الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسطينيُّ تَاونات

ادريس الواغيش

2024 / 3 / 14
الادب والفن


بقلم: إدريس الواغيش

في الوقت الذي يعمل فيه المغاربة بما يملكون من جُهدٍ، على تحسين صورة المغرب في مختلف المجالات داخليا وخارجيا، وفي فترة حسّاسة من تاريخنا الوطني المغربي، انصبّت فيها كل العُيون على أدق التفاصيل في اقتصادنا وحياتنا الاجتماعية. على الجاب الآخر، يعمل أبطال آخرون في صمت على الارتقاء بصورة البلد إلى أعلى المراتب العالمية في مجالات: الطبّ، الرّياضة، العلوم الحَقّة، العلوم الطبيعية وفيزيائية، وعلوم أخرى أكثر تعقيدا في مجال التكنولوجيا الحديثة. وبالتالي، بدأنا نتكلم بكل فخر واعتزاز عن مغرب متقدم حداثي، عصري، انتقل من مرحلة متخلفة نسبيا، وانتقل إلى الدخول في مرحلة أخرى أكثر حداثة، وإذا بنا نتفاجأ ببعض الدّبابير والفقاقيع، على الجانب الآخر، تُصِرُّ في عِنَادٍ على الإساءة إلى المغرب بأبشع وأرذل ما يُمكن من أفعال حقيرة، انقضى زمنها، متمثلة في التّرامي على أراضي الغير من دون موجب حق، والاستيلاء على قطعة أرض صغيرة لا تسمن ولا تُغني من جوع، حتى أن المرء يستحيي من التحدث في شأنها أو الكتابة عنها.
ويبقى فعل التّرامي على أراضي الغير، ظاهرة قديمة وحديثة في نفس الوقت، ولكنها غير عادية في البادية المغربية، وغير مقبولة أخلاقيا في زماننا الحاضر. قد نسميها عودة إلى «صعلكة» قديمة سادت في التاريخ المغربي، بدأت مع نهاية القرن 19 وانتهت مع بدايات القرن 20م. هذه الظاهرة المسيئة للبلد تتجدد بأشكال مختلفة وبذيئة، ولا تليق بالمكانة الحضارية التي وصل إليها المغرب. فعل يعود بنا إلى مرحلة زمنية انقسم فيها المغرب إلى «بلاد السِّيبَة» و«بلاد المَخْزن»، واشتهرت أسماء بعض قُطّاع الطرق أو كان يسمى «الزّطّاطة»، وأصبحت تتردّد على ألسنة الناس، كما تتردّد أسماء بعض مشاهير لاعبي كرة القدم. وهي ظاهرة اجتماعية قديمة، تستحق المتابعة والدراسة والتحليل من السوسيولوجيّين، ولا يقتصر الاهتمام على الجانب القانوني فيها، ولكن تحديد الدوافع السوسيولوجية والسيكولوجية.
أحيانا، يصبح المواطن المغربي حُرًّا طليقًا يتمتع بالحُرّية، وهي حرية لا تليق به، لأنه لا يبتغي عملا صالحًا يقرّبه إلى الله عزّ وجلّ، ولا هو مُؤمن يخاف مقام ربّه، لأنه وَجد نفسه مسلما بالصُّدفة بالانتماء الجُغرافي، ولا هو كائن إنسانيّ يأنّبُه ضميره الحيّ، ويبتعد عن ارتكاب الآثام والمعاصي والترامي على مِلك الغير، فقد مات ضميره من زمان، ولا يعطي صورة مشرقة للوطن ونموذجا عن عفّة المواطن المغربي، ولا يخاف العدالة والقانون المُعتمدة في البلد، لأنه يعرف بالفطرة وبقليل من التّحايُل بالممارسة أن المساطر القانونية في محاكم المغرب مُعقدة، تحتاج الوقت والصعود والهبوط، والوقوف أمام أبواب المحاكم مرتفقًا بالشُّهود، في حالة إن وُجدوا، لأن المغربي يُصلّي في المسجد أو بيته، وينطق بالشهادتين خوفا من نار جهنم، ولكن حين يتعلق الأمر بنُطق شهادة الحق، يخرس لسانه وتستعصي الشهادة أن تخرد من لسانه، كأنها قطعة صبّار يكسوها الشوك. وهنا يكون لازمًا على المظلوم أن يبحث عن إثباتات وأدلة، مع ما يدفع من أموال بالواضح للمحامين وصناديق المحاكم، وأخرى بالمرموز «من تحتها» للمُرتشين وعديمي الأخلاق والضمير، إلخ. وبالتالي، تبقى القوانين المغربية مكتوبة في المُجلدات، مُجمّدة على رُفوف المَحاكم، خادمة طائعة للظالمين، وما أكثرهم، غيرُ مُنصفة لتُعَساء العدالة والمَظلومين.
كثيرا ما كانت تؤلمني، منذ أن وَعِيتُ وَعْيي الشّقِيّ، مشاهد الجنود الإسرائيليين على شاشات التلفزيونات، وهم يصولون ويجلون فسادًا وإفسادًا في حقول الفلسطينيين، يحرقون بشكل مُتعمّد أشجار الزيتون، وكثيرًا ما كنت أتساءل في حيرة من أمري: لماذا يقصدون شجرة الزيتون بالذات، دون غيرها من الأشجار؟ تتعدّد الأسباب وتتناسل، ولكن يبقى أهمّها على الإطلاق في النهاية، ما يتعلق بالهَوية والأرض، وليس بدهاليز السياسة الإقليمية أو الدولية، كما كنت أعتقد أو يذهب تفكيري في الغالب. شجرة الزّيتون هي رمز الهَوية الفلسطينية، كما هي رمزنا محن المغاربة، والعلاقة ثابتة تاريخيا بينها وبين الإنسان، سواء الفلسطيني على أرض فلسطين المقدسة، حيث نزل أغلب الأنبياء أو المغربي في أرض الصالحين والأولياء. وإن كانت العلاقة بين شجر الزيتون والفلسطيني قديمة قِدَم التاريخ، منذ أن كلّم سيّدنا موسى عليه السلام ربّه من فوق جبل «الطور».
الله عزّ وجلّ أقسم بأربعة، كما جاء في قوله تعالى: «وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ»، إكرامًا لشجرتين مُباركتين: 1-التين، 2-الزيتون، ومكانين مقدسين: 3-البلد الأمين: مكة، 4-طور سينين: جبل موسى عليه السلام. وتبقى عملية حرق شجر الزيتون في حدّ ذاتها مقصودة، سواء في المغرب أو فلسطين، تستهدف في ظاهر الأمر الشجر، ولكن ما خفي من عملية الحرق، هو تهجير الفلسطينيين من بلادهم وتجريدهم من أراضيهم، ثم الاستيلاء عليها بعد ذلك، وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة والقطاع. شجرة الزيتون هي علم فلسطين الذي لا يرفع فوق الإدارات، ولكنه يُغرس ويُصان في القلوب، وحرقها جزء من محاولة إسرائيل للتلاعب بالهوية الفلسطينية، ومحوها من فوق الأرض.
وتبقى مسألة حرق شجر الزيتون في المغرب، على قلتها، لا تختلف كثيرًا، بحكم القلة والاستثناء، والاستثناء لا يقاس عليه، وإن كان هو الآخر لا يقل وَجَعًا. الإنسان المغربي هو من أكثر الكائنات تشبُّثا بالأرض، وأكثر تعلقا بشجر التّين والزّيتون حتى من الفلسطينيين أنفسهم، وحرق شجر الزيتون جهارًا نهارًا قرب طريق وطني عام في تاونات بالمغرب، هو أحد أشكال العُنف المُمارس في حق أكثر من جهة، وعلى رأسها الإنسان المغربي نفسه، سواء كان مقيما في أرض المهجر أو في المغرب، ولكن دفعته الظروف لأن يكون بعيدا عن أرضه، حتى لو كان متواجدا في وطنه. حرق شجرة زيتونة والاستيلاء على أرض الغير، عملٌ حقيرٌ يقوّضُ مقوّمات الدولة المغربية الحديثة، المفروض أن تنبني على العدل والمساواة، والعدل يعني أن يشعر الإنسان بالأمن والأمان فوق الأرض التي يعيش فيها، وإن لم يكن الأمر كذلك، وحصل معه العكس، تبقى الأرض التي لا عدل يحميه فيها، لا أمن له فيها، ولا أمان له فوقها. صدفة هذه المرة، في زيارتي الأخيرة لقريتي «أيلة» في مرنيسة بإقليم تاونات، وجدت نفسي لا أختلف في شيء الفلسطيني المَجروح في داخله، هو الذي طالما اتّجهت إلى الرباط، لأتضامن معه في شارع محمد الخامس أمام قبّة البرلمان، تضامنا معه ضد جنود الاحتلال الذين يحرقون أو يقتلعون شجر الزيتون في فلسطين. ولم يخطر ببالي يوما أنني سأعيش نفس وضعيته، في دوار أيلة بمرنيسة في تاونات.
استولى مستوطن على أرضي، وحرق شجرة زيتونتي. فكرت مليًّا في الأمر، ولم أجد في الأخير فرقا بيني وبين ذلك الفلسطيني. يا للمفارقة، انتبهت إلى أنّني وإيّاه توأمان، كلنا مساكين. الفرق بيننا في البُعد الجغرافي، أنا مُقيم في المَغرب، وهو يُقيم في الضفّة الغربية أو قطاع غزّة. أنا أصارع شبَحًا، فيما يصارع الفلسطينيُّ عدوّا واضحا هو العدوّ الإسرائيلي. يتعدّد الاستيطان، ويبقى في الأخير واحدُ. كلُّ من استوطن أرضًا ليست بأرضه، هو مستوطن ومُغتصب. اكتشفت أن هناك مستوطنون إسرائيليون في فلسطين، يحرقون شجر الزيتون ويستولون على الأرض، وفي المغرب عندنا مستوطنون في كل بوادينا، لا يختلف الأمر كثيرا. حتى عندنا في المغرب، هناك مستوطنون من نوع آخر، قد يكونون إخوة أو جيران وغرباء، يستولون على الأرض. تحضرني عدة حكايات مؤلمة حدثت في البادية المغربية، سمعتها بأذنيّ في محاكم فاس وتاونات، آخرها كانت قصة صديقي الأستاذ عبد السلام، ذهب يوما ليبيع قطعة أرض في ملكيته، وعند وصوله إلى البلدة، وجد أخاه قد أحضر شهودًا زورًا وعدلان، وبتواطؤ معهم جميعا كتبها في ملكيته. ذهب الأستاذ عبد السلام طفلا يحلم بلقاء ذاكرة أبوين ماتا مُبكرا، ورجع رجلا يبكي أرضًا سُرقت منه ظلما، واغتصبت منه قسرا ولم تعُد في ملكيته.
وأنا بدوري، سافرت مسافة طويلة بكل مشاقها، لأصل الّرحم بأرض البلدة التي كبرت فيها، ولكنني وجدت غرباء استولوا على أرض ليست لهم، هي أرضي، وحرقوا شجرة زيتون، هي في ملكيتي. صحيح، أنني مغربي مقيم في مأمن بوطني، والفلسطينيين ليسوا كذلك. أنا لا أسمع مثلهم دويّ انفجارات بالقرب منّي، لا هدير درونات إسرائيلية فوق رأسي، ولا أعاني مثلهم من ويلات حرب ومُضاعفات حصار جائر. وفي المقابل، حرقوا شجرة زيتون لي واستولوا على أرضي. ما الفرق، والحالة هذه، بين ما أعانيه أنا كمواطن مغربي مُستقل وآمن في بلدي؟ وبين ما يعانيه الفلسطيني المُحتل؟ لا شيء، سوى الجنسية وطبيعة الجغرافيا والصراع...!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح