الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قطارات القاص خالد مهدي الشمري

محمد عبد حسن

2024 / 3 / 15
الادب والفن


(1):
يكتسب القطار صفة الحياة من حياة ركّابه؛ وكأنّهم، بذلك، يعطون بعضًا من حيواتهم إلى حياته. بغير ذلك.. لا يعدو القطار عن كونه جسد من حديد جاثم فوق قضبانه.. أو مجرد عربات مركونة في جوانب مهملة من المحطات.
وإذا كانت القطارات قد استخدمت، منذ بنائها الأول في بدايات القرن التاسع عشر، كوسيلة لنقل الناس والبضائع.. فإنها أوجدت شكلًا من التجمعات البشرية، وجدت لتفترق بسبب قصر حيواتها التي تعيشها فيه، والتي تبدأ من رصيف محطة المغادرة.. لتنتهي على رصيف محطة الوصول.
في المكان.. أين نضع القطار؟ القول بأنه مكان مغلق صحيح تمامًا، فهو يصبح كذلك بعد إطلاق صفّاراته وبدء دوران عجلاته محدثة ذلك الصوت الذي كنّا نقلّده، في طفولتنا، بالضرب المتناوب على صدورنا وأفخاذنا، حيث تغلق بوابات عرباته وغرفه بشتّى مسمّياتها. إلا أنّه ليس مكانًا مغلقًا بشكل كامل.. فنوافذه الكبيرة والكثيرة، وهامش الحرية الضيق للتجوال بين عرباته تكسر هذا الانغلاق. وهو مكان متحرّك، غير أنّ حركته مقيّدة بقضبانه! وحركته إلى الأمام تقابلها حركة في رجوع الذاكرة للخلف.
وإذا كانت السيارة، وما تزال، تُنبئ عن الواقع الاجتماعي لصاحبها.. فإنّ القطارات كذلك أيضًا. والمتفحص للوحة (ركاب الدرجة الثالثة) للرسام الفرنسي (هونوريه دومييه) يدرك ما هم عليه من بؤس واستسلام.
لا يمكن فصل القطار عن محطّاته.. فهي التي تضخّ فيه الحياة وتسلبها منه عبر صعود ونزول ركّابه؛ فقطارات الحمل لا حياة فيها.. ولا حكايات لها إلا بالقدر الذي يضيفه لها أولئك المتشبثون بها في المناطق المقطوعة، الهاربون من خوف يتربص بهم. ولعلّ الحكاية الأشهر لقطارات الحمل هي حكاية (قطار الموت) في العراق حين وهب أكثر من (500) سجين سياسي جزءًا من أعمارهم لتخليده.. كان ذلك في الرابع من تموز عام 1963.. والحكاية معروفة.
(2):
القاص، كما هم المبدعون عمومًا، هو ابن بيئته.. ينتقي شخوصه منها، ويحرّكها فيها. فلا حدث بغير مكان يجري فيه، ولا مكان بغير شواخص تعرّفه وترسم صورته. ولئن كان السرد، في بداياته، قد اعتبر المكان مجرد حيّز تجري في الأحداث.. فإنه لاحقًا تجاوز ذلك معطيًا المكان مهمة الدلالة على الشخصيات.. بل والبطولة أحيانًا.
في العراق.. "كانت قصص القطار الخمسيني ظاهرة استثنائية في موضوعتها وتراتبها وظهورها عند كتّاب ذلك الجيل، فقد كتب فؤاد التكرلي قصته القصيرة (العيون الخضر) 1950، ومهدي الصقر (بكاء الأطفال) 1950، وعبد الملك نوري (ريح الجنوب) 1952، ومحمد روزنامجي (قطار الجنوب) 1954، وكتبت (القطار الصاعد إلى بغداد) 1954"(1).. والأخيرة للقاص الرائد محمود عبد الوهاب.
طافت قراءتي هذه في ثلاث مجموعات قصصية(2) للقاص خالد مهدي الشمري، ورد القطار في سبعة نصوص منها. وباستثناء قصة (صفير القطار السريع).. غابت مفردة القطار عن عناوين النصوص.
والقاص، في كلّ نصوصه محلّ القراءة، يرسم لنا شخصيات غارقة بوحدتها.. نجدها في قطارات فارغة، أو هكذا تبدو. فالشخصيات، ومن ورائها القاص، لا تقدّم لنا وصفًا ولا ظهورًا لأيّ من ركاب هذه القطارات.. باستثناء واحد هو قصة (لما.. أنا) حيث تظهر شخصية (زكي أبو عيون).
(3):
يتنوّع تناول القاص للقطار في نصوصه وتوظيفه له. ففي قصة (خيول الأرواح)(3).. لا يعود القطار مجرد كائن متحرّك بين مكانين، بل يُضيف إليه، أو هكذا يريد منه أن يكون، كونه وسيلة للوصول إلى الحقيقة. وهو قطار يقدّمه دون تعريفه، لا بـ(الـ) التعريف.. ولا بإضافته إلى معرفة، في محاولة منه لتهيئة ذهن المتلقّي لقبّل فكرة أنّه أمام قطار مختلف: فلا محطات.. ولا ركّاب! قطار تتحول كلّ جوانبه لزجاج شفّاف متماهيًا مع السبب الذي من أجله توجّه إليه إثر لحظة فضول عارمة: "لحظة فضول عارمة.. تختلط الدماء في ساحة ليست للمعركة.. توجهت نحو قطار للبحث عن الحقيقة، لكنّي كنت وحيدًا في عربتي، وكانت كل زواياها زجاجًا شفّافًا".
من خلال حركة القطار.. وعبر نوافذه وجوانبه الشفافة، نرى حقيقة ما جرى في مدينة تحوّلت، كلّها، إلى ساحات معارك؛ وهو السبب الذي من أجله حوّل القاص جدران القطار إلى زجاج شفّاف.. وكأن نوافذه، على سعتها، لا تكفي للوصول إلى الحقيقة: "جسر مائل من طرفيه؛ فوزن الأموات كان ثقيلًا جدًا.. ما أدهشني وجود عوارض أسمنتية تفصل بين الأموات، لكنّ دماءهم تتلاقى وتتجمع أسفل النهر".
في (صفير القطار السريع عال)(4) يحضر القطار في العنونة ويغيب عن المتن السردي مكتفيًا بصفته (قطار العمر).. عرباته مثقلة ومحمّلة بالذكريات.
(4):
في نصّه (سفر إلى الأبد)(5).. يختزل السارد قطاره بعربة واحدة لا نعرف عنها شيئًا.. وفتاة تختار مقعدها بعناية، عند نافذة كبيرة، في قطار على وشط الانطلاق. ومع أنّ النافذة تمثّل أقدم وسيلة اتصال بين عالمين مختلفين: داخل محدود وخارج متسع.. مع ذلك.. فهي لا تحقق غرضها في النص؛ فبدلًا من كشفها مساحات وفضاءات جديدة للفتاة الجالسة في الداخل.. فإنّها تقدّم لها في كلّ مرة تفتح فيها عينيها "منظرا مفرعا، أطلال البيوت والخرائب، وكأنّ المكان مقبرة مهجورة موحشة".. الأمر الذي يجعل الفتاة تهرب من نافذة القطار تلك إلى نافذة أخرى تنفتح مع إغماضها عينيها: "فقررتْ أن تغمضهما، فكانت الفراشات تنفرد في مخيلتها، طفولتها، وجدائلها، والزقاق، .......".
في قصة (على حافة الخوف)(6).. نجد قطارًا محايدًا، لا وظيفة له غير إيصال الجندي الملتحق إلى وحدته العسكرية. ولو استبدل القاص موقف الحافلات بمحطة القطار.. والحافلة بالقطار لما تغيّر شيء ممّا يقدّمه النص.
(5):
يتعامل القاص خالد مهدي الشمري، في نصّه (ذاكرة الملح)(7) مع القطار بشكل مغاير مستعيرًا منه نوافذه فقط. ففي حين يكون اتجاه النظر، في أغلب سرديات القطارات، من داخل القطار إلى خارجه.. نرى هنا أنّ نوافذ القطار تتحوّل إلى مجرد شاشات عرض لمشاهد يتابعها، من على الرصيف: شخص يقف هناك. فبدلًا من تتابع الصور عبر نافذة واحدة.. فإنها تتبع بعضها مع حركة النوافذ.
كهل يقترب من السبعين.. توصيه زوجته بإحضار الخبز والملح.. فيما يفضل هو تأجيل الطلبات لممارسة متعته الكبيرة: "نعم عمري الآن يقارب السبعين. لا تنتهي الطلبات أريد اللحاق بالقطار والجلوس أمام النافذة متعتي الكبيرة"، لينتهي تتابع الصور بمرور آخر عربة من عربات القطار.. وليس بوصوله إلى محطته الأخيرة.
وفي حين تقدّم لنا قصة (لما.. أنا)(8) صورة نمطية للقطار بصفته مكان للقاء غير مرتقب.. يجيء نص (مكان خالٍ)(9) ليرسم لنا صورة للقطار مقاربة لما هو عليه في (ذاكرة الملح)، إلا أنّ الفتاة هنا، وهي تقف أمام نافذتها كلّ يوم، لتراقب القطار وهم يمرّ سريعًا.. لا ترصد غير تغيّر شكل العربات وألوانها: "مع تغيّر شكل العربات وألوانها، لا تتغيّر تلك المجسمات التي تراها داخل العربة وهي على شكل ظلّ أشبح سوداء". زمن يبدأ بمرور القطار حاملًا معه "ذكريات لم يتبق منها سوى إطار صورة فارغة معلّقة على الجدار".. ويتوقف بانتهاء مروره "على صورة عجوز يعكسها زجاج النافذة في مكان خال".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): جريدة المدى / العدد 1658 / المدى الثقافي – 17/11/2009.
(2): المجموعات هي:
- غبار الأرواح / قصص قصيرة / ط1 / 2020 – دار النخبة للطباعة والنشر والتوزيع – مصر.
- جذور عنيدة / مجموعة قصصية / ط1 / 2020 – دار النخبة للطباعة والنشر والتوزيع – مصر.
- أنا .. الظل / قصص / ط1 / 2022 – منشورات الإتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق.
(3): مجوعة (غبار الأرواح) .. ص18.
(4): مجموعة (غبار الأرواح) .. ص 68.
(5): مجموعة (جذور عنيدة) .. ص 58 .
(6): مجموعة (جذور عنيدة) .. ص 86 .
(7): مجموعة (أنا .. الظل) .. ص 9 .
(8): مجموعة (أنا .. الظل) .. ص 18 .
(9): مجموعة (أنا .. الظل) .. ص 47 .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا