الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جثّة في المرآة: بول فيرلين وآرثر رامبو: قراءة عرفانية جديدة (الجزء الثّاني)

أسماء غريب

2024 / 3 / 6
الادب والفن


نعم، كان لا بدّ لكلا الشّاعرين من امرأة تافهة تسيء فهمهما هي ماتيلد موتيه، وكان لا بدّ لهما أيضاً من تجربة خمرة العربدة كنار احترق بها طينهما الأرضيّ، لكي يقرّرا في الختام تجريب خمرة العشق الإلهيّ والسّفر إلى الحقّ عبر الكلمة والقصيدة، وقد وصلا فعلاً وهاهو رامبو يصف لنا قداسته ويقول: ((أنا القدّيس في مدارج الصّخر أصلّي كمثل الحيوانات الوادعة / ترعى حتّى في بحر فلسطين / أنا العالم ذو الأريكة المعتمة على نافذة حجرة مكتبتي يرتمي المطر والغصون / أنا مشّاء الطّرق الكبيرة عبر الغابات القزمة، صخب الهوّاسات يطغى على خطواتي وطويلا أرى غسيل ذهب الغروب المحزون)) (30).
من غيره هذا الماشي المسافر السالك إلى ربّه يستطيع كلّ هذا، بل من غيره هذا الّذي شرب السمّ واختار أن يعيش في زمن القتلة ليكون هو القاتل الذي بتر بسيف الكلمة كل قوانين القصيدة البالية وأحكامها التي سطّرها الماضون، ليؤكّد لنا أنّه وإن كان فيرلين قرينه وصديقه الفكريّ لفترة معيّنة من حياته، فإنّه احتفظ لنفسه بقرين آخر لا يمكن أن يُشركَ به في العشق والحبّ الإلهيّ، وقد أطلق عليه اسم (العقل)، وكان يعني به السيّدَ المخلّص الّذي بنقرة من إصبعه على الطّبل تتحرّرُ جميع الأصوات وينطلقُ التّناغم الجديد وينهض النّاس ويبدأ كلّ واحد في السّير بحثاً عن الحبّ الّذي يغيّر الأقدار ويبدّد الرّزايا، ويقود إلى برّ الأمن والسّلم والأمان.
نعم، لقد وجد رامبو الحبَّ في سنواته الأخيرة، ولكن ليس ذاكَ الّذي تحدّث عنه جابر حجي في روايته، لقد عثر على مريم الحبشّيّة فتاة رائعة أحبّها وأحبّته وغيّرت نظرته للحياة والنّاس لدرجة أنّه أصبح يحلم بتكوين أسرة وإنجاب ابن يرث من بعده كلّ ثروته، ربّما كانت مسيحيّة كما أشاع عنها البعض (31)، وربّما كانت مسلمة بحكم الفترة والمدينة التي كانت تعيش فيها، والتي فيها كان النّاس ينادون رامبو بعبد ربّه، ويكنّون له الاحترام كرجل حسُنَ إسلامه، يتصدّقُ على الفقراء ويُعَلّم الصّغار القرآن ويغامر بتفسيره لهم.
وعلى ذكر رواية جابر حجّي، فإنّني بعد قراءتها هالني هذا السِّحر الّذي مازالت تمارسه شخصيّة رامبو على مخيال الأدباء والشّعراء، حتّى لأنّكَ تشعر بروح هذا الصّوفيّ الوحشيّ البدائيّ كذئب متوحّد تعيش بيننا وتختار محبّيها بنفس الطّريقة الّتي تختار بها النّاقمين عليها أيضاً، وفي صدر كلّ واحد تنفثُ حكاية، فمن آمن بمثلية رامبو وفكره الكولونيالي سيكتب ويجمع ويوثّقُ في أعماله ما يؤكّد رؤيته هذه وإن استدعى الأمر خلط الواقع بالخيال، ومن آمن بعرفانيته وقداسته سيفعل الشّيء ذاته وسيبحث في قصائده ورسائله ما يؤكّدُ ذلك. وحده عارفٌ مستنير قلبُه بنور الله، سيقفز على الانتماءات والإيديولوجيات والديانات وسيرى في رامبو عبداً لربّه لا غير، عبداً قضى عمره في السياحة والتجوال باحثاً عن إكسير الحياة، وحينما وجده رحل وهو في ريعان شبابه، ولم يعد يعنيه في شيء ما سيقوله عنه النّاس بعد الغياب، حتّى أولئك الّذين اعتقدوا أن رامبو توقّف عن الشِّعر منذ أن غادر فرنسا، وهم إن فعلوا ذلكَ فلأن لهم مفهوما خاطئاً عن القصيدة، منعهم من أن يروا في حياة رامبو بين بلدان الشّرق البعيدة نوعًا جديداً من الكتابة الثّائرة، كتابة هي الأثر الّذي كان يتحرّكُ به مشياً على الأقدام أو محمولاً على الدّوابّ وهو يكتب ويؤرّخُ لأنفاسه الملتهبة بين صحراء وأخرى، ليتحدّث عن الجحيم والجنّة أيضاً، عن القداسة والشّيطنة، وعن النّور والعتمة بدون زيف ولا مجاملة أو محاباة، وهو بهذا فعل كصديقه فيرلين الّذي حينما تقدّس خرج عن دائرة الديانات الرّسميّة واختار الأعمق في المسيحية، تلك التي فيها التجلّي الأبهى لخليفة الله على الأرض، فغاص بذلك في البحر اللّدنيّ الّذي لا تحدّه كاتدرائية ولا أيّة مؤسسة دينية كيفما كان نوعها، أَوَلَيْسَ هو من قال:
((البحر أجملُ
من الكاتدرائيات
يغذّي الرّوح بإخلاص
ويهدّئُ من قسوة الحشرجات
البحر الّذي فوقه تُصلّي
مريم العذراء!
صاحب العطايا كلّها:
القاسية واللّطيفة.
إنّي أسمعُ غفرانه
وتأنيبه الغاضب؛
في هذه الرّحابة الفسيحة
لا مجال للعناد والشّراسة
آهٍ إنّه صبور جدّاً
حتى في حالة الفوران!
وها هي ريح صديقة تهبُّ
والموجُ يغنّي لنا:
"يا من أنتمُ بلا أمل
موتوا بلا ألم!".
وفي السّماوات
هنا، حيث الضّحكُ مضيء
يبدو البحر بألوان زرقاء
ووردية، ورمادية وخضراء
يبدو أجمل من كلّ شيء
أجمل وأفضل منّا!))؟!
إنه البحر الّذي غاص فيه رامبو قارباً نشواناً، فشربَ وعطش، وعرفَ وبهتَ، ونهل فزادت حيرته، وذاق فغرقَ ثمّ انمحق وقام صائحاً يقول:
((أيتها الروح المترصدة
فلنوشوش الاعتراف
عن الليل الباطل جداً
والنهار الملتهب.
من الآراء البشرية
والحماسات الشاسعة
هنا تنعقين
وتطيرين على هواك.
هنا لا أمل
ولا شروق
علم مع صبر
العذاب أكيد.
إنها مستعادة
ماذا؟
الأبدية.
إنها البحر المتوافق
مع الشمس.))!
*
الهوامش:
*
(30) من ديوانه (إشراقات)؛
(31) حجي جابر، رامبو الحبشيّ، منشورات تكوين، ط1 2021، فلسطين، صص 57-167-168.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب