الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هواجس في الثقافة مقتطفات 86

آرام كربيت

2024 / 3 / 7
الادب والفن


لماذا جئت إلى هذا العالم يا ولدي؟
هل كنت مشتاقًا لتتشوف كل هذا الجنون، كل هذا الضياع والغربة؟
ماذا كنت تعتقد أنك سترى، وماذا كنت تنتظر أن ترى يا ترى؟
هل كنت تنتظر أن ترى كل هذه الخطايا، هذا البلاء والجفاف؟ أم كنت تنتظر أن ترى هذه الفظاعات إلى حد الانكشاف والذهول والاندهاش؟
لماذا جئت؟
ألم يكن أجدى بك، وأفضل وأجمل لو أنك بقيت غيمة، ضبابًا, مطرًا، حجراً أو سراب؟

طفل وحصادة وموسم ميت
كان اليأس مخيمًا على الرجال، لأن موسم هذه السنة كان ضعيفا بالقياس للسنة الفائتة. والمعنويات هابطة. بيد أن الانهماك في العمل بدأ منذ اللحظة التي أخذت الشمس ترقص في قبة السماء وتفرش حرارتها اللاذعة علينا.
من المحزن رؤية وجوه الرجال غائمة, كئيبة. القهر مخبأ في محاجر عيونهم الغائرة. أيدهم الخشنة المتحولة إلى ما يشبه المنشار. جميعهم كانوا خائفين من الغد. ويتأففون من الموسم وقلة المطر وعدم توفر مستلزمات ومعدات العمل. الأكياس/ شوال/ قليلة، والطعام قليل. وسنابل الشعير قصيرة، والحبات التي تحملها قليلة.
وبدأت الحصادة تعمل وتحصد. ما أن درنا دورتين حول الحقل حتى تعطلت. توقفنا عن العمل. كان يفترض أن يكون بيننا معلم ميكانيك يصلح الخلل. فتح أنترانيك غطاء المحرك, وأخذ المفتاح /14/، /15/ وبدأ يبحث عن العطل. وراح يشتم ويلعن الحصادة والزرع والموسم. كنت أنظر إلى الرجال، إلى عجزهم. وعدم توفر آلية سواء سيارة أو جرار أو جيب يوصلنا إلى المدينة لجلب معلم. قلت لنفسي:
ـ إذا عثروا على معلم ميكانيك، من الصعب توفر أو إيجاد قطع غيار في السوق.
أذكر عندما كان أبو ليفون، في بداية الربيع، يجهز الحصادة للموسم عندما وقع في معضلة. فكفك كل معدات الحصادة ليصلح كل شيء قبل بدء الموسم. المعضلة كانت بسبب عدم توفر قطع تبديل الهيدروليك التي ترفع السطل أو التبلية التي تتعلق بالحصادة في السوق.
في تلك الفترة مضى يعمل أيام وليالي حتى استطاع أن يوجد بديل من صنع يديه. كان رجلًا خبيرًا، واثقًا من نفسه. هو الذي فك المحرك واستبدل المحرك الديزل بالكاز حتى يتلافى عدم توفر القطع.
لم أعد أذكر لماذا لم يأت معنا إلى البرية في هذه الفترة، فترة إقلاع العمل في وقت الحصاد. ربما اعتقد ان العمل على ما يرام و لا يحتاج إلى جهده. أو أن الموسم أقل من الحاجة لتواجده.
كنا في حيرة من أمرنا، لا نعرف ماذا نفعل. رحنا نندب حظنا العاثر. كنت أكثر واحد حزينًا من هذا الوضع. دفنت حماسي في صدري. ورحت أراقب ما يحدث بقلق شديد.
كنت في الحادية عشرة من العمر في هذه الفترة، وفي دخالي جنون، اندفاع هائل نحو العمل في البراري والتعرف على المواسم.
توقفت الحصادة عن العمل كان يعني لي توقف الحلم أو موته. معنى هذا أنني لن أرى الموسم على حقيقته. ولا يمكن دفن حيوتي ونشاطي كطفل في مكان أعزل، دون لعب او متع أو كرة أو أطفال من عمري. أصبحت الدنيا صحراء في نظري. ولم يكن من شيمي أن اتراجع او أعود للمدينة إذا توفرت سيارة أو آلة أخرى. جلسنا فوق الحصادة ننتظر الفرج. وعندما حل الليل أخذ كل رجل عدة أكياس فارغة من تلك التي نملأ فيها الشعير أو القمح، ولف نفسه بها ومضى نائمًا. كان البرد قارسًا وجافًا. أخذت عدة أكياس ودخلت في داخل إحداها, ووضعت عدة أكياس تحتي, ومثلهم فوقي. تكورت على نفسي، ونمت بالقرب من الرجال على الأرض العارية تحت قبة السماء العارية ونجومها الضاحكة، وزعيق الهواء الطلق. كنت مستلقيًا على ظهري في ذلك المكان القاسي التي أدت إلى بروز عظام ردفي وأضلاعي. كل شيء في جسدي تصلب من الخارج. كان هذا الوضع حال جميع المزارعين والحرفيين والعمال الذي يجمعهم هم الفقر والفوضى. كنت صغيرًا بيد أني كنت أرى مشاهد غريبة يكتنفها السؤال:
ـ هل ستهجم علينا الذئاب أو الضباع كما هو شائع في بلدي، محافظ الحسكة أو الجزيرة السورية التي كانت مفتوحة الأفاق على بعضها. فالمدن بعيدة، فالرقة على مسافة مئة وخمسين كيلو مترًا، ورأس العين بعيدة، ولا توجد قرى قريبة منا.
بدأ الصراع في داخلي وداخل كل واحد منّا ضد البرد والخوف والجوع والعطش والوسخ. حيث الماء قليل ونشربه بكميات قليلة. وأرى مشاهد الصمت القاتل يلفني ويلف الآخرين في مكان بائس وحزين. وكنت أخاف من العقارب أو الأفاعي أن تهجم علينا وتلسعنا بينما نحن نيام. أما وجود الصابون فكان من الكماليات.
كانت التجربة صدمة لي في ذلك المكان القاسي والصعب، أن انتقل من عالم الطفولة والوداعة إلى حالة انقطاع عن الماضي والأحلام، المدرسة، البيت الدافئ وأم وأب وأخوة حنونين إلى علاقة مع الطبيعة والعزلة والحياة الجافة. من الكتب والدراسة وقصص العم نازار ومجلة أسامة إلى العلاقة مع أحداث مختلفة بكل المقاسات.
كانت مجلة أسامة فاتحة لي على الحياة والقراءة والانبهار بالعالم والحياة. إحدى المرات وقعت تحت يدي على هذه المجلة، رأيت رسومات ملونة لرجل يقال له دون كيشوتة، راكبًا على حصان، ملامحه غارقة في الجدية، طوله فارع وفي بيده رمح طويل وبجانبه رجل قصير, سمين يركب على حمار يقال له سانشا، وبالقرب منهما طواحين هوائية.
هذا الذهول أدخلني عالم القراءة. رحت أبحث عن أعداد قديمة لهذه المجلة. واترقب قدوم الأعداد الجديدة. كان سعر المجلة 25 قرشًا وتصدر كل أسبوعين.
قال لي صديقي في الصف, هاييك آرويان من قرية مريكيس:
ـ لدي الكثير من الأعداد القديمة, تعال إلى بيتنا وسازودك بهم.
طردت من الفرح. وذهبت إلى بيته وأخذت جميع الأعداد التي بحوزته وعدت إلى البيت ورحت اقرأ كل القصص التي في داخل المجلة. كل ساعة كنت انتهي من عدد.
عندما عدنا إلى المدرسة في شهر أيلول طلب المدير شدهان عطفة أن نذهب إلى جني القطن.
جلبوا شاحنات من مزارع الدولة ووضعونا داخلها, طلاب الصف الرابع والخامس والسادس. قالوا أن الموسم يحتاج إلى عمال.

حوار بيني وبين بايدن
قبل ساعة اتصل بي بايدن، بعد السلام والكلام، والسؤال عن أحوالي وأحوال الرعية دخل في الموضوع مباشرة قال لي:
ـ أنا أتابعك، اقرأ ما تكتب بدقة شديدة، لماذا موقفك ضبابي، غائم، عائم؟
قلت له:
ـ قرأتك غلط يا شيخ بايدن، أنا ماسك العصا من الوسط حتى اقرأ الأحداث بوضوح.
ـ لم أفهم عليك، شوشتني. ماذا تقصد بكلامك؟
ـ أنا لست موافقًا على نهجك الاجرامي، أنا مع الخط الثالث.
ـ لم أفهم عليك، وضح؟
ـ الخط الثالث، يعني أنا ضد الحرب، لست مع روسيا بوتين ولا مع الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين.
نظر بايدن في عيني بحقد وعصبية، والشرر يتطاير من أنفه وظهره وشعره، قلت لنفسي:
الله يستر أن السيكارة لم تكن في فمه، ربما كان اشتعل هذا الرئيس والعالم كله معه.
قال:
ـ انتبه كويس، يجب أن يكون موقفك واضحًا، لا لبس فيه، حدده وأعلنه؟ توقف الرئيس بادين بعض الوقت، أخذ نفسًا عميقًا جدًا وزفر في وجهي زفرة حاقة، قال:
ـ من ليس معنا هو ضدنا.
قلت له:
ـ هكذا ببساطة، أما معنا أو ضد؟ لا حل وسط؟ خطي واضح يا ابو البيد، أنا ضد السلاح والحربة والرمح والخيل والليل والقراطيس التي تعرفني.
ـ لا تستهزئ. نفذ ولا تعترض، لا حل وسط.
قلت له:
ـ في نهاية السبعينات قالها الرئيس السوري حافظ الأسد في صراعه مع الدولة والمجتمع في بلده، أما معي أو ضدي وعلى أثر ذلك سجن المجتمع كله في سجنه الكبير، ولا زالوا في ذات السجن.
وقالها الرئيس جورج بوش عندما غزا افغانستان، الذي ليس معي هو ضدي، وحربي صليبية عظيمة. بالمناسبة البارحة سمعت بوش كان يدين بوتين لغزوه أو احتلاله لأوكرانيا.
سألته:
ـ يا سيادة بوش، على حد علمي أنت من أرسل قواته إلى دول أخرى واحتلها لماذا تستكثر على بوتين غزو شوية دولة صغيرة أسمها أوكرانيا.
تدخل بايدن في الحوار بيننا، سألني:
ـ وشو قال لك بوش؟
قال لي:
ـ إن الرئيس بايدين، يعني حضرتك على حق، وحافظ الأسد على حق.
سألته باستغراب:
ـ والحريات والديمقراطية، والرأي والرأي الأخر، ماذا نفعل بهم؟
قال لي، والبسمة الصفراء مزدانة على وجهه، ثم سخر مني من أعماق قلبه، وفجأة ودون مقدمات بصق في وجهي:
ـ بلها وأشرب ميتها، المهم عليك أن تقف معنا وإلا سيأتيك ما لا تحمد عقباه؟
ـ بهذه البساطة؟
ـ أخرس، بهذه البساطة. لا مكان للمذبذبين في عالمنا.
قلت له:
مأساة هذه الحرب أن أوكرانيا التي تقاتل بدمها ودم أبناءها وأرضها المحروقة وشعبها المهجر والذي يقتل، لا قرار سيادي لها، ولا تستطيع إيقاف الحرب ولا تستطيع أن تتراجع.
وأوروبا التي تتحمل كلفة الحرب على مختلف الصعد، لا قرار سيادي لها.
القاعد وراء الطاولة، قصدي أنت يا ابو البيد وأنت يا ابو البوش، وبلدانكم وراء المحيطات لا تدفعون قرش سوري واحد في عز رخص الرجال، قاعد وتضحك وتغني وتوجه الحرب وأنت نائم على فراش وثير.
ضحك بايدن وبجانبه ابن عمه بوش:
ستستمر الحرب إلى أن يتفسخ الجميع في العالم القديم، دول وحكومات ومجتمعات وشعوب وقوميات ومذاهب زائدة عن اللزوم.
لو لدى أوروبا وأوكرانيا قرار سيادي لتفاوضوا مع روسيا وخرجوا بنتائج ربما ترضي أوروبا وأوكرانيا وروسيا.
أنا واثق أن أوروبا تتمنى أن تتفاوض مع روسيا للخروج من عنق الزجاجة، لكنهم خائفين منّا، من الغول الأمريكي الذي أمثله.
ثم عاد وبصق على الأرض بقسوة شديدة، قال:
ـ انقلع من هون يا حشرة، العالم القديم كله حشرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا