الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


برودة المنافي

البتول المحجوب

2006 / 12 / 2
الادب والفن


بارد مدرج المطار ذاك الصباح، حطت طائرة ركاب قادمة من أرض باردة.
في بهو الانتظار وجوه باسمة فرحة،وأخرى لاتبعد عنها أمتارا يصبغها الحزن والترقب.كانت هي الأخرى تنتظر، فجأة لمحت امرأة تلتحف سوادا و تنتحب في صمت..اقتربت منها ألقت التحية، ربتت على كتفها دون كلام وقفت قربها. يبدو أن المرأة تنتظراتمام اجراءات رسمية لتستلم تابوتا قادما من أرض باردة، بعد ثلاثين سنة من الغياب ألقسري،بعد ثلاثين سنة من التسكع على أرصفة المنافي الباردة، يعود محمولا في تابوت لحضن أمه الدافئ. وصيته الأخيرة أن يعود لوطنه ولو ميتا، بعد أن حرم العيش فيه حيا..لم تمانع السلطات في دخوله مادام ميتا،المهم أن لايعود حيا لهذه البقعة من الأرض التي أحبها،أن لايعود حيا لأهله ولأرضه البسيطة التي عشقها ولفحته يوما شمسها الدافئة، أرض كان يبحث عن رائحتها في منفاه، يشم ثوب القادمين من هناك ويتزود برائحة الوطن، يسأل دوما لم يمل السؤال يوما عنها. أمازالت شامخة رغم الجراح ورغم النسيان، أمازال وادها يفيض كلما هطلت أمطار الخير على أرضها..؟
يسأل صديقه القادم من هناك ،أخبرني بالله عليك أمازالت حيطان بيوتنا دامعة..؟وأمهاتنا الطيبات.. مازلن يلتحفن سوادا ويبتسمن بحب لأبنائهن..؟آه ! امازال الاطفال يهرعون حفاة، ومن ينتعل نعلا يضعه في يده بدل قدمه..؟ ألازال أطفالنا يسبحون في ألواد عندما يفيض غير مبالين..؟
آه ! وخيام الوبر الجميلة ألازالت تنصب أيام الربيع على مشارف المدينة..؟! سؤال وألف سؤال مغموس بحرقة الحنين تحمله ذاكرته كلما التقى بأحد قادم من هناك.يحكي عن مدينة عشقه ومرتع طفولته بفرح ممزوج بالشجن.
يبتسم صديقه من سؤاله الدائم عن ذاكرة مدينة لاتموت.
-اسمع.. هذه الصورة تغيرت ألان، مدينتك غاب وجهها البرئ الذي الفته، أصبحت تتجمل وتضع رتوشا مثل باقي المدن..
يرفض الرد محتجا:
- لاتحاول يااخي أن تغير ملامح الوجه البرئ ، وجه الحلم الجميل الذي حملته معي لمنفاي البارد. أتعرف أن وجهها الطيب منحني الدفء والحب في هذا المنفى البعيد.
تلك البقعة المنسية المنزوية في ركن بعيد من هذا العالم حية في ذاكرتي ، لكن أرجوك في المرة القادمة أجلب لي بعضا من تربتها علّني اشم فيها رائحة امي، فلأمهاتنا رائحة الاوطان.
يصر دوما أن ملامح مدينته وتقاسيم وجهها البرئ لن يغيره زحف الزمن ،بل ستبقى أرض المحبة ،الدفء والحلم الجميل .كلما اشتد به الحنين يكتب قصيدة شعر ويتغنى بما حملته ذاكرته عنها وعن أهلها البسطاء.تدمع عيناه، يداري الدمع أحيانا وأحيانا يطلق العنان له مرددا السجن أحب من هذا المنفى البارد.
يتذكر رجاء أمه المنكسر وصوتها المبحوح عبر أسلاك الهاتف:
-يابني لاتعد، لاينتظرك في هذا الوطن غير السجن سيأخذونك مني، يكفي أن أسمع صوتك وأعرف أنك حي ترزق.
يذعن لرجاء أمه على مضض ويتحمل برد المنافي لسنين طوال.
الى أن عاد ذاك الصباح في تابوت بارد.وحده دفء استقبال مدينته،حرارة دمعها المنسكب وحضنها الدافئ بدد برودة المنافي. بكل وفاء وحب لعشقه الدائم لها يوارى الثرى في تلك المقبرة الموحشة بعد غياب طويل. أمر كل جمعة حزين على قبره المحاذي لقبر أخي، أقرأ الفاتحة لهما وأتذكر أن المنافي الباردة جمعتهما لسنين طوال وعاد كل منهما لهذه الأرض الطيبة محمولا في تابوت..أهمس لهما قائلة:
ناما بسلام في هذا الوطن الذي لم يمنحكما إلا شبرا في مقبرة موحشة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل