الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا نحن متخلفون ولماذا هم متقدمون

سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)

2024 / 3 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


طرحت منذ بداية القرن الماضي والى الآن مجموعة من الأسئلة التي طرحها العديد من الكتاب والمثقفين العرب وغير العرب ، تخص واقع التنمية في البلاد العربية ، والطرق التي يجب اتباعها للخروج ما التخلف والاجترار والتبعية المفرطة ، للحاق بركب التي حققت إنجازات جعلت المسافة مع الغرب تزداد اتساعا وبعدا ، حتى غدا السؤال الرئيسي في كل وقت وحين ، لا يزيغ عن التشكيك في محدودية مجال العقل العربي ، وفي عقمه . واذا كان العقل هو منتج الأفكار والابداعات ، فان العلاقة بين العقل وبين الفكر ، لا تخرج عن نطاق مستوى حركية العقل ، ومستوى الأفكار التي ينتجها . فكلما كان العقل متطورا متحركا ، كلما كان الابداع كثيرا وكثيفا ، في انتاج الأفكار لخدمة الإنسانية والبشرية عبر مختلف الأزمنة والعصور . لكن كلما كان العقل جامدا متكلسا ، كلما كانت الأفكار كذلك جامدة متكلسة . لذا فالعجز والاجترار التي يوجد عليهما العالم العربي ، رغم الإمكانات الهائلة التي يتوفر عليها ، يردها اغلب المفكرين الغربيين الى جمود العقل العربي ، ومحدودية الأفكار التي ينتجها في مجال الابداع ، والتي لا تتعدى مجال النقل والترديد . هنا فالمقصود عند الغربيين ليس العرب كجنس واثنية ، بل المقصود موروثهم الثقافي الذي فعل فعلته منذ مجيئ الإسلام .
الملاحظ انه منذ مرحلة النظام الكلونيالي ، مرورا بزمن الدولة النيوكلونيالية ، ووصولا الى الأزمنة الحديثة التي مثلتها الدولة التكنوكلونيالية ، تعددت التنظيرات والاجتهادات بخصوص تحديد مكامن الازمة التي زادت استفحالا بالنسبة للأخر الذي استعمرنا ، ونهب ثروتنا ، وعاملنا معاملة العبيد ، ووظف العصرنة في تفكيك كياناتنا الراشية ، الى كيانات تربعت على رأس هرمها مجموعة من الزمر والعشائر ، والطفيليات التي تعيش غريبة عن اوطانها ، ولا تزال تجتر مخلفات العهود الاستعمارية البالية ، وغير مهتمة ولا مبالية بما يجري من حولها ، لان همها هو الافتراس والنهب لثروة البلد لاشباع نزواتها الحيوانية والارتماء التام في أحضان المشاريع التغريبية التي لا ترى في اوطاننا سوى تلك البقرة الحلوب ، وذاك البرميل من البارود القابل للانفجار في كل وقت وحين ، من طرف عصابات متزمتة تعمل جاهدة على تعميق الهوة الثقافية والحضارية بالانتصار الى أفكار محرفة تعود الى مجيئ الإسلام في حلله المختلفة .
فعلى ضوء هذا الوضع الشاد الذي يوجد فيه وعليه الوطن العربي ، اهتم العديد من المفكرين العرب ، والمفكرين الغربيين بإشكالية مستقبل العالم العربي ، التي أهمها بالأساس تحديد أسباب تعتر التنمية وانتشار التخلف ، والفقر ، والامراض ، والجوع ، والظلم ، إضافة الى الاستبداد السياسي ، وما ينتج عن ذلك من جميع مظاهر تحلل الدولة العربية الطاغية الاستبدادية في المجتمع .. واذا كان العقل العربي لا يبدع الاّ في انتاج الاستبداد وبناء الدولة القمعية ، التي أضحت مسخرة يضرب بها المثل عند الاخر الذي لا ينتظر دقيقة تمر لتحريك ملفات الديمقراطية قصد الضغط عليها ، لتمرير صفقات سياسية على حساب المصالح القومية والوطنية لكل دواة عربية .
ان ما يؤسف له ان نفس الأسئلة التي طرحت عند بداية القرن ، لا تزال نفسها تطرح منذ بداية الالفية الثالثة ، أي اننا لا نزال في مفترق الطريق نتحسس المنجى الصحيح وطريق الخلاص ، في الوقت الذي قطع فيه الاخر اشواطا ومراحل ازمنة يستحيل ويستحيل الاقتراب منه وليس اللحاق به المستحيل في ظل المعتقدات السائدة .. وتجب الإشارة في هذا الباب ان جميع التحليلات والتنظيرات التي حاولت إيجاد الإجابة الملحة عن السؤال الْهَمُّ ، كانت تنطلق في علاجها للازمة الخانقة من زوايا سياسية وايديولوجية وفلسفية وعقائدية ( الإسلام هو الحل ) تعكس بؤس النظرية ، وبؤس الفكر الذي حدد او حاول ان يحدد مستقبل التنمية في البلاد العربية. فهناك من ركز في اجتهاده على المرجعية الماضوية لإبراز سبب الخلاف والاختلاف مع الاخر، ولتسفيه ودحض برامجه المخدومة والجاهزة ، وعوض ان يقترح هذا الاتجاه البديل العام ، يقفز على الأهم ، ليحبس نفسه في دغدغة المشاعر والحواس والأحاسيس ومخاطبة العواطف . ومن ثم يبقى الخطاب خطابا نرجسيا ليس الاّ .
وبخلاف هذا الاتجاه الماضوي الغارق في الرجعية اللاهوتية ، حاول اتجاه اخر التركيز في تحليلاته وتنظيراته ، على التحديث او العصرنة في الغرب ، قافزين او متناسين الخصوصية ، والبيئة ، والتاريخ والموروث الأيديولوجي ، وكأن تحقيق التقدم يتوقف فقط على الوصفات الجاهزة ، حتى اذا ما تحققت ، اصبحنا بقدرة قادر بدورنا في نفس درجات التقدم التي حققها من سبقونا الى المدنية وليس الى الحضارة ، لان لكل شعب حضارته ، لكن ليس كل شعب مدني الأسلوب في الحياة . وحسب هذا التنظير من السهولة ان نصبح أوروبيين بالاندماج الكامل ، اذا تخلينا عن قيمنا ومعتقداتنا ، أي اذا قطعنا مع موروثنا الأيديولوجي المغلف بالإسلام ، وبكل ما يشدد على الخصوصية . ان هذا الاتجاه يرى في الديمقراطية الغربية ، المخرج الوحيد لجميع المشاكل التي لا نزال نجترها ، لذا لا غرابة في تبني القيم الغربية بكل سلبياتها وايجابياتها .
الاتجاه الثالث إضافة الى الاتجاهين الاولين الاتجاه الماضوي اللاهوتي ، والاتجاه التغريبي ، هو الاتجاه الذي يختصر الاختلاف بيننا وبين الغرب ، في التحكم في التقنية المجردة من أي مدلول أيديولوجي . أي التركيز على التصنيع رغم دخول هذا الحقل في طور ازمة التنافس بين الصناعات الغربية فيما بينها ، وبينها وبين النمور الأسيوية والعملاق الصيني الذين يسيطرون على الاقتصاد العالمي ، خاصة الاقتصاديات الرخوية ، التي تعتمد على اشكال اقتصاد الريع حيث تنشط السلطة السياسية في كل دولة متخلفة ..وكيفما كان الحال ، فان هذا الاتجاهات طرحت نفسها كبديل ناجع عن جميع المشاريع العامة التي جُرّبت وادت الى الفشل . انها بذلك وفي نظر روادها تمثل الحل الناجع والخلاص اللذان يجعلان العالم العربي يلتحق بمصاف الدول المتقدمة ، بامتلاكه ناصية العلوم والابداع البنّاء في جميع المجالات الإنسانية ..
وقبل ان نتطرق الى هذه الاتجاهات والروافد الثلاث ، يتعين طرح السؤال التالي : اليس هذه الاتجاهات والروافد التي يمكن ان نسميها تجاوزا مدارس ، تعبر عن أيديولوجية ، خلال حقبة معينة ؟ . ان الجواب سنجده اذا استبعدنا في تحليلنا المنهاج التجريبي الساذج ، واستبعدنا المنهاج الموضوعي الخارجي . لماذا ؟ . لان الأول يدفع بصاحبه الى الغوص في الثقافة من اجل الثقافة وهاملا الابعاد التاريخية ، ولان الثاني بخلاف الأول ، يترك صاحبه خارج الثقافة ، يصف ويحلل ، ويصنف الاعمال وكأنها أشياء آتية من عالم خارجي ، لا مرئي ، وبدون ان يحدد سلم القيم المعتمدة في التصنيف . لذا يبقى منهج الوعي النقدي الذي يعتمد على التنظير ، أي ادخال المستقبل ضمن حياتنا اليومية ، وبتوظيف التحليل العلمي ، انجع طريقة لكشف أسباب وجذور الازمة التي يعاني منها العقل العربي الجامد والمتكلس والعقيم .
ان النماذج الثلاث التي حاولت الإجابة عن السؤال : ما هو المظهر الذي يبدو من خلاله الاتصال بين ثقافتين مختلفتين ؟ . وهل تتحدد ثقافة ما بصورة مباشرة بقاعدتها المادية ؟ . وهل تتحدد الأيديولوجيا فقط بالمجتمع الذي تفعل فيه وبالطبقة التي تستعملها ؟ .
ان الجواب سنجده عند هذه المدارس او الاتجاهات الثلاث التي حاولت رصد مكامن الضعف والقصور في الفكر العربي ، وحاولت إيجاد الإجابة الملحة لسؤال الازمة التي تحولت بدورها ، أي الإجابة ، الى ازمة ..
-- الاتجاه الأول يحصر اصل التخلف والاجترار والازمة في اللاهوت المسجد مقابل الكنيسة .
-- الاتجاه الثاني حاول معالجة الازمة بالتركيز على التغريب على الطريقة الغربية ، أي الليبرالية .
-- والاتجاه الثالث مثله دعاة التقنية الذي من ابرزهم المفكر سلامة موسى في الشرق العربي ، والمهدي بن بركة في غربه ..
1 ) الاتجاه الماضوي اللاهوتي : يتمثل هذا الاتجاه في رجل ( الدين ) ، الذي يحافظ على التعارض بين الشرق والغرب ، وبين الكنيسة بمختلف اتجاهاتها والمسجد بكل الفرق التي تصلي فيه . أي التعارض بين المسيحية والإسلام . لكنه في نفس والوقت يفكر فيما جعل الغرب قويا ، ويرجع ذلك الى حقيقة تخلينا عن الدين ، وفي نفس الوقت اعتبار قوة الغرب ناشئة عن العقل والحرية . لذا فان رجل الدين حاول التوفيق بين الإسلام والفكر الحديث الذي حاول مسايرته رغما عنه . لقد برز رجل الدين خلال حقبة الدولة الكلونيالية ، على اعتبار ان هذه الدولة كانت تقوم على ما يسمى بالخاصة او الفئة الارستقراطية الراكدة والفقهاء ( العلماء ) . لهذا نجد رجل الدين اللاهوت يضطلع بمهمة الدفاع والرد على الغرب المسيحي .
2 ) الاتجاه التغريبي اللبرالي : يتمثل هذا الرافد في السياسة الليبرالية ، او رجل السياسة الذي برز في مرحلة الدولة النيوكولونيالية اللبرالية . فبعد معرفة اكثر بالغرب المسيحي وبتاريخه ، تبين له ان العقل موجود عمليا فقط في أوربة ، واصوله تبلورت عند فلاسفة القرن 18 والقرن 19 ،ومن اهتم السياسي الليبرالي مفكرين أمثال " روسو " و " منتسيكيو " ، لأنه وجد في كتاباتهما نقدا لقضايا وظواهر يعيشها في بلاده مثل الطغيان والاستبداد والظلم والعبودية ... الخ . ان هذا الاتجاه اصبح رائجا حلال الدولة المستقلة او النيوكولونيالية ، ويقدم نموذجا له احمد لطفي السيد ، الذي تشبع بالليبرالية من خلال ايمانه بالعلم والتقدم والتركيز على ضرورة3 ) تقليص رقابة الدولة للمجتمع .
3 ) اتجاه دعاة التقنية : ان هذا الاتجاه يرى ان رجل الدين اخفق وفشل ، مثلما اخفق السياسي اللبرالي في تحقيق أسباب القوة للمجتمع . ففي نظر رجل التقنية ، ان الغرب لا يتحدد بالدين الخالي من الخرافات والشعوذة ، ولا بالدولة الخالية من الاستبداد والطغيان . لكن يتحدد بالقوة المادية التي افرزها من خلال العمل وتطبيق العلم . لقد برز هذا النموذج فيما يسميه رجل التقنية بالدولة الوطنية النيوكلونيالية التي تهتم بالنتائج مفصولة عن المناهج والطرائق . فكانت بذلك تشخص نوعا من الماركسية الموضوعية . ان اكبر دليل يمكن التحجج به في هذا الباب ، هناك نموذج سلامة موسى الذي كان يدافع عن الصناعة والتصنيع والعلم ، لانها وسائل علمية لتحقيق التغيير . لقد مثل هذا الاتجاه في غرب الوطن العربي المهدي بن بركة ، وبلغ مبتغاه في الحكومة التي ترأسها الأستاذ عبد الله إبراهيم في بداية ستينات القرن الماضي . لقد اعتبر ذاك المشروع في حينه خطرا على النظام مما عرض تلك الحكومة لانقلاب القصر الملكي ، وبالضبط الملك الحسن الثاني ، الذي عرقل استرجاع الصحراء حتى لا تحسب عملية عودة الصحراء على الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، الامر الذي عجل بتلك التجربة اليتيمة في التاريخ .
تمثل هذه النماذج الثلاث مراحل معينة من الوعي العربي والمغربي الشقي المأزوم الذي سعى في نهاية القرن التاسع عشر ، وطيلة القرن العشرين الى استيعاب ذاته ، وفهم الغرب الليبرالي من خلال صورة تجديدية ، في اشكال تعبيرية متباينة تشمل الكتب ، الكتابات ، المقالات الصحافية والسياسية ، ثم الخطابات ، والادب ، والمسرح ... الخ . لكن لكي تستقيم هذه النمذجة لا بد ان نعتبر انها وجدت من خلال تعاقب زمني ، بغض النظر عن تداخلها وتقاربها . ولا بد ان نعتبر أيضا عند تتبعنا لهذه النماذج ، ان جميع الأقطار العربية ، تشكل وحدة ثقافية داخلها يستفيد كل قطر من تجارب المجموعة الثقافية العربية .
أيضا لا بد ان نعتبر ان الاحتلال الكولونيالي كان بمثابة نقطة حقيقية تؤشر على القطيعة مع العصور الوسطى ، وتؤثر لبداية الأزمنة الحديثة للتاريخ العربي المعاصر .. ان أي شكل من اشكال الوعي الثلاث هذه ، لا يختفي تماما بعد اختفاء نمط الدولة الذي يماثله ، بالرغم من انه يفقد مكانته الراجحة ، ويكف عن الاضطلاع بالدور الذي كان يقوم به .
ان الملاحظة الأساسية لهذه المقاربة المفاهيماتية ، هي ان رجل الدين والمسجد واللاهوت ، ورجل السياسة الليبرالي ، ورجل التقنية ، كل واحد منهم يحاول الإجابة ، ومن قواعد مختلفة ، عن السؤال الحرج الذي لا يزال سؤال المرحل الراهنة : لماذا تقدم الغرب المسيحي اليهودي ، ولماذا تخلف العرب والمسلمون ؟ لماذا تقوى الاخر ولماذا ضعف العرب والمسلمون ؟
ان هذا التساؤل او السؤال ، يكشف عن عدم التفاوت الزمني بين الأسئلة العلمية ، وبين الأسئلة التي طرحوها عن الغرب المسيحي اليهودي ، مع انها في الزمن الحالي أصبحت متجاوزة وعديمة التأثير .
ان رجل اللاهوت والمسجد في العالم العربي ، يجيب عن أسئلة وضعها آخرون في الغرب اللاّئيكي ، واعادوا طرحها عليه مثل الحوار بين " رينان " و " هناتون " Renan et Hanaton ، والافغاني ومحمد عبده .
اما رجل السياسة اللبرالي ، فيعيد نقل أصداء قضايا وصفها " مونسيكيوه ، وجون لوك ، و هوبز " في مواجهة الكنيسة والدولة الاتوقراطية . في حين ان رجل التقنية فقد تبنى دعوة " اوگست كونت " و " سبينسر " ، لانهما يعتمدان على مفاهيم و منظومات لم تعد فاعلة باستمرار ، بينما هي هاوية ومتأخرة عن قوتها التي كانت خلال القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر .
الملاحظ انه نتيجة لهذا التفاوت في هذه النماذج حسب الأزمنة ، وتعاقب المراحل ، فان الفترة الحقيقية لكل وعي في الفكر العربي المعاصر ، تكون هي نفسها أيديولوجية . ان تلك الروافد الثلاث المعبرة وبطرق مختلفة عن اشكال من الحكم السياسي ، تجسد المشروع الأيديولوجي العام ، الذي هو البديل الأساسي والاوحد ، عن المشاريع التي جُربت وكانت النتيجة ، الفشل والتخلف ، أي التأخر .
ان الأيديولوجيا ومن هذا المنظار المتعاقب في التفسير لازمة الذات وعداء الاخر ، تبقى محصورة في تأويل الوعي الزائف الذي انتجه الفكر العربي البئيس والفقير والمتكلس والمهزوم ، عما فعله ووصل اليه الاخر الذي استعمرنا فأذلنا واحتقرنا في عقر دارنا ، ولا يزال يفعل وما بدل تبديلا .
ففي الوقت الذي وصل فيه الغرب المسيحي اليهودي درجات عالية من العلم والابتكار والخلق والابداع ، عن طريق الربط بين القيم ، والخصوصية ، والثقافة ، والمؤسسات ، والتاريخ .. نجد الأيديولوجية العربية للفكر العربي العاقر والعقيم ، لا تزال لم تبتعد عن محاولتها البائسة اليتيمة ، في محاولة ادماج الواقع الغربي في قالب جاف ، تحكمه خصوصيات وقيم يستحيل عيشها مع كل ما يحفل به الاخر من مبتكرات في هذا الميدان .
ان طرح نفس الأسئلة اليوم ، التي سبق وان طُرحت خلال المرحلة الكلونيالية ، وفي مرحلة الدولة الوطنية النيوكلونيالية ، مع ما رافق ذلك من اجترار نحو النظريات الأجنبية باسم الحداثة أحيانا ، وباسم التقنية والتصنيع أحيانا أخرى ، وباسم الماضوية واللاهوت والجاهلية مرة ثالثة ، يعني ان الفكر السياسي العربي لا يزال يعيش ازمته البنيوية والفلسفية ، وانه لم يتمكن بعد من طرح المعادلة الصعبة في التنمية والتطور ، بالاستناد الى الخصوصية الوطنية ، والانطلاق من الذات ، وهو ما يطرح مشكلة تحديد الهوية مثلا في المغرب – البربرية والعربية والعلوية -- ، والأنا والعلاقة مع الاخر .. هذا في الوقت الذي قطعت فيه الشعوب الغربية بفعل تنظيرات فلاسفتها ومفكريها ومبدعيها الواقعيين اشواطا بعيدة في التنمية ، والوحدة والتقدم ، يستحيل على العالم العربي ، وفي ظل الظروف الصعبة الان اللحاق بهم .
ومما زاد الطين بلة والوضع اكثر ازمة ، تحويل العالم العربي في جميع تنظيرات الغربيين والاعلام المسيحي اليهودي ، الى بقرة حلوب من جهة ، والى عدو قديم وآني ومستقبلي ، يرفض كل اكراهات ( الحداثة ) . انه بذلك نقيضا استراتيجيا للغرب ، وانه برميل بارود مؤقت في يد الإسلام السياسي الرافض للحضارة والمدنية الغربية ، الداعية الى الجاهلية . ولا غرابة . ففي الوقت الذي يجتهد فيه المفكرون الغربيون في البحث عن مستقبل الغرب المسيحي اليهودي ، الذي يتجسد في الوحدة رغم اختلاف التضاريس ، العادات ، التقاليد ، اللغات ، الديانات ... الخ ، نجد ( المفكرون ) العرب بمختلف مشاربهم واتجاهاتهم الفكرية ( قوميون ، إسلاميون ، ماركسيون ، وطنيون ، علمانيون ، لائيكيون ، ملحدون ولا دينيون ... لا تزال تسيطر عليهم العقلية الانقلابية ، ولا يفكرون الا في مسألة وقضية حسم السلطة السياسية ، لصالح حزبهم ، او جماعتهم ، او جبهتهم ، لبلوغ الاستراتيجية ، والاستحواذ على المال والجاه والنفود والثروة . وعليه فمهما التنظير الانقلابي او الثوري ذروته وقوته فان مآله الفشل ، لأنه سوف يجد تربة تحتضنه ، خاصة عندما تكون تلك التربة تتميز بمميزات خصائص تميز شعبها عن غيره من الشعوب الاخرى .
لقد فشلت الروافد الثلاث في انجاز القفزة النوعية للاقتراب من الاخر وليس اللحاق به لتركيزها على احادية التفسير والتأويل . وكان الخطأ ان كل اتجاه او رافد يعدم أوتوماتيكيا مزايا الاتجاه الذي جاء على انقاضه ، حتى يمكن القول ان كل اتجاه او كل مدرسة تنطلق من الصفر ، لتؤسس لها رافدا خاصا بها .
-- فشل المشروع اللبرالي السياسي ، لارتماء التام في التنظير الغربي باسم ( الحداثة ) ، هدفها ضرب القيم والأصول ، اكثر منه بناء مؤسسات تؤسس لمنطق الحكم السياسي ، ولتجاوزه للخصوصية العامة التي شيدت صور الصين ( الحائط ) المنيع الذي تحطمت عليه كل تلك المشاريع .
وفشل المشروع القومي والماركسي في تحقيق خلق البديل . الأول بسبب غرقه في الشوفينية ، وعدم تقديره قوة الخصم ، وتركيزه على الشعارات التي تسببت في جميع الانتكاسات والهزائم المدوية ( النكسة في 1967 ) . والثاني فشل لغرقه في الثقافة وجهله لمعايير تقييم الظروف . فكانت النتيجة خاصة بعد التطورات التي عرفها الشرق ، هو الافول والتشتت .
وفشل مشروع الإسلام السياسي ( الإسلام هو الحل ) ، لرفضه للآخر ، وتقوقعه في التنظير المخاطب للعواطف والمشاعر والاحاسيس الإنسانية في بلد امير المؤمنين ، دون ان يملك البديل في الميادين التي برع فيها المسيحي اليهودي . أي الغرق في الطقوسية والماضوية من اجل الماضوية ، والحلم بنظام الخلافة الإسلامية ، التي مات فيها ( الخلفاء ) بخنجر مسموم في المسجد .. وهو ما جعل منه شروعا نرجسيا بامتياز ..
في القديم اعتزل ابن خلدون السياسة ، بعد غرق طويل فيها ، ليفهم عبر مسافة ابتعد فيها عن السلطان ، ماذا يجري على الساحة . فكانت " مقدمته " العظيمة والثاقبة في فهم آلية علم الاجتماع السياسي العربي .
واما الفقيه فما لبث ان التحق بالسلطان او اعتزله ، او فضل معاناة " الصوفية " فتجاوز الفقه وعلم الكلام . الا ان الصوفي عاد فوقع في مرحلة ترهّل " الطرق " ، وادخالها في مؤسسات السلطان من جديد ، واصبح للسلطان فقيه وطريقة خاصة يشرعن بها لصوصيته للنظام .
اليوم يتحدث العديد من الكتاب والمفكرين عن البديل في مجال الفلسفة ، والاقتصاد ، والأخلاق ، والانسانيات ، والتنمية ، ومع ذلك لا نلمس تأثيرا لهذا الفكر في السياسة العربية الإسلامية . واذا كان البعض يعلق العجز والفشل على الزمان ، فالى أي حد نبقى دائما مرتهنين بالزمن ، وهو الذي تجاوزنا باحداثه وسرعة تطوره ؟
ان البديل يكمن في التركيز على الخصوصية المحلية المميزة لكل شعب او امة ، إضافة الى التفتح على ما اضافته الإنسانية الكونية من مختلف العلوم والابداعات . أي الابتكارات الإيجابية التي تحققت في الغرب ، الى الابتكارات الإيجابية التي راكمتها شعوب الشرق ، وكل ذلك ضمن الإسلام المتفتح والمتطور ، وليس كما يدعوا دعاة الغلو والتطرف ، في اعدام كل ما لا يتوافق مع نظرتهم التشاؤمية في الصراع ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحن طائر أو بالون عادي.. ما هي حقيقة الجسم الغريب فوق نيويور


.. دولة الإمارات تنقل الدفعة الـ 17 من مصابي الحرب في غزة للعلا




.. مستشار الأمن القومي: هناك جهود قطرية مصرية جارية لمحاولة الت


.. كيف استطاع طبيب مغربي الدخول إلى غزة؟ وهل وجد أسلحة في المست




.. جامعة كولومبيا الأمريكية تؤجل فض الاعتصام الطلابي المؤيد لفل