الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لاعزاء للسيدات

عادل الامين

2024 / 3 / 8
ملف 8 اذار / مارس يوم المراة العالمي 2024 - أوضاع المرأة في الحروب والصراعات وكيفية حمايتها، والتحديات التي تواجهها


قد ينتقل الإنسان في كفاحه من أجل البقاء في مهن مختلفة، تتفاوت هذه المهن بين ما يحتاج لمجهود عضلي وأخرى تحتاج لمجهود عقلي أو كليهما . هناك مهن تقود الإنسان للتعامل مع الآلات الصماء الميتة إلا من الضجيج المنتظم الذي تصدره هذه الآلات في المصانع والمعامل .. مهن أخرى تتعامل مع الجمهور .. هذا النوع الأخير الذي يتعامل مع الكائنات الحية ..مع أسوأها على الإطلاق .. البشر !! هو الذي يستهويني تماماً .. لماذا ؟ ..لأني منذ الصغر شغوف بتعرية الإنسان من الداخل والتعمق في التحليل السلوكي وغيره .. هذه الهواية القذرة جعلتني عديم الأصدقاء إلا من القليل منهم الذين أحبهم كثيراً رغم انتقاداتهم المرة لي واتهامهم لي بسوء الأدب مع الناس الذين يكونون في نظرهم محترمين وفي نظري غير جديرين بالاحترام ، نسوق إليكم القصة التالية كشاهد على ذلك .. عملت يوماً في أواخر الثمانينات في وظيفة مؤقتة بمكتب القبول بالخرطوم .. هذا المكتب يقوم بتنسيق وتوزيع كافة الطلاب الناجحين من مختف من مختلف مدارس السودان إلى الجامعات والمعاهد العليا في الداخل والخارج .. كان عملي مساعدة لأولياء امور الطلاب بملئ استمارة القبول بالطريقة الصحيحة ، كنت مختص مدارس الكمبوني * فأضحى هذا العمل مفتاح المرور للتعرف والتعامل مع الأوساط " الهاي فاي " .. إذ كان هذه المدارس المترفة يدرس فيها أبناء الذوات وكبار المسئولين الذين نراهم في التلفزيون والصحف .
* * *
في ذلك اليوم المشهود دفع رجل في العقد الخامس من العمر ومعه أبنه باب المكتب ودخل يضرب الأرض بحذائه اللامع ، كان الرجل يرتدي بدلة غربية كاملة سوداء اللون ، على الرغم من حرارة الجو في ذلك الصيف في يوليو بالخرطوم ويحمل حقيبة سوداء برزدنت ، في الحقيقة كان الرجل يتلامع كأنه جاء من فليت ستريت رأساً إلى مكتبي الصغير المتواضع و ضمحة بالعطر الخليجي النفاذ الذي يشعر الإنسان بالدوار ، ألقى الرجل التحية باللغة الإنجليزية وجلس على الكرسي قبالتي ، التفت إلى الابن ، كان مكتنز كأبناء الأثرياء في كل مكان لاحظت حزن عميق يطل من عينه الواسعتين ويغمر وجهه الطفولي .. تحركت عقارب التقصي والغوص في الأعماق البشرية في داخلي ، يبدو أن هذا الغلام لايحب والده إطلاقاً وقد أحضره معه قسراً .. قطع الرجل استرسالي من التفكير .
- هل أنت المسئول عن قبول مدارس الكمبوني ؟ !
- نعم .
أخرجت استمارة القبول وتعمدت مخاطبة الولد المذعور الذي يقف في انكسار .
- الاسم لو سمحت .
رد الرجل في صلف نيابة عن ابنه .
- فلان .. الفلاني .
وتوالت البيانات تباعاً ، أنا أسال الغلام والأب يجيب في غطرسة وتكبر .
- مهنة الوالد :
- مهندس في أرامكو .
- الدخل السنوي للوالد :
- مائة وأربعون ألف ريال سعودي .
- بالعملة السودانية لو سمحت .. أعني بالجنيه :
- أحسبها أنت !!
أيقظت غطرسة الرجل كل النعرات البلشفية والأحقاد الطبقية في نفسي ، أنا من عطبرة المدينة العمالية الفقيرة فانبريت له .
- أنا موظف في الدولة وليس تاجر عملة .
بهت الرجل كأنما لسعه عقرب ، نظرت إلى الغلام الذي لاح طيف ابتسامة واهنة على شفتيه ولمحت في عينيه امتنان خفي ، كان سعيداً بالرجل الذي ينكل بأبيه الطاغية على هذا النحو .. فتح الرجل الحقيبة السوداء وعبق منها عطر آخر أشعرني بالدوار وأخرج آلة حاسبة وعلبة سجارة أمريكية أشعل سجارة وأملاني عدد من ستة أرقام وكان هذا الدخل السنوي ثم انتقلنا إلى الجانب الأهم في البيانات ، رغبة الطالب في نوع الكلية الجامعية التي ينوي الالتحاق بها وهي رغبات غير قابلة للكشط أو التعديل .
نزع الرجل نظارته الطبية ووجه إلي نظرة نافذة متحديه .
- كليه الطب .. جامعة الخرطوم فقط !!
انتهت البيانات ونهض الرجل وانصرف دون مصافحتي وتأخر ابنه قليلاً وصافحني بمودة واحترام وخرج يتدحرج كالكرة خلف أبيه ، أخرجت ملف فحص الدرجات من الدرج لمطابقتها مع درجات الطالب في الشهادة .. كان متفوقاً أحرز خمس علامات من نوع ( A) * في الأربعة المواد العلمية بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية .. إذاً سيحصل على مقعد مريح في كلية الطب ، جلست ساهماً أفكر وأنا أنظر إلى مكتب رئيستي في العمل الخالي ، خرجت لتحضر ابنتها الصغيرة من حضانة في الجوار ، أخذ عقلي يعمل كالماكينة ، يستعرض الموقف الذي انقضى منذ لحظات (( أن ملابس الرجل الفارهه لاتنسجم مع ملابس ابنه العادية البسيطة كم تمنيت أن ينقطع التيار الكهربائي وهذا شيء يحدث دائماً فيتحول المكتب إلى فرن لأرى كيف يفعل ذلك الرجل الذي يحمل كل صفات الطاووس ماعدا جماله ويرفل تحت أطنان من الملابس الغربية الفاخرة .. مفتاح السيارة المرسيدس الذي ألقاه على مكتبي بطريقة استعراضية ، الدخان الذي أشعله وجعلنا أنا وابنه في جحيم التلوث السلبي للدخان .. من بين فلسفاتي الخاصة في الحياة التي تثير حنق أصدقائي " فلسفة الجحيم هو المدخنون " كنت أردد دائماً أمامهم لإغاظتهم " إن التدخين شكل من اشكال الشذوذ الجنسي الكامن وهو عبارة عن إرتكاس للمرحلة الفمية لفرويد " ألا ترون أني إنسان بذيء أحياناً .
* * *
انفجر الباب فجأة فقطع حبل أفكاري ، دخلت امرأة في العقد الرابع ترتدي ثوب موظفة سودانية أبين اللون وانفاسها تتسارع ، اتجهت إلي وعيناها تفيضان بالدمع .
- هل حضر فلان الفلاني هنا مع ابنه للتقديم للجامعة ؟ !
صدمني اندفاع المرأة للحظة ثم استعدت جأشي وبدأت أبحث في الملفات .. تذكرت أنه الرجل نفسه .. الطاووس !!.
- نعم يا والدة تفضلي بالجلوس .
ناولتها الملف أخذت تنظر في البيانات في لهفة وانهارت في إعياء على الكرسي تبكي بحرقة أدمت قلبي .. إذاً هذا هو الوجه الآخر للمأساة ، نظرت إلي في تضرع .
- هل ممكن إلغاء هذه الاستمارة واستبدالها بأخرى جديدة ؟ !
- لا يمكن للأسف هذه الاستمارة تملأ بمعرفة ولي الأمر وغير قابلة للإلغاء والتعديل .
قاطعتني في حزن بالغ وهي تجهش بالبكاء .
- أنا ولي أمره .. وليس هو .. لماذا لم ينتظرني هذا الولد العاق ؟
للأسف بدأت تتجمع في دهني خيوط القصة ، هذه المرأة الطيبة بوجهها اخالي من المساحيق الذي ينبئ بأنها لم تتزوج مرة أخرى بعد الانفصال من ذلك الرجل السادي وبذلت شبابها من أجل تربية ولدها المتفوق الذي كان يقيم معها .. المنطق وحده يؤكد ذلك لو نشأ ذلك في كنف إبيه لكان مصيره المصحة وليس الجامعة ، نظرت إليها وقد هاجت نفسي كل الشعارات الأممية التي تدعو للتضامن مع المرأة ووضعها المزري في المجتمع الرأسمالي ألم أقل لكم بأني حاقد وبذيء وشيوعي أيضاً !! .
- أني جد آسف لك يا والدة لابد أن نكون واقعيين مهما كانت الظروف
إنك ترضي أن يكون ولي أبنك امرأة مع وجود والده على قيد الحياة ، إن ذلك يهز صورته أمام أصدقائه الذين يقفون خارج المكتب مع آبائهم .
وكأنما انصب على المرأة ماء بارد واستعادت جأشها وهدأت أنفاها كففت دموعها ، المسكينة كانت أشبه بملاكم صمد خمس عشر جولة ليسقط في الجولة الأخيرة بالضربة القاضية ، رددت في ود .
- نعم يا ولدي هذا عين العقل ، فقط كنت أريده أن يدرس الهندسة .
- الهندسة أو الطب كلها كليات مرموقة .
نهضت المرأة وإكراماً لها خرجت معها إلى خارج المكتب ، هناك كانت سيارتها الأوبل البيضاء القديمة ، كانت مثلنا مواطنة محلية داخل السودان ، استعنت ببعض المارة لدفع السيارة حتى يشتعل المحرك ، تقدمت منها أودعها وأنا أسعل بشدة من الدخان الكثيف الذي خرج من السيارة .
- أنتِ…امـرأة عظ….ـيمة يا والدة..لكن"الخيل تجقلب والشكر لحماد"*
أضاءت وجهها ابتسامة عريضة ، فقد أثلجت صدرها كلماتي الأخيرة فرددت كلماتي
- الخيل تجقلب والشكر لحماد.. نعم إنه كذلك ..
استدرت عائداً إلى المكتب بين أفواج الطلاب وأولياء الأمور ، لازالت نظرة الامتنان والشكر التي كانت في عينها ماثلة أمامي " الحدم لله على كل حال .. يوجد على الأقل شاهد إثبات واحد يعرف أن ذلك الغلام المتفوق صنعته تلك السيدة الفاضلة " .
دخلت المكتب ووجدت رئيستي في العمل قد عادت من الحضانة مع ابنتها الصغيرة وهي تنظر إلى مكتبي الخالي في استغراب .
- عدت منذ لحظة ووجدتك تقف مع سيدة في الخارج .
- نعم … ويالها من سيدة .
- اليوم مررت على سينما النيل الأزرق .
- ماذا يعرضون مساء اليوم ؟
- الفلم العربي " لاعزاء للسيدات "
ضحكت بصورة مفاجئة ضحكة مجلجلة أربكت رئيستي في العمل .. لكنها تعرفني دائماً بأني إنسان غريب الأطوار وهي أيضاً امرأة طيبة مثل كل النساء في السودان ، لم أسمعها أبداً تتحدث معي عن زوجها !!
* * *
مثل سوداني : الفرس يكسب السباق والفارس يأخذ الجائزة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صنع في اليابان.. إطلاق أول قمر صناعي خشبي في العالم • فرانس


.. الانتخابات الرئاسية الأمريكية: غالبية الناخبين العرب في ميشي




.. ألمانيا: المعارضة تدعو شولتز إلى إجراء تصويت على الثقة أمام


.. تصعيد جديد أم دبلوماسية محتملة؟ كيف سيحسم ترامب قراره مع إير




.. التطورات الميدانية في لبنان.. غارات إسرائيلية في مناطق عدة و