الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التعصب: أزمة فكرعربي

ندى أسامة ملكاني

2024 / 3 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


"إن الإنسان يتجه لكل ما من شأنه أن يشعره بحريته وكرامته كحرية الرأي والمناقشة"، عبارة قالها جون استيوارت ميل. فحرية الرأي صفة ملازمة لوجود الإنسان. وتفترض حالة التنوع في تركيبة المجتمعات تنوعا في الآراء بحيث لا يسيطر ولا يهيمن رأي واحد، وإنما يكون لكل رأي صوت مسموع.
يلعب الإطار الثقافي والاجتماعي والسياسي للمجتمعات دورا كبيرا في قدرة الأفراد والجماعات على التعبير عن رأيها الملازم لوجودها. فإما أن تكون الثقافة مشجعة أو مثبطة لنضوج شخصية مستقلة قادرة على التعبير عن رأيها بالشكل الذي يكون فيه قيمة مضافة لإثراء الذات ولنفع المجتمع. كما يتأثر التعبير عن الرأي بالإطار الاجتماعي الناظم لجملة العلاقات الاجتماعية المكونة لبنية المجتمعات. ولمؤسسات التنشئة الاجتماعية والسياسية هنا دور كبير في إعطاء الفرد البوصلة التي يستطيع من خلالها أن يعبر عن كينونته ووجوده وفي المرتبة الثالثة وليس أقل الأطر السابقة أهمية هو الإطار السياسي المكون لميكانزم العلاقات بين الأفراد من جهة وبينهم وبين النظام السياسي الحاكم من جهة أخرى. فالدولة التي ترتكز على حكم القانون توفر مناخا من الحرية بحيث تمكن الفرد وبموجب القانون أن يترجم أفكاره إلى لغة وتعابير ومؤسسات. من جهة ثانية يمنع القانون الأفراد من إلحاق الضرر بالآخرين، وهكذا يتحقق معنى الحرية أن تكون قادرا على العمل بما يسمح به القانون كما يرى أليكسس دي توكفيل.
ولدى إلقاء نظرة على المجتمعات العربية يمكن تحليل البعدين التاليين كأبعاد لأزمة الفكر العربي:
أولا: أزمة بناء الإنسان: إن الإنسان هو سبب وغاية وجود أي تنظيم سياسي، فحفظ البقاء وتحقيق الأمن والسلام هو سبب وجود الدولة. وفي أدبيات الفكر السياسي منذ أرسطو وحتى التفكير المعاصر تنبع أهمية أي فلسفة من أنها تنطلق من الإنسان وتعود بنفعها للإنسان. ويقول أرسطو: أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك. فإذا أردنا أن نحلل أزمة الفكر العربي من حيث التعصب الفكري ورفض الآخر يجب أن ننطلق من فهم موقع الإنسان في البنية الثقافية الناظمة لحياة الفرد في المجتمعات العربية,
إن الفرد في المجتمعات العربية واقع بين كماشتين: الروابط الوشائجية من جهة، والدولة الاستبدادية من جهة أخرى. فلا هو قادر على التحرر من تلك الروابط ولا هو قادر على التخلص من الواقع السياسي المأزوم والذي يتسم بإلغاء حرية الفعل والحركة.
يرى الباحث السياسي حمدي الحسن أن السياسة وعلاقات القوة في الدول العربية تتحدد بأواصر القربى وتنظيم العلاقات الاجتماعية على أسس الانتماءات ما قبل الدولة
. إن السياسة في العالم العربي هي مجال التدخل المباشر من قبل الأنظمة. وتكون النتيجة المنطقية لهذا الوضع هي غياب الشخصية المستقلة وغياب حكم القانون. علاقات القرابة المقيدة لاستقلالية الفرد من جهة والدولة القمعية التي تلغي حكم القانون من جهة ثانية. يستتبع ذلك ظاهرة محددة بعد تحليل هذا الوضع هو أن ارتباطات الأفراد بالقبيلة والعائلة هو الضامن الوحيد لهم في مواجهة الدولة القمعية.
ثانيا: أزمة شرعية النظم الحاكمة: في السياق العربي لا وجود لدولة كمنظمة للهيمنة على إقليم محدد، بل ما يوجد هو جهاز سياسي بثلاثة مكونات: الحاكم، قواته، بيرقراطية مرتبطة بالحاكم وليست مستقلة. يرى حمدي الحسن أنه يمكننا القول إن نشوء الدول في العالم العربي على أنقاض الأمبراطورية العثمانية منذ العام 1918 قد اتسم بالفشل في بناء الدولة -الأمة. سيطرت الدول في هذه الفترة على السلطة باختراق المجتمع المدني ومنع نشوء جماعات اجتماعية وسياسية مستقلة. يشير ذلك إلى أنه لا وجود في السياق العربي لدولة بالمعنى الذي طرحه ماكس فيبر والتي تمتاز بالمسؤولية الشرعية، فالولاء في الدول العربية ليس لحكم القانون بل لموقع الفرد في شبكة علاقات اجتماعية عمودية. (أفقية يعني مدنية، عمودية يعني علاقات ما قبل الدولة).
يرى فيبر أنه بدون شرعية فإن أي حكم يصعب عليه أن يملك القدرة الضرورية على إدارة الصراع بالدرجة اللازمة لأي حكم مستقر لفترة طويلة، فالاستقرار لدى ماكس فيبر مرتبط بالشرعية.
القوة هي الحاكمة في الوطن العربي وليس الدولة الحديثة، ففي أوروبا عززت الأمة الديمقراطية، بينما نلاحظ أن الدولة في الوطن العربي دوما تعاني من أزمة في الشرعية. لم تنشأ الدول العربية أمما ولا مجتمعات بالمعنى الحديث. ما بنته كان القوة power . وحسب المفكر عزمي بشارة دول بدون أمة حديثة تعني فقط القوة.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تم الاعتقاد أن العالم العربي كان المكان الوحيد الذي تجنب الموجة الثالثة للديمقراطية. ردا على ذلك كان على الحكومات العربية باتخاذ خطوات سياسية واقتصادية تساير فيها الموجة العالمية. اقتصاديا، تمت الاستعاضة عن نموذج الدولة التي تقود الاقتصاد إلى النموذج النيو ليبرالي. انسحبت الدولة من تقديم خدمات اجتماعية مهمة داعية المجتمع المدني لملأ الفجوة "المجال المدعو إليه" . سياسيا، ترافق الانفتاح الاقتصادي مع خطوات خجولة للانفتاح السياسي. يرى الكثير من المحللين أن ما قامت به الحكومات العربية حينها لم يكن دمقرطة بل لبرلة.
يشرح نواف سلام أنه عندما قامت الأنظمة العربية بتبني الانفتاح الديمقراطي لم يكن ذلك نابعا من رغبتها في تدوير السلطة بل لتحافظ على السلطة بعدما لوحظت أزمة الشرعية. فهناك فجوة بين الدولة والمجتمع تترجمها أزمة الشرعية وعدم قدرة المواطنين على ممارسة حقوقهم.
إن النتيجة المنطقية لكل ذلك هي الانغلاق على التفكير بصفة أحادية وإلغاء الرأي الآخر ورفض الاعتراف به وتقبله واحترامه أو الحوار معه، وهو ما ينافي المبدأ الذي يقرّ بالتنوع وتعدد الآراء، ومصادرة حق الآخر في التفكير أو الرأي. ما يخلق جمودا في العقل ويجد كل فرد أو بالأصح يتوهم أنه أفضل من غيره وأنه يحتكر الحقيقة ولا يقبل برأي آخر.
أظهرت أحداث 2011 في الوطن العربي أن القضية ليست فقط إسقاط أنظمة غير شرعية فالدعوة لأجل الديمقراطية تحولت إلى صراع من أجل إعلاء هويات ما قبل وطنية، وأن الدرس المستفاد هو ضرورة إعادة النظر في عملية بناء الإنسان وقيمه المدنية في العيش مع الآخر في مجتمعات تتسم بالتنوع العرقي والإثني والديني.
وإذا كان الفرد في المجتمعات العربية واقع بين كماشتين فالحل هو البحث عن مخرج من المأزق الوجودي هذا. فعلى صعيد أول، يجب ألا تلغي الجماعات العضوية من شخصية الفرد وأن تعمل على توسيع مجالات خياره ومن جهة ثانية على الأنظمة السياسية أن تقتنع بأن دولة المؤسسات هي الدولة التي تنتعش فيها حرية الفرد. ولا بد من التوقف عن الانتقاص من قدر الآخر والتأسيس لثقافة لا تتبنى الحلول القصوى. بل القضية هي البحث عن أشكال العيش المشترك في إطار تعددية فكرية تقبل التنوع وتثري به تجربتها وتراكم خبرتها التاريخية به ومن خلاله. وأن يكون لفكر الفرد دورا بناء في المجتمع لا يهدم غيره ولا يحقر ولا يسفه سواه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار


.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟




.. يديعوت أحرونوت: إسرائيل ناشدت رئيس الكونغرس وأعضاء بالشيوخ ا


.. آثار قصف الاحتلال على بلدة عيتا الشعب جنوب لبنان




.. الجزائر: لإحياء تقاليدها القديمة.. مدينة البليدة تحتضن معرض