الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيرة جيل في كتاب (بغداد السبعينات، الشعر والمقاهي والحانات)

قيس كاظم الجنابي

2024 / 3 / 6
الادب والفن


-1-
يحيلنا كتاب هاشم شفيق (بغداد السبعينات، الشعر والمقاهي والحانات) الصادر عن دار المدى للثقافة والنشر (بغداد – بيروت، 2014م)، الى علاقة المكان بالزمان؛ فالمكان هو بغداد، والزمان هو السبعينات(1970-1990م) تقريباً، ثم أضاف اليه عنواناً ثانوياً هو (الشعر والمقاهي والحانات)؛ فصارت المقاهي والحانات تتمة للموضوع المكاني،أما الشعر فهو قرين بالزمان وحركته وحياة شاعره،كتب المؤلف في الصفحة(5) عنواناً واضحاً دالا هو(سيرة أدبية)، مع اهداء الى إيمان سعيد، التي وصفها بـ(رفيقة الرحلة والمشوار الطويل)، والشاعر بطبعه يبقى شاعراً في نثره وشعره ومذكراته وهمومه، فهو لم يفرد مقدمة للكتاب ،وانما بدأه بعنوان(الشعر والتجربة)، كما انه يسلسل الكتاب على شكل فصول وانما أقامه على أساسأهمية الموضوع والعنوان، لكي يستكمل بذلك فكرة الانتماء للشعر وحده لاغيره، ويتوج نفسه شاعراً محسوباً على جيل الستينات، مع انه بدأ الكتابة مع جيل السبعينات، من خلال المقاهي والحانات ، فجاء عوانات تالية للشعر والتجربة، منها( الشعر والبحر، الشعر والمقهى، الشعر والحانة، الشعر والسينما، الشعر والكتاب ،الشعر والموسيقى ،الشعر والمسرح،الشعر والتشكيل ) الى آخر القائمة، حيث يصاحب الشعر الموضوعات الحياتية مع حامل الشعر واصدراته والفقر والصحافة والترجمة والمنازل والشوارع والرحلات...وغيرها.
يبدأ موضوعه(الشعر والتجربة) بنوع من الدخول القسري الى عالم المذكرات والسيرة الذاتية،وبطريقة مغايرة تجسد عقيدة الاختلاف ليقول:
"ثمة شيء منسي كشهاب صاعق وأنا في الرابعة عشرة؛ شيء هو خليط من التهويم والحلم، من السحر البدائي الشبيه بالفطرة وأغاني الطفولة".[ص5/دار المدى ،2014م].
فكلمة التجربة، تعني الغوص في مضمار الشعر،وليس العلاقة به أو البداية فيه، ولكنه يعزي هذا الولع المتفشي في حياة الاديب،وهو نوع من الهوس الذي يفضي الى ترك العمل في وظيفة حكومية والتعويل على حياة الصعلكة والعيش بين أرائك المقاهي والحانات.
في الغالب شعراء الحداثة يتعلقون بتقليعات الحداثة في العالم، فيتخلوا عن الارتباط بالتراث، باستثاء بعض النصوص العربية المتمردة في التصوف وشعر عنترة وأبي نواس؛ فكان هاشم شفيق واحداً من جيل لا ينتمي اليه بدقة، ولكنه يلتصق به من حيث طبيعة التجربة والتمرد والتشرد والامنيات، في نصوصه وقصائده النثرية،وفي سلوكه وانتمائه السياسي ، فأصدر مجوعته الأولى مع جيل السبعينات،وبقي أميناً لاصدقائه، فقد أصدرها عام 1978م عن وزارة الثقافة والفنون، مع زاهر الجزاني وكمال سبتي وسلام كاظم وغيرهم، وكان يجد في تراث الحلاج وابن عربي والنفري وما شاكلهم ملاذاً في الخيال الشعري حيث انشد الى السهروردي المقتول والجني البغدادي وماني الموسوس وغيرهم" ممن أصابهم مسّ عرفاني لا يوحي الا بالنور والشطحات العقلية".[ص8]
لقد اصابته لوثة القراءة مطلع السبعينات وانتابه الصراع بين الاتنماء للحداثة والانتماء للتراث، حينما اكتشف الادب الغرب واشراقات رامبو وسارتر وكامو ودي بوفوار وكولن ولسن وماركس وديكارت؛ فوصف نفسه وصحبه بأنهم كانوا "شبه مجانين، عدميين، نقضي الأوقات في تقصي الجديد والغريب والمثير،ونعيش حياة بوهيمية، نريد من خلالها ان نلتهم العالم دفعة واحدة، عبر قراءات طويلة".[ص14]
فيرحل الى باريس ، حيث ضلالات رامبو وتقلباته، في رحلة بوهيمية على الأرصفة والمقاهي والحانات ؛ لهذا بقي" ضالاً، متسكعاً وشريداً، متسقطاً خطى رامبو هنا وهناك لاجئاً الى بيت فرلين المدفون بين دكاكين الخضار وروائح الفواكه، نائماً في محطات المترو، جائعاً ،ذاهلاً، أو آوياً الى غرف الخادمات المجرّدة من أبسط وسائل العيش والسكن، عاثراً بطريق المصادفات على حيّز صغير، ليضمّني وبعض الأصدقاء الضالين من أمثالي".[ص16]
كان رامبو دليل ثلة من الشباب الستيني في العراق، يقودهم الى متاهات الشعر ،ومتاهات الحياة ، بحيث صاروا يؤمنون "بان كنوز العقل الباطن هي كنوز خيالية، لا يمكن ان يقدرها ميزان الجمال ويزن شعاعها الباهظ".[ص19]
وكان رامبو قضى حياته حالماً، بعالم جديد وانسان جديد، ومدن جديدة وعصر جديد" خالٍ من البغضاء والكراهية والانانية وحلمه هذا كلفه كثيراً في دأبه المثير من أجل الحصول على الحرية ، مقتفياً في ذلك أثر الطبيعة كمسّاح ديموغرافي ، باحثاً في ذلك الأسطورة في ثنايا الاحفوريات ، ومن هنا وجد في الطبيعة ضالته الكبرى، هرباً من طبيعة الحياة الآلية، هرباً من البشاعة باتجاه الجمال، هرباً من الظلام والصقيع، باتجاه فجر صيفي، هرباً من الخريف الدائم باتجاه ربيع طويل،... لقد ولد رامبو حالماً وعاش حرّاً ،ومضى كشهاب ساقط في حضن الأبدية".[ص19]
يبدو لي -على أقل تقدير – ان جيل الستينات عاش ومن خلال ثورة 14 تموز عام 1958م، كان يحلم من خلالها بأحلام طوباوية نحو عالم جديد متغير، يمثل الحرية المطلقة، والجمهورية الشيوعية الفاضلة ربما، التي تشبه يوتوبيا توماس مور،ولهذا وجدوا في التحول من الملكية الى الجمهورية تحت ظل العسكر بغيتهم، فوصفوها بأوصاف حالمة وتخلوا عنها ولم يدافعوا عنها، وحيث غابت عنهم راحوا يتباكون عليها، فطان الهروب الى الاحلام هو قدرهم او خيارهم الأهم.

-2-
بغداد، هي المكان الاثير لدى جيل الستينات ، حين كانت مرحلة السبعينات تمور بتوجهات النهوض الثقافي والتيارات المتعددة، ولكنها كانت معفرة بغبار الأيديولوجيا، بدأ ادباء اليسار جولتهم في جو من الحرية القلقة، تحت أنظار حكم البعث، وكانت بغداد تفتح ذراعيها للجميع بحذر شديد، وخوف واضح، وكان الصراع على أشده بين تيارين مختلفين، فكانت الحركة الثقافية تمور في تموجات مضطربة، تحمل معها ذاكرة نقرة السلمان وتصفيات الصراع افكري والسياسي، وكانت رائحة التمرد والمدارس الفنية والأدبية ، في الغرب، تعمل على تأسيس منطلقات جديدة، من خلال الترجمة والاحتكاك والسفر والقراءة، فقد وصف الكاتب جيله الستينيين بانهم جيل مخضرم،"عاصر جل الأجيال الذهبية التي سبقته ، جيل تقاسمته الايديولوجيا والتكتيكات الحزبية، تكتيكات لم تصب في مصلحة الفن قدر صبها في مصلحة السياسة والسياسيين والديماغوجيين،أولئك الذي يتشبهون بجدانوف وغيره من حثالة الفكر الشمولي الذي لا شاغل له غير فرض القيود على الحريات وإلغاء عملية التفكير لدى المبدع المؤمن بالإنسان وبارؤى الماركسية الحقّة، غير الستالينية، تلك التي تؤمن بالعقل الواحد والرؤية المحدودة".[ص40]
ومن هنا يرى بان هذا الجيل استطاع ان يكتسب حسه النقدي ورؤيته الجمالية ،وعدته المعرفية، ومفاهيمه الحداثوية الجديدة التي تمكنه من المواصلة وتحدي القيم الماضوية والأفكار السلفية والتصورات الفاشية للفن للفن والادب والحياة وللطبقات الاجتماعية. وكان الحصيري زعيم تيار من الصعلكة مع حسين مردان، والذي وصفه بالشاعر البوهيمي.
يحاول الكاتب ربط سيرته بسيرة جيله ليكتب سيرة جماعية لجيل تمزق بين الغربة والخنوع والايديولوجيا في ظل نظام شمولي عسكري، لم يسلم منه حتى أنصاره من أمثال الكمالي وعبدالله سلوم السامرائي وأضرابها، ولكن المعطيات الثقافية كالسينما والمسرح والموسيقى والصحافة والنشر أعطت الكثير لهذا الجيل وهو يدون سيرته بطرق شتى.
ولان هذه سيرة جيل فهي ليست رواية سيرة بقدر كونها نصاً وسيرة لجيل مهم من أجيال الثقافة العراقية، بحيث يشعر القارئ الفرق بين "أنا"، و"أنا" القارئ ، ذلك ان حضور الراوي يقحم نفسه. ولو ان رواية ضمير المتكلم كتبت كلها بصيغة المضارع - لو كان ذلك ممكناً أصلاً- لبدا فيها من التكلف ما يجعل التماهي مستحيلاً ،وغني عن القول انها ستكون مقصورة على الاثارة والأفكار، مستبعدة كل فعل .وستقحم فعل الكتابة نفسه، وبنصها على انها قريبة العهد تزيد بعداً من القارئ لانها لا تنفك تلح عليه بكونها توصل له، وبفعل الايصال نفسه.وأكثر ما تقترب بصورة طبيعية من الحضور والفورية هو رواية المذكرات والرسائل ،ولكن هذين الشكلين قلما يتغلبان على فقد الالفة التي يوحي بها أسلوب الكاتب العليم.[ الزمن والرواية :أ.أ. مندلاو، ترجمة بكر عباس مراجعة احسان عباس، دار صادر(بيروت، 1997م)،ص127].
-3-
لقد طال الآن الخراب شارع الرشيد والامكنة البهيجة في بغداد، منذ سنوات الحصار وتوالي الحروب وتوالي الازمات ، فصار شارع الرشيد ملحقاً بشارع السيد سلطان علي الخاص بتصليح المعدات والمكائن، وبدأ يتحول من مقهى الزهاوي الىساحة الرصافي الى الالتحاق بشارع المتنبي خاصاص بالمكتبات، حيث صار الكتاب جزءاً مهماً من هوية هذا الشارع، وصارت صناعة الكتب تتجاوز كل ما هو متصور ولكن غالبية صناعتها من الخارج؛ بينما كانت بغداد مملوءة بالمطابع منذ مطلع الثمانينات حتى الاحتلال الأمريكي للعراق وحضارته.
كان صدور مجموعة (قصائد أليفة) للكاتب في حينه أشبه بخضة طارئة في الوسط الشعري والتي كانت بالنسبة له جواز مرور الى عالم الشعر الذي أرسى دعائمه البياتي والسياب ونازك الملائكة، وغيرهم من فرسان الحداثة،وبقي في ذاكرة الشعراء على الرغم من إصداره فيما بعد (أقمار منزلية)،و(شموس مختلفة)؛ وكان دور للاصطفاف السياسي واضحاً في الترويج للشعر والشعراء وللحداثة،ولهذا تراجع برأيي الشخصي الشعر السبعيني لدى غالبية الشعراء الاحتفاء بالشعر السبعيني لطغيان الجانب السياسي والاخوانيات وتراجع النقد الحقيقي، وان لقصائد أليفة نكهتها لانها خرجت من رحم المعاناة الحقيقية فمثلت تيار الحداثة في أوج اندفاعه:
" كانت قصيدتي قصيدة نثر وقد شئتها دائرية، وفن نظام سردي يعرف بالكتلة التي تتسلسل كلماتها متواترة من دون توقف حتى نهايتها".[ص144
هذا قبل ترجمة كتاب (سوزان بيرنار) في انها تحمل معها تناقضاتها الداخلية فبالإضافة الى أنها قصيدة الا أنها توصف بالنثرية، فهي في جوهرها نثر وشعر حرية وقيد فوضوية مدمرة وفن منظم. [قصيدة النثر من بودلير الى أيامنا، سوزان بيرنار، ترجمة د. زهير مغامس ،دار المامون(بغداد،1992م) ،ص143.] فالتناقض يسوغ الغموض ويثير التساؤلات ويدفع نحو البحث عن الأسباب والمسببات، لذا فان الوسط الأدبي يبتعد عن استخدام مفهوم قصيدة النثر ، وراح العديد من كتابها يدعونها بـالقصيدة فقط، وحين يتواضعون يدعونها بالنص؛ لهذا فقدت قصيدة النثر الكثير من ضوابطها وأبعادها وراحت تختلط عبر النص بالخاطرة والانفعالات اليومية المتفجرة.
استطيع القول ان البناء السير ذاتي يبدو جزءاً من بناء الكتاب ومن بناء حركتي الزمان والمكان، ولعل وجود شخصية ديناميكية عاشت مع جيل الستينات وأبدعت مع جيل السبعينات، وجمعت بين السيرة والانبهار بالحداثة والآخر، وبين الاعتراف بالتراث نوعاً ما، كما جمعت بين المكان والزمان ،وبين الانتماء الى بغداد والتشرد خارجها غرباً وشرقاً، وعلى الرغم من كونه عاش منفيا في لبنان وبلدان العالم الا ان طبيعة الحنين الى الأمكنة الاليفة التي ربما لها علاقة بقصائده الاليفة تبدو فاترة،ومحمّلة بعتاب مضمر لبغداد ومقاهيها.
يشعر القارئ لكتاب(بغداد السبعينات) بأن لغة الكتاب جافة نوعاً ما، مع انها لغة شاعر والشعراء اذا كتبوا النثر أو المذكرات والذكريات كتبوها بحنين طفولي ،ولغة شاعرية ونزعة متدفقة تكون هي العمود الفقري للسيرة، وفي حالة السيرة الأدبية أو الجماعية ، فان العمود الفقري يكون مجموعة من (الذاتيات ، المكان، الزمان، الموضوع)؛ وفي هذا الكتاب يتوزع العمود الفقري على عدة اتجاهات،أبرزها: الذات الشاعرة ،والمكان والزمان،والموضوع هو الشعر ،ليصبح المكان هو الاطار الذي يحيط باللوحة الفسيفسائية للحياة الثقافية،أما الزمان فانه يتوغل في حقل الذات والشعر،ويبقى جزءاً لا يتجزأ من قدرتهما على الحركة السريعة؛فالزمن كفيل بحسم اللقطة السينمائية او الإيقاع الموسيقي أو حركة الضوء والظل على خشبة الحياة، بجانب السلوك الذاتي والانحياز الى الصعلكة بوصفها فعلاً معبراً عن خصوصية جيل الستينات نفسه.
يعبر هذا الكتاب عن شعور واضح بالإحباط، وان تجربة جيل كامل من التشرد والتجوال في العالم ومقاهيه وحاناته هي ليست أكثر من نزوة خاصة،وليست سيرة لجيل كامل ، على الرغم من جهود فاضل العزاوي وفوزي كريم ؛وكأن هذه السيرة الأدبية هي آخر الاعترافات بعدم جدوى الكتابة. وفي الوقت الذي ظهرت فيه كتابات الأجيال الأدبية مثل(الموجة الصاخبة، والروح الحية، وتهافت الستينيين، بغداد السبعينات)، نتساءل:
- أين يمكن أن نضع هذه السيرة الأدبية ، من حيث دورها في حركة جيل الستينات ،ومن حيث دورها في حركة الحداثة، ومن حيث أهميتها التاريخية؟
لا أستطيع أن أقرر بنفسي ذلك، ولكن من وجهة نظري ان شهادات الذي عاشوا بعيداً عن تراب الوطن ليست وحدها التي تمثل الحقيقة،لان شهادات الذي اكتتوا بنيران البلد في داخله كانت أكثر قسوة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لقطات من عرض أزياء ديور الرجالي.. ولقاء خاص مع جميلة جميلات


.. أقوى المراجعات النهائية لمادة اللغة الفرنسية لطلاب الثانوية




.. أخبار الصباح | بالموسيقى.. المطرب والملحن أحمد أبو عمشة يحاو


.. في اليوم الأولمبي بباريس.. تمثال جديد صنعته فنانة أميركية




.. زوجة إمام عاشور للنيابة: تعرضت لمعاكسة داخل السينما وأمن الم