الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التناص مع الف ليلة وليلة في مسرحيات العصر الذهبي الأسباني(مسرحية الحياة حلم) لكالديرون نموذج

سماح خميس أبو الخير

2024 / 3 / 6
الادب والفن


الملخص
أثرت الحضارة العربية في الأندلس في كافة مناحي الحياة العلمية والأدبية ، وكان للتراث العربي المتمثل في كتاب ألف ليلة وليلة أثراً كبيراً على الأدب الاسباني في عصر النهضة ؛ حيث تعد من أكبر الموسوعات القصصية التي فتن بها الأوربيون لما فيها من خيال وإبداع ، فأصبحت مادة خصبة ينهل منها الكتاب المسرحيون ليضيفوا إليها صياغات ودلالات تلائم أفكار عصرهم. ومن أشهر الكتاب الأسبان الذين استلهموا حكايات ألف ليلة وليلة (كالديرون دي لا باركا) الذي استطاع أن يستقي منها الكثير من العناصر الأسلوبية مع إضافة دلالات توظيفية جديدة لتصبح مسرحية (الحياة حلم) احدى أفضل أربعين مسرحية عالمية على مر التاريخ ، وهو ما يؤكد على مدى تميز وتفرد ألف ليلة وليلة مما يجعلها تضاهي إلياذة هوميروس التي استقى منها الكتاب اليونانيون أعظم أعمالهم .


Summary
The Arab Civilization in Andalusia affected all aspects of scientific and literary life and the Arab heritage represented in the book of one thousand and one nights had a great impact of on Spanish literature in the Renaissance it is considered one of the largest story encyclopedias that Europeans were fascinated with due to its imagination and creativity among the most famous Spanish writers who were inspired by the tales of the Thousand and one nights is the writer (calderon de la Barca) who was able to draw from them many stylistic elements with the addition of the new employment connotations, so that the play of (life is a dream) is one of the forty best international plays throughout history. This confirms the uniqueness of The Thousand and One Nights, which makes it comparable to Homer s Iliad, from which Greek writers drew their greatest works.







مقدمة :

شهدت الأندلس أهم اندماج عرقي بين الشرق والغرب، وكانت الأندلس منارة العلم والثقافة والفنون في القرون الثمانية التي حكم فيها العرب أسبانيا، ولقد قدم العرب لأسبانيا الكثير في كافة المجالات.
تأثر الأدب الاسباني تأثراً كبيراً بالأدب العربي في الشعر والنثر حيث يختتم الأدب الاسباني العصور الوسطى بعمل مسرحي للكاتب (فرناندو دي روخاس) والذي أتى متأثراً بحكايات (ألف ليلة وليلة) ، وشاعت روح عصر النهضة في الأدب الاسباني وصولاً إلى العصر الذهبي في القرن السابع عشر وظل الأدب المسرحي الأسباني متأثراً بشكل ما بالروح العربية التي نشأ بين ربوعها.
و أهم ما فتن به الأوروبيون من التراث العربي كتاب (ألف ليلة وليلة) والذي تم تدوينه على مدار قرون فهو يعد إحدى أكبر الموسوعات القصصية والتي تعرف باسم الليالي العربية ؛ حيث تحتوي على تنوع كبير على الصعيد الجغرافي والتاريخي . ألف ليلة وليلة هو عالم ساحر ملئ بالحوادث العجيبة والمغامرات الممتعة والأحداث المتداخلة والتشويق ولقد تحولت الليالي إلى وحي لكثير من الأدباء ؛ حيث أخصبت خيالهم وصولاً لمرحلة الإبداع لتتجلى حكايات الليالي في أعمالهم المسرحية مع اضفاء روح العصر المتمثلة في أفكار وفلسفة عصر النهضة. وتكمن أهمية ألف ليلة وليلة في كونها تعبر عن النظرة الشمولية لحياة المجتمعات الإنسانية كما أنها تلقي الضوء على حضارات متعددة وكل ما يمر به الإنسان من مشاعر وتناقضات.
تناصت بعض الأعمال المسرحية الأسبانية في العصر الذهبي مع ألف ليلة وليلة، وترجع أولى الاستلهامات إلى الكاتب (فرناندو دي روخاس) والذي ترجم عمله في القرن السادس عشر، والقصة التي يرويها الكاتب هي من مخزون الحكايات. امتد تأثير الليالي وصولاً لعصر النهضة الاسباني واستلهم (لوب دي فيجا) حكاية (تودد الجارية إلى الخليفة هارون الرشيد) ليكتب مسرحية (الجارية تيودور) باجترار مع تحريف الاسم فقط ليلائم المجتمعات الأوروبية.
أما الكاتب المسرحي (كالديرون دي لاباركا) وهو أحد أعلام العصر الذهبي الاسباني فقد كتب مسرحية (الحياة حلم) عن حكاية (النائم واليقظان) حيث عمل على تغيير النص المتناص وفق متطلبات فكرية وإبداعية تناسب العصر الباروكي ؛ حيث اشتد الجدل حول مسألة أفعال البشر المتعلقة بالإرادة الحرة والقدرية المطلقة وهيمنة الموضوعات والمداولات الفلسفية حول الوجود والحياة.
منح (كالديرون) دلالات توظيفية جديدة فقام بتوظيف النص التراثي في شكل إبداعي بهدف إثارة العديد من التساؤلات عن الواقع و الوهم، العقل و الحرية ومطامح النفس ، ومعنى الوجود الذي يتنازعه عالمي الاختيار والجبر أو القدر وصولاً لتحكيم الإرادة لتقرير المصير.
استعار (كالديرون) هيكل الموضوع من حكاية (النائم و اليقظان) حيث استند على لعبة الحلم والواقع مكوناً تسلسل الأحداث . كما استلهم العديد من العناصر ليؤسس مسرحيته ( الحياة حلم ) لتأتي المسرحية التي كتبها عام 1635 على قمة أعماله المسرحية حيث وصفت بأنها أسمى مثال على دراما العصر الذهبي الأسباني وأنها من أعظم أربعين مسرحية عالمية في كل العصور.
وتأتي أهمية البحث من أنه دراسة جديدة في مجال الأدب المسرحي والدراسات الأدبية النقدية التي تعتمد على التناص كأسلوب نقدي يمكن أن يستفيد منها الباحثون في هذا المجال والمهتمين بالدراسات المسرحية النقدية . كما تكمن أهمية الدراسة في التأكيد على عظمة التراث العربي المتمثل في (ألف ليلة وليلة) والتي تشبه في عظمتها الالياذة و التي استلهم منها الكتاب اليونانيون أعمالهم المسرحية العظيمة . فلقد فتن وتأثر بالليالي العربية الكثير من الأدباء العالميين لتصبح إحدى المسرحيات المستلهمة من التراث العربي من أعظم المسرحيات العالمية.
وتكمن مشكلة البحث في التساؤل الرئيس التالي :
كيف استفاد كالديرون من حكايات ألف ليلة وليلة في كتابة مسرحيته الحياة حلم ؟ ويتفرع عن ذلك عدة تساؤلات أخرى وهي :
- ما مدى تأثير الحضارة العربية في الثقافة الأوروبية ؟
- لماذا تعد ألف ليلة وليلة إحدى الموسوعات الأدبية العالمية ؟
- ما هو مدى تأثير ألف ليلة وليلة على الأدب الأسباني ؟
- لماذا اعتبر النقاد مسرحية (الحياة حلم) لكالديرون معبرة بشكل تام عن الفكر الباروكي لتصبح من أعظم المسرحيات على مر التاريخ ؟
- كيف تناصت مسرحية كالديرون (الحياة حلم ) مع حكاية (النائم واليقظان ) من ألف ليلة وليلة لتحقيق فكر الكاتب ؟
ويعتمد البحث على المنهج الوصفي التحليلي لتقصي مواطن التناص بين حكاية ( النائم واليقظان ) ومسرحية ( الحياة حلم ) للوصول إلى صورة أكثر وضوحاً عن مدى عظمة ألف ليلة وليلة وتفردها مما جعلها مصدراً لأهم المسرحيات العالمية. فالمسئولية الثقافية تفرض علينا أن نحافظ على التراث الأدبي العربي والقاء الضوء على أهميته.



1
المبحث الأول
تجليات ألف ليلة وليلة في مسرح العصر الذهبي الاسباني

أثرت الحضارة العربية في كافة نواحي الحياة العلمية والثقافية في الأندلس أو أسبانيا، فالأندلس هو الاسم الذي أطلقه المسلمون على شبه جزيرة (أيبريا) عام 711م بعد أن فتحها المسلمون بقيادة (طارق بن زياد) و(موسى بن نصير) في عهد الخلافة الأموية، ولقد استمر الوجود العربي بها حتى سقوط مملكة (غرناطة) عام 1492م، فلقد دام الحكم الإسلامي للأندلس قرابة ثمانية قرون. ومن الجدير بالذكر أن المسلمين قدموا لأسبانيا الكثير في مجال العلوم والفنون والآداب.
"لا شك أن الحضارة العربية الإسلامية هي جزء حي في كتلة الحضارة العالمية التي أثرت فيها وتأثرت بها، فلقد امتدت دولة الإسلام من حدود الصين إلى جنوب فرنسا . لقد شهدت الأندلس أهم اندماج عرقي بين الشرق والغرب، وكانت الحضارة يومها تشع من حواضر الأندلس، قرطبة وأشبيلية وغرناطة وطليطة .... إلخ، وكانت قرطبة في عصر الخلافة الأموية (928- 1030) عاصمة الإسلام السياسية الأكثر سطوعاً في ذلك الوقت، والأكثر تحضراً في أوروبا كما يشير المؤرخ (رامون بيرال) ، فقد انتشر التعليم في الأندلس انتشاراً عظيماً، وظهر العلماء والعباقرة في كل ميدان، وكثرت المدارس والجامعات وزاد الوعي الثقافي حتى ليروي أنه كان في الأندلس أيام الخليفة المستنصر (960- 976م) سبعون مكتبة عامة تحوي مئات الآلاف من الكتب في مختلف حقول المعرفة الإنسانية، بالإضافة إلى المكتبات الخاصة هذا فضلاً عن مكتبة قرطبة المركزية، وأصبحت قرطبة يومها قبلة العلماء والطلاب في المشرق والمغرب. وقد كان من أسباب الازدهار العلمي في الأندلس أنها لم تكن في أي وقت من الأوقات بمعزل عما يجري في حواضر العلم العربية الإسلامية الأخرى، بغداد ودمشق وفارس ومصر، فقد كانت الصلات الفكرية والعلمية مستمرة بين أقطار العالم الإسلامي ينتقل بين ربوعها العلماء والطلاب والمؤلفات والمذاهب الفكرية. وبعد سقوط الخلافة الأموية في الأندلس عام 1030م لم يؤثر ذلك سلباً على النشاط العلمي بل دفع ملوك الطوائف إلى التنافس في رعاية وتنشيط الحركة العلمية. وبعد زوال حكم دويلات الطوائف 1090 وسيطرة دولة المرابطين ومن بعدهم الموحدين عام 1146 لم تتأثر الحركة العلمية بل زادت سعة نشاطًا . وبعد أن دب الضعف في دولة الموحدين في الأندلس الذي انتهى عام 1237، وبعد سقوط الكثير من حواضر الأندلس بيد الممالك الاسبانية الشمالية، وانحسار الحكم العربي الإسلامي في الجزء الجنوبي الشرقي في ظل حكم دولة بني الأحمر التي قامت على أنقاض دولة الموحدين (1237- 1491) واتخذت من غرناطة عاصمة لها، نشطت الحركة العلمية والثقافية بسبب هجرة العديد من علماء المعاهد العلمية التي كانت منتشرة في المدن الساقطة بيد الأسبان، هذا فضلاً عن رعاية حكام بني الأحمر للعلم والعلماء حتى سقطت غرناطة عام 1492().

المحور الأول : أثر الأدب العربي في الأدب الاسباني :

تعد الأندلس نقطة التقاء الثقافة العربية بالعقلية الأوروبية. ولما كانت الأندلس منبعاً للثقافة والعلوم والفنون، فقد كان للأدب نصيب من ذلك حيث لاقت بعض الفنون كالشعر بأنواعه والكتابات وأدب الرحلات اهتماماً كبيراً من العرب، بينما لم يكن للفن المسرحي مكاناً يذكر. إلا أن العرب مارسوا فن التمثيل الذي كان يعرف باللعب أو المحاكاة أي تقليد الآخرين وكان الممثلون يعرفون بالمضحكين . حتى وصل التمثيل الظلي من الشرق الأقصى إلى العالم الإسلامي الذي أطلق عليه العرب خيال الظل؛ أي التمثيل الذي تقوم به دمى ويقوم الخيالي أو الممثل بوضعها على شاشة بيضاء ينعكس عليها ظل الدمى ويقوم بتحريك أطرافها وإجراء حوار بين تلك الدمى . "ولا نجد في الأدب العربي المسرحي سوى فقرات قصيرة يلخص فيها بعض المؤلفين مضمون التمثيليات التي شاهدوها، وإذا كان المؤلفون العرب يذكرون هذه التمثيليات بصورة مقتضبة وعابرة فإن المؤلفين اليهود الذين كتبوا باللغة العربية أسهبوا بعض الشيء في وصفها. وفي القرن الثالث عشر الميلادي ظهر مصطلح جديد للممثل البشري وهو (المحبظ) ولكن إجمالاً لم يكن هذا الفن محل احترام أو اهتمام من قبل العرب بل هو وسيلة للتسلية().
تأثر الأدب الاسباني تأثراً كبيراً بالأدب العربي في الشعر والنثر حيث " نشأ الشعر الغنائي في أسبانيا مبكراً في القرن العاشر الميلادي، وعرفت أولى قصائد الشعر الغنائي باسم (الخرجة) وهي لازمة قصيرة أضيفت إلى القصائد العربية والعبرية المعروفة بالموشحات. وكان الشعراء المعرفون باسم (خوجلار) ينشدون القصائد الملحمية ويمثلون المشاهد الساخرة التي عرفت باسم الألعاب الهزلية في ضواحي المدن . والمسرحية الاسبانية لم تكن معروفة جيداً في بداية العصر الوسيط إلا بعض المسرحيات الدينية في أواخر القرن الثاني عشر، وفي أواخر القرن الثالث عشر أسهم (ألفونسو العاشر) الملقب بالحكيم في تشجيع النثر الاسباني، حيث يشتمل أقدم أدب نثري أسباني على مجموعة من الحكايات الأخلاقية. وفي القرن الثالث عشر أيضا ترجم من اللغة العربية ولغات أخرى العديد من كتب الحكايات إلى اللغة الاسبانية منها (كليلة ودمنة) عام 1251 و(سندباد) من حكايات ألف ليلة وليلة عام 1253. وفي أوائل القرن الرابع عشر الميلادي بدأ النثر الاسباني يتخذ صبغة أشد تميزًا، واستمرت روح العصور الوسطى في القرن الخامس عشر الميلادي متمثلة في العديد من القصص الخيالية ، ويختتم الأدب الاسباني من العصور الوسطى بعمل مسرحي للكاتب (فرناندو دي روخاس) والذي أتى متأثرًا بقصص ألف ليلة وليلة"() وفي نهاية القرن الخامس عشر دخلت الطباعة اسبانيا، وخطا المسرح أولى خطواته وشاعت روح عصر النهضة في الأدب الاسباني وصولاً إلى العصر الذهبي في القرن السابع عشر، وظل الأدب المسرحي الاسباني متأثرًا بشكل ما بالروح العربية التي نشأ في محرابها.

المحور الثاني : أثر ألف ليلة وليلة في الأدب الاسباني:

"ليس من اليسير على الباحث الكشف عن حقيقة كتاب (ألف ليلة وليلة) فأصله مفقود ومؤلفه مجهول وزمان وصفه مبهم ومكان حوادثه مشتبه ، فالكتاب جعل الباحثين يهتمون بالليالي ويتقصون البحث عن أصولها"().
"يعد كتاب ألف ليلة وليلة أحد أكبر الموسوعات القصصية والتي تعرف باسم الليالي العربية، ترجع القصص في أصولها إلى القرون القديمة والوسطى لحضارات مختلفة كالمصرية والبابلية والهندية والفارسية، يعتقد بعض النقاد أن مؤلف كتاب (ألف ليلة وليلة) يعود لشخص واحد، بينما رجح آخرون أن مؤلف الكتاب لم يكن شخصاً واحداً، إنما ساهم في كتابته العديد من المؤلفين على مر الزمان، وذلك لاحتواء الكتاب على تنوع كبير على الصعيد الجغرافي كورود أحداث القصص في اليونان وتركيا ومصر والعراق، بل أكدوا أن الارتجال في الكلام وبساطته واحتوائه على الأخطاء اللغوية الكثيرة والمفردات العامية لن تكون لكاتب عربي، فمالوا إلى أن يكون الكتاب قد نقل مشافهة في البداية ثم تناقله المترجمون، وتغيرت السلسلة القصصية بعد تعاقب العديد من القرون من إضافات للقصص من أماكن مختلفة بشكل عشوائي في فترات متفاوتة، حتى وصل في النهاية إلى ستة نماذج في منتصف القرن العشرين وهي كالتالي:
- النسخة الأولى والثانية: كتبت في القرن الثامن الميلادي من عمل الفارسي (هزار أفسان).
- النسخة الثالثة: كتبت في القرن التاسع الميلادي والقصص فيها كما هي مع إضافة قصص أخرى.
- النسخة الرابعة: كتبت في القرن العاشر الميلادي من عمل (الجهشيري).
- النسخة الخامسة: كتبت في القرن الثاني عشر الميلادي وهي سلسلة من الحكايات المصرية.
- النسخة السادسة: امتدت كتابتها حتى القرن السادس عشر والقصص فيها بقيت كما هي بالإضافة إلى قصص الحملات الصليبية، وقصص أخرى أتى بها المغول إلى الشرق الأوسط.
كتبت (ألف ليلة وليلة) على شكل مخطوطات بداية، فكان أقدمها في بغداد، ثم سوريا، تليها مصر بالإضافة إلى النقل الشفاهي، وكتبت القصص بأيد مختلف على مر العصور ثم عربت . فتن الأوروبيون بسحر الحكايات في الشرق؛ حيث ترجمت أول نسخة على يد الفرنسي (انطوان جالان) ثم ترجمت النسخ اللاحقة اعتمادًا عليها"().
ويروي كتاب (ألف ليلة وليلة) حكايات عديدة تم جمعها في العصر الذهبي الإسلامي . تبدأ الليالي بقصة الملك شهريار الذي يعلم عن طريق الصدفة بأن زوجته تخونه فيأمر بقتلها، وينذر أن يتزوج كل ليلة فتاة ليقطع رأسها في الصباح وكأنه ينتقم من النساء أجمعين. ثم جاء يوم لم يجد فيه الملك فتاة ليتزوجها ، ولكن يعلم بأن لوزيره بنتًا اسمها (شهرزاد) فيقرر أن يتزوجها، وتقبل هي بمصيرها، ولكن الفتاة النابغة تطلب من أختها (دنيا زاد) أن تأتي إلى بيت الملك وتطلب من أختها (شهرزاد) أن تقص عليها وعلى الملك قصة أخيرة قبل موتها . قصت عليهم (شهرزاد) قصة لم تنهها، وطلبت من الملك أن يبقيها حية لتستكمل القصة في الليلة التالية.وهكذا بدأت (شهرزاد) في سرد قصص مترابطة بحيث تكمل كل قصة في الليلة التالية حتى وصلت الليالي إلى ألف ليلة وليلة، وحينها كان (شهريار) قد وقع بحبها فأبقاها زوجة له وتوقف عن قتل النساء واحتفلت مملكته بذلك لمدة ثلاثة أيام.
(ألف ليلة وليلة) ليست مجرد سلسلة حكايات، بل تعد علامة في التراث الأدبي عند العرب، ومادة خصبة أثارت شغف الكتاب الأوروبيين، إنها عالم ساحر ملئ بالحوادث العجيبة والمغامرات والمتعة ، عالم يعبره القارئ وكأنه في رحلة من الاستمتاع النفسي مأخوذًا بصور الجمال المدهشة والأحداث المتداخلة والسرد العفوي. لقد تحولت الليالي إلى وحي لفنانين وأدباء كثيرين حيث أخصبت خيالهم وصولاً لمرحلة الإبداع ليتجلى في أعمالهم المسرحية والأدبية والفنية والموسيقية . والإعجاب هنا كان منبعه ميل الأوربيين للخيال والسحر والغريب من القصص والمغامرات إلى جانب غلبة العناصر الفنية الأسلوبية القائمة على التشويق ومرونة السرد واضفاء الخيال رغم بساطة الموضوع وذلك عبر إضافات ومسارات تتواصل مع الموضوع الرئيسي ولا تنفصل عنه.
"وظفت حكايات (ألف ليلة وليلة) في جميع الأجناس الأدبية، وهذا التوظيف ينم عن غنى هذا التراث ؛ لما يحمله من دلالات تمنح الكاتب فضاء معرفيًا واسعًا يمكن أن يشكل إطارًا عامًا لنسيج النص.
تقول (سهير القلماوي) أن أول من أدلى بشيء له أهمية وقيمة عن أصل الحكايات هو المستشرق النمساوي (فون هامر) الذي نقل الكتاب إلى الألمانية، ونبه إلى أن نصا في كتاب (مروج الذهب) للمسعودي يشير إلى وجود كتاب بهذا الاسم ترجم أيام المنصور أو المأمون إلى العربية ، وهذا الرأي يقول إن أصل الكتاب مترجم، وأن هناك قصصاً ترجع إلى زمن المنصور مثل (السندباد والسبع وزراء) . وقد أخذ الكتاب شكله الحالي في القرن الثالث عشر وصولا لترجمة (انطوان جالان) الذي انتهى منه سنة 1717، وذهب المستشرق (ليتمان) إلى أن القصص في (ألف ليلة وليلة) لها طابع فني إسلامي، وأن هذا الطابع هو مشترك بين كل القصص التي أصلها هندي أو فارسي، وأن هذا الطابع يتجلى في السجع الذي يمثل الروح العربية"().
ولا يسعنا إلى أن نقول في الحكايات أنها نتاج ثقافات عربية مختلفة تم بلورتها على مدى أزمنة وأمكنة مختلفة. أنتجت نحو مائتي حكاية تخللتها أشعار وامتزج فيها الواقع بالأسطورة، وتتجلى فيها قصص من التاريخ والعادات وأخبار الملوك وعامة الناس فضلاً عن قصص جاءت مفعمة بالسحر والخيال أبطالها الحيوانات. لقد كان استلهام هذا الموروث ثروة للعديد من الأدباء الأوروبيين والأدباء الاسبان بشكل خاص حيث عاشوا في ظل الحضارة الأندلسية وتشبعوا بالثقافة العربية.

المحور الثالث : التناص مع ألف ليلة وليلة في مسرحيات العصر الذهبي الاسباني :

التناص بمعناه النقدي هو الحضور الفعلي لأحد النصوص داخل نص آخر ؛ أي العلاقة بين نص حاضر ونصوص أخرى سابقة عليه ؛ وبذلك يعد التناص تفاعل نص ما مع نصوص أخرى لتكوين بنية فنية جديدة بالاعتماد على آلية الاجترار أو الامتصاص أو التحوير . تلك العملية تعد من المهام التي تتطلب من الكاتب المسرحي مهارة عالية في توظيف المعنى الماضي في المعنى الحاضر ؛ حيث يضيف الكاتب رؤيته الخاصة باحداث تغييرات قد تكون جذرية على النص الأصلي ليضيف رؤاه سواء بالاتفاق أو الاختلاف ، ويكون على الناقد تفسير رؤى المؤلف ورصد أشكال التأثر مع المصادر الأولية للنص ومن ثم الكشف عن الرابطة بين النص القديم والجديد ودور القطعة الأدبية المختارة في النص الجديد . " ويعد موضوع التناص منطلق رئيسي ومهم في ميدان النقد الأدبي ، والمحور الأساسي في التفريق بين المعاني المخلوطة كالاعداد والاستلهام والسرقات الأدبية والاستشهاد ليصبح التناص حتمية وهكذا كان للنص المسرحي نصيبا في مثل هذه الدراسات النصية كواحدة من الإشكاليات التي يعني بها الكثير من النقاد "() " كما يعد التناص من أهم المفاتيح الإجرائية لفهم الأدب المقارن ، ورصد عملية التثاقف والحوار بين الحضارات والثقافات الإنسانية في شتى المجالات الفكرية والفنية والأدبية ، وكذلك أداة لمقاربة النص الأدبي واستنطاق بنيته العميقة والدخول إلى أغوار النص ومعرفة دلالاته وتفاعلاته الخارجية والداخلية ، لأن النص هو شبكة من التفاعلات الذهنية ونسق من المصادر المضمرة والظاهرة التي تتوارى خلف الأسطر "() .
دخلت (ألف ليلة وليلة) في نسيج التركيب المعرفي للثقافة الأوروبية، فكان لحكاياتها أثر كبير في مختلف الأجناس الأدبية. وقد بدأ اهتمام الأوروبيين بها ليصبح هذا الكتاب جزء لا يتجزأ من الأدب العالمي مثل إلياذة هوميروس وتأثيرها في المسرح اليوناني. وتكمن أهمية (ألف ليلة وليلة) في كونها تعبر عن النظرة الشمولية لحياة المجتمعات الإنسانية، وتلقى الضوء على حضارات متعددة متعاقبة ومتزامنة وكل ما يمر به الإنسان من أحزان وأفراح ومصائب وخيبات وتناقضات ، فتتوغل في أغوار النفوس البشرية لتكشف عن كينونتها الخفية، وما تحويه النفوس من شرور ونقاء وفضيلة ورذيلة ، وبذلك تعكس الحكايات كثير من الرؤى والمفاهيم التي تؤمن بها الجماعات البشرية . ولقد كانت للمثاقفة دور هام في استلهام ذلك العمل العظيم الذي يعد فضاء واسعاً يجمع كافة العلاقات الإنسانية والاجتماعية والكثير من الحوادث التاريخية والاتجاهات الفكرية.
تناصت بعض الأعمال المسرحية الاسبانية في العصر الذهبي مع (ألف ليلة وليلة) وترجع أولى تلك الاستلهامات لــ (فرناندو دي روخاس) في نهايات العصور الوسطى "كان (فرناندو دي روخاس) (1470- 1541) كاتباً من أصل اسباني وعمله الوحيد المعروف هو (لاسيليستينا) وهو عمل أدبي شهير تم نقله خلال فترة الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر النهضة. وعلى الرغم من أن (لاسيلستينا) يعرض جوانب حوارية إلا أن (فرناندو دي روخاس) لم يعترف به في كثير من الحالات ككاتب مسرحية في جوهره لأن عمله يفتقر إلى عدة عناصر مهمة ذات طبيعة درامية، ولكن يحسب للعمل وصفه للبيئات والشخصيات المختلفة ببراعة . ويعود تاريخ أول طبعة للمسرحية في عام 1499 في عهد الملوك الكاثوليك، وكانت نوعاً من الكوميديا الإنسانية وهدفها الرئيسي القراءة وليس التمثيل، بل ان البعض يعدها منطقة وسط بين النص المسرحي والرواية، لذلك فقد أعد النص الأصلي للمسرح الكاتبان الأسبانيان (لويس أسكوبار) و(هوير تودي لا أوسا) في عصر النهضة .
القصة التي يرويها الكاتب هي من مخزون الحكايات. إذ فيها عاشق هو (كاليستو) وخادمان هما (سيمبروينو) و(بارمينيو) ومعشوقة هي (ميليبيا) وعجوز شريرة هي (ثيلستينا) التي تستطيع بما لديها من خبرة الجمع بين (كاليستو) و(ميليبيا)، وتنتهي القصة بموت العاشق في حادث عابر، فتقتل المعشوقة نفسها بذات الطريقة التي مات بها العاشق، وكما هي الأعمال التراجيدية يقتل الخادمان العجوز الشريرة للاستيلاء على من مدخراتها، فيحاكمان وينتهي مصيرهما بالموت في نهاية مألوفة.
على الرغم من أن العمل يركز على الحب بين (كاليستو) و(ميليبيا) إلا أنه من خلال الحوار نستنتج ثلاثة أهداف:
الأول: فضح النساء وخيانتهم لأسيادهم من أجل الحصول على ما يريدون.
والثاني: التحذير من جنون الحب.
الثالث: تعبير المؤلف عن الصراع المستمر بين ما يعتقد ويشعر ويقال ويفعل"().
وظلت الأسئلة عالقة هل كان الأصل الذي اعتمده المؤلف هو الروايات الشفاهية أم النصوص المكتوبة من الحكايات، حيث قام الكاتب بتوظيف الأسلوب الفني للحكايات ، باعتماده على الاهتمام بوجود حكاية غرامية ، والاعتماد على وجود العجوز الشريرة المستفيدة والمحركة الرئيسية للأحداث وهي احدى الشخصيات التي أدرجتها (ألف ليلة وليلة) في عدة حكايات.
امتد تأثير الليالي وصولًا إلى عصر النهضة الاسباني، فاستلهم منها الكاتب الأسباني الشهير (لوب دي فيجا) مسرحية (الجارية تيودور) والتي تبدو وكأنها نسخة عن حكاية (تودد الجارية إلى الخليفة هارون الرشيد) . تتلخص الحكاية في أن تاجراً ثرياً ببغداد، لم يكن له أبناء حتى كبر سنه وخاف ذهاب ماله ونسبه، فظل يتضرع لله وينذر النذور من أجل أن يرزقه الله بولد، واستجاب له الله ورزق بابن أحسن تربيته، وتوفى الرجل وأوصى ابنه بالحفاظ على ماله، ولكن لم يتذكر الولد الوصية وعاش مسرفاً حتى لم يتبق له سوى جارية والده، تلك الجارية كان لا نظير لها في الجمال وفصاحة اللسان والثقافة، وعندما ساءت الأحوال طلبت الجارية من سيدها أن يبيعها لأمير المؤمنين وأن يطلب في ثمنها عشرة آلاف دينار بحجة أنها ليس لها نظير، وبالفعل قام بذلك ولكن قرر الخليفة عقد اختبار لها، وتوالت الاختبارات في كافة العلوم حتى انتصرت على العلماء المتخصصين في العلوم، ليأمر الخليفة لصاحب الجارية بمائة ألف دينار، ويطلب من الجارية أن تتمنى ما تشاء، فتطلب منه أن يردها لسيدها، فيستجيب الخليفة ويردها ويعطيها خمسة آلاف دينار، ويجعل صاحبها مقرباً له ويعطيه كل شهر ألف دينار، واعتقت الجارية وتزوجها صاحبها والتي أصبح بفضلها وذكائها من المقربين لأمير المؤمنين. تلك هي الحكاية كما وردت في حكايات (ألف ليلة وليلة) "فالحكاية بسيطة والحبكة ضعيفة كما أن تفوق جارية على كبار العلماء قد يكون أمراً مبالغاً فيه، إلا أن الهدف كان تقديم مجموعة من المعارف للمتلقي في إطار قصصي به بعض المواقف المضحكة، والأسئلة التي تثير الفضول ، فصانع الحكاية اعتمد على السجع والألغاز واعتماد بعض المواقف المضحكة لكسر الملل، كما اعتمد على التشويق في تصاعد التوتر عندما يضيق الخناق على الجارية في الأسئلة المطروحة،إلى أن تنتهي الحكاية بتلك النهاية السعيدة، حيث تشير الحكاية إلى أهمية المعرفة والتي رفعت الجارية إلى مرتبة الأحرار وأصبحت سيدة عالية القدر، حيث تقدم الحكاية صورة للمرأة التي تعرف كيف تتفوق على الرجال إلى جانب أخلاقها وجمالها"().
نالت تلك الحكاية شعبية كبيرة في الأدب الاسباني، وبلغ من شعبية هذه الحكاية وذيوعها أن عمد إلى نقلها إلى خشبة المسرح الكاتب الكبير (لوب دي فيجا) فكتبها وكأنها نسخة عن الحكاية الأصلية حيث تناص معها تناصا مباشرا مستخدما آلية الاجترار إلا أنه حرف قليلاً الاسم من (تودد) إلى (تيودور) ليتناسب مع اسم شائع في المجتمعات الأوربية.
أما الكاتب المسرحي ( كالديرون دي لاباركا ) وهو أحد أعلام الكتاب المسرحيين في العصر الذهبي الاسباني فقد برع هو الآخر في استلهام احدى حكايات (ألف ليلة وليلة) في مسرحية (الحياة حلم) في تناص غير مباشر حيث عمل على تغيير النص المتناص وفق متطلبات فكرية وإبداعية تناسب العصر الباروكي الذي عاصره الكاتب . وتأتي مسرحية (الحياة حلم) التي كتبها عام 1635 على قمة أعماله المسرحية حيث وصفت بأنها أسمى مثال على دراما العصر الذهبي الاسباني.

المبحث الثاني
التناص مع ألف ليلة وليلة في مسرحية (الحياة حلم) لكالديرون

يتمثل العصر الذهبي الاسباني في مرحلتين ، ويعد (لوب دي فيجا) خير ممثل لمرحلته الأولى، أما (كالديرون دي لاباركا) فيمثل المرحلة الثانية من العصر الذهبي الذي بلغت فيه اسبانيا قمة نهضتها وعظمتها الحضارية ، ليعد خير ممثل للأدب الباروكي والذي كان سمة في العصر الذهبي في اسبانيا.
ويتميز الباروك بعدد من الخصائص الثقافية والأدبية والدينية، حيث يعتبر الإنسان كائن معرض لعدد من الإغراءات والخطايا التي لا يستطيع تجاوزها بمفرده دون معرفة ورعاية إلهية. وتندرج مسرحية (الحياة حلم) للكاتب الاسباني (كالديرون دي لاباركا) ضمن الأدب الباروكي، حيث تدور الفكرة الرئيسية حول الحرية مقابل القدر في عصر اشتد فيها الجدل حول مسألة أفعال البشر هل هي متعلقة بالإرادة الحرة أم بالقدرية المطلقة، وتعد مسرحية (الحياة حلم) نموذجاً للأدب الباروكي حيث تم إدراجها كواحدة من أعظم أربعين مسرحية في كل العصور، وهي مستلهمة من حكاية (النائم واليقظان) من كتاب (ألف ليلة وليلة).

المحور الأول : حكاية (النائم واليقظان) في (ألف ليلة وليلة) :

تقول شهر زاد في حكاية (النائم واليقظان) أنه كان هناك تاجر في خلافة هارون الرشيد وكان له ولد اسمه (أبو الحسن الخليع)، مات والده وترك له مالاً كثيراً، فقسم ماله شطرين وادخر النصف وتصرف في النصف الآخر، وصار يعاشر الأغنياء، ويقبل على الطعام و الشراب حتى فنى ماله، فتوجه إلى أصدقائه وعرض لهم أمره فلم يهتم به أحد، فعاد إلى أمه حزينًا، وحكى لها ما جرى له فقالت له أمه: "يا أبا الحسن أولاد هذا الزمان إن كان معك شيء قربوك، وإن لم يكن معك شيء أبعدوك.
قال:
إن قل مالي فلا خل يصاحبني

أو زاد مالي فكل الناس خلاني
كم من صديق لأجل المال صاحبني

وآخر عند فقد الماد عاداني()
ثم ذهب أبو الحسن للمكان الذي ادخر فيه بقية ماله، وعاش عيشة طيبة، ولكنه أصبح لا يقترب لأحد، ولا يسمح بقرب أحد سوى الغريب فقط لليلة واحدة، فإذا أصبح الصبح لا يعرفه بعدها، فيجلس كل ليلة على الجسر ، فإذا رأى غريباً دعاه لمنزله ويكرم ضيافته ثم يصرفه في الصباح، فلا يعود إليه أو يسلم عليه وصار على هذا الحال مدة سنة.
وفي أحد الليالي وهو جالس ينتظر صديق جديد يأخذه لمنزله، جاء الخليفة والسياف مسرور متخفيان فقال لهما: " هل لكما أن تذهبا معي إلى موضعي فتأكلا وتشربا ما تيسر وهو خبز مشبق ولحم معرق ونبيذ مروق"() . فأعجب الخليفة بكرمه الزائد حتى أنه أراد أن يكافئه ، ولكن قال أبو الحسن أنه لن يقابله مرة أخرى، وحكى له حاله ، فسأله الخليفة عن أمنية يتمناها، فقال أنه يتمنى أن يتولى الأمر والنهي حتى ينتقم من جيرانه، لأن بجواره محلاً به أربعة شيوخ، فإذا أتى إليه ضيف يضايقونه ويهددوه دائما باخبار أمير المؤمنين، فيتمنى أن يحكم يوماً واحداً حتى يضرب كل واحد منهم أربعمائة سوط أمام محلهم، ويبعث مناديًا ينادي في بغداد أن هذا جزاء من يبغض الناس ويكدر مسراتهم. فقال الخليفة يعطيك الله ما تطلب وطلب استكمال الشراب، ولكن ملأ الخليفة القدح ووضع فيه مخدرًا فشربه أبو الحسن فوقع على الأرض وحمله مسرور إلى القصر، وأوصى أن يعامل كأنه الخليفة، حيث قال لجعفر البرمكي القائم على أمر الخليفة: "اعرف هذا الشاب، وإذا رأيته غدًا جالسًا فقف في خدمته وعلى الأمراء والكبراء وأهل دولتي وخواص مملكتي أن يقفوا في خدمته ويمتثلوا لما يأمرهم به أما أنت فإذا أوصاك بشيء فافعل واسمع منه ولا تخالفه ذلك اليوم. ويأيتها الجواري هذا النائم إذا استيقظ غدًا من منامه فقبلن الأرض بين قدميه واخدمنه ودرن حواليه وألبسنه حلة الملك واخدمنه خدمة الخلافة، ولا تنكرن من حاله شيئًا وقلن له أنت الخليفة، ثم أوصاهن بما يقلن له، ودخل في مكان محجوب عنه"().
وفي الصباح فتح أبو الحسن عينيه فوجد حوله قصرا جدرانه من ذهب وستائره من حرير وجوار وخدم حتى أنه لم يعد يدري هل هو في حلم أو في يقظة أو أنه في الجنة، حتى ناداه من حوله بأمير المؤمنين، وعاملوه معاملة الخليفة حتى بدأ يصدق ما يجري حوله وهو متحيرًا، ثم نادى على جعفر وأمره بأن ينزل مع الوالي إلى المدينة حيث أراد أن يحقق ما أراده من عقاب لأصحاب المحل، فأمر بضربهم أربعمائة سوط.
وأمر جعفر أن يقول لهم أن هذا جزاء من يكثر كلامه وينغص على جيرانه لذتهم وطعامهم، كما أمره بدفع مائة دينار إلى والدة أبي الحسن.
فعل جعفر ما أمر به، وظل أبو الحسن في القصر مستمتعاً بما حوله والخليفة يشاهده خفية. وعند منتصف الليل أمر هارون الرشيد أن ترمي إحدى الجواري قطعة مخدر في القدح، فما شربه أبو الحسن حتى نام، وأمر الرشيد بأن يحملوه إلى منزله.
فلما جاء الصباح أخذ أبو الحسن يصيح على الجواري حتى سمعته أمه ، ففتح عينيه فوجد أمه ليحكي لها ما رآه في منامه ، فحذرته أن يجن، ولما حكت له ما صدر من أمر جعفر البرمكي والمال الذي أعطاه اياها، أكد لها أنه هو من أرسله واتهمها أنها هي من تخرف ، فقام بضربها حتى سمع الناس صراخها فمسكوه وأخذوه إلى (المارستان) وهو يصرخ بأنه أمير المؤمنين وظل على هذا الحال عشرة أيام وكان يضرب بشدة، حتى أتت أمه ونصحته بأن يعود لعقله فقال لها: "صدقت يا أمي واشهدي على أني تائب ورجعت عن جنوني فخلصيني، فلقد أشرفت على الهلاك"() فشفعت له أمه وعاد إلى منزله.
وعند انتهاء الشهر اشتاق أبو الحسن إلى الشراب مع الأصدقاء، فعاد إلى فرش منزله وهيأ الطعام والشراب، وخرج إلى الجسر، فإذا بالخليفة يمر ويسلم فرفض أبو الحسن السلام لأن ليلة ما بات عنده شعر كأن جاءه شيطان وأذهب عقله، وحكى ما جرى واتهمه بأن مقدمه غير مبارك ولكن ألح الخليفة أن يستضيفه فوافق ، وطرب الخليفة من شعره وأعجب بصفاته وأفعاله وحسن طباعه وقال في نفسه أنه سيجعله نديمه وجليسه . وللمرة الثانية خدره الخليفة وحمله للقصر، وعندما فتح أبو الحسن عينيه وسمع غناء الجواري صار يضحك ويستعيذ من الشيطان وهو خائف أن يعود للمارستان بعد ما ندم على ضرب أمه، فتحير من أمر نفسه، ثم خرج الخليفة على أبي الحسن وأنعم عليه وزوجه من جارية عنده وأمسكه عنده في القصر وجعله من خواص ندمائه وقدمه الخليفة على عشرة ندماء. ثم تسترسل شهرزاد لحكاية تتصل بحياة أبو الحسن والجارية كحكاية متصلة كعادتها في الليالي .

المحور الثاني : التناص مع حكاية (النائم واليقظان) في مسرحية (الحياة حلم):

تعد مسرحية (الحياة حلم) من أبرز الأعمال المسرحية التي شهدها العصر الذهبي للمسرح الأسباني بطابعه الشعري والفلسفي، فالمسرحية تعد مثال حي للمسرح الباروكي الذي يهيمن عليه الموضوعات والمداولات الفلسفية حول الحياة.
تأثر (كالديرون) بحكايات (ألف ليلة وليلة) واستلهم حكاية (النائم واليقظان) في صياغته لمسرحية (الحياة حلم) وتجلى ذلك في الصيغة الأسلوبية بالإضافة إلى المحتوى القصصي . حيث منح دلالات توظيفية جديدة مختلفة عما قبلها ، فقام بتوظيف النص التراثي في شكل إبداعي بهدف إثارة العديد من التساؤلات عن الواقع والوهم، العقل والحرية، مطامح النفس والحواس، معنى الوجود الذي يتنازعه عالمي الاختيار والجبر أو القدر وصولاً لتحكيم الإرادة لتقرير المصير. لقد وظف الحكاية لخدمة القضايا التي يتناولها النص فكانت الحكاية مادة خصبة استلهم منها كالديرون العديد من العناصر لتأسيس أشهر مسرحياته .
تبدأ المسرحية بتخلي الخيول عن (روزورا) وخادمها، وهي ترتدي زي رجل للتخفي، وكانت تسير بلا طعام عبر جبال بولندا. وبينما هما يسيران يجدان برج كبير مسجون فيه (سيجسموند) ومقيداً بالسلاسل، ويخبرها بأن جريمته الوحيدة كانت الولادة.
يصل (كلوتالد) الحارس والمعلم الملكي لــ (سيجسموند) ليأمر بقتل المتسللين إلى البرج، ولكنه يتعرف على سيف (روزورا) باعتباره سيفه الذي تركه مع امرأته في بلاد المسكوف ليحمله طفله، ويعتقد أن (روزورا) هي طفله وأنها ذكر نظرا لتخفيها ، ثم يأخذ (روزورا) وخادمها إلى الملك (باسيل) باعتبارهما متسللين كنوع من الواجب رغم عاطفته الأبوية تجاه (روزورا).
في القصر يناقش (استولف) مع ابنة عمه (أورور) - وهما أبناء عم (سيجسموند) الأمير السجين - أمر كونهما خلفاء الملك الذي سجن ابنه منذ كان رضيعًا بسبب نبوءة تقول أن الأمير سيجلب العار والكوارث للبلاد وسيقتل والده.
أراد (باسيل) بمشورة الجميع أن يعطي ابنه فرصة لإثبات خطأ النبوءة، ويجعله حاكما ليوم واحد، فإذا وجده كما قالت النبوءة فسيعيده إلى زنزانته، وبذلك يكون حق الملك ل(أستولف ) و(أورور) ليصبحا بعد زواجهما الملك والملكة.
يدخل (كلوتالد) ويخبر الملك بأمر المتسللين اللذين علما بأمر الأمير السجين، ولكن لم يهتم الملك للأمر لأنه بالفعل أخبر الجميع وهو ما أسعد (كلوتالد) لأن طفله قد نجا من العقوبة . ويعلم (كلوتالد) أن (روزروا) امرأة وأنها تود الانتقام من (استولف) الذي غرر بها ويريد أن يتزوج بأخرى وهي تريد أن تسترد شرفها بسيف أبيها الذي ترك أمها يوماً، وهو ما جعل (كلوتالد) يتحمس ل ( روزورا ) وكرامتها.
يأمر الملك (كلوتالد) بإعطاء الأمير مخدراً ليضعه في نوم عميق لينقله إلى القصر الملكي، وعندما استيقظ الأمير أخبره (كلوتالد) أنه أمير بولندا ووريث العرش. يستاء الأمير لإخفاء هذا السر طوال هذه السنوات وهو لا يدرك إن كان ذلك حلماً أو حقيقة. ويدخل الأمير في حالة من الرعونة، فيغضب عندما يجد (استولف) منبهراً بجمال (أورور) وعندما يخبره الخادم بشأن خطوبتهما يلقيه من الشرفة ويعلن أنه سيقاتل الجميع ، ويحاول إغراء (روزورا) ويتقدم (كلوتالد) للدفاع عنها باعتبار أنها قريبته ووصيفة (أورور) ، فيسحب الأمير خنجرا ويهدد (كلوتالد) بالقتل بينما ينقذه (استولف) في مبارزة حامية.
يقوم الملك (باسيل) بتهدئة الأمير ثم يرسله نائماً مخدراً مرة اخرى إلى زنزانته . وتقوم (روزورا) بمواجهة (أستولف) وتكشف (أورور) الحقيقة وتغضب ويرسل (كلوتالد) خادم (روزورا) للسجن اعتقاداً بأنه كشف أمر أبوته ل(روزورا).
يستيقظ الأمير من نومه وهو يتمتم عن القتل والانتقام. وعندما بدأ يستفيق أخبر(كلوتالد) على ما رآه ظناً منه أنه كان حلما ويخبره عما تعلمه من هذا الحلم. فيقول أنه حتى في الأحلام يجب على الناس التصرف بلطف وعدالة. حيث يبدأ الأمير في التفكير في الصواب والخطأ ويراجع نفسه.
يكتشف الناس أن لديهم أمير فيخرجونه من زنزانته، ليغفر الأمير لمربيه (كلوتالد) ويقسم بالولاء للملك (باسيل) والده. ويتحدث (كلوتالد) مع (روزورا) التي طلبت منه المساعدة في قتل (استولف) فيرفض مذكراً إياها بأنه أنقذه من الأمير يوماً. وأنه قد يصبح وليا للعهد وما هو إلا تابع لا يصح أن يخون سيده ، خاصة وأنه قد اتحد مع (استولف) في مواجهة الأمير وأتباعه. مع اقتراب الحرب يرى الأمير (روزورا) وتحكي له قصتها وبادرت بالانضمام لجيشه ضد (استولف) ومعاونيه.
ينتصر جيش الأمير ويستعد (باسيل) و(كلوتالد) و(استولف) للهرب ، ولكن يصل الأمير ويواجه (باسيل) ابنه في انتظار لحظة موته، ولكن الأمير ينقذ حياته ، وهنا يعلن الملك الأمير وريثاً للعرش، ثم يقرر (سيجسموند) أنه على (استولف) أن يفي بوعده ويتزوج (روزروا)، في البداية كان (استولف) متردداً لأنها ليست نبيلة الولادة ،ولكن عندما كشف (كلوتالد) أنها ابنته وافق (استولف)، ثم يدعو (سيجسموند) ابنة عمه (أورور) للزواج ويعترف في النهاية أنه سواء كان نائما أو مستيقظاً فيجب على المرء أن يسعى إلى الخير.
استعار (كالديرون دي لاباركا) هيكل الموضوع من حكاية (النائم واليقظان) حيث يستند في الحدث الدرامي على لعبة الحلم والواقع حيث ينتقل البطل بينهما مكوناً تسلسل الأحداث، فهذا التأرجح بين عالمي الحلم والواقع يؤثر على مواقف البطل . فالأدب الباروكي والذي تمثله المسرحية يعبر عن صورة الإنسان المرهق بنزواته وبحثه عن المعرفة والقدرة على التحكم في الذات، ليصبح الانتصار على النفس هو النجاح الأعظم في عالم يضج بالأوهام والأحلام . و هذا النص هو ترجمة للمبادئ الباروكية التي تعتبر الإنسان كائنًا هشًا معرضًا للخطايا والإغراءات والتي لا يمكن أن يتجاوزها وحده دون إرادة داخلية ومعونة إلهية.
ويتجلى التناص بين المسرحية (الحياة حلم) وحكاية (النائم واليقظان) في عدة عناصر استطاع الكاتب (كالديرون) أن يستثمرها من زاوية فلسفية ملائمة للفكر الباروكي السائد في ذلك العصر.
العنصر الأول : المضمون الفكري والبنية الدرامية :
استطاع كالديرون التقاط فكرة التخبط والتيه في حكاية (النائم واليقظان) الناتجة عن المخدر والتي وضعت أبا الحسن في حالة حلم زائف ليجعلها محوراً لمناقشة قضية حرية الاختيار في مقابل القدرية المطلقة. لقد مر (سيجسموند) بحالة مشابهة لما مر به (أبو الحسن) حيث أعطى مخدراً ليوم واحد ليذهب إلى القصر ثم يعود إلى مقره مرة أخرى وهو مخدراً.
"كلوتالد: إليك ما حدث حسب ما أمرتني. استخدمت السائل المخدر والأعشاب التي تحرم الإنسان من الإدراك والشعور ويسلمه إلى نوم عميق لا شيء يخرجه منه، قدمت له الشراب فشربه وتصبب وجهه عرقاً ونام نوماً أشبه بالموت، وهنا نقلته بلا ابطاء إلى هذا القصر حيث تنتظره العظمة والأبهة"().
لم يستطع الأمير إدراك ما هو فيه مثلما حدث لأبي الحسن.
"سيجسموند: نعم نعم، لم أفق بعد، لا أزال أنام وأنا واقف، فإذا كان ما جرى حلمًا. فإنني ما أزال أحلم. لقد وجدتني في سرير ملكي عليه ستائر لامعة كأنها ذلك البساط من الزهر، وكان ألف نبيل مترام على أقدامي، لن أقدر أبداً أن أصف ما كنت أحسه"().
لقد وضع تغير الأحداث الأمير في حالة من التخبط وعدم القدرة على التصرف الواعي بل كانت الرعونة والانتقام أول ردود الأفعال للأمير، مثلما حدث لأبي الحسن عندما انتقم من جيرانه عندما تملك زمام الأمور.
"سيجسموند: لا يمكن لشخص أن يعترض مسرتي أن يكون صحيحاً عادلاً كان كبير الأمناء يضايقني فألقيته من الشباك"().
وعندما أعاد الأمير التفكير في أفعاله بعدما عاد لسجنه اختار الفضيلة فعفا عن الملك وأتباعه ، وهو ما حدث لأبي الحسن عندما أعيد للقصر للمرة الثانية فلم يأت بأي فعل متهور بل اتسمت أفعاله بالرزانة حتى وصوله لمنزله ، حيث تعلم أن الرعونة قد تجعله موصوم بالجنون . لقد نجح كالديرون في التأكيد على أن اختيار العقل الواعي هو الطريق للمصير الجيد .
وضع كالديرون الحكاية في اطار درامي متقن ولكنه مستوحى اجمالا من الحكاية ؛ ففي البداية عرض حال الأمير السجين ليصل إلى العقدة عندما أشار الملك باعطاء فرصة للأمير ثم يتأزم الأمر عندما يتصرف الأمير بقسوة أثناء حكمه لنصل إلى ذروة الحدث وهي عودة الأمير لسجنه ، ثم يبدأ الحدث في الهبوط بندمه على ما فعل ومحاولته اتباع الطريق الأمثل والأسمى ليتولى الحكم في النهاية. ويتشابه البناء الدرامي مع الحكاية في البداية التي تستعرض حال أبي الحسن البائس وتخطو الأحداث وصولا لفرصة الحكم وإن كانت في الحكاية قد تمت مرتين وصولا الى مرحلة الرشد والحكمة من أبي الحسن
العنصر الثاني : إدراج حكاية موازية للحكاية الرئيسية:
تتميز حكايات (ألف ليلة وليلة) بتشعب حكاياتها لتظل متصلة مفعمة بالتشويق فلقد أدرج في حكاية (النائم واليقظان) حكاية أخرى تليها وتتصل بها في نفس الوقت ، وهي عن أبي الحسن مع جارية هارون الرشيد بعد أن أصبح أحد ندمائه، وهو الأسلوب الذي اتبعته شهرزاد لتظل الليالي متصلة محافظة على عنصر التشويق . لقد أدرج كالديرون حكاية أخرى في المسرحية أيضا ولكن بالتوازي مع الحكاية الرئيسية ؛ للتأكيد على المضمون الفكري في المسرحية ؛ حيث استطاع (كالديرون) إدراج حكاية (روزورا) مع (استولف) و(كلوتالد) بالتوازي مع حكاية (سيجسموند) ليؤكد على معاني الكرامة والشرف والولاء وإبراز الصفات الطيبة التي يجب أن يتحلى بها الإنسان ، وذلك للتأكيد على أن التحلي بالأخلاقيات الطيبة والسعي للالتزام بها يؤدي لمصير حسن لصاحبه .
العنصر الثالث : حضور النبوءات وسيطرة القدر :
يتجلى حضور النبوءات التي تميزت بها ألف ليلة وليلة إجمالاً في المسرحية بصورة تتماشى مع العصر الذي ظهرت فيه المسرحية حيث أبرزها الكاتب في صورة القدر الذي أثر على حياة الأمير والذي كان مصدره نبوءة .
"باسيل: ترسم السماء مصيرنا شقيا كان أم سعيدًا، كان في اكتساب المعرف هلاكي، ولد لي أفرغت السماء عند ولادته ما لديها من خوارق حتى قبل أن يولد، رأته أمه في الحلم وحشًا له وجه البشر ويمزق من أحشائها وبولادته ماتت أمه، ونظرت في طالعة فرأيت أنه سوف يكون أعتى الأمراء وأشرهم كفراً وأكثرهم قسوة، ورأيت أن ملكه سوف يكون ملك الفساد، لقد آمنت بما طالعتني النبوءة وصممت على حبس هذا الوحش الضاري الوليد لأرى هل يمكن لعلمي أن يغير سير الأقدار، غير أنني أتساءل اليوم، هل لي أن أحرم ولدي حق تمنحه القوانين الإلهية. إلى أي حد يجب أن نثق بالتنبؤات، ترى ألا يمكن له أن يغير مصيره، ومهما يكون نجم الإنسان مشؤوما فإنه يؤثر في الحرية نعم ولكن دون أن يعطلها"().
استطاع كالديرون أن يستخدم النبوءة على أنها القدر أو الإجبار الذي يحيط بالإنسان ليتساءل هل على الإنسان أن يعيش قدره دون ان يمارس حريته في اختيار أفعاله التي قد تغير قدره بإرادة الإله أيضاً . فالملك (باسيل) عندما آمن بالقدر السيء منع عن ابنه حرية اختيار فعله، وعندما أعطاه الفرصة ظهرت فطرة الإنسان التي تتأرجح بين الخير والشر لدى الأمير ، فبدأ الأمير في التخبط وعندما أعمل عقله واختار الأعمال الصالحة استطاع أن يتغلب على النبوءة السيئة التي لازمته ومنعته من ممارسة حريته في الاختيار لتغيير مصيره الى الأفضل .
إن القدر الذي وضعه هارون الرشيد لأبي الحسن جعله متخبطًا في البداية ثم تمالك عقله وأصبح راشد العقل في المرة الثانية ، وهو نفس الأمر الذي حدث للأمير؛ ليؤكد (كالديرون) أن كل سلطان زائل وأنه لابد أن يتنبه الإنسان لعمله ولا يحق له أن يمارس حريته في الاتجاه الخاطئ من أجل وهم زائل بالسعادة لأنه في النهاية سوف يدعي أمام سيده وآلهه، فالسعادة الحقيقية هي المجد الخالد المتمثل في الشرف والكرامة والعمل الصالح والصفات الحميدة.
العنصر الرابع : الشخصيات :
استلهم كالديرون من الحكاية حال شخصية أبي الحسن البائس والذي جعله القدر يحقق أمنيته في تولي الحكم لينتقم من أعدائه ؛ ليرسم شخصية الأمير السجين اليائس الذي أعطاه القدر فرصة لتولي الحكم . وكلاهما تصرفا بقسوة ورعونة تأكيدا على أن احكام العقل هو الطريق السليم لبناء مصير حسن .
وكما كان للأم في الحكاية دور في محاولاتها لارشاد ابنها كان الأب في المسرحية هو أيضا الناصح والمرشد أثناء إعطاء الابن الفرصة للحكم لتقرير مصيره ؛ وبذلك يعد الملك ( باسيل ) جامعا بين شخصيتي الأم والخليفة في الحكاية .
أما شخصية ( كلوتالد ) في المسرحية فتبدو منبثقة عن شخصية (جعفر البرمكي ) فهو المساعد الأمين المطيع لأوامر الحاكم .

العنصر الخامس : المحتوى القصصي وتشابه أسلوب الختام :
استلهم (كالديرون) حالة الحلم والوهم التي مر بها (أبو الحسن) في (النائم اليقظان) لتأسيس البنية الدرامية لمسرحيته ؛ تلك الحالة التي جعلت الأمير في حيرة وشتات وتخبط. فعندما اختلط الحلم بالواقع أساء التحكم في أفعاله. حتى اتضح الأمر وتمالك نفسه وندم على ما فعل ليصبح أكثر نضجا صانعا مصيرا طيبا لنفسه . ويتشابه أسلوب الختام في حكاية (النائم واليقظان) مع مسرحية (الحياة حلم) ففي النهاية يأتي الفرح المفاجئ والاستقرار التام والحل الدائم لكل المشكلات التي مر بها البطل. لقد أنعم الخليفة على أبي الحسن بشرف أن يكون أحد ندمائه وزوجه من جاريته ، أما في مسرحية كالديرون فرغم الصراع الذي مر به البطل بين القدر والاختيار والحرية في تقرير المصير تأتي النهاية بمصائر طيبة للجميع . ليخبرنا كالديرون في النهاية بأن الحياة هي مجرد حلم، وأن هذا العالم كله ليس إلا وهما وسراباً وأن على كل إنسان أن يقرر مصيره فلا يضيع المعروف حتى لو كان في الحلم.

—————————————————
النتائج والتوصيات :
1- شهدت الأندلس أهم اندماج عرقي بين الشرق والغرب فأثرت الحضارة العربية في أسبانيا في كافة مناحي الحياة العلمية والأدبية .

2- تعد (ألف ليلة وليلة) إحدى أكبر الموسوعات القصصية العربية التي تأثر بها الأدب الأسباني، فهي تحتوي على تنوع كبير على الصعيد الجغرافي والتاريخي، فهي عالم ساحر مليء بالحوادث العجيبة، والمغامرات الممتعة والأحداث المتداخلة وتكمن أهميتها في كونها تعبر عن النظرة الشمولية لحياة المجتمعات الإنسانية، وتلقي الضوء على حضارات متعددة وكل ما يمر به الإنسان من مشاعر وتناقضات.
3- تأثر الأدب الاسباني تأثرًا كبيرًا بالأدب العربي في الشعر والنثر، ويعد كتاب (ألف ليلة وليلة) من أهم ما فتن به الأوروبيون من التراث العربي.

4- تناصت بعض الأعمال المسرحية الأسبانية مع ألف ليلة وليلة حيث تعد أولى الاستلهامات للكاتب الاسباني (فرناندو دي روخاس)، ثم امتد تأثير الليالي وصولاً لعصر النهضة حيث استلهم (لوب دي فيجا) حكاية (تودد الجارية إلى الخليفة هارون وسعد) ليكتب مسرحية (الجارية تيودور).
5- استلهم الكاتب (كالديرون دي لاباركا) حكاية (النائم واليقظان) ليكتب مسرحية (الحياة حلم) حيث منحها دلالات توظيفية جديدة تناسب العصر الباروكي الذي هيمن عليه الموضوعات والمداولات الفلسفية ، حيث قام بتوظيف النص التراثي في شكل إبداعي جديد بهدف إثارة العديد من التساؤلات الفلسفية حول الحياة ؛ فالنص هو ترجمة للمبادئ الباروكية التي تعتبر الانسان كائنا هشا معرضا للخطايا والاغراءات والتي لا يمكن أن يتجاوزها دون معونة الهية وإرادة داخلية .
6- تأتي مسرحية (الحياة حلم) للكاتب الاسباني (كالديرون دي لاباركا) على قمة أعماله المسرحية فقد نجح في الإجابة على العديد من التساؤلات حول القضايا المتعلقة بالواقع والوهم ومطامح النفس ومعنى الوجود الذي يتنازعه عالمي الإرادة الحرة والقدرية المطلقة وصولا لتحكيم العقل والإرادة لتقرير المصير بمعونة آلهية. وعليه فقد وصفت بأنها أسمى مثال على دراما العصر الذهبي الاسباني وأنها من أعظم أربعين مسرحية عالمية في كل العصور.

7- استلهم كالديرون المحتوى القصصي والعديد من الصيغ الأسلوبية من حكاية النائم واليقظان حيث تناصت المسرحية مع الحكاية في العديد من العناصر مع منحها دلالات توظيفية تفيد القضايا التي تبناها كالديرون و استثمارها من زاوية فلسفية تلائم الفكر الباروكي .
8- تؤكد عظمة مسرحية (الحياة حلم)على مدى ثقل وتفرد كتاب (ألف ليلة وليلة) تلك الموسوعة القصصية العربية الخصبة التي استوحى منها كالديرون عناصر أسلوبية أسس عليها مسرحيته الأشهر والأعظم .

وتوصي الباحثة بالاهتمام بالدراسات المتعلقة بالتراث العربي ومدى تأثيره على الأدباء الأوروبيين على مر العصور من أجل القاء الضوء على مدى أهميته وتفرده.





الهوامش :
1- نهلة شهاب أحمد، الأندلس بوابة التواصل الحضاري العربي الإسلامي- الأوروبي، مجلة كلية التربية، جامعة الموصل.
2- شموئيل موريه، العرب والمسرح من الجاهلية إلى القرن 19elaph.com
3- المسرح الأسباني في العصور الوسطى، بوابة الجسرة الثقافية Al.jasrah.net
4- هيام علي حماد، المرأة في ألف ليلة وليلة، مكتبة نهضة الشرق، 1986.
5- ليلى العاجيب، من مؤلف كتاب ألف ليلة وليلة ،مايو 2020 Mawdoo3.com
6- سروة يونس الدلي، شخصيات ألف ليلة وليلة (من البناء إلى التوظيف في الرواية العربية)، الأردن، دار الخليج للصحافة والنشر.
7- هدى محمود عبد الله : " آليات التناص ومقارباتها في العرض المسرحي ".بغداد، كلية الفنون الجميلة ، قسم الفنون المسرحية ، رسالة ماجيستير .
8- جميل حمداوي ، آليات التناص ، مجلة أقلام ، أغسطس ، 2011.
9- محمود صبح، "القوادة ثيلستينا"، مدريد، منشورات المعهد الاسباني العربي للثقافة، الكتاب الرابع، 1977.
10- رائد وليد جرادات، حكاية الجارية تودد (قراءة نصية)، دمشق، مجلة جامعة دمشق ، المجلد 28، العدد 3، 4، 2012.
11- ألف ليلة وليلة ، القاهرة، دار العلم والمعرفة للنشر والتوزيع، 2004.
12- كالديدون دي لاباركا، الحياة حلم، ترجمة نجاة قصاب حسن، دمشق، 1966.

1








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس


.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام




.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد