الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية

تشي-تشي شي

2024 / 3 / 9
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


Shi, Chi-Chi (2018). Defining My Own Oppression: Neoliberalism and the Demands of Victimhood. Historical Materialism 26 (2):271-295.

لقد برزت سياسات الهوية إلى الواجهة باعتبارها ساحة المعركة المهيمنة لسياسات اليسار المعاصرة. مع ذلك، إن المقصود بـ “سياسات الهوية” غالباً ما يكون غير محدد المعالم ومثيراً للجدل السياسي. أنا أؤكد أن معاني سياسات الهوية قد تحولت في عصر الحركة الاجتماعية الجديدة، مما أفضى إلى ارتباك نظري حول كيفية فهم التنظيم القائم على الهوية. من جهة، طُلي مفهوم “سياسات الهوية” بفرشاة الجوهرانية والخصوصية والحتمية الثقافية. (1) ويمكن النظر إلى هذا الأمر على أنه اعتراف بفشل حركات سياسات الهوية في الاهتمام بالاختلافات داخل المجموعات، وبالتالي إعادة إنتاج بنى الهيمنة داخل الحركات نفسها من دون قصد. ومن جهة أخرى، باتت الهوية باعتبارها “تجربة” اختباراً مقبولاً بشكل عام للشرعية السياسية ضمن دوائر الناشطين؛ إنه ادعاء مقبول بشكل عام من جانب اليسار بأن المضطهدين لديهم فهم أفضل للواقع لأنه يركز على هوياتهم، وفي تجربتهم مع الاضطهاد. وإنها لمفارقة، أن الانتشار المتزامن لهذين الادعائين المتعارضين بشكل ظاهري قد أدى إلى نشوء مساحات مشوشة، حيث تسخف “سياسات الهوية” حتى حين التأكيد على الأهمية السياسية للمركزية للهوية.

إحدى اللحظات التي توضح التناقضات والتوترات في الساحة الحالية لسياسات الهوية هي المواجهة بين مناضلي حركة “حياة السود مهمة” وهيلاري كلينتون خلال حملة الحزب الديمقراطي الداعمة لترشحها للرئاسة. وقد حصل جدال بين مناضلي الحركة وكلينتون في نيو هامبشاير. حيث تحدى المناضلون هيلاري حيال دورها في سياسات السجن الجماعي والحرب على المخدرات، وحملوها مسؤولية الضرر الذي وقع على المجتمعات السوداء. تصف داوناسيا يانسي، إحدى المناضلات، هدفهن بأنه يتجسد بالبحث عن “تفكير شخصي في مسؤوليتها لكونها جزءاً من أسباب هذه المشكلة”. (2) صورت هذه اللحظة وانتشرت بسرعة وعلى نطاق واسع على الانترنت. تظهر الأسئلة التي طرحها مناضلو حركة حياة السود مهمة، إضافة إلى تأطير الحادث بأكمله، العديد من التوترات التي أود تحليلها. فلنتأمل، على وجه التحديد، العبارات التالية:

سؤال: “ما الذي تغير في قلبك والذي سيغير اتجاه هذا البلد…. كيف تشعرين بالفعل أنه سيكون مختلفاً عما شعرت به في السابق؟”

سؤال: “… أنت لا تخبرين السود ما نحتاج معرفته. ولن نخبرك بكل ما عليك فعله”.

هيلاري كلينتون: “أنا لا أخبرك، أنا فقط أطلب منك أن تخبرني”.

سؤال: “ما أقصد قوله- هو أن هذه كانت وستبقى مشكلة البيض مع العنف، الأمر ليس كذلك- ليس هناك الكثير الذي يمكننا فعله لوقف العنف ضدنا”. (3)

في هذا الجدال، يبدو أن مناضلي حركة حياة السود مهمة يودون فصل أنفسهم عن السياسة المؤسساتية. وعندما سألت هيلاري كلينتون عن السياسات التي يودون أن تطبق، نقض مناضلو الحركة الهدف من السؤال: “لن نخبرك بكل ما عليك فعله”. ومن الواضح، أنهم لا يعتقدون أن دورهم هو اقتراح حلول مؤسساتية، ويسعون إلى إبعاد أنفسهم عن “مشكلة عنف البيض”. وهذا يجسد الاتجاه الحالي في السياسة اليسارية الذي يريد فصل وإبعاد الرعايا المضطهدين عن السلطة والمؤسسات. وإنها لمفارقة، أن قوة المضطهدين تأتي من بؤسهم. وهذا ما يؤدي إلى نموذج للمقاومة يشكك في التنظيم حول هدف ما، ويرتكز بدلاً من ذلك على لحظات تمزق تعطل النظام المهيمن. وهذا ما يرسم خريطة لمفهوم الهوية، كفرض على الذات، كدلالة على السلطة، ومفهوم العجز كفضيلة سياسية.

مع ذلك، فإن هذا المفهوم للهوية يتعارض مع الاتجاه النظري الثاني لسياسات الهوية، والذي يؤكد على الروايات العاطفية والتجريبية للاضطهاد. إن مطالبة مناضلي حركة حياة السود مهمة من كلينتون بالنظر إلى قلبها والتعبير عن مشاعرها هو مثال على تغلغل البعد النفسي للاعتراف في لغة اليسار. بالتعايش مع رفض السياسات المؤسساتية وإبعاد الاضطهاد عن السلطة، يرى هذا الاتجاه أن المضطهدين يسعون للحصول على الاعتراف العاطفي من المؤسسات ومن هم في مواقع السلطة. ومن الجدير ذكره هو أن استجواب مناضلي حركة حياة السود مهمة لكلينتون يضع تدخلهم في خانة العلاقات الشخصية. يسعى هذا البعد من حركات المقاومة إلى الاعتراف بهويتها الخاصة وإبرازها، ولكن إضافة إلى ذلك، تصاغ هذه الهوية بمصطلحات عاطفية. تحديداً، ما يزعم أنه مرئي هو هويات المضطهِدين والمضطهَدين. وفي حين امتنع مناضلو حركة حياة السود مهمة عن اقتراح سياسات محددة أو حتى أهداف على كلينتون، إلا أنهم طالبوا بدلاً من ذلك بـ “التفكير”: “كيف يمكن لتلك الأخطاء المرتكبة أن تكون درساً لأميركا بأكملها للحظة من التفكير في كيفية تعاملنا مع السود في هذا البلد؟”. (4) الافتراض الأساسي في هذه الحالة هو أن جعل الاضطهاد مرئياً فسيقلل منه بشكل أو بآخر. ويتناسب هذا، مع نموذج “ثقافة الاستدعاء” للسياسة، حيث يكون الرد المفضل على السلوكيات القمعية هو تحدٍ للناس حيال مواقفهم وافتقارهم إلى المعرفة بتجارب الآخرين. ثمة تشديد على تحليل ديناميات العلاقات الشخصية والتأثيرات المعاشة لأنظمة الاضطهاد. في هذه الورقة، سأتفحص بداية منطق ظهور النيوليبرالية وتداعياتها. وسأناقش أن ضغوط الفردية التي خلقتها النيوليبرالية قد أوجدت مناخا سياسيا حيث يبدو الطلب على التحرر بمثابة مطلب لإزالة الوصمة وإظهار الهويات المضطهدة. وسيحصل ذلك عن طريق إطار “التقاطعية”، باعتبارها شكلا جديداً من سياسات الهوية. وقد شكل تفتيت النضال السياسي والضغوط المفروضة على فهمنا للعمل الجماعي مساحة بات فيها انتشار الرضة الفردية هو الطريقة الوحيدة لتصور القواسم المشتركة. وبهدف تجاوز ذلك، من الضروري إحياء البروز السياسي لما هو جماعي باعتباره بناء مقصوداً. بهذه الطريقة، يمكننا من جديد، تصور أن التضامن الجماعي باعتباره نتاجاً للفاعلية البشرية بدلا من كونه نتاجاً لبنى الهيمنة.

يعتمد الاقتصاد السياسي للنيوليبرالية على مدرسة شيكاغو للاقتصاد المعتمدة على السوق الحرة بشكل جذري. وقد وصف بأنه كلينة كل جانب من جوانب الحياة من خلال قيم السوق؛ وبذلك يفترض أن منطق رأس المال هو أممي أصلاً. (5) لقد اتخذت الليبرالية الكلاسيكية منطقاً طبيعياً معيناً في الاقتصاد الرأسمالي، معتبرة أن ظهور السوق هو مسألة عفوية، قائمة على الميل الطبيعي إلى “المقايضة والنقل والتبادل”. (6) وهي معنية بشكل واسع بالحدود ضمن سياق “القوانين الطبيعية”؛ ” القوانين الطبيعية التي تجعل الإنسان على ما هو عليه “طبيعياً”، والتي يجب أن تكون بمثابة حدود لنشاط الدولة؛ القوانين الاقتصادية، “الطبيعية” بدورها، والتي يجب أن تقيد وتنظم القرارات السياسية”. (7) وبالتالي، في الليبرالية الكلاسيكية، حصلت فجوة بين المجتمع المدني والاقتصاد، حيث عملت قيم المساواة والحرية بشكل متناقض، ويمكن ملاحظة ذلك في ضوء الانتقادات والتوترات غير المتجانسة لليبرالية في القرن التاسع عشر.

إن الظهور النهائي للنيوليبرالية، بحسب داردو ولافال، نشأ من أزمة الحوكمة الليبرالية غير القادرة على مواجهة التغيرات التنظيمية في الرأسمالية، دون تغيير في شكلها. لقد كانت “أزمة طرحت بشكل أساسي المشكلة العملية للتدخل السياسي في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية ومبرراتها العقائدية”. (8) إن انفصال النيوليبرالية عن الليبرالية يكمن في الانتقال من منطق تبادل السوق إلى منطق المنافسة في السوق. يصبح المفهوم الكلاسيكي للسوق، والقائم على الدافع الطبيعي للتبادل، مفهوم المنافسة الاقتصادية، بحيث يكون بناء السوق لضمانها. (9) وهذا يشمل ما هو أبعد من الجانب الاقتصادي. يعتبر منطق النيوليبرالية أن الرأسمالية تتطلب تدفقاً اقتصادياً مستمراً، تدعمه المنافسة، وهذا يتطلب التكيف مع الطبيعة البشرية. ويتطلب استيعاب المنافسة والمشاريع على المستويين الفردي والجماعي كنموذج للسلوك: “تشجع النيوليبرالية الإيغو للعمل لتعزيز نفسها من أجل البقاء في المنافسة”. (10)

وبذلك، لا يمكن فهم النيوليبرالية بكل بساطة على أنها اقتصاد سياسي، إنما كنوع من المجتمع وطريقة للحكم. ومن خلال اتباع مفهوم فوكو عن “الحاكمية” باعتبارها “سلوك السلوكيات”، أو التحكم في سلوك الناس من خلال أجهزة الدولة، تسعى النيوليبرالية إلى تحويل الذاتية. (11) فقد أوجدت علاقات جديدة مع الذات، في الوقت عينه، أعادت تشكيل شكل الرأسمالية. وبعيداً عن كونها تراجعاً للدولة، أو كلينة للدولة بواسطة السوق، تعمل النيوليبرالية من خلال استراتيجيات تقودها الدولة والتي تسعى إلى إنتاج مواضيع ذات مصلحة ذاتية، لخلق مواضيع موجهة نحو السوق. كما لاحظ ليمكي، تقوم النيوليبرالية على بناء الاقتصاد نفسه الذي تفترض أيديولوجياً أنه موجود فعلاً، الأمر الذي يعزز المنافسة في حين تطرح المنافسة كأساس للعلاقات الاجتماعية في الوقت عينه. (12)

تسعى النيوليبرالية إلى سد الفجوة “بين المبادئ الأخلاقية والسياسية من جهة والنظام الاقتصادي من جهة أخرى”. (13) وتسعى إلى وضع قيمة أخلاقية للعلاقات الاقتصادية؛ المنافسة ليست ضرورة اقتصادية إنما هي ضرورة أخلاقية. وينظر إلى العلاقات الاجتماعية والمساندة الجماعية على أنها عوائق أمام المنافسة، كما أن الحماية الاجتماعية هي مدمرة للقيم التي تحتاجها الرأسمالية اليوم حتى تقوم بوظيفتها. وهكذا، تدعو النيوليبرالية إلى التشكيك في “كل البنى الجماعية التي يمكن أن تكون بمثابة عقبة أمام منطق السوق النقي”. (14) هذه هي الخلفية لتفتيت القوى العاملة والهجوم على النقابات، وأي عائق أمام المنافسة الفردية. إن اقتصاد ما بعد الفوردية، من خلال تشديده على المرونة، وتعدد المهام، والتعاقد من الباطن … يتعزز من خلال تفكيك دولة الرفاه والضرورة الأخلاقية المرافقة للعمل. وتترافق خصخصة الموارد الجماعية بالهجوم الأخلاقي والأيديولوجي على تدابير حماية الدولة التي تؤطر الأمن كعائق أمام الإدارة الذاتية والابتكار وتكوين الثروة.

في الوقت عينه، إن البنية الشبكية للرأسمالية ما بعد الفوردية هي التي تؤثر على استيعاب السيطرة على الموظفين، ما يجعل من التحسين الذاتي استثمارا ذاتيا. إن إعادة تشكيل الذات باعتبارها إحدى المؤسسات، أي رجل الأعمال العالمي، تسعى إلى هدم التمييز بين الرأسمالي والعامل، وبين رجل الأعمال والمواطن. يعاد تسمية العمال ليصبحوا “رأسمالا بشريا”، ويمتلكون نفس الأصول، وكل واحد منهم مسؤول عن قيمته الخاصة. وهذا يتلخص في مفهوم “المهارة”، الذي يخلط بين صفات الشخص وقوة عمله. (15) إن تدابير مثل فردنة روتين العمال واستعمال خطط الأداء والأجور من قبل أصحاب العمل تشكل اعتداء على النقابات التي عملت تاريخياً على تحسين الظروف الجماعية، وتعامل، في الوقت عينه، كل عامل على حدة باعتباره مقاولاً من الباطن.

إن فهم النيوليبرالية باعتبارها عقلانية تُشكِّل تشكيل الذات أمر ضروري لفهم الطريقة الحالية التي يحصل من خلالها تعبئة الهوية، والآثار غير السياسية للعلاقة غير المقصودة بين منطق سياسات الهوية المعاصرة والتقنيات النيوليبرالية للحاكمية. تشكل النيوليبرالية اعتداء على التضامن الجماعي وتحول الأسس الاقتصادية والسياسية والثقافية التي توحد بين الناس. بفعل ذلك، إنها تقوم بشخصنة أسباب المعاناة وتحويلها إلى رضة فردية، والتي بدورها يمكن إدارتها ذاتياً. (16) إن شخصنة العمل والهجمات السياسية على النقابات هي اعتداءات على الأسس الإقتصادية للعمل الجماعي، في حين إن التركيز على تسويق الذات وأهمية الهوية الفردية الفريدة والأصيلة يضعف أسس فهم التجربة الجماعية.

أعتبر أن النيوليبرالية، في محاولتها لتدمير أسس الجماعية، تؤمن الأسس التي تقوم عليه الحركات التي تميز الفردية. وينعكس ذلك في نظرية وممارسة سياسات الهوية المعاصرة بحيث إن عدم تسييس النضال يؤطر القمع باعتباره ذاتياً وفردياً. إن التحولات الخطابية التي حصلت في لغة سياسات الهوية تثبت الافتراضات المتغيرة المتعلقة بحدود الإمكانية. وبشكل عام، كان التحول الأساسي من اللغة التي تشير إلى القضايا الجماعية والبنيوية، إلى اللغة التي تميز السلوكيات الفردية وتؤكد على الاختلاف. على الرغم من التأكيد أن الاضطهاد هو “ممنهج”، لكن نتائجه هي التي يُركز عليها. وهذا ينفصل عن تحليل سبب وجود أنظمة مثل العنصرية والنظام البطريركي. المشكلة في هذه القراءة هي أن التركيز على ضحايا سوء الاعتراف أكثر من تحليل أسباب حصول ذلك. (17) ويحصل ذلك في إطار يقدر العجز، ويضع الهويات المشوهة ضمن السجل الأخلاقي، ويحاول دمج المعاناة ضمن برنامج سياسي في حين يشجع سياسة الذنب التي تساوي جلد الذات مع التحول.

إذا كانت العقلانية النيوليبرالية تولد هوساً بالذات، فإن هذا ينعكس في اتجاه سياسات الهوية المعاصرة. تعكس التحولات في طريقة استعمال “سياسات الهوية” للإخفاقات الملحوظة للسياسة الجماعية. تصف سياسات الهوية في البداية حركات تحرير مجموعات محددة وفق أسس هوية اجتماعية مضطهدة. في النصف الأخير من القرن العشرين، عبأت حركات تحرير النساء، ومجتمع الميم، وتحرير السود على أساس الظلم الذي تتعرض له كل مجموعة محددة. وبحسب نانسي فريزر، كان هذا بمثابة تحول في “قواعد صنع المطالبات السياسية” من الاقتصادية إلى الثقافية. (18) مع ذلك، إن أصول سياسات الهوية ليست متعارضة مع الاشتراكية. بالفعل، تأسست مجموعات اليسار الجديد رداً على السياسة الطبقية الاختزالية الفظة لليسار القديم، ولكنها تشكلت ضمن تقاليد التنظيم الاشتراكي. ولقد أنكروا بكل بساطة العامل الأبيض الذكر باعتباره ذاتاً عالمية، وحالته باعتبارها كذلك.

هذا التسييس للهوية جاء رداً على النتائج المادية لتكويناتها التاريخية، وكفرض قسري نابع من الاستغلال والقهر. ناضلت مجموعات تحرير السود “ضد الاغتراب والجانب الأحادي للسواد”، في حين ناضلت مجموعات تحرير النساء “من أجل الحرية الإنجابية والجنسية في محاولة للسيطرة على وسائل الانتاج (أجسادهن)”. (19) وهنا يحصل التعامل مع الهوية كعلاقة سياسية. مع ذلك، إن الاستبعاد المستمر للنساء السود من هذه الحركات أظهر ميلاً لجوهرنة تجربة محددة للسواد أو للنساء والتي اعتبرت مصالح الرجال السود والنساء البيض باعتبارها مكوناً لهويات “السود” و”النساء”. نظمت النسويات السود رداً على هذه التناقضات و”المنظور الأحادي” الذي غالباً ما اعتبر أنه شامل. كتبت المناضلة والأكاديمية بيل هوكس أن “النساء البيض اللواتي يهيمنّ على الخطاب النسوي اليوم نادراً ما يتساءلن عما إذا كان منظورهن لواقع النساء صحيحاً بالنسبة للتجارب المعاشة للنساء كمجموعة جماعية أم لا. كما أنهن لا يدركن إلى أي مدى يعكسن في وجهات نظرهن التمييز العرقي والطبقي”. (20) وتشير إلى مغالطة مقارنة اضطهاد السود باضطهاد النساء: “وهذا يعني أن كل النساء هن بيض وأن كل السود هم رجال”. (21)

في الواقع، تنسب صياغة “سياسات الهوية” إلى مجموعة نهر كومباهي، وهي مجموعة من النسويات السود، في السبعينيات. (22) ويعتبرنها كالتالي: “إن هذا التركيز على اضطهادنا يتجسد ضمن مفهوم سياسات الهوية. نحن نعتبر أن السياسات الأكثر عمقاً وربما الأكثر تطرفاً تنبع مباشرة من هويتنا، بدلاً من العمل على إنهاء اضطهاد شخص آخر”. (23) مع ذلك، لم تقصد المجموعة اتباع سياسة انفصالية، ولكن يمكن فهمها على أنها جزء لا يتجزأ من منطق التحرر العالمي في سياق النضال ضد الإمبريالية. إن موجة الحركات المناهضة للكولونيالية في العالم الثالث، وتأثير المفكرين غير الغربيين، والفهم الاشتراكي العميق للأممية والعلاقة بين أشكال محددة من الاضطهاد والتحرر العالمي، كما يتجلى في الشعور بأنه “في حين نناضل من أجل مصالح شعبنا، فإننا نناضل كذلك من أجل مصالح شعوب العالم بأكمله”. (24) كان هذا المنطق وراء تكرار المجموعة لسياسات الهوية، التي فهمتها على أنها نضال بهدف التحرر من الأنظمة المحددة التي أنكرت إمكاناتها الكاملة كبشر: “نحن ندرك أن تحرير كل الشعوب المضطهدة يتطلب تدمير الأنظمة السياسية والاقتصادية للرأسمالية وكذلك النظام البطريركي”. (25)

اليوم، غالباً ما ينظر إلى هذا الإطار النظري على أنه يشكل جذور “التقاطعية”. إن سياسة الهوية التقاطعية هي استجابة لاختزال ما يسمى حركات سياسة الهوية التي تدافع عن “قضية واحدة”، والتي تستبعد تعقيدات الاضطهاد والهويات المتعددة. وعادة ما يحصل ذلك عند تقاطع العرق والجندر، وإقصاء النساء السود من الأطر المناهضة للعنصرية والنسوية. مع ذلك، سيكون خاطئاً اعتبار أن الأطر المعاصرة هي متسقة تاريخياً. في حين أن مفهوم التقاطعية يتشارك في جذوره مع المقاربة التي تتجسد في المجموعة، التي تطورت إلى مجموعة معينة من السياسات التي تختلف، في الكثير من النواحي المهمة، عن السياسة التي مارستها المجموعة والمناضلين الذين يدعون أنهم من أسلاف التقاطعية.

أفترض أن سياسات الهوية المعاصرة تتمحور حول الاعتراف وديناميات الاضطهاد بين الأشخاص كما تتمثل في إطار “التقاطعية”. وهكذا، باتت الهوية مرتبطة بخطاب الأصالة، ومنفصلة عن الأساس المادي الذي تتشكل منه. ومن خلال الابتعاد عن التفكير في السبب الجذري لاضطهادات معينة، تصبح سياسات الهوية غاية في حد ذاتها، حيث المطلوب هو تأكيد الهويات المضطهدة. وقد سمح ذلك بتعميم عناصر خطاب سياسات الهوية في تصادم مع العقلانية النيوليبرالية. لقد أصبحت التقاطعية اليوم الإطار المهيمن الذي يحصل من خلاله تصور الهوية، ليس فقط من جانب المناضلين، ولكن كذلك من المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الحكومية. (26) وبالتالي، في حين ينظر إلى خطاب التقاطعية، ظاهرياً، على أنه رفض للمفاهيم الجوهرانية المتماسكة للهوية، بشكل عملي، فإنها ضاعفت من شأن الهويات دون تحدي جوهرانية فئات الهوية. وبذلك، إن إطار التقاطعية يركز على تأكيد الهوية دون المس بما جرى تأكيده.

استُعمل مفهوم “التقاطعية” لأول مرة من قبل الباحثة القانونية كمبرلي كرينشاو، التي وضعت هذا المفهوم لوصف التمييز الذي تواجهه النساء السود في قانون العمل. لم تستفد النساء السود من تشريعات مكافحة التمييز الموضوعة لحماية السود، وكذلك من التشريعات التي تحمي النساء. وقدمت دراسات حالة عن النساء السود اللواتي يهمشن. كان لورقة كرينشاو تأثير كبير في تشكيل اتجاه سياسات الهوية. وفي حين كان المقصود منها انتقاد سياسات الهوية، وكانت لا تنوي إثارة مشاكل تسييس الهوية، إنما تحدي التشكيلات غير المتطورة لفئات الهوية. واعتبرت أن “مشكلة سياسات الهوية ليست في فشلها في تجاوز الاختلاف… إنما على العكس من ذلك- هي في كثير الأحيان تخلط أو تتجاهل الاختلافات داخل المجموعة”. (27)

إن هذا الاعتراف بالاختلاف هو من دون شك صحيح. السود ليسوا مجرد “سود” أبداً، والنساء لسن مجرد “نساء” على الإطلاق. توفر عدسة التقاطعية طريقة لرؤية الهويات الاجتماعية باعتبارها عمليات تشكيل متبادل ولا تنوجد بشكل مستقل عن بعضها البعض. لكن المشكلة مع مفهوم كرينشاو هي أنها لم تقدم طريقة لتفسير وجود الاضطهاد. يبدو أن التمييز يحصل بكل بساطة لمجموعات من الأفراد. ويتمظهر ذلك في استعارتها، عن ازدحام السير، الشهيرة لتفسير تقاطعية الاضطهادات:

“التمييز، مثل حركة المرور عبر التقاطعات، قد يتدفق في اتجاه واحد، وقد يتدفق في اتجاه آخر. إذا حصل حادث على تقاطع، من الممكن أن يكون سببه سيارات سارت في واحد منها، أو في عدد من الاتجاهات. وكذلك، إذا تعرضت امرأة سوداء للأذية بسبب وجودها عند التقاطع، فتكون إصابتها بسبب التمييز على أساس الجندر أو التمييز العنصري”. (28)

يبدو من هذه الاستعارة كما لو أن النساء السود قد وقعن في فخ التمييز الجندري والعرقي؛ وتظهر الهوية كفرض من السلطة، في حين تهمش مسائل الذاتية. ينزع تاريخ الهويات وتطبيعها حيث تظهر فئات هوية “النساء” و”السود” كسمات عرضية، أقرب إلى لون الشعر أو لون العيون. تعتبر كرينشاو أن “الحاجة إلى مراعاة أسس الهوية المتعددة عند النظر في كيفية بناء العالم الاجتماعي”، متصورة الهوية كشيء موجود سلفاً في بناء العالم الاجتماعي. (29)

إن مفهوم الهوية المهيمن اليوم في خطاب التقاطعية قطع العلاقة المادية بين فئات الهوية ووسائل الإنتاج الرأسمالية. تؤكد التقاطعية، باعتبارها تقاطعاً بنيوياً لعدم المساواة، على “المواقع الاجتماعية الموضوعية المتعددة بشكل لا نهائي، وتولد لائحة طويلة من المواقع التقاطعية التي يتطلب دراستها، وتؤمن صوتاً لوجهات نظر العديد من المجموعات المهمشة”. (30) هناك تركيز خطابي على الاختلافات المتعددة بين المجموعات، ولكن هذا التأطير لا يتطلب تحليل أنظمة الإقصاء بشكل أبعد من تحديدها. بالتالي، إن ميل خطاب التقاطعية هو نحو تحديد الهوية من خلال مفاهيم ثقافية بحتة، وتسطيح الوظائف المختلفة للعرق والطبقة والجندر بحيث تظهر كلها كصفات ثابتة وخالدة للهوية، وليس كفئات دينامية تتشكل بشكل فعال من خلال الاضطهاد وحاجات الرأسمالية. من دون ذلك، لا يمكن للهوية والاضطهاد أن يظهرا إلا كتمييز بين الأشخاص، ما لم يكن هناك مخطط تفسيري حول لماذا تؤدي العنصرية والتمييز الجندري وظائف محددة، بذلك لا يمكن تصنيفهما إلا على أنهما سمات غير مرغوبة.

أعتقد أن خطاب “التقاطعية” يعكس التوترات النظرية في المفهوم الحالي لسياسات الهوية. المفهومان يتصوران الهوية باعتبارها فرضاً على الذات كدليل على السلطة، ويتبعان تصوراً للعجز كفضيلة سياسية تسعى إلى الاعتراف بها على أساس الهويات الجوهرانية المفروضة. يرتكز هذا الفهم على التحول بعيداً عن فهم التحرر العالمي الذي ما زال واضحاً في سياسات الهوية الخاصة بالمجموعة، والذي تزامن مع الزخم النيوليبرالي للمنافسة الفردية. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال تشبيه كرينشاو للطابق السفلي. في هذا المثل، تتخايل طابقاً سفلياً يضم كل المحرومين. يتواجد الأشخاص الأكثر حرماناً في الأسفل، وفوقهم الأقل حرماناً، “الأقدام فوق الأكتاف”، حتى يتولى عامل من المحرومين مهمة تنظيف السقف. فوق السقف، في الطابق العلوي، يتواجد من لا يعاني من أي شيء. تقدم هذه الاستعارة مفهوماً إضافياً للاضطهاد، حيث “يكدس” الاضطهاد. في تشبيه كرينشاو، يمكن للموجودين في الأعلى، وهم الأقل حرماناً، الزحف على الأرض في الأعلى، “بسبب فرادة العبء الذي يتنكبونه وموقعهم المميز”. (31) ويهدف هذا الأمر إلى تصور السلطة على أنها تعمل من خلال التمييز المتبادل بين الأشخاص، والذي يمكن أن يتراكم واحداً فوق الثاني. مع ذلك، تختلف القوى الاجتماعية في الشكل والوظيفة. إنها ليست قمعية فقط، إنما منتجة للذوات “عبر تاريخ معقد ومجزأ في كثير من الأوقات، حيث تنظم القوى الاجتماعية المتعددة من خلال وضد بعضها البعض”. (32)

إن تصور الاضطهاد باعتباره إضافة للطريقة التي تحللها كرينشاو يعني كذلك تصور المضطهدين كمتنافسين، لكونهم يقفون فوق بعضهم البعض بهدف الوصول إلى القمة. ويقبل الأشخاص “المتميزون” الذين يتعرضون للتمييز على نحو فردي من خلال الزحف عبر فتحة يفتحها من هو موجود في الطابق العلوي. وهكذا، إنها رؤية يكون فيها التضامن بين المضطهدين مستحيلاً، لأنها علاقة بين أشخاص يتعرضون للتمييز على نحو مختلف، ويفوز أولئك الذين لديهم الكثير من القواسم المشتركة مع غير المضطهدين. إن إمكانية التغلب على بنية التمييز من خلال الدعوة للخروج زحفاً عبر الفتحة الواردة أعلاه تؤكد من جديد على قوة البنى المهيمنة على مسألة الدمج. إنها سياسة الطلب التي لا تسيس الصراع، التي لا تنظر إلى المكاسب على أنها مكتسبة أو منتزعة، إنما تطلب وتمنح.

يمكن أن يندرج ما سلف في سياق نقد ويندي براون لـ “الارتباطات المجروحة” للذوات الحديثة. تنتقد براون سياسات المعاناة، مستعملة مفهوم نيتشه حول الاستياء للقول إن الناس اليوم قد فقدوا رغبتهم في الحرية وباتوا ملزمين في اضطهادهم. الاستياء “هو انتصار الضعيف باعتباره ضعيفاً، وهو انتقام أخلاقي للضعفاء الذي يسعى إلى اعتبار المعاناة مقياساً للفضيلة الاجتماعية، والقوة والامتياز باعتبارهما غير أخلاقيين. إنه الوجه الآخر للموضوع، الذي يعكس منطق الهيمنة مع الحفاظ على هذا المنطق سليماً. يؤدي الاستياء وظيفة ثلاثية: “هو ينتج تأثيراً (الغضب، والأحقية) يتغلب على الأذى، فينتج مذنباً مسؤولاً عن الأذى، وينتج موقعاً للانتقام لإزاحة الأذى (مكان لإلحاق الأذى لأن المتألم قد تأذى)” (33) التوترات داخل الليبرالية هي المسؤولة عن رغبة الهوية المسيسة في حرمان حريتها. إن الليبراليين، الذين يحددون وينتجون بواسطة السلطة، محرومون من فهم هذه الحقيقة من خلال الخطاب الليبرالي الذي يدفع بفكرة الإيغو الحرة السابقة التي تسبق التنشئة الاجتماعية والتي تتمتع بالحرية لتشكيل نفسها. وبالتالي، إن الذات الليبرالية محكوم عليها بالفشل الذي تسعى إلى تبريره. (34)

تعتبر براون أن انتشار الهويات المسيسة هو بشكل جزئي نتيجة لإعادة تطبيع الرأسمالية الذي جاء من زوال نقد الرأسمالية. (35) تفسر إيفا ميتشل كيف يمكن مساواة “الهوية” بالعمل المغترب، إنه تعبير أحادي عن إجمالي إمكاناتنا كبشر. (36) في كتابه “الأيديولوجيا الألمانية” كتب ماركس أن توزيع العمل يحصر كل شخص في “مجال معين وحصري من النشاط الذي يُفرض عليه ولا يستطيع الهروب منه”. (37) في الرأسمالية الاستهلاكية، تقوم الانتاجات التأديبية بتشكيل وتنظيم الموضوعات من خلال تصنيف السلوكيات الاجتماعية على أنها مواقف اجتماعية. إن السعي إلى التحرر على أساس الهوية لا يؤدي إلا إلى تجسيد هذا التوزيع وإعادة تأكيده.

بالنسبة لبراون، تعتبر سياسات الهوية بشكل جزئي مظهراً من مظاهر الاستياء الطبقي، حيث يصبح الاغتراب والضرر الناتج عن الرأسمالية غير مسيس ويطاح به لصالح درجات من الاختلاف الاجتماعي. (38) يحصل التعبير عن الأسباب الاقتصادية والسياسية للمعاناة في السياق الثقافي. بالتالي، بغض النظر عن مدى تعقيد فهم الهوية، فإن تسييس الهوية هو خطأ ميتافيزيقي: الهوية يجب أن تكون نقطة البداية، وليس موضوع تشكل الجماعات. في هذا المفهوم، ينبغي التحرر من الهوية. الهوية المسيسة هي ردة فعل على الهيمنة وتأكيد ذاتي يعيد صياغة العجز. تعتبر براون أن “لغة الاعتراف تصبح لغة انعدام الحرية… ويصبح التعبير في اللغة، في سياق الخطاب الليبرالي والانضباطي، وسيلة للتعبئة من خلال التفرد والتطبيع والتنظيم، حتى عند السعي بكل جهد لتحقيق القبول والمرئية”. (39)

استناداً إلى هذا النقد، ومن دون التقليل من الجرح والمعاناة التي غالباً ما تكون النتائج المتجسدة للاضطهاد، إنني أؤكد على أن التحول المعاصر إلى الرضة والمعاناة هو في نفس الوقت وظيفة النيوليبرالية وردة فعل على النيوليبرالية. لقد عملت النيوليبرالية على تدمير الأساس المادي للوجود الجماعي وشخصنت من دون هوادة المعاناة الفردية. من خلال تعريف الهوية وفق المعاناة النفسية، يمكن تسويق هذا النقص من خلال سردية المساعدة الذاتية والمرونة والتعافي التي تجعل من الذات سلعة على نحو متزايد. إن وجهة نظري هي أن تسييس الهوية من خلال ربط الرضة بالهوية هو محاولة لإيجاد أساس جديد للجماعية. ويمكن ملاحظة ذلك في مثال “الطبقية” ومفهوم الامتياز، الذي يشير إلى إطار يحصل فيه اختزال التحليل الممنهج إلى التأثيرات الشخصية. وغالباً ما تعمل هذه السرديات من خلال المطالبة بالتفكير الداخلي في موقع الفرد ضمن أنظمة الاضطهاد، مع التركيز على التجربة الحياتية الفردية. ولأن تأثيرات الهيمنة مشخصنة من الناحية العاطفية، فإن تجسيد الرضة والضحية يعني أن مواجهة أعراض الصراع لها أولوية على التحليل المنهجي.

إن وجود رأس المال يعتمد على المواجهة المستمرة بين التراكم والشرعية. لقد نجت الرأسمالية، بشكل جزئي عن طريق استيعاب النقد. (40) إن روح الرأسمالية هي أساس التراكم، بحيث يضعان معاً حدوداً على التراكم المشروع، ويقدران على نزع سلاح النقد الذي يحتمل أن يكون خطيراً. في العديد من النواحي، يُنزع سلاح التحدي الجذري المتمثل بسياسات الهوية ويدرج ضمن نظام النيوليبرالية لتقييم الاختلاف الفردي. ومن دون نظرية تفسيرية للهوية، تبدو الهويات كصورة طبق الأصل وواضحة وجاهزة للنضال الاجتماعي. بانفصالها عن التاريخ المادي للهوية، تصير سياسات الهوية متواطئة مع الرأسمالية المتنوعة.

ويتجلى ذلك في الدعوات لإنهاء “الطبقية” باعتبارها تمييزاً ضد أبناء الطبقة العاملة، وهي محاولة مضللة لفهم كيفية علاقات الهيمنة من خلال الطبقة. “الطبقية” هي واحدة من عوارض المجتمع الرأسمالي الذي يقوم على الاستغلال الطبقي. يؤدي التركيز على التأثيرات الثقافية إلى تحليل غير مادي لا يمكنه فهم النظام الطبقي يتطلبه استغلال العمال، بدلا من طريق الهوية المشوهة التي ينبغي تحريرها. يندرج هذا في سياق المنطق الاجتماعي والسياسي للنيوليبرالية التي تتعامل مع قوى السوق الرأسمالية على أنها حتمية ومحصنة. إن انتشار التحولات الخطابية نحو تأطير الاضطهاد ضمن مصطلحات التحيز والوصم، التي تلخصها الطبقية، هو جزء من هذا التطبيع. وهذا ما يفصل الاضطهاد عن التحليل المنهجي المفيد الذي يعترف بالوظيفة النظامية الحاسمة التي يلعبها هذا الاضطهاد. وهذا بدوره يطبع أنظمة الاضطهاد. الطبقية هي المثال الأكثر وضوحاً على ذلك. وفق هذا التحليل، يعاني المفقرين والطبقة العاملة بسبب مواقف الطبقة الوسطى والحاكمة تجاههم، وليس بسبب استغلالهم من قبل أنماط الانتاج الرأسمالية. ويبرر عدم المساواة في الثروة والدخل إلى التحيزات: “الطبقية هي معاملة على أساس الطبقة الاجتماعية أو الطبقة الاجتماعية المخيلة. الطبقية هي القمع الممنهج للمجموعات الطبقية التابعة بهدف تعزيز المجموعات الطبقية المهيمنة. إنه التعيين المنهجي لخصائص القيمة والقدرة على أساس الطبقة الاجتماعية”. (41)

تحمل منظمة العمل الطبقي شعار “بناء الجسور عبر الانقسام الطبقي”، حيث تحدد التمييز الطبقي في العلاقات الشخصية التي تنشأ من أنماط التحيز المنهجية. بدلاً من إلغاء العلاقات الطبقية، تؤكد الطبقية على تخفيف التأثيرات الفردية في العلاقة الطبقية، مثلاً: “مشاعر الدونية تجاه أفراد الطبقة العليا”. بدلاً من السعي إلى تفكيك النظام الطبقي الرأسمالي، تشدد منظمة العمل الطبقي على الاعتراف بالمعاناة الناتجة عن العلاقات بين الأشخاص كحل لعدم المساواة، وتسطيح وظيفة العرق والطبقة والجندر من خلال تحقيق المساواة عبر منظور الهوية الوصفية.

أنا لا أناقض فكرة أن المعاناة التي تميز حياة المضطهدين ينبغي أن تلعب دوراً في مقاومة الاضطهاد. مع ذلك، إن الدافع نحو الثقافوية يتجلى في سياسات الهوية المعاصرة المؤدية إلى تصور المقاومة على أنها تحول داخلي نحو نتائج الاضطهاد بعيداً عن الأسباب المنهجية. يتجسد هذا التحول نحو الذات في شعبية نظرية الامتيازات. نظرية الامتيازات هي مثال لكيفية تحديد عدم المساواة البنيوية في المواقف الفردية للفرد. إن مفهوم بيغي ماكينتوش لامتياز البيض هو أمر أساسي للفهم الحالي. فقد جمعت لائحة من 50 فائدة لامتياز البيض: “لقد أصبحت أرى الامتياز الأبيض باعتباره مجموعة غير مرئية من الأصول غير المكتسبة التي يمكنني الاعتماد عليها في صرفها كل يوم، ولكن كان من المفترض أن أبقى غافلة عنها”. (42) بات مفهوم الامتياز الشخصي باعتباره “ميزة غير مكتسبة… بسبب التحيز” موجوداً في خطاب سياسات الهوية. (43) وأصبحت عبارة “تحقق من امتيازاتك” صرخة سياسية تعبوية، تشير إلى أن المقاومة ينبغي أن تبدأ من الاعتراف بمكانة الفرد الشخصية داخل النظام.

من جديد، إن التأثيرات الممنهجة للاضطهاد تقع على الفرد. ليست السياسة فردانية فقط، إنما تعتمد على “طرق جديدة وتقدمية على ما يبدو لتركز السياسة على الهوية البيضاء”. (44) هذا يختزل التضامن مع المضطهدين إلى سياسة الشعور بالذنب، حيث تستبدل الفاعلية السياسية بتلك الأخلاقية وإدانة للذات. خطاب الامتيازات موجه نحو التأثير الفردي. يتمتع كل الأفراد بامتيازات بطريقة ما وعليهم قبول امتيازاتهم: “الخطوة التالية هي خطوة بسيطة لتحقيق الذات: أنت صاحب امتيازات. … ما تحتاج إلى إدراكه هو أننا جميعاً نتمتع بامتياز إلى حد ما: امتياز البيض، امتياز الرجال، امتياز المغايرين وسوى ذلك”. (45) وتتماشى شعبيتها المعاصرة مع النزعة الفردية النيوليبرالية التي تجعلها متوافقة مع الظلم الممنهج، كبرنامج للعمل، تركز نظرية الامتيازات على تغيير الذات، وليس العالم، حيث تختزل المقاومة بالتأمل الذاتي.

من دون شك، إن جعل لامرئية النظام الاجتماعي مرئية هو أمر مهم في تحدي التأثيرات الحية للاضطهاد، كما أن تحدي التأثيرات والمواقف الفردية أمر بالغ الأهمية في عملية بناء ما هو جماعي. مع ذلك، عندما تكون المقاومة متمحورة حول الأفعال والمعتقدات الفردية، يصبح السياسي بأكمله مسألة أخلاقية، ما يؤدي إلى سياسة غير مسيسة تسعى إلى تحقيق العدالة عن طريق العلاقات بين الأشخاص. وتختزل الأنظمة العنصرية والبطريركية بتحيزات عنصرية وجندرية.

وتبعاً لتعدد المواقف الهوياتية المطالبة بالاعتراف، يميل خطاب التقاطعية والامتياز نحو نظرية إبستمولوجية المصدر، وهي “نظرية ذاتية مفرطة في المعرفة” التي تفترض أن المعرفة خاصة بالمجموعة ونابعة من التجربة. وهذا موقف فرداني: “بما أنه لا يمكن لأي امرأة أن تتجنب العيش في هويات متعددة، فإن الدينامية المركزية لسياسات الهوية تتمثل في التحرك نحو مجموعات هوياتية متقلصة باستمرار، والتي سيكون نهايتها المنطقية ليس مجرد الذاتية إنما الأنانية، حيث لا تتطابق تجارب شخص ما مع تجارب شخص آخر”. (46) إن الحق في التحدث عن أشياء معينة مرتبط بهويتك، وهذا الحق يحرم منه الآخرون الذين لا يطابقونك. (47) هناك تفضيل لتجربة المستبعدين، وهو ما يعتبر بمثابة معرفة بالإقصاء الممنهج. إن المزج بين هذين المنطقين يقودنا إلى افتراض الحقيقة على أساس المعاناة. تؤدي الشخصنة وفق هذا المنطق إلى التنظير حول ما يمكن أن يراه الفرد محدوداً بالنظام، ولكن لا تزال مسؤولية الفرد هي في توسيع الاعتراف. إن الأشخاص غير المرئيين داخل النظام هم وحدهم الذين يمكنهم ويجب عليهم إظهار حقيقة الإقصاء.

وهذا ما يتجسد في العبارة التي نسمعها كثيراً “لا تتحدث عن تجربتي المعاشة”. في الأوساط النسوية، كثيراً ما يقال للرجال إن الرجال لا ينبغي لهم أن يتحدوا تفسيرات النساء لاضطهاد النساء، لأنهم لم يختبروا ذلك. مثلاً، ألغيت مناظرة حول الإجهاض في جامعة أوكسفورد عندما تبين أن المتناظرين رجلان. اعتبر الرد النسوي أنه من غير المناسب السماح للرجال مناقشة الإجهاض لأنه لن يضطر أي من المتحدثين التفكير في إجراء عملية إجهاض: “كما يمكنك أن تتخيل، كنا نحن من لدينا رحماً غاضبات بشكل كبير لأنهما سيتحدثا عنا وعلينا”. (48) إن هذا الاعتماد على الخبرة يتجنب ضرورة تقديم مطالبات سياسية غير وضعية والدفاع عنها. من غير العصري أن نعلن موقفاً ينطلق من الإيمان بالأممية، لكن الاعتماد على الخبرة يلغي ضرورة الحكم. من دون القدرة على الحكم، مع ذلك، تصبح القدرة على فهم الاضطهاد على المحك. تدل هذه المقاربة إلى الانحدار إلى الأنانية، حيث يتم التخلي عن إمكانية فهم تجارب الآخرين. إضافة إلى ذلك، يحصل خلطاً بين الاضطهاد والنضال ضده. هذا ما تنتقده تشاندرا موهانتي باعتباره “أطروحة التناضح النسوي”، التي تفترض أن النساء نسويات بفعل تجربتهن الأنثوية. (49) في الحقيقة، هناك الكثير من النساء اللواتي، على الرغم من امتلاكهن لأرحام، أو لم يجرين عملية إجهاض، لا يدعمن الحقوق الإنجابية.

إن تشييء الهوية المضطهدة خاطئ عند افتراض أن التعرض للاضطهاد هو “خارج” تأسيسي للسلطة. مع ذلك، وكما توضح دونا هاراواي، “لا توجد رؤية فورية من وجهة نظر المضطهدين”. (50) إن رواية الرؤية التي تفترض الوضوح من وجهة نظر مضطهدة هي على الضد من الموقف الذي تنتقده. إنها ردة فعل ضد الافتراض بأن الرؤية طبيعية، وأن تحديدها غير محدد وأممي. هذا هو الموقف المنسوب تقليدياً إلى الذكر الأبيض “غير المميز”، هي شمولية منظور أصحاب الامتيازات. مع ذلك، إن افتراض الحقيقة من موقف المضطهد ما زال يفرض انقساماً بين ما يمكن رؤيته وتجربته، وما لا يمكن تجربته ورؤيته، ثمة “خطر جدي من رمنسة و/أو الاستيلاء على رؤية الأشخاص الأقل قوة في حين يدعون أنهم يرون من مواقعهم”. (51) تشدد هاراواي على كل التجارب تحصل عبر الوساطة وأن كل الأخيرة تتأثر بالسلطة، وكيف “أن ليست كل وجهات النظر صالحة بشكل متساوٍ في النضال ضد الهيمنة: إن مجرد “كونك” مجموعة مضطهدة أو مهمشة لا يمنحك بشكل تلقائي امتيازاً في صياغة الحقيقة”. (52)

إن الميل نحو نظرية المنشأ الابستمولوجية التي تعتبر أن التجربة قد باتت مقياس الحقيقة في خطاب التحرر. أعتبر أن السردية النيوليبرالية عن الذات قد أثرت على معيار الأصالة الذي يطرح ضمن سرديات الاضطهاد. إن موضوع النيوليبرالية هو المقاولة بالذات، ويقع عبء الرعاية بالكامل على الفرد. يذكر مخيال الأصالة النيوليبرالي على أن الشيء الوحيد المهم هو الجوهر الداخلي للذات، وغير القابل للانتهاك. ومن خلال الاعتراف يفترض أن تكشف الذات جوهراً أصيلاً مزعوماً، يتموضع ضمن علاقات السلطة ويقدم نفسه للتقييم. (53) يجب أن تخضع العواطف والخبرة للنظرة العامة. إن الذات النيوليبرالية هي موضوعة الرضة، وقد بات الكشف عن الذات الحقيقية ضرورة حتمية ضمن الثقافة العصبوية، حيث يكون الاعتراف بالمعاناة مساوياً للشخصية. وفي حين كان يعتقد أن الخصائص الجسدية تظهر جوهراً ثابتاً للهوية، فإن الرضة هي التي تشهد الآن على الحقيقة.

تصف ليندا ألكوف حالة أليس راينلاندر في العشرينيات، التي رفع زوجها الأبيض دعوى قضائية لإبطال زواجهما عندما اكتشف أنها “ملونة”. طلب محاميها منها، في محاولة لإثبات أن زوجها كان يعلم قبل زواجهما، أن تكشف عن ثدييها أمام هيئة المحلفين، والتي ستكون قادرة على تمييز عرقها من جسدها. إن الإشارة إلى أن الذات الحقيقية، الهوية الأصلية، موجودة دوماً ويمكن الكشف عنها والحكم عليها علناً، كانت دوماً ضمنية في سرديات الهوية. (54) وقد اتخذ هذا معنى جديداً في سياق الاعتراف النيوليبرالي، حيث يجب استيعاب الحكم وتلبيته باستمرار من خلال الاعتراف. في هذا السياق كتبت ياسمين نير:

“آه، أن تعترف، أن تكشف، أن تكشف دوماً، أن تكون دوماً، أن تكشف دوماً عن ثدييك حرفياً ومجازياً وتتحدث عن الحقائق الكبرى. هذا هو مطلب النيوليبرالية… كيف يمكننا اعتبارك شخصاً حقيقياً إذا لم تعترف؟ الدراما ليست مأساوية؟ اخترع واحدة تكون كذلك! ولكن: اعترف واكشف دوماً”. (55)

اليوم، إن الاعتراف بالرضة، “بالدراما المأساوية” بكونها “حقيقة كبرى” هو علامة على الذات الأصيلة. تتجسد تجارب الاضطهاد باعتبارها أصيلة، تماماً كما تختزل المسائل السياسية بالأخلاق.

ومع تفكك الهويات على نحو متزايد وتدمير الأسس القائمة للممارسة الجماعية بشكل متزايد، لا يوجد أساس مستقر لتشكيل مجموعات جديدة: “حتى عندما تؤكد الهوامش نفسها كهامش، إن الاعتداء المُغَّرِب الحاصل على الهوية الجماعية المتماسكة في المركز يرتد عليها لخلخلة هوياتها الخاصة”. (56) توفر لغة الرضة وسيلة لتحقيق المساواة بين الناس وتصنيفهم وفق المعاناة. إن تحويل هذا إلى أضحية هو رفض للسردية النيوليبرالية المهيمنة حول المسؤولية الذاتية. ورغم أننا لم يعد باستطاعتنا افتراض وجود تجربة مشتركة، وعلى الرغم من أن التجارب المختلفة لكل شخص فريدة وأصيلة، لكن الناس يوحدهم ألم تجاربهم السابقة. المشكلة في هذا المفهوم الحالي هو أنه لا يصل إلى حد تحويل المعاناة إلى رؤية مختلفة للعالم. يمكن كذلك اعتبار الاهتمام بالسياسة كمسألة اعتراف طريقة للتغلب على الافتقار إلى التنظيم الجماعي؛ من خلال التأكيد على مجموعة لم تتأسس بشكل ذاتي، إنما نتيجة فشل منهجي، يحصل التحايل على الحاجة إلى تنظيم الرؤية وإنشائها ومشاركتها. ويمكن تأطير ذلك على أنه انتقال من الجماعية، التي هي نتيجة جهد إنساني متضافر لخلق موقف مشترك، إلى تحالف من المواقف الذاتية المختلفة.

يؤدي الخلط بين الاضطهاد والهوية إلى تجسيد المعاناة باعتبارها مكوناً للهوية. إن المطالبة بالعجز كما يعبر عنها الأشخاص المضطهدون هي وصف خاطئ للمواقف والمخاطر المتعددة التي تحتفظ بها الشعوب المضطهدة في النظام. في لقاء “حياة السود مهمة” مع هيلاري كلينتون، حيث رفض المناضلون “إخبارها بكل ما عليها فعله”، يمكن رؤية كيف يبعد المناضلون أنفسهم عن السلطة. تؤطَر المشكلة على أنها “عنف أبيض… ليس هناك الكثير الذي يمكننا فعله لوقف العنف ضدنا”. (57) وهذا إنكار للطرق التي يمكن للأشخاص المضطهدين التأثير في الأنظمة القمعية والمشاركة فيها.

حياة السود مهمة هي عبارة عن شبكة متنوعة تتألف من عدة مواقف، والمثال الذي استعملته ليس المقصود منه الإشارة إلى هذا التحالف الواسع. وهذا مجرد مثل واحد يعكس انتشار سياسة الطلب. ولكن ما هو جدير بالملاحظة هو أنه في ظل غياب بنية سلطة مركزية أو مبادئ مشتركة، نجد مجموعة متنوعة جداً من السياسات تحت نفس الراية. إن البنية المشتتة لشبكة حياة السود مهمة تعني أن القوة الخطابية لهذه الشبكة يمكن نظرياً أن يستحوذ عليها أي شخص، دون مساءلة على استعمالها. وبهذا المعنى، هي منصة بقدر ما هي حركة. تصور حياة السود مهمة على أنها تحالف متنوع وغير متجانس، وتتضمن وجهات نظر ومطالب متعددة. في أكثر من 1030 مناسبة من الاحتجاجات تحت شعار الحركة، فإن محتوى المطالب المباشرة والملموسة لكل احتجاج ليس له أهمية. وتؤكد إليسيا غارزا، إحدى مؤسسات الحركة، “لسنا معنيين بمراقبة من هو جزء من الحركة ومن ليس كذلك. إذا قال أحدهم أنه جزء منها، فهذا صحيح”. (58) ويمكن القول إن هذا يعكس كذلك الانتقال من الجماعية إلى الائتلاف وفقر الرؤية السياسية في هذه الخطوة، الأمر الذي يزيل فعلياً مساحة الحكم السياسي. وبدلا من أن نكون متحدين من أجل شيء ما، لا يمكننا أن نتحد إلا على أساس الإقصاء والعجز، وتعدد الهويات التي تشترك مع رضة حياة السود.

يظهر انتشار هذا الإطار ضمن سياسات الهوية اليسارية الفردية النيوليبرالية للنضال السياسي. على سبيل المثال، توضح شعبية كتاب “لماذا لم أعد أتحدث عن العرق إلى البيض” فقر الرؤية في تصور العمل الجماعي. تكتب ريني إدو-لودج:

“العنصرية مشكلة بيضاء. إنها تكشف القلق والنفاق والمعايير المزدوجة للبياض. إنها مشكلة نفسية البيض وينبغي أن يتحمل البيض مسؤولية حلها. لا يمكنك فعل الكثير إلا من الخارج”. (59)

تقول إيدو-لودج إنه من مسؤولية البيض التحدث فيما بينهم حول العنصرية. من جديد، تختزل هذه المقاربة من مناهضة العنصرية إلى مجرد مشروع شخصي لتغيير المواقف. عند تصور الأشخاص غير البيض على أنهم لا يتحملون أي مسؤولية للتأثير أو التثقيف أو رفع الوعي، ينظر على أنهم من “خارج” النظام. هذه المقاربة تقدس عجز ضحايا العنصرية ووقوعهم ضحايا، وهو ما ينظر إليها على أنها تحصل في المقام الأول من خلال التبادل بين الأشخاص. إنهم يظهرون كأفراد محرومين، وليس كمجموعة مشتركة.

كما قلت، لا يوجد “خارج” تأسيسي للسلطة، ولا نقاء في الرؤية من وجهة نظر المضطهدين. إن منطق هذا التفكير يتجنب حصول تغيير جذري وممنهج؛ ومن خلال اختزال مجال مناهضة العنصرية ليصبح مجرد تفكير فردي وحوار بين الأشخاص، إنه يضع نظام التفوق الأبيض الذي هو توحش اقتصادي وسياسي واجتماعي، خارج مجال الصراع. وكما قلت، من دون تحليل سياسي وتاريخي للقمع البنيوي، لا يمكن اعتبار العنصرية وكراهية النساء إلا سمات فردية، “مشكلة نفسية”. ويمتد هذا الأمر بطبيعة الحال إلى سياسة الذنب (الأبيض)، حيث تسجل القضايا السياسية ضمن سجل أخلاقي ولا يمكن التعامل معها إلا من خلال التفكير الداخلي وتنقية الذات. بهذا الشكل، يستبدل زخم المبادئ السياسية الجماعية والأممية بالمطالبة بالتفكير بالمعاناة والرضات. يصبح النضال الممنهج غير مفيد، وحدهم من يتمتعون بالسلطة الاجتماعية هم من يمكنهم اختيار تغيير مواقفهم: “لا، ليست مهمة الملونين الانتصار على العنصرية، إنها مسؤولية البيض حتى يتخلوا عنها”. (60)

أعتبر أن هذا التثبيت للمواقف الفردية هو تصادم مع العقلانية النيوليبرالية. من خلال اختزال الظواهر السياسية بمجرد أمراض شخصية، تُسحب العنصرية إلى ثقافة عصبوية، فتتحول إلى مجرد سمات فردية يمكن إدارتها. وهذا يتجنب السياسة الجماعية التي من شأنها الاعتراف بالمواقف الفردية باعتبارها غير ذات صلة خارج سياق بنى السلطة، والتي هي في حد ذاتها مشروطة. لا يمكن لتجسيد الضحية أن يفهم الأنظمة القمعية المليئة بالتناقضات والعداوات. المشكلة في نقل المسؤولية من “الضحية” إلى “الجاني” هي أنه حين يرفض من الناحية النظرية النظام القائم غير المتكافئ، فإنه في الواقع يضع طلباً على النظام ومن هم في السلطة، ويعتمد بشكل ضمني على شرعيتهم الحالية. تحل سياسة المطالبة مكان سياسة الخلق، من خلال إنكار السلطة، ومن خلال التأكيد على أن الاضطهاد يمكن التغلب عليه من خلال الاعتراف، وبذلك تتعزز قوة النظام السائد.

الخاتمة

بهدف تجاوز تأثيرات نزع السياسة للفردانية التي حددتها، من الضروري إعادة النظر في الأهمية السياسية للبناء الجماعي، باعتباره المسار لتصور طرق بديلة للحياة. إن الطريقة الحالية التي نفكر فيها الهوية الجماعية ناجمة عن تجارب الرضة المشتركة والمفروضة من الخارج. في وقت من المهم الاعتراف بالعناصر النفسية للرضة والمعاناة، لكن من المهم كذلك، تجنب تجسيدها كهوية. كيف ننتقل من ائتلاف المعاناة إلى فهم مشترك لتجاربنا، إلى رؤية جديدة لبناء عالم جديد؟ من يستطيع الظهور؟ وكيف يمكن للذوات التفاوض حول رغبتها في الاعتراف مع ضرورة تغيير ما يُعترف به؟

يفتح هذا العمل آفاقاً للبحث المستقبلي حول هذه الأسئلة. نحن نحتاج إلى الاهتمام بالظروف المعيشية للوكالة عن الذات وما يعنيه أن تكون إنساناً، وتقبل أن أي هوية ستكون دوماً جزئية. وهذا يتطلب سياسة تحررية واسعة النطاق يمكنها تجاوز التأثيرات المحبطة لسياسات الهوية بين الأشخاص. مع ذلك، لا يتوضح ما هو أممي مسبقاً. إن الـ “نحن” التي تندمج في العمل الجماعي ليست شيئاً موجوداً مسبقاً ولكنها تبنى في سياق الفعل. إن تحدي حبس الهوية الجماعية يعني إعادة فتح العلاقة بين الخاص والأممي، بين الفرد والجماعة، أي ما استبعدته النيوليبرالية على ما يبدو. إن الأممي غير المرئي للفاعل غير المتجسد والخصوصي المرئي الذي يتطلب الاعتراف به هما تعدد الإنسان المحتمل.

وفي حين يتغير الشكل الملموس لهذه التوترات مع الظروف المادية، فإن جوهرها مرئي تاريخياً. يؤكد فانون في كتابه “بشرات سوداء، أقنعة بيضاء”، وجوده كرجل وكرجل أسود. ويرى كيف أن المرئي هو الاندراج المادي للاغتراب من الأممي المحتمل، إن تحويل دلالة المرئي لا يمكنه التغلب على التناقض الأساسي بين المظهر والجوهر، إنما هو “تمجيد الماضي على حساب ما هو آني ومستقبلي”. (61) لكنه يسعى من ماضيه إلى خلق مستقبل العالم. إذا أردنا تغيير الطرق التي قد يظهر بها الجسد، فيجب علينا تحدي العلاقات الحالية بين المظهر والجوهر. في صراعه مع معنى الهوية، كتب فانون أن “الزنجي ليس كذلك. ليس أكثر من البيض”. (62) إن الاعتراف بثقل الماضي لا يعني تكراره. إن الانتقال من سياسة “أنا” إلى سياسة “نحن نريد” يتطلب إعادة النظر في ما يعنيه أن نكون “نحن”، من خلال خصوصيات التعبيرات المحتملة للـ “أنا”: “إنه من خلال الجهد المبذول لاستعادة الذات وتدقيقها، من خلال التوتر الدائم لحريتهم، سيكون الناس قادرين على خلق الظروف المثالية للوجود من أجل عالم إنساني”. (63) إن الخلق المستمر لـ “نحن” الجديدة هو التعبير عن موقف ذاتي جماعي جديد وبيان الإمكانات البشرية للمستقبل المحتمل. وهذا التعبير، بوصفه مسعى جماعي، ينبغي أن يجبرنا على التطلع نحو الأمام، وكذلك إلى الداخل.

الهوامش:

[1] Alcoff 2000.

[2] Daunasia Yancey, quoted in Tesfaye 2015.

[3] Ibid.

[4] Ibid.

[5] Read 2010, p. 2.

[6] Dardot and Laval 2013, p. 22.

[7] Ibid.

[8] Dardot and Laval 2013, p. 28.

[9] Read 2010.

[10] Dardot and Laval 2013, p. 292

[11] Foucault 1982.

[12] Lemke 2007, p. 203.

[13] Read 2010, p. 46.

[14] Bourdieu 1998.

[15] Boltanski and Chiapello 2006, p. 155.

[16] Neocleous 2012.

[17] Markell 2003.

[18] Fraser 1997.

[19] Mitchell 2013.

[20] hooks 2015, p. 3.

[21] hooks 1990, p. 7.

[22] Breines 2006.

[23] The Combahee River Collective 1977.

[24] Mohandesi 2016.

[25] The Combahee River Collective 1977.

[26] Davis 2008.

[27] Crenshaw 1991.

[28] Crenshaw 1989.

[29] Crenshaw 1991, p. 1245.

[30] Ferree 2009.

[31] Crenshaw 1989.

[32] Brown 2002, p. 427.

[33] Brown 1995, p. 68.

[34] Ibid.

[35] Ibid.

[36] Mitchell 2013.

[37] Marx and Engels 2004, p. 53.

[38] Brown 1995.

[39] Brown 1995, p. 66.

[40] Boltanski and Chiapello 2006.

[41] Class Action, n.d.

[42] McIntosh 1988.

[43] Ibid.

[44] Haider 2017.

[45] Tekanji 2006.

[46] Kruks 1995, p. 4.

[47] Ibid.

[48] McIntyre 2014.

[49] Mohanty 2003, p. 109.

[50] Haraway 1988, p. 577.

[51] Kruks 1995, p. 7.

[52] Ibid.

[53] Foucault 1976.

[54] Alcoff 2006, p. 7.

[55] Nair 2013.

[56] Nair 2013, p. 53.

[57] Tesfaye 2015.

[58] Alicia Garza, quoted in Fletcher 2015.

[59] Eddo-Lodge 2017, p. 219.

[60] Denzo Smith 2013.

[61] Fanon 2008, p. 176.

[62] Fanon 2008, p. 180.

[63] Fanon 2008, p. 181.

المراجع:

Alcoff, Linda Martín 2000, ‘Who’s Afraid of Identity Politics?’, in Reclaiming Identity: Realist Theory and the Predicament of Postmodernism, edited by Paula M.L. Moya and Michael R. Hames-Garcia, Berkeley: University of California Press.

Alcoff, Linda Martín 2006, Visible Identities: Race, Gender and the Self, New York: Oxford University Press.

Bauman, Zygmunt 2001, The Individualised Society, Cambridge: Polity Press.

Boltanski, Luc and Eve Chiapello 2006, The New Spirit of Capitalism, translated by Gregory Elliot, London: Verso.

Bourdieu, Pierre 1998, ‘The Essence of Neoliberalism’, Le Monde Diplomatique, December, available at: , accessed 26 November 2015.

Breines, Winifred 2006, The Trouble Between Us: An Uneasy History of White and Black Women in the Feminist Movement, New York: Oxford University Press.

Brown, Wendy 1995, States of Injury: Power and Freedom in Late Modernity, Princeton: Princeton University Press.

Brown, Wendy 2002, ‘Suffering the Paradoxes of Rights’, in Left Legalism/Left Critique, edited by Wendy Brown and Janet Halley, Durham, NC: Duke University Press.

Class Action n.d., ‘What is Classism?’, Class Action, available at: <http://www.classism.org/about-class/what-is-classism/>, accessed 26 November 2016.

Crenshaw, Kimberlé Williams 1989, ‘Demarginalizing the Intersection of Race and Sex: A Black Feminist Critique of Antidiscrimination Doctrine, Feminist Theory, and Antiracist Politics’, The University of Chicago Legal Forum, 140: 139–67.

Crenshaw, Kimberlé Williams 1991, ‘Mapping the Margins: Intersectionality, Identity Politics, and Violence Against Women of Colour’, Stanford Law Review, 43, 6: 1242–99.

Dardot, Pierre and Christian Laval 2013, The New Way of the World: On Neoliberal Society, translated by Gregory Elliot, London: Verso.

Davis, Kathy 2008, ‘Intersectionality as Buzzword: A Sociology of Science Perspective on What Makes a Feminist Theory Successful’, Feminist Theory, 9, 1: 67–85.

Denzo Smith, Mychal 2013, ‘White People Have to Give Up Racism’, The Nation, 14 February, available at: <https://www.thenation.com/article/white-people-have-give-racism/>, accessed 23 May 2017.

Eddo-Lodge, Reni 2017, Why I’m No Longer Talking to White People About Race, London: Bloomsbury Circus.

Fanon, Frantz 2008, Black Skin, White Masks, translated by Richard Philcox, New York: Grove Press.

Ferree, Myra Marx 2009, ‘Inequality, Intersectionality and the Politics of Discourse: Framing Feminist Alliances’, in The Discursive Politics of Gender Equality: Stretching, Bending and Policy-making, edited by Emanuela Lombardo, Petra Meier and Mieke Verloo, London: Routledge.

Fletcher, Bill 2015, ‘From Hashtag to Strategy: The Growing Pains of Black Lives Matter’, In These Times, 23 September, available at: <http://inthesetimes.com/article/18394/from-hashtag-to-strategy-the-growing-pains-of-black-lives-matter>, accessed 7 May 2016.

Foucault, Michel 1976, The History of Sexuality. Volume 1: An Introduction, translated by Robert Hurley, Harmondsworth: Penguin.

Foucault, Michel 1982, ‘The Subject and Power’, Critical Inquiry, 8, 4: 777–95.

Fraser, Nancy 1997, Justice Interruptus: Critical Reflections on the ‘Postsocialist’ Condition, New York: Routledge.

Haider, Asad 2017, ‘White Purity’, Viewpoint Magazine, 6 January, available at: <https://www.viewpointmag.com/2017/01/06/white-purity/>, accessed 25 May 2017.

Haraway, Donna 1988, ‘Situated Knowledges: The Science Question in Feminism and the Privilege of Partial Perspective’, Feminist Studies, 14, 3: 575–99.

Hill Collins, Patricia 1990, Black Feminist Thought: Knowledge, Consciousness, and the Politics of Empowerment, Boston: Unwin Hyman.

hooks, bell 1990, Ain’t I a Woman: Black Women and Feminism, London: Pluto Press.

hooks, bell 2015, Feminist Theory: From Margin to Center, Third Edition, New York: Routledge.

Kruks, Sonia 1995, ‘Identity Politics and Dialectical Reason: Beyond an Epistemology of Provenance’, Hypatia, 10, 2: 1–22.

Lemke, Thomas 2007, ‘“The Birth of Bio-politics”: Michel Foucault’s Lecture at the Collège de France on Neo-liberal Governmentality’, Economy and Society, 30, 2: 190–207.

Markell, Patchen 2003, Bound by Recognition, Princeton: Princeton University Press.

Marx, Karl and Frederick Engels 2004, The German Ideology, Part One, New York: International Publishers.

May, Todd 2010, Contemporary Political Movements and the Thought of Jacques Rancière, Edinburgh: Edinburgh University Press.

McIntosh, Peggy 1988, White Privilege and Male Privilege: A Personal Account of Coming to See Correspondences through Work in Women’s Studies, Wellesley, MA: Wellesley College, Centre for Research on Women.

McIntyre, Niamh 2014, ‘I Helped Shut Down An Abortion Debate Between Two Men Because My Uterus Isn’t Up For Their Discussion’, The Independent, 18 November, available at: <http://www.independent.co.uk/voices/comment/i-helped-shut-down-an-abortion-debate-between-two-men-because-my-uterus-isnt-up-for-their-discussion-9867200.html>, accessed 26 November 2016.

Mitchell, Eve 2013, ‘I Am a Woman and a Human: A Marxist-feminist Critique of Intersectionality Theory’, Unity and Struggle, 12 September, available at: <http://unityandstruggle.org/2013/09/12/i-am-a-woman-and-a-human-a-marxist-feminist-critique-of-intersectionality-theory/>, accessed 26 November 2016.

Mohandesi, Salar 2016, ‘Identity Crisis’, Viewpoint Magazine, 16 March, available at: <https://www.viewpointmag.com/2017/03/16/identity-crisis/>, accessed 10 May 2017.

Mohanty, Chandra Talpade 2003, Feminism Without Borders: Decolonizing Theory, Practicing Solidarity, Durham, NC: Duke University Press.

Nair, Yasmin 2013, ‘Confession, Neoliberalism, and The Big Reveal’, Yasmin Nair, 5 December, available at: <http://www.yasminnair.net/content/confession-neoliberalism-and-big-reveal>, accessed 26 November 2016.

Neocleous, Mark 2012, ‘“Don’t Be Scared, Be Prepared”: Trauma-Anxiety-Resilience’, Alternatives: Global, Local, Political, 37, 3: 188–98.

Read, Jason 2010, ‘A Genealogy of Homo-Economicus: Foucault, Neoliberalism and the Production of Subjectivity’, in A Foucault for the 21st Century: Governmentality, Biopolitics and Discipline in the New Millennium, edited by Sam Binkley and Jorge Capetillo-Ponce, Newcastle-upon-Tyne: Cambridge Scholars Publishing.

Tekanji 2006, ‘“Check My What?” On Privilege and What We Can Do About It’, Official Shrub.com Blog, 8 March, available at: <http://blog.shrub.com/check-my-what/>, accessed 26 November 2016.

Tesfaye, Sophia 2015, ‘Watch Black Lives Matter Activists Confront Hillary Clinton: “You Don’t Tell Black People What We Need To Know”’, Salon, 18 August, available at: <http://www.salon.com/2015/08/18/watch_black_lives_matter_activists_confront_hillary_clinton_you_dont_tell_black_people_what_we_need_to_know/>, accessed 26 November 2015.

The Combahee River Collective 1977, The Combahee River Collective Statement, April, available at: <http://circuitous.org/scraps/combahee.html>, accessed 26 November 2016.

Wolfe, Ross 2013, ‘“Identity” – The Bane of the Contemporary Left’, The Charnel-House, 31 October, available at: <https://thecharnelhouse.org/2013/10/31/identity-the-bane-of-the-contemporary-left/>, accessed 7 May 2016.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حشود غفيرة من الطلبة المتظاهرين في حرم جماعة كاليفورنيا


.. مواجهات بين الشرطة ومتظاهرين في باريس خلال عيد العمال.. وفلس




.. على خلفية احتجاجات داعمة لفلسطين.. مواجهات بين الشرطة وطلاب


.. الاحتجاجات ضد -القانون الروسي-.. بوريل ينتقد عنف الشرطة ضد ا




.. قصة مبنى هاميلتون التاريخي الذي سيطر عليه الطلبة المحتجون في