الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أدب التوقيعات ، ذلك الفنّ المنسي

علي فضيل العربي

2024 / 3 / 15
الادب والفن


عرّف الأديب والعالم اللغوي المصري شوقي ضيف فنّ التوقيعات على أنها "ا عبارات موجزة بليغة تعوّد ملوك الفرس ووزراءهم أن يوقعوا بها على ما يقدم إليهم من تظلمات الأفراد في الرعية وشكاواهم ، وحاكاهم خلفاء بني عباس ووزراؤهم في هذا الصنيع ، وكانت تشيع في الناس ويكتبها الكتاب و يتحفظونها و ظلامته ، وقد سموا الشكاوى والظلامات بالقصص لما يحكي من قصة الشاكي و ظلامته ، وسموها بالرقاع تشبيها لها برقاع الثياب. " *
و هي من الفنون السرديّة المنسيّة في الأدب العربي المعاصر . فقد ازدهر فنّ التوقيعات في العصر العباسي الأول . شأنه في ذلك شأن فن المقامة ، الذي عرف شيوعا و ازدهارا في العصر العباسي الذهبي ، على يد بديع الزمان الهمذاني ، و الذي كان – بحق – فنّا سرديّا راقيّا ، احتوى على فنيّات القصة القرآنيّة ، و فنيّات القصة القصيرة الغربيّة ( جي . دي .موباسان ، و تشيخوف ، إدغار آلان بو ) . دون أن ننسى الذهبيّات السرديّة أبي عُثْمان عمَرُو بن بَحر المعروف بالجاحظ في مصنّفه الفريد " البخلاء " .
كان العرب قبيل الإسلام ( العصر الجاهلي ) ، يعيشون في نظامهم القبلي و العشائري ، و كان الشعر هو ديوانهم الأول ، بلا منازع . أمّا النثر فقد حظّه كحظ الشعر في حياة الإنسان الجاهلي . و لم يتجاوز فنون الخطابة و الوصيّة و الأمثال و الحكم ، و هو أقصى ما كانوا يحتاجونه في إدارة حياتهم اليوميّة .
و عندما نزل الوحي على رسول الله ، سيدنا محمد صلّى الله عليه و سلّم ، و سمع عرب الجاهليّة ، الذين أسلموا أو الذين لم يسلموا ، آيات القرآن الكريم ، بُهتوا من عظمة أسلوبه ، و إعجاز ألفاظه و معانيه . فانفتحت عقولهم على بحر من الإيجاز و الغنى اللفظي و العمق الدلالي و الفكري ، وازدادت لغة العرب العاربة و المستعربة قوّة و عمقا و شيوعا .

و قد اندرج فنّ التوقيعات ضمن فنّ التراسل . و هو فنّ عريق في الأدب العربي ، و هو ضربان : رسائل ديوانيّة ، تتناول شؤون حكم الرعيّة و سياستها ، و رسائل إخوانيّة متبادلة بين الأدباء و الشعراء و المؤرخين و عموم كتاب السرد ، حول المسائل الذاتيّة و الفكريّة و العاطفيّة و الفقهيّة و غيرها ممّا يشغل الفكر الإنساني . حتى قيل : بدأت الكتابة بعبد الحميد الكاتب و انتهت بابن العميد . و لكن الحقيقة أنّ فن التراسل بين الأدباء و الشعراء و الساسة لم يتوقف وإنّما ضعف أسلوبه و لفظه و قلّ شأنه بين الأدباء أنفسهم ، و لم يعد يشغل الكتاب و المبدعين لا النقاد المعاصرين ...
جاء في إحدى التوقيعات ، ما يلي : ( كثر شاكوك ، و قلّ شاكروك ، فإمّا اعتدلت ، و إمّا اعتزلت ) .
و هي كما يبدو توقيعة موجّهة إلى حاكم أو وزير أو خليفة أو الوالي ، لوحظ انحرافه عن سياسة العدل في رعيّته . و متضمّنة النصيحة و الموعظة الحسنة و الحكمة بأسلوب ليّن و هادئ و رزين ، بعيدا عن أسلوب التهديد و الوعيد ..
في هذه التوقيعة ، يظهر لنا سحر اللغة العربيّة و أسلوبها الموجز . و جمال بيانها و بديعها . فقليل لفظها يغني عن كثيره ، و معانيها واضحة القصد . فهي تحرّك العقل قبل القلب ، و الفكر قبل العاطفة . كما تبرز للقارئ عبقريّة كاتبها ، الذي أبدع في الإيجاز غير المخلّ بالمعنى و الهدف ، و صبّ فيه بحرا من المعاني و الأفكار و العواطف ، و اختصر زمن الكتابة و القراءة ، و جنّب المرسل إليه ، مغبّة المجاز و التأويل .
إنّ الأدب العربي زاخر بكنوز من الفنون الأدبيّة في جميع أصناف السرد و الشعر . فلم نكن في حاجة إلى استبدال المقامة بالقصة الغربيّة . و القول أنّ العرب لم يعرفوا فنّ القصّة إلا بعد اتّصالهم بالغرب ، و تأثرهم بآدابه . هو ترّهة فجّة و ادّعاء باطل ، أملاه علينا منطق المغلوب يتبع الغالب ، كما قال ابن خلدون . إنّ العرب عرفوا فن القصّة قبل الغرب بقرون ، و من هنا وجب علينا ، الاعتراف بالخطأ ، دون خجل ، و تصويبه ..
و بالعودة إلى فنّ التوقيعات ، الذي ازدهر في العصر العباسي ، سأورد نماذج من تلك التوقيعات :

وقّع الخليفة أبو العباس السفاح على كتاب عددٍ من أفراد بطانته الذين اشتكوا حبس أرزاقهم "من صبر في الشدة شارك في النعمة ".
وقّع الخليفة أبو جعفر المنصور لواليه في مصر عندما شكى له نقص مياه نهر النيل " طهر عسكرك من الفساد ، يعطك النيل القياد ".
وقّع الخليفة هارون الرشيد في حادثة البرامكة " أنبتته الطاعة ، وحصدته المعصية " .
ووقع إلى والي خراسان " داوِ جرحك لا يتسع " .

و هي توقيعات ، اتّسمت بعديد من الخصائص الفنيّة ، اهمها :
تعددت سمات التوقيعات وخصائصها ، ويمكن اختصارها بالعناصرالتالية :
تتميّز التوقيعات من حيث الأساليب بمتانة التركيب و الصياغة الدقيقة ، و الجمع بين الخبر و الإنشاء والإيجاز . أما معانيها ، فهي قويّة الدلالة ، مباشرة . نافذة التأثير. ، متضمّنة بعض الاقتباسات المأخوذة من القرآن الكريم ، أو الأحاديث النبوية الشريفة ، بالإضافة إلى الأمثال ، والحكم ، وأبيات من الشعر .
إنّ فنّ التوقيعات يدل على ذكاء مؤلّفه ، و على قدرته في توظيف الصور البلاغيّة ، كالاستعارات و التشبيهات و الكنايات و المجازات المرسلة . و هي ( التوقيعات ) ، و إن كانت موجزة اللفظ ، لكنّها غزيرة المعاني ، قويّة التأثير في النفس ، جامعة بين إصابة الهدف أو الغرض ، و قلّة المؤونة اللفظيّة . إنّها مثال دال على عبقريّة الذائقة الإبداعيّة العربيّة ، و على عشق العرب للإيجاز اللفظي و المجاز اللغوي . و قد قالت العرب قديما " خير الكلام ما قلّ و دلّ " . كما ذمّ العرب الرجل المهذار ، و أعابوا على الرجل ، إذا كثر كلامه في غير فائدة . و أطلقوا على من قلّ لفظه و أنزله موضعه ، صفة الحكيم .
إنّنا في حاجة ماسة إلى إعادة قراءة تراثنا العربي و الإسلامي الأصيل ، من جديد ، قراءة علميّة متأنيّة ، هادفة ، خاليّة من الانتقاء المذهبي و الميل العاطفي ، عقليّة ، ذكيّة ، و خالية من ترّهات الاستشراق الغربي . و أن نتلافى دراسات المستشرقين الشرقيين و الغربيين و قراءاتهم ، إلا النادر منها .




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش :
* رفيع أحمد ، " قراءة في فن التوقيعات العربية وإيجازه . قراءة أنموذجية للعصور المختلفة " ، مجلة أقلام الهند ، بتصرّف .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة


.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات




.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي