الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذيل السنونو

علي دريوسي

2024 / 3 / 15
الادب والفن


وصلتني ذات يوم رسالة ورقية مكتوبة بخط اليد من صديق لي كان قد هاجر للدراسة في السويد. كنت حينها طالباً في الصف الثالث الثانوي ولا أزال في سوريا بعد. يومها لفتت انتباهي هذه الكلمات التي كتبها الصديق في الرسالة، "الرأسمالية الغربية شريفة، ليست كما كنت أعتقدها وأنا أعيش في قريتي".

أوضح الصديق ما يعنيه من خلال مثال بسيط عن آلية البيع والشراء والتعامل التجاري والثقة المتبادلة بين البائع والمستهلك. كتب على ما أذكر بأن الإنسان قد يشتري طبق بيض يحتوي على عشر بيضات، يدفع الثمن كاملاً حتى لوكان مثلاً ثلاث عشرة ليرة وسبعة قروش، في البيت قد يكتشف الزبون أن في الطبق تسع بيضات فقط أو ثمة بيضة مكسورة، وقد يحدث أن يستهلك بيضة أو أكثر من الطبق ومع هذا يدّعي أنه ناقص، ولهذا السبب يحق له إعادة ما اشتراه، وعلى البائع أن يثق به ويسترد البضاعة منه ويعيد له نقوده دون نقاش بعد أن يلقي نظرة على فاتورة الشراء.

بعد تلك الرسالة بسنوات قليلة سافرت إلى ألمانيا وتعرَّفت على الآلية التجارية لعمل الرأسمالية الغربية، أدهشني هذا النظام المتطوّر وما برح يدهشني بقدرته الشفّافة على تجديد نفسه وتجديد المجتمع الذي يسبح في فلكه. لكني وللأمانة بقيت إلى اليوم مؤمناً بقضية الصراع الطبقي في البلدان الخفيفة ذات الطابع الزراعي والخدماتي ومدافعاً شرساً عن ضرورة الثورة البيضاء ضد شريحة البرجوازية البيروقراطية والطفيلية، المتفسخة أخلاقياً والمتعفنة معرفياً.

العولمة ليست أماً حَنُونة كي تحتضن قوى أو مؤسسات مُحَدَّدة دون غيرها، العولمة إمرأة جميلة بلا لون أو رائحة، ترتدي فستاناً من الأَزْرَار والأسلاك، إمرأة باردة لا وقت لديها للخصوصيات أو الاحتضانات أو المؤامرات الوهمية، إمرأة قدَّمت صداقتها لكل الكائنات دون أيّ تمييز، بعضهم فهم برودتها وعشق كابلاتها ومفاتيحها ومحركاتها ودواليبها، وبعضهم تهيَّأ له أنّه يستطيع محاربتها.

مع بدايات الألفية الثالثة علمت بتأسيس "تجمع لمناهضة العولمة في سوريا" تحت اسم "البديل"، قوامه حوالي عشرة أشخاص يرأسهم شخص عسكري، سجين سياسي سابق، بسيط بالمعرفة والتَخَصَّص والخبرة، حينها لم أستطع أن أتمالك نفسي فسقطت أرضاً من شدة الضحك، وقلت جملتي الشهيرة راجياً من الله ألا أكون قد جرحت مشاعره:
"يا لسخرية القدر، عسكري فقير المعرفة يريد مناهضة العولمة!"

تقول الرأسمالية: "التحدي الذي يواجهنا يكمن في أن نمنح الزبون شيئاً يريده، ولكن لم يعرف أبداً أنه كان يبحث عنه، وعندما يحصل عليه يعلن بسرور بأنه طالما كان يريد ما حصل عليه".

في بلدان الغرب الرأسمالي أموال لا تأكلها النيران، شركات عملاقة وإمكانيات وفرص هائلة للعمل والنهوض، مساحات ضخمة للسكن والبناء والزراعة وفضاءات وحريات لا يمكن تصورها للتوسع والتعلم والتطور والحلم. كل من هرب من بلده واستطاع الوصول إلى أحد بلدان أوروبا الغربية تراه يعيش حياة ترف وهناء ونعيم وأمان واستقرار على كافة الصعد الإنسانية والجمالية والسياحية والغذائية والسكنية والطبية والمالية والتعليمية. مستقبله ومستقبل أولاده مؤمّن ضد البرد والمرض والجوع والفقر والضياع والإفلاس.

كل ما يبيح لكم به الهاربون عن الحنين واللوعة والاشتياق والعذاب والوطن والمشاعر القومية ما هي إلا مجرد حالات عابرة وأوهام وأقوال غير صادقة في معظمها، لأنهم لن يفكروا يوماً بالرجوع حتى لو استقر الوضع في بلدانهم بالمطلق، لكنهم يريدون، بحكم أنانية وجشع الإنسان، أن يمتلكوا هناك قدر المستطاع طالبين من الأقرباء الإشراف على ممتلكاتهم وحمايتها دون مقابل، يريدون أن يضعوا قدماً قوية في بلدان الهروب والعطايا وقدماً مريضة في الوطن الأم، بلد الولادة والترعرع.

وعلى الجانب الآخر، نجد أن أَضحكْ شيء وأَكذبْ شيء حين يقول أحدهم للناس ـ كما اعتاد منذ سنوات "سأبقى في مرسمي أو مكتبتي أو داري ولن أغادر بلدي، وطني الأم، وسأبقى ألعن الرأسمالية وأبصق في وجهها" .. في الوقت نفسه يكون قد سفّر أولاده وأمّن عليهم في بلدان العطايا وقبل ذلك قد يكون بل سيكون أخوه / أخته / أخواته في أحد هذه البلدان .. أما هو فقد كبر بالعمر ويجب أن يبقى في بلده حارساً وفياً لنرجسيته ولممتلكات العائلة واستثمارات أولاده وأخوته .. وهو يعلم سلفاً أن سفره يعني فقره المادي والروحي والعاطفي .. مثل هؤلاء الناس يزدهرون (أيضاً) في ظروف الفقر العام والأزمات الاجتماعية والسياسية.

ذهبت البارحة إلى مكتبي في الجامعة، هناك وجدت بأن آلة صنع القهوة خاصيتي قد صارت قديمة ومملة. وهكذا فقد قرَّرت صباح هذا اليوم الذهاب إلى أحد المحلات لبيع القطع الكهربائية لشراء آلة جديدة، بعد أن "غوغلت" إنترنيتياً عن العروض المتوفرة والمناسبة لمكتب. في المحل انتقيت آلة صغيرة الحجم وسهلة الاستعمال من ماركة "نسكافيه دولتشي غوستو" بعد أن تم تنزيل سعرها بنسبة سبعين بالمائة. هذه الآلة مصممة في الحقيقة بطرقة عصرية رشيقة واقتصادية، وبكبسة زر يستطيع الواحد أن يطبخ أنواع عديدة من القهوة والمشروبات الشبيهة وبمذاق رائع وطيب.

دفعت ثمن الآلة حوالي أربعين يورو، عدت إلى المكتب مباشرة وهناك فتحت علبة التغليف الكرتونية لأجد في داخلها، كما في داخل كل علبة، دليل التشغيل ومعه كوبوني شراء كهدية بقيمة أربعين يورو. ابتسمت راضياً وصرفت الكوبونين "أون لاين" واشتريت بقيمتهما تسع علب من كبسولات القهوة بأنواع متعددة، مائة وعشرون كبسولة، أي مائة وعشرون فنجان قهوة كبير، هذا يعني أنني ساشرب القهوة لمدة أربعة أشهر مجاناً، دون مقابل. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن تكلفة فنجان القهوة من ماكنات الشوارع أو ماكنات الأبنية الحكومية أو القطاع الخاص حوالي واحد يورو، فهذا يعني أنني وفرت على نفسي مبلغ مائة يورو على الأقل.
والأنكى من هذا هو أن للآلة كفالة (ضمانة) لمدة سنتين، فهذا يعني أن للمستهلك (الرخيص) الحق بإرجاع الآلة متى شاء - كما له الحق بإرجاع صحن البيض الناقص حتى لو لم يكن في الحقيقة ناقصاً - وشراء آلة جديدة والحصول على كبونات جديدة وشراء كبسولات قهوة وشرب فناجين القهوة مجاناً وهكذا دواليك إلى آخر عمر العرض.

إذا بقينا، على سبيل المثال لا أكثر، نعتقد أن إسرائيل هي العدو الأول والوحيد لنا (وهي كذلك كما تعلمون)، أو أن الحزب الدكتاتوري الحاكم هو الحزب الوحيد القادر على إنقاذ البلد من مآسيه، أو أن النظام الإسلاموي أو القومي أو الشيوعي هو البديل الوحيد لحياة أفضل، أو إذا بقينا لا نرى في الرأسمالية إلا ذاك الأخطبوط الذي يسعى لاستغلالنا وإفقارنا، فإننا حينها لن نتتطوّر أو نتجدّد وسنبقى متقوقعين وفقراء وعاجزين عن الاستكشاف.

لا بد إذاً من تفتيت الرؤى والأفكار القديمة بشكل إبداعي وابتكاري لنتمكن من التفكير بحلول جديدة لم تكن قد خطرت على منظومة تفكيرنا سابقاً. هذا ما أحاول تعليمه لطلابي الجدد منذ اليوم الأول لدخولهم قاعة محاضراتي. أعرض عليهم أحياناً أنموذج تصميم ثلاثي الأبعاد وأقول لهم: ما ترونه هنا هو مكعب من الألومينيوم، أوجهه الأربعة متشابهة ومكوّن من قسمين علوي وسفلي، تم ربطهما كما هو ظاهر في الصورة بواسطة ما يسمى "دليل ذيل السنونو". ثم أطلب منهم تفكيك المكعب (أي إبعاد القسمين عن بعضهما البعض) دون تخريبه أو كسره ودون استخدام اقتراح الحرارة العالية. أخبرهم بأن هناك طرقاً كثيرة لتفكيكه. أنصحهم بالتفكير العميق الهادئ وأشجعهم على استعمال عقولهم المجّانية وقلم رصاص وورقة بيضاء.

بعد حوالي الساعة أجمع الأوراق التي اِستخدمها الطلاب لرسم وكتابة وتمثيل مقترحاتهم لحل السؤال، لأكتشف لاحقاً أن أكثر من ثلثي الحلول خاطئة. وحالما أعرض لهم بعض المقترحات لتفكيك المكعب أراهم يتأوهون من شدة السرور بالمفاجأة، يضربون بقبضات أياديهم على الطاولات ندماً لعدم قدرتهم على التفكير خارج الصندوق بغية التدمير الابتكاري لأفكارهم وتصوراتهم القديمة عن كيفية تجميع المكعب، الشيء الذي لم يمكّنهم من فتح النوافذ للإبداع وتحرير الحلول البديلة الكامنة وجعلها تطفو إلى ساحة وعيهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا