الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أدب المرايا من الكلاسيكية إلى المعاصرة في رواية / نساء المحمودية / للأديب المصري منير عتيبة دراسة ذرائعية تقنية بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

عبير خالد يحيي

2024 / 3 / 8
الادب والفن


إغناء:
عن أدب المرايا :
على الرغم من نشأة هذا الفن الأدبي في العصور الوسطى في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والسادس عشر، كفن مستلهم من الرغبة في جمع المعرفة الموسوعية في عمل واحد، وهو ما يقابل في العصر الحالي (الاستقصاء الموجز) أو المقالة الاستقصائية المستلة والملخصة من مجال بحثي. كما أنه في الأدب العربي يعود إلى العصر العباسي في العراق الإسلامي، وكان يشير إلى جملة من النصوص التي تعكس المرايا العلمية والفلسفية والنفسية والاجتماعية في المجتمع العربي الإسلامي القديم، ويركز على موضوعات مثل الحكمة والأخلاق والفلسفة والتاريخ والأدب، إلّا أنه تطوّر في عصرنا الحالي، ليغدو نوعًا من التجريب الفني متوائمًا مع التطور التقني في الأدب الروائي، ليتبلوَر كتقنية سردية يحاول فيها الكاتب رسم صور فنية – من منظوره الخاص – لبعض الشخصيات التي قد تكون – أو لا تكون- واقعية، عرفها الكاتب في حياته أو سمع عنها في محيطه، يعكس الكاتب من خلالها تأريخًا لمجريات الأحداث السياسية والاجتماعية في منطقة جغرافية معروفة، خلال فترة زمنية محدودة، وذلك بإلقاء الضوء على الجوانب الخفية والمعلومة لهذه الشخصيات، مع رابط دقيق بين سيرِهِم وبين الأحداث المتعاقبة عليهم، وتأثير تلك الجوانب على مجريات حياتهم ومصائرهم، ويعكس العلاقات الاجتماعية بين الرجال والنساء، وبين الحكّام والمواطنين.
البؤرة الثابتة Static Core :
في رواية / نساء المحمودية/ للأديب منير عتيبة، أول سؤال يمكن أن يتبادر إلى ذهن القارئ، لماذا نساء المحمودية وليس رجال أو حتى أهل المحمودية؟ مؤكّد لم يأتِ الكاتب بهذا العنوان عبثًا، نتأكّد من ذلك حينما نقرأ العمل كاملًا، لنجد أن المرأة هي الشخصية الرئيسة في الرواية، فقدّم البطولة ( (Protagonist للمرأة عن الرجل الخصم ( Antagonist)، بالحمولات الخَلْقِية التي خصّها الله بها دونًا عن الرجل، من حمل وإنجاب وإرضاع وأمومة وعناية شاملة بالبيت والأسرة، الوحدة التكوينية الأولى للمجتمع، فصارت المرأة أساس هذا المجتمع، وهي المحرّك الأساسي في الحياة، وهذي هي الرؤية الأيديولوجية التي يؤمن بها منير عتيبة كما صرّح في العديد من الحوارات والمقابلات التي أجريت معه، وكما استشفينا من الكثير من كتاباته. هي حقيقة يعرفها الجميع، ولهذا السبب أعطى الإسلام للمرأة خطوة متقدّمة عن الرجل بما فضّلها الله عليه بالخَلق.
وحتى لا يُتّهم منير عتيبة بالمغالاة في نظرته إلى المرأة، بأن أعطاها خطوة متقدّمة عن الرجل، وهي ثيمة راقية جدًّا بالمناسبة، إلا أنه حرص على تبيان حقيقة، هي أن التوازن بين الأنوثة والرجولة يقع على عاتق المرأة، وأن اختلال هذا التوازن سببه أيضًا المرأة، لأن المرأة إذا كانت سلبية أو سيئة تأخذ المجتمع إلى الحضيض، أما إذا كانت إيجابية وخيّرة تبني مجتمعًا نموذجيًّا، ولهذا اختار نماذجه النسائية على مقياس السلبية والإيجابية بدقّة متناهية.
استخدم الكاتب تقنية وجهة النظر Point-of-view، وهي تقنية مرافقة لتقنية المرايا، من حيث أن من يكتب بهذه التقنية يقدّم صور فنية، من منظوره الخاص، للشخصيات، يقارن فيها المرآة مع الحياة، بمعنى أن نظرة المرأة الأولى إلى المرآة ترى فيها الجماليات التي خلقها الله بها، لكن النظرة الثانية ترى فيها وجهتها في الحياة، أي الوجهة الثانية المخبوءة داخل كيانها المادي، والتي تحمل رزايا الإنسان السوداء، فهنا تعتبر الذرائعية تقنية المرايا عاملًا لتوضيح ثنائية الإنسان الإجرائية: (النفسية المخبوءة –الشكلية الظاهرة ).
أمّا أنا كناقدة، ومن وجهة نظري، أجد المرآة رمز تقني Allegory بنفس التوظيف المذكور سابقًا.

على المستوى البصري:
ابتداءً من العنوان:
/ نساء المحمودية التاريخ السري لخورشيد في 200 عام/
نجد فيه إحالة تاريخية ( التاريخ- 200 عام) وإسنادًا إلى : شخصيات ( نساء المحمودية ) ومكان ( المحمودية – خورشيد)، بينما لفظة ( السري ) هي التوظيف والمربط الأول لتقنية التشويق، فهي المحفز الأول للإثارة، بالترافق مع لوحة الغلاف، والتي تشكّل، مع العنوان، عتبات بصرية يتحدّى بها الكاتب سكون وهدوء واستقرار المتلقي، يستفز حواسه، ويسترعي انتباهه.
والغلاف الأمامي :



عبارة عن صورة فوتوغرافية لشابة رشيقة القوام بثوب ممرضة، وجهها مغطى بما يشبه الطابع البريدي، يحمل عنوان العمل وجنسه واسم الكاتب، إلى جانب الممرضة ( عائدة) هناك طاولة مزينة بزخارف محفورة على الخشب، تجتمع فوقها وعلى الطبقة السفلية منها أشياء مرتبطة بالزمن التاريخي لرواجها، مثل ماكينة الخياطة (سنجر)، التي راجت من الخمسينات من القرن الماضي، صورة للزعيم جمال عبد الناصر، التي لم يخلُ بيت مصري ولا عربي منها خلال فترة رئاسته وبعدها، جهاز الراديو كاسيت، الذي راج في فترة الستينات منافسًا للراديو الخشبي، وسؤال قد أطرحه على الكاتب، لماذا الراديو كاسيت وليس الراديو الخشبي وقد تكرّر ذكره ورؤيته في مرآة (صباح)، تخصّه حماتها (أم حسين) بالعناية المفرطة، تسمع منه خطابات الزعيم عبد الناصر وأغاني الست والعندليب وصوت العرب، وحينما تخاصم الزعيم، تغطيه بملاءة بيضاء وكأنها تكفنه؟!. إلى أن سلّمته لبائع الروبابيكيا في مشهد من أجمل المشاهد السردية التي وظّف فيها الأديب منير عتيبة تقنية سردية راقية جدًّا ألقى عليها المنظر الذرائعي عبد الرزاق الغالبي الضوء لإبرازها كتقنية سردية ذرائعية معاصرة هي تقنية الصور الجمالية المتداخلة، حين نسمع في المقطع الواحد أو الصورة الواحدة صوت السارد، وصاحب الصوت والسامع والمسرود له:
" كان صوت أم كلثوم يأتي عبر الراديو الخشبي( مهما كنا ومهما كنتم.. من حقوقنا احنا وأنتم .. السلام)، ( ملابس قديمة للبيع. أي حاجة للبيع) سمعت أم حسين صوت بائع ( الهلاهيل) كما يسمونه في خورشيد أو الروبابيكيا كما يسمونه أهل الاسكندرية، نادته، ناولته الراديو دون أن تغلقه( بكم يا حاجه؟) ( بلا ثمن)، أخذه، ووضعه على عربته الصغيرة، دفع العربة بيديه، وصوته يختلط بصوت أم كلثوم( السلام. ملابس قديمة للبيع. يا سلام. أجهزة قديمة للبيع. يا سلااااام اي حاجه قديمة للبيع)".
وهي تقنية ستتكرّر في مواضع عديدة من الرواية.
الغلاف الخلفي:
نفس الطابع البريدي، أمامه جهاز معدني يُستخدم في تقويم الساق، سنجد عند قراءة ارواية أنه يعود ل(رضوى) الساردة المشاركة، وخلف الطابع (جاكيت) بدلة عسكرية يعود ل ( حسين) زوج صباح، لا أنكر أنني كنت أبحث أيضًا عن القطعة النقدية النحاسية المتوارثة عبر أجيال في عائلة ( أبو حسين).
تحت الطابع فقرة سردية مأخوذة من المتن، حول تحوّل عزبة حسين إلى خورشيد، ثم تعقيب من الناشر، أُورده لأني وجدته تلخيصًا رائعًا للثيمة الرئيسة والثيمات الأخرى، كما أنه متطابق تمامًا مع تقنية أدب المرايا، عدا عن الأسلوب المشوّق من غير كشف:
"رضوى، سنية، عائدة، صباح، يصحبنا الكاتب معهن في رحلة طويلة، مرهقة، نعرف من خلالها سيرتهم وأسرارهم و- بطبيعة الحال- سيرة مكان مهدد برغبات استحواذ لا تنتهي، في هذه الرواية ليس ثمّة بطل واحد، لكنها صراعات لأبطال نجد أنفسنا متورطين معهم في معاركهم، لا نصل إلى نهايات مفاجئة فقط، بل تتكشّف لنا معانٍ واستجلاءات ربّما مرّت علينا، لكنها تبدو جليّة للمرة الأولى بعد تفكيكها واستدعائها بشكل مغاير".
لم أجد عتبات داخلية، أمّا المتن فقد شغل مساحة 316 صفحة من القطع المألوف للرواية، مقسّم على اثني عشر فصلًا، الفصول غير معنونة، وكل فصل مقسّم على أربع مرايا، كل مرآة تحمل اسم صاحبتها( رضوى، سنية، صباح، عائدة) تحت كل اسم رقم يشير إلى عدد مرات الظهور.
التنسيق المطبعي والتحرير الإملائي والنحوي جيد جدًّا، وتوظيف ممتاز لأدوات الترقيم.

على المستوى اللساني والجمالي:
على مستوى الألفاظ استخدم الكاتب مفردات تعكس ثقافة المجتمع الريفي كما تعكس ثقافة الكاتب ومعرفته بهذه البيئة، على سبيل المثال وليس الحصر:
"الدريس البرسيم المجفف"، " أقراص الجلّة"، " الموردة"، " الجرن"....
في الصفحة 136 وصفات شعبية تساعد على الحمل .
والعديد من التصوير اللغوي الأدبي، المعتمد على علم البلاغة، وعلم الجمال:
- شعرت بأن الأسئلة غراب يثقب رأسها
- مرات قليلة رأت فيها خورشيد في ذلك الوقت الذي يلفظ فيه الليل أنفاسه الأخيرة
- تبدأ الشمس في إرسال طلائعها على استحياء.

على المستوى الديناميكي:
تقنية هيكليّة البناء السردي :Structure
بنى الكاتب الهيكل الفني أو السردي لروايته على شخصيات متعددة، مَحوَر عليها الصراع الدرامي، لأنه أراد صراعًا شخصيًّا، وحدّد لكل شخصية هدفًا عليها أن تبلغه، تنوّعت الأهداف بين أهداف خارجية تصارع فيها الشخصية خصومًا خارجيين، وأهداف داخلية تصارع فيها الشخصية ذاتها للتغلب على معتقد راسخ، بينما جاءت الحبكة العامة للرواية ككل كمحور ثانوي لم تتضح معالمها إلا عبر تلميحات يسرّبها السارد بين مرآة وأخرى، ولم تكتمل صورة الحبكة العامة إلا في نهاية العمل، حينما خرجت شخصيتان رئيستان ( رضوى – عائدة) من مرآتيهما، واجتمعتا في مرآة النهاية.
لذلك، سأدمج دراسة الحبكة الدرامية مع شخصياتها الفنية.

تقنية الموضوع أو الثيمة Theme:
إن موضوع الرئيسي لهذه الرواية مطروح من خلال الشخصيات التي عاشت في ذات المكان خلال حقبة زمنية محددة، وهذا ما بلور الثيمة التأريخية للمكان كثيمة رئيسية- وما يرافقها من ثيمات سياسية واجتماعية وتراثية - وهي ثيمة عكستها المرايا الأربع عبر زمكانية كل مرآة.
لكن هناك مواضيع أخرى كانت محمولة على الأحداث المنفردة والخاصة بكل شخصية من تلك الشخصيات المأزومة، وهي تعطينا الثيمات الفرعية، أي حاصل جمع المواضيع المطروحة في المرايا الأربعة، فنجد مثلًا: في مرآة رضوى ثيمات : نفسية ( تنمّر- غضب) – حب - انتقام- الثيمة النسوية (الرايديكالية الذكورية – الحرمان من الميراث - الاعتداء الجنسي – زنا المحارم....).
عند سنية: نفسية (الغيرة القاتلة ) – حب – الانتقام - جريمة
عند صباح : نفسية (الفقد – الحرمان)- حب – إخلاص- التضحية والفداء
عند عائدة: نفسية ( عدائية) – حب- عنصرية – جاسوسية – انتقام – جريمة القتل
فالثيمة النفسية وثيمة الحب هما ثيمتان مشتركتان بين المرايا الأربع، لكن هناك الاختلاف، وهو اختلاف نوعي، بين ما هو حب مرضي يودي إلى القتل، مثل سنية التي دفعها حبها الشديد لزوجها وغيرتها المرضية من ضرّتها إلى الانتقام من زوجها بدفعه إلى حرش الذئات، فاختفى إلى غير رجعة.
كذلك الأمر مع عائدة الممرضة اليهودية التي قتلت المريض الألماني في المستشفى الإسرائيلي تقرّبًا من حبيبها الطبيب اليهودي الألماني أبراهام دايفيد.
أما رضوى، فقد فقد أحبت ماهر، وأخلصت في حبها، رغم أنها مُنعت من الزواج منه بسبب راديكالية أخيها سعيد، لكنها في النهاية تزوجت منه.
بينما صباح أحبّت حسين ابن عمها، الجندي بالجيش المصري، تزوّجت وحملت، لكنها ابتليت بالحرمان منه طوال سنوات الحروب التي خاضها الجيش المصري ابتداء من حرب اليمن في عهد جمال عبد الناصر، ثم حرب النكسة، وانتهاء بحرب أكتوبر.
تقنية الزمكانية :Setting
تبدو الرواية للوهلة الأولى رواية ملحمية، مكتوبة بتقنية السياق التاريخي، وهذا يتطلّب قراءة دقيقة للعمل لفهم الاحتمالات السياقية التي يدوّنها الكاتب بين الكلمات وبين خبايا السطور بشكل إيحائي، شخصيات الرواية وأحداثها الدرامية متخيّلة، لكن تتخلّلها أحداث تاريخية واقعية معروفة، يعكس منير عتيبة، من خلال المرايا المتوازية صورًا متعدّدة ومدروسة لحيوات نساء انتقاهن بدقة متناهية، عشن في ( قرية خورشيد) والتي كانت معروفة قبلها بترعة المحمودية وبعدها بعزبة أبو حسين، والتي أعطاها الكاتب دور البطولة، متتبعًا نشأتها وتطورها التاريخي من قبل العام 1820 بقليل، وهو تاريخ حفر محمد علي باشا لترعة المحمودية، إلى العام 2020 تاريخ افتتاح الرئيس السيسي لمحور المحمودية، أي خلال فترة 200 عام .
وقام بدراسة حيوات تلك الشخصيات النسائية، وكلّهن شخصيات رئيسية في الرواية، كأجيال متعاقبة، أو متعايشة، من خلال مجتمع خورشيد الريفي بقيوده الثقافية والاجتماعية، ومن خلال تتبعه التاريخي لرابط المكان ( ترعة المحمودية) كما أسلفنا، ورابط الجذر والأصل العائلي والنسب الذي تنتمي وتنتهي إليه أو ترتبط به تلك الشخصيات.
النساء الأربع عشن في نفس المكان فترة من أعمارهن، ( رضوى – صباح- عائدة) اجتمعن في المكان في مراحل مختلفة من حياتهن، سنية سبقتهن بأجيال، وكانت الجدّة الأولى، لارتباطها بنسب حسين، الجد الأكبر، كلهنّ لهن ارتباط بالنسب مع (حسين) ما من أحفاد الجد الأكبر (حسين العلواني)، مؤسس عزبة حسين، إلا (عائدة) اليهودية فقد كان ارتباطها كخصم مباشر مع ( حسين أبو حسين)، الجيل السادس الممتد من حسين الكبير مؤسس عزبة أو حسين.
ولأن الكاتب اختار تقنية تيار الوعي Stream of consciousnessفي السرد الروائي، فإن زمكانية السرد كانت محدودة، بمحور المحمودية مكان الاحتفال، ومدة زمنية لا يتجاوز فترة الاحتفال، تحديدًا الوقت الذي غابه ماهر ليشتري قرطاسي ترمس وفول! وهذا أشبه ما يكون بزمكانية الأحلام.
الشخصيات الرئيسة والأحداث الدرامية:
( رضوى – صباح- سنية - عائدة)، كل شخصية منهن موظّفة من خلال تقنية شخصية البطل Protagonist لتكون بطلة في مرآتها، وهي، إمّا شخصية خيّرة بطولية مثل ( رضوى – صباح)، أو شخصية شريرة مثل (سنية – عائدة).
عائدة، الممرضة اليهودية، كانت شخصية مكتملة، حدّدت هدفها منذ البداية، الغاية تبرر الوسيلة، فبناء على غاياتها الدنيوية وعنصريتها قتلت مريضًا ألمانيًّا لتحظى برضا حبيبها ابراهام الطبيب الألماني اليهودي، وفي سبيل نفس الغاية أغوت حسين أبو حسين لتدخل قصر أحمد بك الجزيري، لتتجسّس عليه، بهدف تسليمه للمخابرات الإنجليزية والوكالة الإسرائيلية، ثم قادها الحقد والانتقام لانتزاع قطعة النحاس من رقبة حسين أبو حسين، مساهمة بإزهاق روحه، حينما اصطادته رصاصات الإنجليز وهو يحاول الهرب إلى المقابر حيث اختفى جدّه المؤسس، طمعها بالقصر أوصلها لامتلاكه، ولو بعد عقود من الزمن، من خلال تفاوض شركة متعددة الجنسيات تعمل في صناعة الإسمنت (عائدة) هي العضو المنتدب لتلك الشركة، مع ابنة الجزيري لشرائه، في عهد السادات وزمن السلام ...
صباح كانت أيضًا شخصية مكتملة، منعزلة مستسلمة لكل ظلم يقع عليها، ظلم زوجة الأب، ثم تنكيل الحماة، فقط ظفرت بحب حسين ابن عمها، كما ظفرت بإنجاب طفلة منه، لكنها ابتليت بفقدهما معًا، أسر حسين في سجون إسرائيل بعد حرب أكتوبر، واستشهد تحت التعذيب، بين أيدي إبراهام ديفيد، دون أن يكحل عينيه برؤية طفلته (انتصار) التي كانت رمزًا لمستقبل مأمول:
" انتصار هي الأمل الذي أموت من أجله فحافظوا عليها، ولتأخذوا بثأري يومًا ما من قاتلي، اسمه أبراهام ديفيد..." ص 297
لكن انتصار ماتت بالتهاب رئوي مع إعلان أنور السادات عن قراره بالذهاب إلى إسرائيل.
أما صباح، بقيت في عزلتها، بل زادها الحزن عزلة، ثم ماتت كما ابنتها بمرض في الصدر بسبب غبار مصنع الإسمنت الذي بنته شركة عائدة، وتزامن مرضها وموتها مع الانتشار وباء كورونا، فلم يجرؤ الكثيرون من أهل القرية على تشييعها ودفنها، بل اقترحوا حرق البيت وهي معزولة داخله، خوفًا من عدوى كورونا، ولكن بعض الشبان والفتيات قاموا بتشييعها ودفنها في مقابر عائلة أبو حسين. عاشت منعزلة وماتت منعزلة.
سنية كانت شخصية نامية، انتماءها كأنثى لرجلها حسين، وملازمتها له كالظل، وتنامي حبها له، وعدم إنجابها منه، زواج أخويه محمد وطاهر، وحمل العروسين، مكّنت الخوف والحزن في قلبها، حزن وخوف من تغيّر زوجها عليها في المستقبل، وانشغاله عنها ومساهمته بمشروع محمد علي باشا بحفر ترعة المحمودية، كل ذلك جعلها تفكر بشيء تنقذ به نفسها، فلجأت إلى العلاجات الشعبية لمعالجة رحمها، لكن الرحم كان متصحرًا ولم يستجب، بل أعلن "فقدان الأمل في إمكانية وجود أية حياة بها" ص145.
موت الكثير من الفلاحين العاملين جوعًا وعطشًا، وتعبًا، وغرق مدينة الاسكندرية بالمياه المالحة، حين فتحوا لترعة المحمودية شرمًا غير فمها المعدّ لذلك، وخوف سنية من فقد حسين، جعلها تكره ترعة المحمودية، ووضعت أمامها هدفًا، وقررت تنفيذه، "مقابلة الباشا الكبير لتشكو إليه ما فعلته الترعة بها، وترجوه ردمها، لعل كل شيء في حياة سنية يعود إلى أصله" ص 150
وكان هذا الهدف الأول.
زواج حسين من عليات الأرملة الشابة التي مات زوجها مع من ماتوا في حفر الترعة، والتي جلبها حسين لتعمل كخادمة في المنزل، حرّك في قلب سنية غيرة لم تحتملها، وزاد من كرههها للترعة، فلو لم يفكر الباشا بحفرها لكانت سنية هانئة الآن وحدها بحب زوجها. تزداد غيرتها، مع انشغال حسين عنها بمتابعة أرضه وتجارته، وانعزاله عنها وانشغاله الأكبر بقطعته النحاسية وزوجته الثانية عليات، تتحوّل إلى غيرة مرضية تدفعها للتوغّل في عزلتها عن البشر، ودخولها في عالم النبات والحيوان، فغدت " صديقة للأحراش، وشريط الرماد والذئاب، بل وهوام الأحراش..." ص 233، وهنا يستخدم الكاتب تقنية الواقعية السحرية:
" وقتها كله تقضيه في حوار مع نباتات الأحراش، ورماد الشريط، ومع من صادقتهم من الذئاب، يقفون على الطرف الآخر من الشريط، ينظرون لها بعدائية ثم باستغراب، فبتجاهل، ثم بألفة، وأخيرًا بصداقة. يبدأ بينهم حديث طويل، تحكي فيه سنية عن حياتها، وحكايتها مع حسين الكبير الذي تعرفه الذئاب جيدًا، صاحب شريط الرماد" ص 233
كما يوظّف تقنية التشخيص Anthropomorphism/Personification :
" والذئاب تحكي لسنية عن حياتها في الأحراش، وعاداتها، ومشاكلها، وأحلامها بمساحة أكبر تعيش فيها بعد أن ازداد عددها، ونباتات الأحراش تعترض على جشع الذئاب، .... " ص 233
هي لعبة سردية من الكاتب كي ينقلنا إلى عالم غامض تعيش فيه الشخصية، ويبعدنا عن التصريح المباشر بمدى تدهور حالتها النفسية المرضية، ليجعلنا بعدها نتقبّل ونصدّق اكتساب الشخصية لطاقة غيبية تجعلها "تحلم بما تريد، ليتحقّق، هذا ما أنبأتها به الريح على لسان النباتات، وأكدته لها الذئاب، وأقسمت على صدقه حفنة الرماد التي مسحت بها ما بين فخذيها قبل أم تنام" ص 235
صارت تكيد لعليات عند حسين، تحاول أن تشككه فيها، فعليات لا تحبه، بل تحب ماله ولو راح ماله ستعود إلى السعرانية، في تلك الليلة تحترق مخازن الغلال والأرض والزريبة في وقت واحد، عندها تأكّدت أن ما أمرت به في حلمها حدث!
في الصفحة 257 ينقلنا الكاتب إلى نفس العالم العجائبي، لكنه يشرك فيه حسين:
"تقف على شريط الرماد، وليس بالقرب منه، ذئب أحمر يقف أمامها ربما زفيرها يلامس وحهه، الذئب يعوي بصوت خفيض كأنه يتحدث، وهي تتمتم بما لم يسمعه حسين، ثم استدار الذئب واختفى في الأحراش، بينما جلست سنية على الأرض مستندة بظهرها إلى قبر ما، تحوم فوق رأسها حشرات ليلية مضيئة" ص 257
ثم تأتي حادثة تشوّه وجه حسين بما يشبه الثعبان، بعد أن أوغرت سنية صدره من أن عليات لا تحبه بل يعجبها فقط وجهه الجميل، وحسين يلوذ بقطعته النحاسية مؤمنًا بأنها حرز!.
ثم تتنامى غيرتها إلى درجة أنها تأمر بأذيته في رجولته، فلا يفلح في إتيان عليات، يتطوّر الأمر بسنية إلى أن صارت تقوم بطقوس جنونية، تجتاز المقابر دون إلقاء السلام، و"تقف أمام شريط الرماد تخلع ملابسها وتدهن جسمها بالرماد، ترتدي ملابسها، تجمع رماد الشريط وتلقي به في قيعان الأحراش." ص 285 – 286
هي خدعة قامت بها سنية مع تطوّر حالتها المرضية، وضعت حسين في اختبار، أمام خوفه عليها وهي تقف خائفة في مواجهة الذئب الأحمر، وفرحته بمجيء ابنه الذي انتظره طويلًا، من سيختار؟:
" سمعوا صراخ الطفل في اللحظة نفسها التي سمعوا فيها صراخ سنية وعواء ذئب غاضب. لم يعرف حسين إلى أين يذهب...." ص 286
ويستمر الكاتب بذات اللعبة السردية، إيهامنا بواقعية تلك الأحداث الفانتازية، فيختار حسين إلقاء نظرة أولى وأخيرة على الطفل وأمه، ثم الذهاب لإنقاذ سنية من أرض الذئاب، وإبرام عقد مع قائد الذئاب اتفاقًا، والعودة برهينة ذئبية، ووضع خطّ للذئاب لا يتعدّونه، كما فعل من قبل، ولكن سنية كانت تعلم أن الذئب الشاب الذي يحقد على حسين، أصبح قائدًا للقطيع، ورغبته في الانتقام لم تخبُ ويريد توسيع نفوذه على حساب العزبة، ولم يعد حسين! ماتت عليات بعد الولادة مباشرة، أخذت سنية الطفل حسين، "ليكون لديها حسينًا آخر بدلًا من الذي فقدته. لكن كان عليها أولًا أن تحكي للباشا الكبير كل ما فعلته ترعته بها وبزوجها ليعرف غلطته الكبرى". ص 288
إذن، سنية شخصية نامية، حقّقت هدفها، نقلها حبها المتطوّر إلى غيرة ثم أنانية ثم كراهية إلى أحضان المرض النفسي، الذي ألقى بها في مستنقع الدجل والجريمة، أنقذها الجنون من حدّ القتل، فكان هو العقاب.
رضوى:
أيضًا شخصية نامية، وهي الأكثر شبهًا بالجدة الأولى ( سنية) بالبعد الجسدي والبعد النفسي :
" كانت رضوى تنظر إلى سنية وكأنها تنظر إلى وجهها هي، الشبه لا تخطئه عين، الوجه المدور، الغمّزة في الخدّ الأيمن، العينان السوداوان الواسعتان، والحزن العميق القابع فيهما، سنية تشبه رضوى تمامًا ولكنها أكثر رشاقة، أو للدقّة أكثر نحافة..." ص 14
بل كادت أن تكون امتدادًا لها في سلوكها، لكنها في الحقيقة كانت فرعًا خيّرًا من جذر شرير، فلا هي نخلة ولا هي حنظل، لكنها غصن حي من شجرة ملعونة بالكره والغضب، يحاول أن يتطهّر بالنور، ليكون طيبًّا ويعيش بسلام.
عانت رضوى منذ طفولتها من تنمّر الغير عليها بسبب ساقها، فقد كانت عرجاء، ولاقت الكثير من الأذى من زميلات المدرسة ما جعلها تكرهها وتتركها لاحقًا، الأذيات التي لاقتها من شيماء إحدى البنات في المدرسة أشعل في قلبها فتيل الغضب، فكادت لها يومًا، مستخدمة طاقة الخيال المليئة بالحقد، التي ورثتها عن جدّتها الكبرى سنية، نظرة عين ورغبة عارمة بالانتقام كانت كفيلة بجعل شيماء تعرج بأكثر من عرج رضوى ذاته:
" حدّقت رضوى في ساقي شيماء القويتين، حدّقت بكل ما بقلبها من حقد وغل وضعف ورغبة في الانتقام، تمنّت من أعماق روحها أن تصاب ساقاها بمصيبة الآن، تخيّلت ما ستشعر به من فرح إذا لم تلاحظ شيماء في غمار انهماكها في اللعب تلك القطعة من الحجارة التي بها بقايا سيخ حديد، لو اشتبك طرف بنطالها بالسيخ، فانقلبت على وجهها...." ص 60
من بعد تلك الحادثة، تيقّنت وصدّق من حولها أنها تتمتع بقوة أسطورية تجعلهم يقرنونها بعفريت الساقية الذي يحقق لها أمنياتها في إلحاق الأذى بمن يضايقها.
وعندما تعرّضت للتنمّر مجدّدًا من اعتماد وسميحة زوجتي أخويها حمدي وسعيد، اللتان كانتا تعيّرانها بعرجها والجهاز الحديدي الذي ترتديه لتقويم ساقها، كرهتهما وكرهت الجهاز، واكتفت بالصمت، لا تشكي لأبويها ولا لأخويها، زصارت تسلك مسلك الجدة سنية بالحديث إلى الحيوانات، لكن حيواناتها دجاجات وليس ذئابًا، فالدجاجات من الحيوانات المهجنة ورمزيتها مرتبطة بالمعرفة، الفضول والاكتشاف تحديدًا، والشجاعة، بينما الذئاب من الوحوش، وهي رمز للمحارب من جهة، ورمز للشيطان من جهة أخرى، هذا ما اختلفت فيه رضوى عن سنية، لكنها شابهتها باتباع طقوس ظنت أنها تخفّف عنها الألم، وتزيد من قدرتها وطاقتها الانتقامية :
"اكتفت بالشكوى لعادل الذي لا يفهم ما تقول بعد، وللدواجن، التي تنظر إليها فتشعرها أنها تفهمها وتتعاطف معها لكنها غير قادرة على فعل شيء لأجلها، فتجرش الملح، وتخزّن ماءه بروحها مع الكثير من الكراهية التي بدأت توجّهها لزوجتي أخويها رغبة في الردّ على ما تفعلانه بها، فتذكّرت موهبتها القديمة التي انتقمت بها من شيماء.... وحاولت استعادتها.... " ص 83
إن جرش الملح ومضغه يشير إلى إصابتها ب(متلازمة بارتر) أو داء أديسون، حيث يقل انتاج الغدد الكظرية الموجودة أعلى الكليتين من الكورتيزون والألدوستيرون، وهي هرمونات تنظم وظائف الجسم وتساعده على التعامل مع التوتر، وتناول الملح بتلك الطريقة يمكن أن يخفّف من التوتر، ولكنه يؤدي إلى احتباس الماء في الجسم، وهذا ما يبرّر ظهورها بمظهر البدينة، خلافًا لجدتها سنية، لكن رضوى كانت تعتقد أنها بطعم المرار هذا تتغلب على الألم، استمرار تنمّر المرأتين صعّد حدّة الغضب عندها، رغم أن ذاتها الطيبة كانت تحذّرها من ذلك الغضب الذي يمكن أن يصبح نارًا تحرقها قبل أن تحرق غيرها، لكن، الشرّ يغلب، ويأتيها جذر سنية الخبيث، تغمض عينيها هي الأخرى وتتخيّل المشهد الذي رأته في المستشفى:
".... الممرضة البيضاء القاتلة، والرجل الطويل لا يتوقف عن كلمته الغريبة التي يناديها بها، لكن عينيه توحيان لرضوى أنه يستحق القتل، اللعنة عليه وعلى قاتلته وعلى اعتماد وسعدية وزميلات المدرسة والعرج...."ص 87
ضربة على بطن اعتماد، ونظرة إلى بطن سعدية، انتفضت لها سعدية رعبًا.....
" تعالى صراخ وعويل أمهات وأخوات زوجتي أخويها، سقط الحملان معًا" ص 88
محاولة الاعتداء الجنسي التي تعرضت لها رضوى من قبل جارهم محمود سائق التاكسي، زوج فاطمة التي تبرعت بتعليم رضوى التفصيل والخياطة بعد أن تركت المدرسة، أضاف إليه رفض أخويها لماهر الشاب الذي أحبته وأحبها بصدق، زرعت في حقل نفسها حقدًا من نوع آخر، وغضبًا عارمًا جعلها تقتل دجاجاتها وترمي برؤوسهن من سطح البيت كالمطر على رؤوس كل من كان واقفًا في الأسفل بالورشة، ثم زواجها من البدري الرجل الأرمل، الذي يتعاطى الحشيش والمخدرات واعتداء ابنه الشاب هشام المتكرّر عليها، أنبت في نفس الحقل نوعًا غريبًا من الحقد، لا يقلّ غربة عن تبريرات رضوى والقناعات الجديدة التي ارتداها عقلها، ووافقها عليها شعورها، سلّمت جسدها للبدري وابنه، أحسّت بالندم وبعدم قدرتها على حماية جسدها، فأقنعت نفسها أنها لا تملك جسدها! بل وتخشاه! ولكنها تشعر بمسؤوليتها اتجاهه في الوقت نفسه، وتخاف عليه من الحرمان، ولكنها تملك قلبها، انتقمت فيما بعد من هشام ابن البدري بوخز عضوه بالدبابيس، حينما حاول الاعتداء على رضوى الصغيرة، ثم تحقّق هدفها بالطلاق من البدري أثناء ثورة يناير، الذي انضم إلى جماعة البلطجية من أشباه حمادة ميكي الذي قام بتجهيز العشرات من الميكروباصات المحملة بالبلطجية للسفر إلى القاهرة لتأييد الرئيس ضد العيال " بتوع " تمرّد.
تزوّجت من ماهر رغمًا عن استمرار معارضة سعيد، الذي هددته بانتحارها أو قتله ليرضخ، محقّقة الهدف الأسمى الذي وضعته نصب عينيها بأنها لن تكون بكل روحها وجسدها وعقلها سوى لماهر.
" ... بدأت تخيط لنفسها قميص النوم الذي نذرته لماهر، ستكون سماءه وأرضه ونهره، إنها عذراء لأجله، بعد كل ما فعله بها البدري لا تزال روحها مغلقة الأبواب، لن تفتح سوى له، وجسدها سيعاود سيرته الأولى طاهرًا نقيًّا له وحده." ص 284
تتنامى شخصية رضوى إيجابيًا، فتقتنع بجدوى العلاج، وتذهب مع خالد ابن أخيها إلى الطبيب الذي أعلن أن الشفاء كان ممكنًا لو تم العلاج قبل عشرين عامًا من الآن، معظم العبارات والجمل التي جاءت في هذا الفصل كانت إيحائية إلى درجة كبيرة، تلميحات رمزية سياسية مفتوحة على تأويلات لا تنتهي.
تتنامى رضوى أيديولوجيًّا، تذهب مع فاطمة وابنتها رضوى خطيبة خالد ابن أخيها سعيد إلى سيدي جابر لتشارك في ثورة يناير.
الكابوس الذي كان يطاردها، والذي شكّل عندها عقدة ذنب كبيرة، لأنها اختارت السكوت والصمت ولم تتكلّم به، على الأقل لأمّها، ولو فعلت لربما كان أنقذت ذلك الشاب الغريب في المستشفى وهي ترى الممرضة البيضاء الطويلة تحقنه بالسُمّ، وهو يصرخ بكلمات أجنبية لم تفهمها، انفرج أخيرًا، بصدفة قدرية، لكنها ممكنة الحصول طالما أن مكان الأحداث واحد لم يتغيّر مع تغيّر الزمن، يصرّ ماهر أن تصاحبه رضوى لحضور تكريمه في الشركة كأفضل موظف للعام 2020، أعضاء مجلس الإدارة يحتفون بالسيدة التي أسست الشركة بمجرد توقيع اتفاقية السلام، سيدة تقترب من المائة عام، يبرق في ذاكرة رضوى ذلك المشهد، وتردّد بصوت عال الكلمات التي صاح بها الشاب، والتي لا تفهمها أصلًا ولا تعرف من أية لغة هي، ليجدوا بعد التمحيص أنها اللغة الألمانية وتعني " قاتلة ! أنقذوني!"
وهكذا ...بقي هدف واحد لم تستطع لا سنية ولا رضوى ولا أم حسين تحقيقه، فلم تستطع سنية مقابلة محمد علي باشا، كما لم تستطع أم حسين مقابلة جمال عبد الناصر، كذلك رضوى لم تقابل الرئيس، فلم يتوقّف موكب الرئيس السيسي في خورشيد! دلالات إيحائية متروكة لفهم القارئ ضمن مفهوم علاقة الحاكم بالمواطنين.
يتبقى من نساء المحمودية لآخر الرواية اثنتان، رضوى وعائدة، تقودان معًا الأحداث نحو النهاية التي أودت إلى موت عائدة في عمر المئة بسكتة قلبة مفاجئة جرّاء تعرّف رضوى عليها وكشف جريمتها، ثم اختفاء رضوى، من وجهة نظر ماهر، كما جاء في نهاية الرواية:
" ينظر ماهر إلى رضوى شاكرًا وفخورًا، يجد الكرسي خاليًا، ... يمسك الكرسي وينظر إليه وكأنه يتّهم بصره بأن رضوى مكانها وهو لا يراها، يجري يمينًا ويسارًا، ينظر مجرى الترعة، إلى الكوبري، الأضواء الملونة، الناس الذين يصفقون له كبطل، وينظرون الآن إليه كمجنون، يقف متخبّطًا في الحيرة وعدم الفهم، يدقق في طبقات الهواء، لم يرَ شيئًا" ص 316
أو اختفاء ماهر كما جاء في الفصل الأول، فصل الاستهلال، من وجهة نظر رضوى:
" أمسكت رأسها بيديها خوفًا من الجنون والرعب الذي بدأ يجتاحها، تمنّت أن يعود صخب المهرجان، ويقبل عليها ماهر بقرطاس الترمس، لكنه لم يأتِ" ص 13
نهايتان مفترضتان مفتوحتان على كل التأويلات المحتملة.

الأسلوبية :
خلق الكاتب توازنًا لغويًّا في أسلوبيته، حيث قسّم الأسلوب إلى نوعين:
1- أسلوب تقني علمي: يُشار به إلى الحركة الدرامية التقنية، لأن هذه الحركة تميل إلى العلمية أكثر من الأدبية، فقلّ الانزياح فيها.
2- أسلوب أدبي: حيث تعامل مع الجماليات اللغوية والدلالية بأدبية جيدة .
لذلك قلت أنه خلق توازنًا أسلوبيًّا منطقيًّا بقلم متمكّن.

المستوى النفسي:
تداخل الجانب النفسي مع المداخل الأخرى، وهذه نقطة جيدة تُحسب للكاتب لأنه بنى الشخصيات بأبعادها كاملة، فنيًّا وواقعيًّا .

التجربة الإبداعية للكاتب :
بالنتيجة، لم يكن اختيار الأديب منير عتيبة لتقنية أدب المرايا اعتباطيًّا، كما أسلفنا، وإنما هو اختيار مدروس بعناية وتوظيف دقيق لكل التقنيات الرمزية Symbolism والوظائف المنوطة بها، فتقنية المرايا فيها ال-انعكاس واقعي وصادق لصورة الشخص الناظر إليها، وهي تقوم بوظيفة الإيهام بالواقع، يستخدمها الكاتب ليضمن تصديق المتلقي لحكايته، وفي الاقتباس التالي يمهّد الكاتب لبدء الحكاية عبر هذه الوظيفة تحديدًا:
" بدا لرضوى أنها تنظر في مرايا متوازية، كل منها تضجّ بحياة تخصّها، ربّما لا تجمعها سوى هذه الترعة الكبيرة التي تحوّلت إلى خطّ من المياه التائهة في ضجيج محور المحمودية والاحتفال بافتتاحه".... ص 19
كما أن المرآة رمز للنقاء والصفاء لأنها تعكس الأشياء بدقة وبدون تشويه، وهذا الاقتباس فيه ما رأته رضوى بدقة في مرآة عائدة:
" تبدو مختلفة عن معظم النسوة اللائي يسرن بأقدام حافية، ببياض بشرتها، وشعرها المهوش الذي لا تغطيه بطرحة سوداء كالأخريات، لكن عينيها السوداوين كانتا تحملان ما لا تراه رضوى في عيون الأخريات والآخرين المرعوبة، فزع من نوع مختلف" ص 19-20
وبنفس الوقت، هي رمز للخداع حيث يمكن التلاعب وتشويه الصورة التي تعكسها، كما في هذا الاقتباس من مرآة عائدة:
" .... فتشعر بالرعب يجتاح كيانها، تتلفت حولها متسائلة عمن يمكن أن يعرفها هنا، ومن يمكنه أن يبلغ عنها، هل بينهم جاسوس ألماني يتتبعها ليثبت عليها الجرم؟ ..... لطالما كانت ملاك رحمة؛ تسأل نفسها "أحقًّا؟" تتجنّب الإجابة ....." ص 20
كما أنها رمز للجمال الخارجي، وهو أول الوظائف المساقة إلينا في هذا العمل، عبر هذا الاقتباس:
" بالرغم من جمال وجهها؛ لم تحب رضوى النظر إليه في المرآة أبدًا، لكنها اليوم؛ وقبل أن تطلب من ماهر الذهاب بها إلى كورنيش المحمودية الجديد، نظرت إلى نفسها في المرآة كثيرًا، بل واهتمت بتجميله، بعض الكحل، وقليل من كريم لم تعرف متى وصل إليها..... "ص 14
وهي رمز الانعزال والتفكير بالذات والتأمل، وتعبّر عن الهوية الشخصية، حيث تتيح للشخص النظر إلى نفسه والتأمل في ذاته، اقتباس:
" نساء يقفن بجوارها، تبدو كل واحدة منهن في عالم مختلف عن عالم الأخرى، وكلها تختلف عن عالم رضوى.... لكنها لم تعرف ما علاقتها بالصالحين، هل يتعرض الصالحون لما تعرضت له؟ وهل يقتل الصالحون؟ تعلم أنها قاتلة وإن لم يعرف أحد غيرها بهذا، وإن تحاول نسيان من قتلتهم، فهل يكشف الله الحجب عن مثلها؟...." ص 13
والأهم من ذلك أنها تقنية لتعزيز الرسالة الأساسية للعمل السردي، تساهم في إضفاء الأجواء المناسبة وإبراز المعاني المختلفة.
إلى جانب ما تحدّثنا عنه سابقًا، لقد نجح الأديب منير عتيبة، بتقديم عمل إبداعي مميّز، خرج به من كلاسيكية مَن تناصّ معها بالموضوع، كنجيب محفوظ وغيره من عمالقة الروي الملحمي والتاريخي، باتجاه العصرنة التقنية، تجريب خاض غماره بجرأة، مفيدًا من معرفته بالمدارس الأدبية والنقدية وثقافته الشاملة، أمتعنا بهذا العمل فشكرًا له وإلى المزيد من الأعمال الإبداعية المميزة.

#دعبيرخالديحيي الإسكندرية – مصر الثلاثاء 5 مارس 2023








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى