتماعية للدين ووظائفه. (فنتذكر الفقرة المُقتبسة سابقاً حول المهمة الرئيسية لمؤرخ الدين). هذه المواجهة تبدو لنا غير صحيحة. فهل يُمكن في الواقع "النفاذ الى جوهر صور الخيال الديني" من وجهة النظر الماركسية، بمعزلٍ عن دراسة الوسط الاجتماعي الذي يُولّد مثل هذه الصور؟ ان الفهم العلمي للمُعتقدات الدينية يفترِضُ حتماً تحديد قاعدتها الاجتماعية. لكن دراسة القاعدة الاجتماعية للمُعتقدات الدينية أمرٌ مستحيل اذا تجاهلنا مُحتواها. فهل من المُمكن، على سبيل المثال، إجراء دراسة جادة للأسباب الاجتماعية لأُصول المسيحية اذا تجاهلنا خصوصيات المُعتقدات الدينية للمسيحيين الأوائل، والتي وجدَت انعكاسها في رؤية يوحنا؟ لنتذكر في هذا الصدد التحليل الدقيق المُفصل للغاية الذي أجراهُ فريدريك انجلز لمُحتوى كتاب العهد الجديد هذا، والذي يَطرحهُ في مقالاتهِ الشهيرة عن المسيحية البدائية(5). وعلى أساس تحليل مُحتوى سفر الرؤيا، يُفسر انجلز أصل نشأة المسيحية وانتشارها السريع.
وفي هذا الصدد، يجب أن يُؤخذ في الاعتبار أن المؤرخ لا تُتاحُ له دائماً الفرصة لاعادة بناء البُنية الاقتصادية-الاجتماعية لدولةٍ أو شعبٍ مُعيّنٍ نظرياً، على أساس مصادرَ تصف الاقتصاد أو النظام الاجتماعي والسياسي بشكلٍ مُباشر. يحدُثُ أحياناً أن المصادر الوحيدة التي تصل الينا هي النصوص الدينية لهذه الطائفة أو تلك. يواجه الباحث، في مثل هذه الحالات، المهمة التالية: إعادة بناء القاعدة الاقتصادية-الاجتماعية التي كانت موجودةً، على أساس معرفة البناء الفوقي الديني، وفِهم حقيقة أنها انعكاسٌ لتلك القاعدة. يبدو لنا أن أحد أبرز الأمثلة على اعادة البناء النظرية الناجحة للغاية، هو كتاب المؤرخ السوفييتي البارز نيكولاي ميخايلوفيتش نيكولسكي Nikolai Mikhailovich Nikolsky، والذي تمكّنَ فيه، على أساس نصوص العبادة الفينيقية، من اثبات أن فينيقيا لم تكن بلداً تجارياً على الحصر، وأن الجماعات الزراعية القديمة لعبت دوراً كبيراً في اقتصادها(6). حتى توكاريف نفسهُ ألّفَ العديد من الأعمال التي يُقارن فيها بعناية مُحتوى المُعتقدات الدينية مع الوسط الاجتماعي الذي ظَهَرَت فيه، طارحاً بذلك تفسيراً علمياً لها. ولا يحتاج المرء أن يذهب أن يذكر أكثر من كتاب توكاريف بعنوان (جوهر السحر وأصله)(7)، والذي يحتوي على تحليلٍ غنيٍّ وعميقٍ للغاية للجذور الاجتماعية لأنواع مُختلفة من السحر: سحر الصيد والسحر الأسود وسحر الحب وسحر الطَقْس، الخ. من الواضح أن مُعارضة دراسة مُحتوى العقائد الدينية بدراسة أساسها الاجتماعية هو أمر غير صحيح ويُربك الباحث.
يُعتَبر "النفاذ الى جوهر صور الخيال الديني" في مقالة توكاريف، مهمةً ثانوية، ذات أهمية قليلة حتى من وجهة نظر الكشف عن وظائف الدين الاجتماعية ودوره في المُجتمع. ويُثير تأكيد المؤلف هذا، اعتراضنا كذلك.
دعونا نُبدي مُلاحظة منهجيةً في البداية. لا يُمكن وصف الوظائف الاجتماعية لأي ظاهرة في مجال الوعي الاجتماعي بشكلٍ صحيح دون النظر الى مدى دقّة وموضوعية عكسها للواقع. ان انعكاس الواقع انعكاساً دقيقاً في العقل البشري يلعب دائماً بشكلٍ موضوعي دوراً اجتماعياً مُختلفاً تماماً عن الانعكاس الزائف والوهمي. وهذا ينطبق تماماً على الدين. ان محاولات وصف الوظائف الاجتماعية للدين بصرف النظر عن التقييم الابستمولوجي له (أي تقييمه باعتباره انعكاساً مُشوهاً للواقع) هي مُحاولات نموذجية لسوسيولوجيا الدين البرجوازية المُعاصرة، ولا سيما الاتجاه الذي صار يُسمّى "الوظيفية". يؤكد الوظيفيون، سائرينَ على خُطى ايميل دوركهايم، أن الوظائف الاجتماعية للدين مُستقلة عن صحة أو زيف التصورات الدينية. انهم يطرحون في كتاباتهم توصيفاً أُحادي الجانب لوظائف الدين الاجتماعية، مؤكدين بشكلٍ خاطئ، على وظيفته التكاملية والاتصالية، ومُتجاهلين وظيفته الرئيسية، وهي وظيفة لعبهِ دور الأفيون، أي التعويض الوهمي عن عجز الناس الاجتماعي. يستحيل فهم الدور الاجتماعي الموضوعي للمُعتقد الديني عند تجاهُل التقييم الابستمولوجي للوعي الديني باعتباره وعياً زائفاً. انه يخلق وهم العزاء الذاتي المؤقت، ويصرف الفرد موضوعياً عن مشاكل الواقع وتناقضاته الحقيقية، ويمنعهُ من المُشاركة في التحويل النشط للعلاقات الاجتماعية(8).
ان توكاريف على درايةٍ تامةٍ بهذه المُقدمات الماركسية. وتجدُرُ الاشارة الى أن وصفهُ للوظائف الاجتماعية للدين، يحتوي على عددٍ من التأكيدات الصحيحة والمُثيرة للاهتمام، والتي تُثري المادية التاريخية. يتعيّن على المرء أن يتفق مع توكاريف عندما يتحدث عن دور الدين كعاملٍ يُفرّق بين الناس ويجعلُ أفراداً من مُختلف الطوائف الدينية في صراعٍ دائم. يستخدم المؤلف مادةً تاريخية ليُثبِتَ بشكلٍ مُقنع أن الدين كان ولا زالَ قوةً تدمج الناس، وفي نفس الوقت تفصلهم عن بعضهم البعض، في حين كان التكامل والفصل الديني، في المُجتمعات الطبقية، يخدم، ولا يزال يخدم بشكلٍ موضوعي مصالح الطبقات المُهيمة.
ومع ذلك، لا يُمكن للمرء أن يتفق مع المؤلف عندما يعتبِرُ أن الفصل والعزل بأنها "الوظيفة الأكثرَ أهميةً للأديان القومية". إن أهم وظيفة لأي دين، بما في ذلك الأديان القومية، هي، برأينا، وظيفة التعويض الوهمي، أي وظيفة التعويض عن الضعف الاجتماعي للناس. وهذه الوظيفة بالتحديد هي التي كانت تلوح في ذهن ماركس عندما قال أن "الدين أفيون الشعوب"(9). لماذا هذه الوظيفة هي الرئيسية من بين الوظائف الأُخرى؟
لأنها، في المقام الأول، تُعبّر عن الجوهر الخاص بالدين، وتُميّزهُ عن سائر أشكال الوعي الاجتماعي والظواهر الثقافية، لأن الدين ليس هو العامل الوحيد للفصل بين الناس. تَلعَبُ العديد من الظواهر الثقافية الأُخرى التي يظهر فيها فصل المُجتمعات العرقية والطبقية الأنانية، ذلك الدور أيضاً. وهذا هو الحال، على سبيل المثال، مع بعض العادات والتقاليد التي تشكّلَت ضمن حدود إثنيةٍ مُعينة. ينطَبِقُ هذا، في المُجتمع الطبقي، على النظرات الأخلاقية والسياسية والقانونية للطبقات الحاكمة. هذه النظرات تُبرر الانقسام الطبقي والاثني والقومي وتضع الناس من أُصولٍ قوميةٍ واثنيةٍ واجتماعيةٍ مُختلفة في مُواجهة بعضهم البعض. ولذلك فإن وظيفة الفصل ليس مُميزة للدين، ولا تُعبّر عن جوهره كظاهرةٍ اجتماعية. على العكس من ذلك، تنبُعُ وظيفة التعويض الوهمي، من نفس جوهر الانعكاس الديني للعالَم، بوصفهِ انعكاساً زائفاً ومُشوهاً تخلقهُ طبيعة المُمارسة الانسانية المحدودة وعدم قُدرة الناس ععلى فهم ومُمارسة قوانين التطور الاجتماعي عن وعي.
وثانياً، تتأصلُ وظيفة التعويض الوهمي، في جميع الظواهر الدينية، بصرف النظر عن الظروف الاجتماعية التي تعمَلُ في ظلها. وهذا لا يعني بالطبع أن هذه الوظيفة تتحقق على نفس المنوال في جميع الظروف التاريخية. على سبيل المثال، العزاء الديني لا يتطابق بأي حال بين السحر البدائي والمسيحية المُعاصرة. بالاضافة الى ذلك، يلعب التعويض الديني في المسيحية أدواراً بعيدةً كُل البُعد عن أن تكون مُتطابقة في ظل الاشتراكية والرأسمالية. ومع ذلك، يؤدي الوعي الديني دائماً، وفي ظل جميع الظروف التاريخية (حتى عندما يكون الدين بمثابة رايةٍ ايديولوجية للحركات الاجتماعية التقدمية) وظيفة "الأفيون" من خلال صرف الانتباه عن الواقع وتثبيط نشاط الجماهير الاجتماعي، من خلال توجيه هذا النشاط الى قناةٍ زائفة. ومن الأُمور الأُخرى، أن الدور الاجتماعي للدين، لا يقتصِرُ على تلك الوظيفة وحسب، بل يشمَلُ العديد من اتجاهات التأثير الاجتماعي الأُخرى، والتي تحدّثَ عنها توكاريف في مقالته بالتفصيل. ولكن برأينا، سيكون من الخطأ الجوهري تجاهل وظيفة الدين المُتمثلة في التعويض والعزاء الوهمي.
وعلينا أن نُلاحِظَ أيضاً، أنه من المُستحيل دراسة وظيفة الدين في التعويض الوهمي دونَ تحليلٍ دقيقٍ لمُحتوى المُعتقدات الدينية،, ودون تقييمٍ ابستمولوجيٍّ واضحٍ للدين باعتبارهِ وعياً مُشوهاً يُحرّف الواقع. وفي هذا الصدد، يجب التأكيد على أن المُقاربة الماركسية للدين تفتَرِضُ وحدةً لأداتي التحليل الابستمولوجي والسوسيولوجي له. إن المُقاربة الابستمولوجية للدين والتي كان ينقُصُها المُقاربة السوسيولوجية، أدّت الى الالحاد ما قبل الماركسي (والالحاد البرجوازي المُعاصر) الى التعامِل معه كمسألة تنويرٍ للناس، وحالَت دون فِهم المسارات الحقيقية للتغلّب على الدين. ان المُقاربة السوسيولوجية، التي تتجاهل التقييم الابستمولوجي للدين، قادَت دوركهايم وأتباعهِ المُعاصرين الى استنتاج أن الدين أبديٌّ ولا مفرّ منه في أي مُجتمع(10).
دعونا نُلاحظ أن توكاريف في مقالته، لا يلتزِمُ بشكلٍ صارمٍ بمبدأهِ المُعلن بأن مُحتوى المُعتقدات الدينية له أهمية ثانوية بالنسبة للمؤرخ. وهكذا، يطرَحُ السؤال التالي: "ما هو الشيء المُشترك الذي يَجمَع بين كل هذه الأفكار الدينية من حيث مُحتواها، وما هو العامِل المُشتَرَك بين كُل هذه الأفكار الدينية من جانب مُحتواها بحيث يُمكن تصنيفها جميعاً في مجالٍ واحدٍ من الوعي الاجتماعي، وفصلها عن جميع المجالات "غير الدينية" الأُخرى؟". يُحاول المؤلف هُنا حل مسألة المعيار الرئيسي الذي يُحدد الوعي الديني، وهو سؤالٌ يعتمِدُ على حلّهِ الكثير في فِهمِ وظائف الدين ومكانته الاجتماعية. وفي حين نشتَرِكُ معه حقاً في وجهة نظره بشأن الكيفية التي ينبغي بها طرح المسألة، فإننا نأسَفُ لأننا هُنا أيضاً لا نستطيع أن نتفِقَ مع الحل الذي يَطرَحُهُ.
برأي توكاريف، فإن الأمر الأكثر أهميةً في مُحتوى التصوارت الدينية هو "ليس أسماء الآلهة وليس التعاليم اللاهوتية حول صفاتها وعلاقتهم ببعضهم البعض، وليس أفكار الأفكار حول علاقة الانسان بالاله، ولكن، ما تُقدّمه الأديان حول مسألة أصل الشرور في حياة الانسان". برأينا، ولعدة أسباب، لا يُمكن اعتبار مسألة "أصل الشر في حياة الانسان" القضية الرئيسية في مضمون التصورات الدينية.
أولاً، لأن تصوّر الشر، في الأفكار الدينية الجنينية للعصر البدائي، لم يكن مُختلفاً ومُتمايزاً بعد عن مفهوم "السيء" و"الضار" و"القبيح". يستغرِقُ تطور التقييمات والمعايير الأخلاقية والتصورات الأُخرى فترةً زمنيةً تاريخية طويلة، ويبدو أنه يبلُغُ ذروتهُ في المُجتمع الطبقي فقط. انه يفترض ما يلي: 1- التخلي عن مُطابقة الطبيعة بالمُجتمع و"الكون بالمُجتمع". يتركز الحُكم الأخلاقي، تدريجياً على شيءٍ مُحدد، الا وهو الانسان. 2- الانفصال التدريجي بين "الخير" "والنافع"، أي تشكّلِ قِيَمٍ أخلاقية تتميّز بحد ذاتها عن أحكام القيمة الأُخرى. 3- انفصال "ما هو قائم" عن "ما يجب أن يكون". يتوقف الالتزام الأخلاقي عن الاعتماد الحصري على سُلطة العادات والتقاليد ويكتسب استقلالاً مُعيناً(11).
ثانياً، ان مسألة أصل الشر ليست هي المسألة الرئيسية في الدين، لأن الاجابة عليها تتحدد دائماً من خلال الايمان بوجود كائناتٍ أو علاقاتٍ خارقةٍ للطبيعة. في الواقع، يعترف توكاريف بهذا في جوهر الأمر، وهو يكتب: "ما هُو مُشترَك بين جميع التفسيرات الدينية للشر، أن سببه يُطرَح بشكلٍ مُشوّهٍ وغامضٍ ومُزيّف وخيالي، ويُمكننا أن نعثُرَ عليه في مجال الميتافيزيق والعالم ما فوق الأرضي". وهكذا، من أجل إثبات ما هو شامل ومُشتَرَك في التفسير الديني للشر، يضطر توكاريف الى اللجوء الى معيار الايمان بما هو خارقٌ للطبيعة، وهو المُحتوى الرئيسي لكل وعيٍ ديني، وعموده الفقري. أما مسألة الشر والقضايا الأخلاقية عموماً، فإنها تلعَبُ دوراً كبيراً جداً في الدين، وليس من الصحيح الاستهانة بها. ولكن يجب في هذا الصدد أن يؤخَذ في الاعتبار أنها ليست مُميزة للدين على وجه الحَصر (الحل غير الديني لهذه المسائل مُمكن أيضاً) وبالتالي لا يُمكن اعتبارها مُحتوىً رئيسياً لهُ. إضافةً أنه اذا أعلنّا أن المسألة الأخلاقية هي المُحتوى الأساسي للدين، فإننا حتماً نُساعد المُدافعين عن الدين، الذين يَسعَونَ بكل الوسائل المُمكنة الى إثبات أن الأخلاق لا يُمكن أن توجد بدون دين.
نحن نتفقُ مع توكاريف في أن المهمة التي تُواجه المُلحدين لا يُمكن اختزالها في عبارة "لا يوجد إله"، وأنه من الضروري أن نكون قادرين على استخلاص استنتاجاتٍ عملية من المُقدمات الدينية والالحادية: "اما مُناشدة الاله (أو الآلهة) لتخليص المرء من الشر والمُعاناة والظُلم، أو مُحاربة الشر والمُعاناة والظُلم بقُواه الخاصة. كُل الأديان تُعطّل الناس في نضالهم من أجلِ مُستقبلٍ أفضل، في حين أن الالحاد الاشتراكي يُسلّحهم ويُعبئهم". ومع ذلك، لا ينبغي لأحد أن ينسى أن الاستنتاجات الصحيحة لا يُمكن استخلاصها الا من المُقدمات الصحيحة. اذا لم يتم حفظ المُقدمات المُلحدة (بما في ذلك أُطروحة "لا يوجد إله") بشكلٍ ميكانيكي، بل اكتسَبَت اساساً علمياً وفلسفياً شاملاً، فإنها تُصبح حجرَ الزواية في نظرة الانسان الى العالم. ولا يجب أن يتم تجاهلها تحت أي ظرفٍ من الظروف.
* ديميتري موديستوفيتش اوغرينوفيتش 1923-1990 فيلسوف ماركسي سوفييتي، مُتخصص في سوسيولوجيا وسيكولوجيا الدين. تخرّجَ اوغرينوفيتش من كُلية الفلسفة التابعة لجامعة موسكو عام 1950، ودافَعَ عام 1953 عن اطروحته لدرجة مُرشح الدكتوراة بعنوان (خصائص تشكّل القاعدة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي). صارَ منذ عام 1963 رئيساً لقسم المادية التاريخية في الكُليات الانسانية في جامعة موسكو الحكومية. دافَعَ عام 1965 عن اطروحته لدرجة الدكتوراة بعنوان (خصائص الدين ومكانته في وعي الناس)، ومنذ عام 1970 وحتى نهائية حياته كان بروفسوراً في قسم التاريخ ونظرية الالحاد العلمي في كلية الفلسفة التابعة لجامعة موسكو. كان اوغرينوفيتش مُهتماً بسوسيولوجيا الدين وجذوره وظروف التفاعل بين الدين والفن، وأولى اهتماماً كبيراً للتطور النظري للمسائل العملية الدينية، وساهَمَ مُساهمةً كبيرةً في تطوير البحث الأكاديمي العلمي في الاتحاد السوفييتي. كَتَبَ مع السوسيولوجيين الألمان (ألمانيا الديمقراطية) دراسةً بعنوان (القضايا المُعاصرة للانسان) 1983.
ومن أعماله العلمية: (حول خصائص الدين 1961)، (الدين والفن 1963)، (المسائل الفلسفية في نقد الدين 1965)، (مُقدمة في الدراسات النظرية للدين 1973)، (الدين والفن 1982)، (دور الفن في تشكّل النظرة الالحادية للعالم 1983)، (المسائل المُعاصرة حول نظرية ومُمارسة الالحاد العلمي)، (سيكولوجيا الدين 1986)، وكتَبَ مئات من المقالات العلمية.

1- مقالة سيرجي توكاريف المنشورة على الحوار المُتمدن:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=820904

2- See I. N. Iablokov, Sotsiologiia religii, Moscow, 1979, pp. 105-10
3- V. I. Lenin, Poln. sbor. soch., vol. 1, p. 137
4- For fuller detail, see D. M. Ugrinovich, Obriady. Za i protiv, Moscow, 1975.
5- فريدريك انجلز هو مؤلف ثلاث مقالات مُخصصة لأصول المسحية. نشرَت مجلة Der Sozialdemokrat مقالته (برونو باور والمسيحية المُبكرة) عام 1882، والتي كتبها كتقييم لمُساهمة باور في علاج هذه المسألة المًعقدة. وفي العام التالي، نشَرَ انجلز مقالة بعنوان (سفر رؤيا القديس يوحنا). وأخيراً، نَشرَ انجلز في صحيفة Die Neue Zeit عام 1894-1895 قبل موته بقليل، دراسةً بعنوان (إسهام في تاريخ المسيحية المُبكرة).
6- See N. M. Nikol skii, Etiudy po istorii finikiiskikh obshchinnykh i zemledel cheskikh kul tov, Minsk, 1948
7- S. A. Tokarev, "Sushchnost i proiskhozhdenie magii," Issledovaniia i materialy po voprosam pervobytnykh religioznykh verovanii, TIE AN SSSR, vol. 51, Moscow, 1959, pp. 7-75
8- For further detail on the critique of -function-alism, see D. M. Ugrinovich, Vvedenie v teoreticheskoe religiovedenie, Moscow, 1973, pp. 98-104 idem. "Funktsionalizm v sovremennoi amerikanskoi sotsiologii religii, " Voprosy filosofii, 1976, no. 9
9- اسهام في نقد فلسفة الحقوق عند هيغل، كارل ماركس، ترجمة هيثم منّاع، دار الجمَل، ص3
10- For detail, see Ugrinovich, Vvedenie v teoreticheskoe religiovedenie, pp. 82 -83
11- For detail, see 0. G. Drobnitskii, Poniatie morali, Moscow, 1974 A. A. Guseinov, Sotsial naia priroda nravstvennosti, Moscow, 1974 A. I. Titarenko, Struktury nravstvennogo soznaniia, Moscow, 1974








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل


.. مراسلة الجزيرة: مواجهات وقعت بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهري




.. الاتحاد السوفييتي وتأسيس الدولة السعودية


.. غزة اليوم (26 إبريل 2024): 80% من مشافي غزة خارج الخدمة وتأج




.. اعتقال عشرات الطلاب المتظاهرين المطالبين بوقف حرب غزة في جام