الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إلى تُجّار سورية: هل ستختلفون هذا العام؟

عبد الحميد فجر سلوم
كاتب ووزير مفوض دبلوماسي سابق/ نُشِرَ لي سابقا ما يقرب من ألف مقال في صحف عديدة

(Abdul-hamid Fajr Salloum)

2024 / 3 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


تعوّدنا في سورية، وربما في معظم الدول العربية (وليس جميعها)، أن يكون شهر رمضان الكريم، وعيد الفطر، فرصة سنوية للتجار كي يستغلِّوا حاجات الناس ويرفعون الأسعار إلى مداها.. حتى بتنا نعتقد وكأنّ هذا أحد فروض العبادات، دون وازعٍ من ضميرٍ ودينٍ وأخلاق وإنسانية.. وتتكرّرُ الصورة في كل رمضان..
بل، ذات الطريقة تُتّبَع في استغلال الناس، في كل سلعة أو مادّة أو حاجة يحتاجونها للضرورة، كما الأسعار الكاوية لبطاريات الكهرباء، والإنفرترات، والشواحن، ومواد الطاقة الشمسية.. الخ..
حتى في عِز مخاطر كورونا عام 2020، وحاجات الناس للوقاية، سارعَ التُجار والبَاعة إلى رفعِ أسعار كافة المواد الكيماوية التعقيمية وأسعار الكحول الطبي، وحتى أسعار الكمّامات التي كان سعر الواحدة منها خمسون ليرة سورية، فارتفعت إلى 300 أو 500 ليرة سورية حينها.. بل العديد من الصيدليات باتت تحتكر حتى الكحول الطبي، ولم يكتفوا بزيادة أسعاره..
**
للأسف هكذا عرِفنا أخلاقُ تُجّارنا، أو ما يُعرفُ بالبورجوازية (الوطنية) التي لم تكُن في أي يوم وطنية إلا بالاسم والدعاية.. وشتّانَ بينها وبين البورجوازية الوطنية في الغرب( وأنا هنا لست بصدد مديح بورجوازية الغرب وإنما بصدد المقارنَة فقط عن كيفية التعامل مع شعوبها في الحالتين، في بلدانهم وبلداننا).. وأميِّزُ أيضا بين تعامل البورجوازية الغربية مع شعوبها، ومع شعوب العالم الثالث التي تنهبها..
ففي الغرب البورجوازية، المُحِبّة لأوطانها فعليا، هي من طوّرت بلدان الغرب ونقلت شعوبه إلى هذا المستوى الحضاري المتقدّم.. وحوّلتهُ من عصر القطار الذي كان يسير على الفحم الحجري إلى القطار الذي يسير بسرعة أكثر من 300 كم في الساعة، والقطارات المُعلقة..
بل في الولايات المتحدة اختبروا منذ العام 2015 القطار الأسرع من الصوت .. هذا فضلا عن وسائط النقل الجوية التي جعلت البشر يقطعون الأطلسي من أوروبا إلى أمريكا بخمسِ ساعات، بينما كانت تحتاج بالماضي إلى خمسة أشهر عبر السفن القديمة..
في مصانع ومعامل البورجوازية الغربية توجد مراكز البحوث التي ينفقون عليها المليارات كي يطوروا صناعاتهم ومخترعاتهم، ويُطورون أوطانهم ويخدمون شعوبهم، والبشرية.. إنهم يُحوِّلون الخيال العلمي إلى حقيقة.. وها نحن نرى الفضائيات، والانترنت، ووسائط التواصل الاجتماعي، والموبايلات، والكومبيوتر، وحتى البطاقة الذكية التي باتت جزءا من ثقافة السوريين في هذا الزمن.. كل ذلك من اختراعات مراكز البحوث التي تنفق عليها البورجوازية الغربية المليارات..
بورجوازية بلادنا، والبورجوازية العربية عموما، هي برجوازية طفيلية، غير مستعدة أن تخسر ألف دولار على البحوث العلمية.. إنها تكتفي بدور السمسار بين بورجوازية الغرب وبين شعوب بلدانها العربية..
**
فيما تقدّم من وصفٍ لاستغلال حاجات البشر في شهر الصيام وفي الأعياد، هنا تتجلّى معاني المُسلِم، في تطبيق القيم التي يتحدّثُ عنها على مدار الساعة، من أنّ الإسلام دينُ الرحمةِ والمحبةِ والتآزر والصدقِ والعدلِ وقولُ الحقِّ والوفاء بالعهدِ والبُعدِ عن الباطل.. إلى آخرِ هذه المعاني التي يؤكِّدُ عليها الإسلام فعليا، والتي تدعو إليها كافةُ الأديان، وكافةُ المجتمعات، ومنذُ خلقِ البشرية، وهي ليست ميِّزات خاصّة بهذا الدين أو ذاك..
ولكن أين هي أخلاقُ تُجارِ وباعةِ سورية من كل ذلك في شهرِ الصيام في كل عام؟. وماذا تعني العبادات الدينية، من صيامٍ وصلاةٍ، وغيرها، إن لم ترتبط بسلوكِ الإنسانِ في الحياة وطريقةُ تعامُلهِ مع أبناء وطنه، بل وعموم البشر؟.
**
الفصلُ بين العبادات، وبين السلوكيات، هو نفاقٌ على الله وعلى الإسلام.. ولا معنى للعبادات إن تمّ الفصلُ بينها وبين السلوكيات.. وإن تحولت إلى مجرّد واجباتٍ روتينيةٍ يوميةٍ نؤديها أمام أعينِ بعضنا بعضا، دون أن تردعنا عن فاحشةٍ أو مُنكرٍ أو معصيةٍ، في حياتنا العملية..
يُميِّزُ مشايخُ المسلمين بين معاني الفواحش والمُنكرَات والمعصيات والإثمِ والذنوب.. الخ.. بل منهم من يبحثُ عن تفسيراتٍ لا علاقة لها بالعقل والمنطق كي يُبرِّر بعض الأفعال متناسيا قول الرسول(ص) : (من رأى منكم مُنكَرا فليُغيِّرهُ بيدهِ، فإن لم يستطِع فبلسانهِ، فإن لم يستطع فبقلبهِ، وذلك أضعفُ الإيمان).
**
بكُلِّ الأحوال، ومهما كانت التفسيرات لمعاني الفواحش والمُنكرات والمعصيات والإثم والذنوب..الخ، فجميعها ينطبقُ عليها مفهومُ (العمل القبيح سواءٌ في القولِ أو الفعل) ..
فالغشُّ في المُنتجات هو عملٌ قبيحٌ.. واحتكارُ الحاجيات وبيعها بأسعارٍ كاويةٍ هو عملٌ قبيح.. واستغلالُ حاجات الناس في رمضان والأعياد للمكاسبِ والربحِ، هو عملٌ قبيح.. وتزويرُ تاريخ الصلاحية لمادّةٍ غذائيةٍ ما، هو عملٌ قبيح.. والكذبُ هو عملٌ قبيح.. وشعار: التجِارة شطارة، هو عملٌ قبيح.. وسرقةُ جيوب الناس باسم “التجارة شطارة” هو عملٌ قبيح.. وشعار كل شي لحالو(أي الفصل بين الأخلاق التي دعت إليها الأديان والشرائع السماوية والأرضية وبين كل ما ذُكِرَ آنفا) هو عملٌ قبيح.. وبيعُ المواد القديمة بأسعار المواد الجديدة، بعد أن يرتفع سعرها، هو عملٌ قبيح..
 وكلُ عملٍ قبيحٍ هو بعيدٌ عن الأخلاق والضمير والإنسانية..
هذا مع إدراكنا أن مفاهيم الأخلاق ليست واحدة في كل المجتمعات.. وليست مُقتصِرةٌ على الأديان.. وهي نسبيةٌ من مُجتمعٍ لآخرٍ، فمفاهيم الأخلاق في الغرب ليست ذاتها في الشرق، ولكن هناك على مدى تاريخ البشرية قيمٌ أخلاقيةٌ جامعة موجودةٌ في كافة المجتمعات، كما الصدق والأمانة والمحبة والعدالة والرأفة وحبِّ العمل والإخلاص والتعاون، ورفض الكذب والغش والخداع والجريمة والزنا والسرقة.. إلى آخر هذه المعاني..
**
ومن هنا كان كلامُ مفتي الديار المصرية سابقا الشيخ (محمد عبده) حينما زار أوروبا عام 1881 ثُمّ عاد إلى بلادهِ فقالَ مقولتهِ الشهيرة: ( رأيتُ في أوروبا  إسلاما بِلا مُسلمين، وأرى في بلادي مُسلمين بلا إسلام)..
وهذا يعني أن الشيخ محمد عبدهُ كان يعتقدُ متوهما أن الأخلاق توجدُ فقط في ديار المُسلمين، فاكتشفَ أن هذا ليس صحيحا، إذا ما اعتبرنا أن الأخلاق هي التعامُل بصدقٍ وأمانةٍ وصراحةٍ ووضوحٍ وتواضعٍ واحترامٍ وتضامنٍ وتعاونٍ وبُعدٍ عن الغش والكذب والخداع والنصب والاحتيال والفساد وعدم اعتداء أحدٍ على راحةِ الآخر أو حريتهِ الخاصة، وبُعدٍ عن الحقد والكراهية، والعملُ بتفانٍ وإخلاصٍ، وحرصُ الحكومات ومسؤوليها على المواطنين وعلى حقوقهم كبشرٍ يسمُون فوق كل شيء، ورعايتها لهم من الولادة وحتى الممات، وتطبيقٍ للقوانين بشكلٍ أوتوماتيكيٍ وعفويٍ على الجميع ودون تمييز، فالقوانين مُقدّسة، وخرقها جريمة .. الخ.. وليست الأخلاقُ مُجرّد قطعةُ قماشٍ على الرأس، أو غطاءٍ على الوجه، ثمَ نبتعد عن كل ما وردَ آنفا..
**
لا يَخفَى أن الشيخ محمد عبده، تعرض إلى هجومٍ عنيفٍ من كثيرٍ من الإسلاميين لأنهُ نطق بِما نطقَ به، واعتبروا كلامهُ ترويجا للثقافة والتربية الاجتماعية الأوروبية على حساب الإسلامية، وهذا لا يجوزُ حسب قناعتهم، وهنا تكمنُ عقدة التخلف والتعصب عند أولئك، فهم يعتقدون، ويريدون دوما أن يوهموا مجتمعاتهم، أنها الأرقى خُلُقا ودِينا وعقيدة وعادات وتقاليد.. الخ.. ولا يسألون أنفسهم لماذا باتَ الفارق بين مجتمعاتنا الشرقية ومجتمعاتهم، ألفُ عام.. بل لماذا أولئك أنفسهم يهربون من بُلدانهم ليعيشوا في تلك البُلدان.. ولماذا شعوبهم تهجرُ بُلدانها الإسلامية لتعيش في تلك البلدان.. ولماذا لا يحصلُ العكس؟.
**
لم أرى التجارُ والباعةُ في المجتمعات الأوروبية والغربية عموما(الذي عشتُ في بعض بلدانه من أمريكا إلى بريطانيا إلى سويسرا وبلجيكا واليونان وهنغاريا) يستغلون حاجات الناس في أيام الصيام، ويرفعون الأسعار، ولا في أيام الأعياد، وإنما العكس تماما، كنتُ أرى التنزيلات على المواد الغذائية، وعلى الألبسة، وبشكلٍ كبيرٍ يُمكِّنُ الجميع من الشراء..
لم أراهُم يضعون خضارا وفاكهة مهترئة غير صالحة حتى للبهائم، للبيع أمام المحلات بدلا من رميها في حاويات القُمامة، وللأسف ترى من يُقبِلُ عليها بسبب الفقر..
لا ينتظرون حتى تهترئ الفاكهة أو الخُضار ثُمّ يُخفِّضون أسعارها، وإنما تُخفّضُ الأسعار وهي جديدة وبكامل نضارتها..
لا ينتظرون حتى يقترب انتهاء صلاحية مادة غذائية ثم يُخفِّضون أسعارها، بل تُخفّضُ وهي جديدة..
هذا هو الفرقُ بالأخلاق بين تجارنا وباعتنا، وتجارهم وباعتهم..
فإذا نظرنا للإيمان من هذا المنظور، فمن هُم أهل الإيمان، ومن هُم البعيدون عن الإيمان؟.
أؤكِّد ثانية أنني لست بصدد الدعاية للمجتمعات الغربية، ففيها أيضا ما يكفيها من المشاكل والعنصرية والرأسمالية البشعة وغيرها، ولكن بصدد الحديث عن التعامُل بين أفراد المجتمعات مع بعضهم بعضا خلال مواسم الأعياد والمناسبات الدينية، كما الصيام وغيرها.. فهذه ليست عندهم مناسبات لمصِّ دماء بعضهم كما يحصل في مجتمعاتنا..
ولذا أدعو تجار سورية أن يرأفوا في شهر رمضان هذا العام 2024 بعموم أبناء شعبهم الفقير ويبتعدوا عن فكرة أن هذا موسم الأرباح، على حساب حاجة الناس ولقمة عيشها، والأهم على حساب قيم الإسلام وتعاليم الإسلام..
لا يوجدُ دينا يسمح باستغلال الناس وسرقة جيوبهم.. فعلى الجميع أن يحترموا قيم أديانهم..
فهل أنتم فاعلون؟. سوف نرى..
وكل رمضان وسورية وشعبها بخير..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف يتصرف الألمان عندما يمرضون؟ | يوروماكس


.. لمى الدوري: -العراق يذخر بالمواقع الأثرية، وما تم اكتشافه حت




.. الهدنة في غزة على نار حامية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. مسلسل المانغا - بون- : وحدة تسافر عبر الزمن وتحي الموتى




.. -طبيب العطور- بدبي.. رجل يُعيد رائحة الأحبة الغائبين في قارو