الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبق الشعر..وعطر الكلمة في قصائد الشاعرة التونسية د-فائزة بنمسعود (كم من الوقت مضى..؟ نموذجا ) (شاعرة تنزف شوقا..إلى تخوم القصيدة)

محمد المحسن
كاتب

2024 / 3 / 2
الادب والفن


هذه الشاعرة (د-فائزة بنمسعود) تؤسس لمشهد شعري متميز،عبر استمرارية وصيرورة ذات قيمة انتمائية فذة،حيث تبيح لقلمها،لرؤاها ورؤياها،متعة التحليق في الآقاصي..(لكاتب)
في القصائد وحدها نعيد بناء العالم..(ألن غسنبرغ)
هذا هو الهدف الأسمى للشعر عموما،أن يبني عالما آخر،عالما مختلفا عن العالم الذي نشغل فيه حيزا من المكان وبرهة من الزمن.ولا شك أننا اليوم وبفعل تطور مختلف العلوم،أصبحنا مقتنعين أن هناك عوالم أخرى يمكن أن يطمئن اليها الانسان خارج عالم الواقع المباشر.هذه الحقيقة العلمية توصل اليها الشعراء وكبار الفلاسفة منذ أمد بعيد.لكن للأسف قليلون من يستطيعون معايشة هذه الحقيقة الثابتة .
وقصيدة د-فائزة بنمسعود هذه الشاعرة التونسية-المنبجسة من ضلوع المرايا-"كم من الوقت..مضى؟" تمتلك من مقومات القصائد العليا فنيا ما يؤهلها لأكثر من دراسة نقدية وعلى مستويات عديدة،فقد استطاعت من خلالها الشاعرة بحس شعري راق،وبذوق فني رفيع أن تنقلنا الى عالم آخر.وكأنها تعيد بناء عالم خاص بها،عالم تستجمع فيه الشاعرة كل طاقاتها المدفونة في لغة عذبة تداعب الذائقة الفنية للمتلقي.
"كم من الوقت..مضى ؟"
قصيدة غنية بايحاءاتها،ومتفردة في محاولتها تأسيس لغة شعرية جديدة،وكأنها تجسد مقولة الناقد العربي،حمادي صمود حين يقول عن الشاعر وهو يكتب نصه /قصيدته وهو ينتقل الى " نص واع بكيانه عارف بما يبني من حداثته ويرسمه في دائرة كتابة حلمها الأبدي أن تقترب من مطلق لا يفتأ ينفلت كلما اقتربت منه،ومدارات بكر تكاشف فيها لحظة البدايات فيسكنها طموح النصوص المؤسسة التي تعيد صياغة النشأة والتكوين برد اللغة الى زمن ما قبل الذاكرة "-1-فكتابة قصيدة تنفتح على مجموعة كبيرة من أسس النقد ومناهجه انجاز يعتبر في حد ذاته ابداعا هاما.ولعل من شأن القصيدة التي تراهن على تفجير مكنونات الإبداع أن تستوعب التقاسيم الزمنية وتضيف اليها تقسيما جديدا يجمع صورة الماضي بالحاضر بالمستقبل لتتأسس سيرورة الابداع الشعري كنص خارج التأطير الزمني التقليدي،تقول الشاعرة :
كــم من الوقـت مـضى…؟
كم من الوقت مضى
وكم من الوقت سيمضي
ونحن صنم مجمّد على
رصيف الانتظار
حقائبنا مشحونة صبرا
ينذر بالانفجار
وكم من مناديل
ودّعت مناديل
بلّلها ندى صباحات العابرين
على جسر الحياة
كم من الوقت مضى
ونحن بأيادي مرتعشة
ننبش قبر الأحلام
علّ حلمنا اليتيم
يعلو صهوة براق
كعصفور هدّه سجن قفص الأرض
فتاق للحرية ولرحب السماء
كم من الوقت مضى
وكم من الوقت سيمضي
ونحن نمزق ورق السيلوفان الباهت
لنفتح علب هدايا القدر
المحشوة بالأحزان
كم من الوقت مضى..
وسيرنا حثيث
صوب سدرة المشتهى
ضاع المشتهى
وعلقنا بشباك المنتهى
والروح أدمتها أشواك القضاء
كم من الوقت مضى
ونحن نلهث وراء فرح
استعصى
والحضورَ إلينا أبى
كم من الوقت سيمضي
وكم من الوقت مضى
والهجر نقض حبنا
من بعد وصل ٍ أنكاثا
وموعد اللقاء ولّى وانقضى…
(فائزه بنمسعود)
تضعنا الشاعرة ببراعة واقتدارأمام التجربة المعاصرة التي تفصح عن وعي جدلي بطبيعة البناء الدرامي،ومنطقيته داخل القصيدة لإحتوائه على مستويات متعددة من التجليات والرؤى أعطت القصيدة جرعة من التطور والنمو والتصاعد من ناحية،وتعميق بنية النص وتركيبه وتشابكه من ناحية أخرى،لكنها جميعا تؤدي إلى نوع من التناقض والتغيير المستمرالذي يشكل موجات من التعرف واليقين الذي يعتمد على نوع من التتابع غير المنطقي وعلاقات التماثل والتضاد والجدل المستمر الذي يشكل أساس بنية الفعل في هذه القصيدة،فكأن كل كلمة تخفي قناعا،أو قل كل كلمة تختفي وراء قناع.فالكلمات أقنعة،والأقنعة كلمات،تتبادلان الشوق والقبلات.الأقنعة بالمعنى الشعري السامي لا يمكن أن يتيسر لها أمرها في الوجود،ولامكانتها في الثبوت إلا من خلال السمات الشعرية،كما نلحظ في الأبيات التالية:
"ونحن نمزق ورق السيلوفان الباهت/لنفتح علب هدايا القدر/المحشوة بالأحزان/كم من الوقت مضىوسيرنا حثيث/صوب سدرة المشتهى/ضاع المشتهى/وعلقنا بشباك المنتهى/والروح أدمتها أشواك القضاء.."
لقد أفلحت الشاعرة-د-فائزة بنمسعود-في صنع بنية قصيدتها التي تنحى منحى موضوعيا وتقترب في تركيبها وتشكيلها وحركاتها من معطيات الفنون النثرية المجاورة (كالقص والرواية والمسرح والدراما والسرد) أو الفنون الجميلة (كالرسم والتشكيل والقطع والتنقيط..) في العديد من نماذجها الشعرية التي تعمقت فيها رؤيتها ورؤاها وتجاربها،وأخذت القصيدة عندها تنهل من البنيات التعبيرية والأسلوبية والصياغية وحتى المضمونية لهذه الفنون فضلا عن أبعاد الشـعر وشفافيته،فأكتسبتب بذلك قصيدتها أبعادا موضوعية قربتها كثيرا من هذه الأنواع ووصلت عندها في بعض النماذج إلى(مسرحية القصيدة)،كما تمكنت الشاعرة فيها من خلق أقنعتها ورموزها التاريخية والأسطورية والمعاصرة التي نمت وتطورت عبر خطابها الشعري لتصير عندها منهجا شعريا مميزا لها،وكان لإبتعاد الشاعرة عن الغنائية والذاتية التي تطغى فيها (أنا الشاعر) طغيانا واضحا أثره الواضح لإثراء قصيدتها وغنائها وتعددها بمعطيات هذه الفنون،وأهمها تعدد الشخصيات والأصوات و نمو الأحداث و الفعل والصراع والحركة والتضاد والتراكب والتوتر والإحتدام الدائم،وتوظيف الحوار الداخلي(المونولوج) أو الخارجي(الديالوج) بشكل نموذجي ومكثف حيث يعد جزءا مهما من بنية القصيدة ونسيجها الشعري،ومحاولة الشاعرة خلق لغة شعرية مكثفة ومكتنزة ملائمة لهذه التجربة،وهي لغة متدفقة مفعمة بالحرارة والخصب والشفافية التي تلتحم بالحدث وتعبر عنه،لأن الإهتمام بعناصر القص والسرد والدراما قاد-الشاعرة- د-فائزة-إلى الإفادة من طبيعة اللغة وتجلياتها ودلالاتها التي تتصاعد داخل نسيج التجربة الشعرية وتضج بها القصيدة.
ومن هنا فإن القصائد ذات البناء الدرامي الطويل التي توظف عنصر الدراما يلمس الباحث شيئا من أثر البناء الشعري في لغة القصيدة،ولأن القصيدة الدرامية هي في الأصل قصيدة مواقف متضادة متصارعة،فإن هذا التضاد سوف يترك بعض أثره على لغة الأشخاص،أو على الأداء اللغوي لكل من الجانبين،ولتكون بالتالي ذات سمات دلالية وإيمائية خاصة بها تميزها عن لغة القصائد الأخرى،في محاولة لخلق أداء لغوي متأثرا بالحدث الدرامي ومعطياته والتي أفصحت عن قدرة الشاعرة وإمكاناتها البنائية والتشكيلية والتعبيرية في تجسيد موضوعها وإبرازه ناصعا ومعبرا عن روح العصر وذائقته الشعرية،ولم تكتفي بهذا بل أبدعت في اعتصار الكنوز التراثية،فتحولت تحت أناملها إلى رموز مضيئة تكشف وتكتشف جوانب قضايا معاصرة،وضعتها بالتالي في صف شاعرات الحداثة الشعرية العربية المتميزات..
على سبيل الخاتمة :
قلت مرارا،أنّي لست من الذين يتناولون القصائد الشعرية بأنامل الرّحمة ويفتحون أقلامهم أبواقا لمناصرة كلّ من ادّعى كتابة الشعر،إلاّ أنّي وجدت نفسي في تناغم خلاّق مع جل قصائد الشاعرة التونسية القديرة-د-فائزة بنمسعود-التي فيها-كما أشرت سابقا-كثير من التعبيرية وقليل من المباشرة والتجريد تغري متلقيها بجسور التواصل معها،مما يشجع على المزيد من التفاعل،ومعاودة القراءة والقول..
وإذ أسجّل إعجابي الكبير-بالإبداعات الشعرية-للشاعرة التونسية الفذة (د-فايزة بنمسعود) التي تطمح دوما عبر كتاباتها الإبداعية إلى التطوّر والتجاوز،فإنّي أؤكّد على أنّ النص الإبداعي لن يخترق الحدود إلا بقوته الذاتية،كما أنّ حضور القارئ،بل حلوله،في الماهية الإبداعية الملغزة،هو وضع طبيعي يعكس انفتاح المبدع كإنسان على أخيه الإنسان،ويعكس انفتاح الكتابة الإبداعية الجديدة على العالم الحسي المشترك،والوقائع والعلاقات المتبادلة،وأيضًا على الأحلام والهواجس والافتراضات والفضاء التخيّلي غير المقتصر على فئة نخبوية من البشر دون سواها..
ختاما أقول : د-فائزة بنمسعود شاعرة تبث الأمل وهي تلتقط الحكمة من أبسط الأشياء بمحيطها بأسلوب شاعري رقيق يشد القارئ ويحمله كمنصت مرهف الإحساس إلى عوالمها الخفية، وبذلك جعلت الشعر كيمياء الحياة المنشودة.
ونحن في انتظار مولودها الإبداعي القادم على مهل (ديوان شعري) كي نرقص على ايقاعه-رقصة زوربا اليوناني-دون أن ينال الإرهاق منا..!



-1 -في مقروئية الشعر الحديث،حمادي صمود،مجلة علامات في النقد.الجزء 22 المجلد السادس : ديسمبر 1996 النادي الأدبي الثقافي بجدة . ص :25
*اخترت بعض الأبيات فقط من القصيدة العذبة "كم من الوقت..مضى ؟ تماهيا مع مسارالدراسة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا