الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هواجس في الثقافة مقتطفات 87

آرام كربيت

2024 / 3 / 9
الادب والفن


في العام 1975 كنت في الصف العاشر، في السادسة عشرة من عمري، في الصيف عملت في مزارع الدولة، ككاتب براتب 223 ليرة سورية، على أساس الكفاءة.
كنت أستيقظ صباحًا في الرابعة والنصف، والتحق بمعسكر الفتوة في الساعة الخامسة، في مدرسة العروبة في القامشلي.
بمجرد أن ينتهي الدوام ظهرًا، أذهب إلى البيت أكل القليل من الطعام، واتجه إلى محطة تل زيوان التي تبعد عن بيتنا حوالي خمسة كيلو مترات، إلى العمل، أكون هناك في الثانية ظهرًا إلى العاشرة ليلًا.
مهمتنا كانت استلام شاحنات مملوءة بشوالات الحبوب، نعدهم ونوقع على ايصالات الاستلام بانتظار الشاحنة القادمة.
كل شيء كان للدولة، الشاحنات، الأرض، القمح والعمال.
كان بصحبتي مجموعة من الشباب في مثل عمري في ذاك الوقت، موظفين مؤقتين، كل واحد كان يعمل في موقع، بيد أننا نلتقي في مكتب واحد نجتمع معًا في بعض الأوقات معًا، ومسؤولنا كان اسمه آراكيل.
عندما كان يهل الليل، كنت أصعد فوق ستوكات شوالات حبوب القمح، وأجلس هناك تحت ضوء القمر، وكان يأتي ويجلس إلى جانبي صديقي الجميل طعمة العلي، كان ناصريًا وكنت شيوعيًا، كنّا نتحدث في السياسة والأدب والفن والمدرسة والحياة، والصراع العربي الإسرائيلي.
ويبدأ طعمة في الغناء يوميًا تقريبًا، بصوت شجي آخاذ لفريد الأطرش، بذلك النغم الصافي، والنسيم عليل يحن علينا، يهب بنبالته وصفاءه، ونحن ندغدغ الوجود برقته ووداعته. والحياة نجوم ساهرة جميلة لطيفة تضحك لنا وتغني معنا.
صوت طعمة كان جميلاً شجيًا كصوت فريد، يا ليمونة يا حياتي، أول همسة، الربيع، ويااك، لحن الخلود، حبينا، أشرد مع هذا الصوت، أصفق مع أجنحة الخيال عن الحب، اتخيل الحبيبة وهي بالقرب مني، مع صوت طعمة العلي النبيل الرائع كنت ارتقي إلى السماء والنجوم.
قبل سنوات تواصلنا أنا وطعمة، وفي كل اتصال، كانت الذكريات تتسلق الذاكرة، وتمسك الذات من العروق وتعيدني إلى تلك الربوع.
المصادفة الغريبة أنه انتقل إلى الضيعة التي عاش فيها جدي، وفي تلك الضعية، ولدت بالمصادفة، وزرتها مرات عديدة في فترة طفولتي المبكرة.
الصديق النبيل طعمة، أشكر القدر أنك رافقتني في ذلك الزمن الرقيق الناعم الجميل، الذي غاب ولن يعود.
كنت قديسًا في ثوب إنسان، يا لروعتك يا صديقي النبيل، ويا لروعة تلك الأيام.
الرحمة عليك، برحيلك فقدت جزء من قلبي، هناك فجوة عميقة في ذاتي ستبقى مفتوحة إلى حين أن أعود إلى الوجود.
كيف يمكننا أن نمسك بأهداب الطريق حتى لا يرحل الصديق، ففي رحيله يرحل شيء جميل منّا، ويتوه في لجج لا نعرف أبعادها.
إنه يذكرنا أن الحياة ناكرة للذات الخالدة، لذاتها، للحياة، لهذا الكون الذي لا يتوقف عند نقطة أو فاصلة أو هبوب عاصفة.
كيف يمكننا أن نمسك الخيوط المفتوحة، أن نجدلها حتى نمسك الزمن ونوقفه بعيدًا عن هؤلاء الراحلون.
الحياة كذبة مفتوحة
جرثومة الفساد
جرثومة الفساد هي المدخل إلى عالم مختلف.
ليتحول هذا العالم إلى بحر من التناقضات، إلى بحر من الفساد والغش والاختلاس والكذب والخداع.
لماذا يكون الإنسان نزيهًا صادقًا، طيبًا كريمًا، لمصلحة من؟
لتكن أخلاق المجتمعات موازية ومساوية لأخلاق السلطة، لندخل في بحر الظلمات والدمار، لننهش في بعضنا. لتنبعث من الرماد جرثومة الفساد العام، لتتحلل، وتختمر.
وسيفضي هذا التحلل إلى عالم مختلف، عالم أقل قسوة وسوء.
إن المسكنة، والدروشة هي التي فسحت المجال للحثالة أن يطوروا أدواتهم، ويسيطروا على كل شيء جميل في حياتنا، ويحوزوا على المال العام والثروة والسلطة.
لنتحول جميعنا إلى وحوش، لننهش في بعضنا علنّا نصل إلى توازن في القوى.

العقل والغرائز
وكأن العقل وكيل حصري للغرائز، أو المدير التنفيذي لها، يتحرك بأوامر منها. تراه مرات كثيرة يتعطل أو يتوقف، ويصاب بالكآبة والحزن عندما لا يلبى هذا الجانب.
إن الكائنات كلها تعيش في هذا الأسر، أسر الغرائز والرغبات، وكأن مهمة العقل جاء حصرًا لتلبية تلك الرغبات النائمة في الجسد باسترخاء وتأجج.
كل شيء في الطبيعة والحياة يدوران حول هذا الأسر أو القيد أو السجن.
عندما تستيقظ الغريزة في ذات الإنسان، يفقد هذا الكائن، العقل، العاقل فيه، أي العقل المستقيم فيه.
إنه يموت
يكرر نفسه، ويبقى في حالة دوار، باحثًا عن الثمرة المفتقدة.
كل إغراءات الطبيعة الحسية، ومتعها كالجنس والطعام، وجمالها وحركتها وحيويتها، هو لإنتاج كائن جديد، مولود جديد، في تكرار عبثي دائم للحياة والموت.
والإنسان في هذه الدائرة، يدور حول نفسه، في ذات ذاته، في لا شعوره هو لإنتاج ذاك القادم من العبث.
هل حقيقة أن المتع الحسية جاءت للمتعة أم أنه فخًا ندور به حول أنفسنا؟
وهذه المتع، الدوار، التناقض الدائم، بين إنتاج الجديد، وكل المأسي التي عانت منها الكائنات السابقة عليه.
من أجل إنتاج المولود الجديد، تعدم الحياة، تنتهك، تقتل، تموت، تذل، ثم تتبرأ من ذاتها لتترك الأمر كما هو مستمرًا

في سجن عدرا بدمشق
عندما رحلونا من سجن الحسكة إلى سجن عدرا بدمشق في الثالث من ديسمبر من العام 1987، وجدنا أنفسنا وجهًا لوجه مع أغلب التيارات السياسية السورية المعارضة:
ـ الحزب الشيوعي السوري، المكتب السياسي، حزب العمل الشيوعي، واحد من حزب العمال الثوري، وحزب البعث الديمقراطي/ صلاح جديد/ والتنظيم الشعبي الناصري، وحزب البعث العربي الأشتراكي/ المحسوب على العراق/ والأخوان المسلمون، وأطفال أحداث الشغب، ونقابة المحامين، ونقابة المهندسين.
كل يوم كان هناك دعوة لنا للإفطار، وكان الطعام:
خبز، لبنة وزيت، وبيض مخفوق مقلي بالزيت.
كل يوم كان الرفاق والزملاء والأصدقاء يقدمون لنا الطعام ذاته، الطعام الذي تقدمه الدولة، وكان الأصدقاء يكرموننا ويقدموه لنا كضيافة لرفاقهم القادمين حديثًا إلى السجن.
في أحد الأيام رأيت على الطاولة طبخة قريبة الشبه بالحريرة، لم أكل منها من قبل. قلت لهم:
ـ أنا لا أحب الحريرة.
قال لي أحدهم:
ـ هذه ليست حريرة، ذوقها وسترى أنها أكلة طيبة جدًا. كلها ولن تندم.
وضعت الخبز في يدي وغمزت بها في الطبخة ووضعتها تحت لساني، بيد أني لم أكل لقمة ثانية، قلت لهم:
ـ ما هذا، ما هو نوع هذا الطعام؟ قال أحدهم
ـ هذا كشك. قلت:
ـ لم اسمع بهذا الاسم طوال حياتي، ما معنى كشك.
شرح لي أحدهم الكشك ومكوناته باستفاضة تامة لاملاء الفراغ الطويل في السجن، وللتخلص من الملل والوقت الطويل. وقال:
ـ هذا الكشك لا نضعه أمام أي إنسان عابر، وأنما أمام إنسان عزيز علينا، لقد تم تهريبه من الشبابيك. كان يفضل لو أنك أكلت هذه الطبخة التي لا يمكن تفويتها.
قلت له:
ـ يا سيدي كله بدلًا عني. لو تقتلني لن اقترب منه
استقرت هذه الأكلة في ذاكرتي كنوع من العقوبة، وشيء غير مستحب.
ومضت الأيام، في صيف العام 1993 تمت دعوتي للفطور من قبل التنظيم الشعبي الناصري. وعندما حان الموعد بحثوا عني فوجدوني أمارس الرياضة، وكنت قد نسيت موعد الفطور كله، قالوا لي:
ـ آرام، اصعد إلى الأعلى، أننا ننتظرك، قلت لهم:
ـ عم ألعب رياضة وليس لدي الوقت الأن للإفطار، كلوا بدلًا عني. قال الأخ صلاح:
ـ لن نفطر إلا إذا جئت.
نزل من الطابق الثاني ومعه رفيق أخر لهم إلى الباحة، وأخرجوني من الملعب، وأجلسوني أمام طاولة الطعام على الأرض في ممر السجن.
كان هناك عشرين رجلًا ينتظروني ليبدأوا الأكل.
في الحقيقة خجلت من موقفي، ومن تأخري.
جلست انتظر مع الجميع، إلى حين أن وضعوا الطعام في صحني، وكانت الزيارات مفتوحة. ووضعنا الغذائي كان قد تحسن.
رأيت صلاح يضع في صحني شيئًا غريبًا لم أره من قبل. ونسيت موضوع الشك. ذقته فوجته لذيذًا جدًا، أكلت صحن كامل، قلت لصلاح:
صب لي من هذا الصحن. قال لي:
ـ أي صحن؟
أشرت له، للصحن الذي أكلت منه، ثم سألته:
ـ ما نوع هذه الأكلة، أول مرة أراها؟ قال:
ـ هذا كشك، ألم تأكل منه من قبل؟ قلت له:
ـ هل هذا كشك؟ وتذكرت الكشك الذي استقر في بالي على أنه اسوأ طعام، قلت له بطريقة سريعة:
ـ والله لوعرفت أن هذه الأكلة كشك لما ذقتها، قال صلاح:
خلصت الطنجرة يا رجل ولا تريد ان تذوقها، ضحك وضحك الجميع وأصبحت مثلًا:
لا أحب الكشك لكن صب لي الصحن الثالث.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس