الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين المقهى والمنفى

قيس كاظم الجنابي

2024 / 3 / 5
الادب والفن


-1-
حين نشر مالك المطلبي سيرة المقهى/المكان البغدادي، وعلاقته بالحركات الثقافية العراقية في موضوعه(غريزة المقهى) في مجلة الأقلام، العد الأول سنة 1990م، قال في مستهله:
"قبل عقدين كانت العلاقة بين "دجلة" و"المقاهي" ذات بعد اجتماعي (تبادلي)، بين حشدين من سكان البر وسكان الماء. كانت العلاقة اشبه بحوار تتخلله أبنية. أما الآن فقد أدار دجلة ظهره احتجاجاً على مجازر الحيوان النقدية (المطاعم)،ومخازن الرطوبة(موبيليات سوق الهرج) استبدلت بالمقاهي هذه".( )
اللمسة المهمة في الموضوع، والاستهلال المثير والمبطن بموقف سياسي، حول علاقة الانسان بالمكان، وعلاقة المثقف بالمكان بعدها وبطريقة ما أصاب الوسط الادبي، وخصوصاً جيل الستينات الذين كانوا يستبدلون المشهد الثقافي العراقي – في الداخل والخارج – لان لديهم السلطة في الداخل ،وقوة الكلمة والمساندة ،وبعد غزو العراق للكويت أصيب الوسط الثقافي بحمى كتابة السير، سير الأجيال،وسير المكان،وسير الثقافة، غالبها تعبر عن صراعات أيديولوجية، سيرة جيل مقلق ومتسيد، بكل معنى الكلمة بمواقفه وآرائه، فأصدر سامي مهدي كتابه المثير (الموجة الصاخبة ، شعر الستينات في العراق (بغداد 1994م)،ثم أردفه بكتاب مقارب له هو (المجلات العراقية الريادية ودورها في تحديث الادب والفن 1945-1958) وذلك في عام(1995م)، ويبدو انه وصلته أخبار ما كان ينشره ويكتبه فاضل العزاوي من كتاب(الروح الحية، جيل الستينات في العراق)الذي صدر عن دار المدى عام 1997م، ومقدمته مؤرخة (برلين – شتاء 1995)؛فضلاً عن ما كتبه عبد القادر الجنابي من سيرة متمردة في كتابه(انفرادات) هزت ضمير الثقافة العراقية فكتب عنه الناقد طراد الكبيسي مقالة بصفة رد في مجلة الأقلام حينها.
بعد ذلك أصدر هاشم شفيق،وهو شاعر يحسب نفسه على جيل الستينات ، كتابه (بغداد السبعينات ،الشعر والمقاهي والحانات) عن دار المدى(بيروت،2004)، ثم كتب فوزي كريم الصاخب الاخر كتابه(تهافت الستينيين ،أهواء المثقف ومخاطر الفعل السياسي) عن دار المدى(بغداد 2006). وقبل الجميع نشر يوسف الصائغ الجزء الأول من سيرته بعنوان(الاعتراف الأخير لمالك بن الريب) عن مطبعة الاديب البغدادية( بغداد،1985)، ثم تلاه بالجز الثاني ، ثم صدرت (يومياته) عن دار سطور (بغداد،2023م) التي أثارت شهية الوسط الثقافي (في الخرج والداخل) في التساؤل والعراك الثقافي التي تزعزت تحت ظروف القاسية بسبب الحصار والتسلط والاحتلال.
-2-
قد نتساءل: لماذا كانت المقهى هي المحرك الأكثر صخباً في حياة المثقف العراقي؟
لقد ربط معظم الذين كتبوا سيرهم وسير أجيالهم الثقافية بالمقهى، ولعل هذا حصل بفعل ملازمة الأجيال الثقافية التي سبقتهم للمقهى، كالرصافي والزهاوي والجواهري والصافي النجفي، لعدم وجود نقابات واتحادات ومؤسسات ثقافية يلتقون فيها ،ولحرصهم على ان لا يكونوا جزءاً من عجلة السلطة القائمة آنذاك، ولهذا عندما نشأن جماعة "الوقت الضائع" أسسوا لهم مقهاهم الخاص بهم ،قرب ساحة عنتر، وهي في نهايات الاعظمية من بغداد، قريبة من الريف، وقد اتخذ حسين مردان الغرفة الوحيدة في سطح المقهى سكناً له ، الا ان الامر انتهى الى اغلاق المقهى.( )
ويشير يوسف الصائغ في الاعترافاته الى مقهى في الموصل كان يرتاده هو وشاذل طاقة وسالم الخباز وهاشم الطعان ، وقبل ان تقترب الظهيرة يقومون جميعاً الى المقهى الحميم المعلّق في الشارع العام بين "الساعة "وشارع "النجيفي".( ) ويقول فاضل العزاوي:
" لا أريد هنا أن أحكم على السلوك السياسي ليوسف الصائغ وإنما على معنى كتابته. أي كتابة تمثله: يوسف في مرحلته الشيوعية الأولى أم يوسف في مرحلته البعثية الثانية؟ في رأيي لا هذا ولا ذاك. لقد حاول يوسف دائماً أن يخدعنا بأقنعته الايدلوجية (لي هذا تشكيكاً بنواياه الطيبة) التي وجد نفسه مرغماً على وضعها فوق وجهه، في حين ان ما يريده هو أن يعيش نفسه اليأس وحده جعله ينتقل من ضفة الى أخرى، وهو أمر يبدو لي مفهوماً خارج مهنة الكتابة ،ومع ذلك ،وهنا يكمن إشكاله. فالم يكف خلط الخدمة الشخصية بالآيديولوجيا، موهماً إياناً بانه كان مخلصاً في الحالين".( )

كتاب (الروح الحية) وان كان في الأساس هو سيرة (شبه ذاتية) لفاضل العزاوي، الا انه كتاب مشحون الفكر النقدي والايديولوجي وبحركة الصراع بين اليسار العراقي والتيار القومي بالعراق، بشكل او بآخر. ففي يوم 26/آب/ 1980م، الساعة الواحدة الا ثلثاً كتب يوسف الصائغ في يومياته،" ان الثقافة ،والحضارة ما تزال قاصرة عن وعي هذا العذاب الذي يعانيه وعاناه منذ فجر النضال، نماذج من هذا النوع.. فحضارتنا ما تزال انانية .. وتفكر بالمنفعة ... إذ ما الذي يقدمه نموذج منهار، غير ظاهر انهياره؟ وكيف يستطيع ان يبرهن عن عذابه، في عالم لا يجيد الاصغاء، ولا التفاهم..".( ) فالذي يشير اليه يوسف الصراع السياسي وحضور الأيديولوجيا ،وخروجه محطماً من تلك الصراعات المريرة ،ويرى بأن ما حصل له ، حتى مقتل زوجته (جولي) يعده سبباً من أسباب تلك الحياة ،ومنها تغييب اعتماد وغياب الهام، وهذا نتاج الصراع بين الشيوعيين والبعثيين، حيث يقول:
" دعهم يشعروا بالجريمة .. الجميع: شيوعيين وبعثيين.. ان دم سعادتنا في رقابهم جميعاً.. نحن الذين ما أردنا - قط – أن نؤذي أحداً. وحملونا آذاهم، بحجة الدفاع عن سعادة الشعب.. "وطن حرٌّ وشعبُ سعيد"، و(امة عربية.. ذات رسالة.." وعرض الانباء...".( )
كل ما حصل هو مجرد كيل لاتهامات متبادلة ترسخ الصراع وتبقيه قائماً، بدعوى الأيديولوجيا، وحشر التحولات الفكرية والتوجسات الذاتية داخل هذا المجال.
-3-
تركزت بدايات كتاب(تهافت الستينيين) لفوزي كريم ، حول الرد على كتاب سامي مهدي(الموجة الصاخبة)،وكتاب فاض العزاوي(الروح الحية)؛ فأشار الى انهم "حققوا هويتهم داخل حركة ثقافية استثنائية في مرحلة حكم العارفيْن ، التي جاءت مثل هدأة الصمت ، بعد مرحلة "البعث" الانقلابية الدموية. لم تكن مرحلة إصلاحية، بل مرحلة فراغ، والسلطة فيها ليست كلية الحضور في حياة الفرو والمجتمع".( ) هذا من الناحية الايديولوجية، أما من الناحية التاريخية والنفسية والعلاقات الشخصية، وما له علاقة بالسيرة الذاتية أو السيرة العامة ، حيث جعل من شخصية عادل كامل نموذجاً للتحول بسبب الظروف السياسية الخانقة ، حين كان عادل طالباً في كلية الفنون الجميلة، حيث يقول فوزي كريم على لسان عادل كامل:
- إنّني عضو في القيادة المركزية ويهمني رأيك. منذ فترة وأنا امام خيار صعب: هل التحق بالحركة المسلحة في الريف ام لا؟ إن رأيك سوف يكون حاسماً بالنسبة لي.( )
وفيما بعد تشكّلت شخصية عادل كامل ،الفنان الشاب ، ضمن تساؤلات مثيرة لديه ،وربما لدينا، وخصوصاً واني ارتبطت معه بصداقة طويلة، وهنا يقول فوزي كريم عن عادل باعتباره ثورياً متطرفاً هو الآخر، وأميناً لازدواجية الثوريين المتطرفين، فالتحق بحزب البعث وكرّس كل مواهبه ،التي أشاد بها لتعزيز نظرية "علم الجمال البعثي".( )
حصل هذا منذ نهاية الستينات، فالسبعينات، حيث برز جيل أدبي ، لم يكن أول الامر مقيّداً بالامكنة والمقاهي التي كان ترتادها الأجيال السابقة ؛ فهناك ، اتحاد للادباء ،ووزارة تُعنى بالثقافة ولها دار نشر وصحف ومجلات ،وحتى عام 1980م، كانت الصحف ومجلة(الطليعة الأدبية) هي مركز صعود جيل السبعينات الى المحافل الأدبية والمجلات العريقة كالاقلام وآفاق عربية،ففي السبعينات حصلت التحولات الكبرى في الوفاق الوطني،وصدرت بعض الصحف والمجلات التي لا ترتبط بنظام الحكم.،وان كان فوزي كريم يرى بان الجيل السبعيني كان ضحية من طراز خاص،وان سلطة البعث كانت تناضل من أجل أن تستوعب حقيقة سلطتها والناس والطبيعة جميعاً.( )
وفي حقيقة الامر انه بالرغم من خصب وجدية جيل الستينات، الا انهم يشعرون بعقدة النقص تجاه جيل الرواد، ولهذا كانوا يحاولون قدر الإمكان ان يقللوا من شان دورهم في الثقافة وفي الحداثة، ولم يبق من جيل السياب من هو ثابت في علاقته مع الحزب الشيوعي سوى سعدي يوسف الذي عدّ نفسه الشيوعي الأخير،وهو بلا شك شاع كبير وله دوره التحديثي ؛ بينما كانت نازك الملائكة ذات توجه قومي،وترك السياب والبياتي الحزب الشيوعي منذ وقت مبكر، وكانا يبرزان للقارئ وعلى الدوام انها تخليا عن الانتماء له، حتى ان البياتي تحول الى مخبر ثقافي ووشى بالقاص عبد الستار ناصر، واتهمه بانه هو الرقيب الذي رفع تقريراً عن قصته(سيدنا الخليفة) التي نشرها في مجلة(الموقف الادبي)السورية، وحصلت منها على نسخة بقيت معي حتى الاحتلال الأمريكي للعراق، قبل ان تصادرها الرقابة من الاكشاك والمكتبات، وكانت حول ما كان يفعله محافظ بغداد (خير الله طلفاح) خال صدام حسين، حين أسس شرطة الاداب وصار يجز شعر الشباب الخنافس ويصبغ سيقان البنات ذوات التنورات القصيرات(المني جوب)؛ وقبله نشر السياب عدة مقالات بعنوان(كنت شيوعياً) يتبرأ فيها من الحزب الشيوعي.
في السبعينات الزم الكثير من الشيوعيين – بعد انهيار الجبهة الوطنية- بالانتماء الى حزب البعث او الصمت حتى عام 2003م، ومن استطاع منهم الهروب من الجحيم هرب ، وعد نفسه فائزاً، معوضاً عن مقاهي الادباء بالنفي والصعلكة في مقاهي وارصفة العالم، فصاروا يتغنون بالعالم الراسمالي الذي كانوا يسبونه يومياً، ثم جاء انهيار الاتحاد السوفييتي وبالاً على الحركات الثورية والدول القريبة منه، فشغل هؤلاء انفسهم بطروحات الحداثة وقصيدة النثر والشعر الحر وغيرها من الطروحات.
كان فوزي كريم قد ربط بين "مقهى سمر" وبين اتحاد الادباء،وبين مراهقته الثقافية التي تعلقت بالثقافة الغربية، حتى وصف نفسه وجماعته بأنه " كان أشبه بتعلق مراهق من " محلة باب الشيخ" بحسناء في فلم أمريكي في اتحاد الادباء في مرحلة اول ثورة تموز تعلق أدباء اليسار الشبان باضاءات همنغواي ،وكان "مقهى سمر" بالمسافة بين تروسكي ولينين،وفي "مقهى المعقدين" بدخان الوجودية ،وفي "مقهى البلدية" بفضلات الشوفينية القومية الألمانية".( )

-4-
في عنوان كتاب هاشم شفيق يمتزج الشعر بالمقهى، حين يقول:
"غالبية الأجيال الشعرية والأدبية والفنية في العراق، كانت تلوذ بالمقهى في تلك الأزمنة لم يقل عن مستوى البيت، لا بل كان هو السكن والملجأ والمأوى ، البيت كان فقط للنوم في الليل، بينما المقهى هو المكان الذي كنا نكتب فيه ونقرأ وناكل الشطائر ونشرب الشاي والحامض والبارد من سينالكو ومشن وبيبسي وميرندا ،وكنا حتى نأخذ احياناً قيلولة فيه وقت الهواجر، كانت بيوتنا بعيدة ،وهي في الغالب تضج بأطفال الزقاق والحارات القريبة".( )
لقد بنى هاشم شفيق،الشاعر القريب من السبعينات ،والذي تصكع في مقاهي العراق ولبنان وسورية وغيرها، علاقة المبدع بالمقهى بوصفها قريناً للابداع ،وبالسيرة الأدبية له كمبدع؛ فهو يرى بأن " عالم المقهى، هو عالم خاص، له تقاليده ورائحته وطبائعه ،ونكهة الشاي فيه تختلف من مقهى الى آخر، كل مقهى يتفنن في تحضير الشاي، وفي وضع السّر في النكهة والطعم وطريقة اعداده، فثمة الفحم والجمر الوردي المائل الى الماسي بسبب قشرة الرماد الناعمة الشبيهة بالبودرة الرقيقة عليه، والاباريق الخزف، ذات الجمال الصيني ، عدا عن السماورات الداغستانية والكازخستانية والسمرقندية، فضلاً عن الاقداح الشفافة الصغيرة ، التركية والعراقية، انه عالم ملون من الحكايات والقصص والسرد الذي يمتاز به روّاد المقهى".( )
هذا من جانب الأثر المكاني وعوامل الجذب التي يمارسها صاحب المقهى على الرواد، وخصوصاً الادباء الذي يسكنهم وجود نوع من الحلم الأسطوري بالمكان، او بالمذاق، أو الانوار والاضواء والأجواء والمرايا، حيث تلتقي الذات مع عالم الشعر والادب بشكل عام ، ثم يحاول الكاتب ان يعوّد الى المؤثرات الاجتماعية والنفسية التي توفرها المقهى بوصف ملتقى الامزجة المختلفة والمتنوعة والغريبة ، مكان للبهجة المستدامة، العاب يدوية تدور بين مئات الايدي ومن مختلف المشارب والمقامات والارومات تطل يومياً لتتحدث بعالم السياسة والاقتصاد والشعر والفنون ،تروي وتقصّ وتعيد الزمان الماضي: آلاف المرات في اليوم الى الحاضر من الزمن المعاصر.( )
يضع هاشم شفيق نفسه مع جيل الستينات انسجاماً مع سبق عمره ،ولي مع عمره الكتابي، فقد اصدر ديوانه الأول ( قصائد أليفة) عن وزارة الثقافة والفنون ببغداد عام 1978م، فيرى بأن جيله كان يرتاد أكثر من مقهى وان كان تخصص بمقهى (البرلمان) و(المعقدين)؛ ولكن السبعينات كانوا يرتادون بشكل خاص مقهى(حسن عجمي) و(البرازيلية) ،ويرى بان البرلمان كان يأتي اليه الكل. فم من "بقايا من جيل الخمسينات غير المشهورين ، لفيف من جيل الستينات ، بينهم القاص والروائي والصحافي والشاعر، جيلنا المتنوع في اتجاهاته الأدبية والفنية فهناك الشاعر والرسام والنحات والموسيقي والممثل والمخرج والقاص والناقد والصحافي ،والاذاعي والتلفزيوني والسينمائي ، جيل متعدد المواهب،وكان جله يميل الى كفة اليسار".مشيرا الى ان الجلوس في المقاهي بالنسبة للادباء كان تقليداً خمسينياً،وله مقاهيه الخاصة ،كالبرازيلية وحسن عجمي والبرلمان والزهاوي والسويسرية والبلدية.( )
وهكذا انتقل الادباء من مقاهي العراق الى المنافي ومقاهيها في بلاد الشام وأوربا والامريكيتين، وفي استراليا وغيرها من بلدان العالم، حاملين معهم معاناتهم وخصوماتهم فراحوا يكتبون سيرهم لتوكيد حضورهم وبحثهم عن الفردوس المفقود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسرة الفنان عباس أبو الحسن تستقبله بالأحضان بعد إخلاء سبيله


.. ندى رياض : صورنا 400 ساعةفى فيلم رفعت عينى للسما والمونتاج ك




.. القبض على الفنان عباس أبو الحسن بعد اصطدام سيارته بسيدتين في


.. تأييد حكم حبس المتسبب في مصرع الفنان أشرف عبد الغفور 3 سنوات




.. عاجل .. إخلاء سبيل الفنان عباس أبو الحسن بكفالة 10 آلاف جنيه