الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول رحلة المس بيل (من مراد الى مراد)

قيس كاظم الجنابي

2024 / 3 / 15
الادب والفن


-1-
ولدت فرتود مرﭪريت لوثيان بيل سنة 1868م في مقاطعة بوركشاير ببريطانيا ،وهي ابنة السير هيو بيل الأولى وحفيدة إسحاق لوثيان الاسكوتلندي الأصل ،المعروف بتخصصه بكيمياء المعادن.
كان لها مهارتها في اللغتين الفرنسية والألمانية؛ فضلاً عن لغتها الام الإنكليزية ،وفي سنة 1899م جردت نفسها للرحلات الواسعة على صهوة جوادها أو على ظهور الجمال في حواضر البلدان العربية وبواديها، فكانت في هذا الميدان ثاني امرأة بعد الليدي آن بلنُت ،وقد شوهدت في حيفا بفلسطين سنة 1900م، تتلقى دروسها باللغة العربية، فكانت على اتصال برحلات الكولونيل لجمان الذي قتله الشيخ ضاري المحمود، شيخ قبيلة زوبع، في خان النقطة(خان ضاري حالياً)، وكان لها الفضل الكبير بالاتصال بشيوخ العشائر العراقية قبل الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1917م، وخصوصاً الشيخ فهد بيك شيخ مشايخ عنزة وعلي السليمان شيخ مشايخ الدليم.
عرفت المس بيل بوصفها سكرتيرة المندوب السامي البريطاني بالعراق، ومقره بغداد، وكانت تبعث برسائها الى زوجة أبيها لتخبرها بما كانت تشاهده وتقوم به، فصارت تلك الرسائل مصدرا من مصادر تاريخ العراق المعاصر، كما كتبت كتابها عن العراق(فصول من تاريخ العراق القريب)،ولها رحلة لم تترجم كاملة الا بعد مدة طويلة ،وهي المعنونة(من مراد الى مراد)، ظهرت طبعتها الأولى في لندن سنة 1911م،والثانية سنة 1924م، وكانت تسمى في العراق (الخاتون)أي السيدة(أو سيدة بغداد) تشبيها بزوجات ولاة بغداد أ وزرائها، ولها كتاب عن حصن الاخيضر كجزء من اهتمامها بعلم الآثار، فقد كان الرحالة والجواسيس الاوربيون يتجولون في العراق بصفة علماء للآثار يدونون ملاحظاتهم [راجع مقدمة عبد الحميد العلوجي لرسائها]،وينتشر الطابع الذاتي لرحلتها ورسائلها .
لم تدرس الدكتورة رهبة أسودي حسين رحلات المس بيل في كتابها (المس بيل بين الفصول والرسائل)،وكان عليها ان لا تغفل ذلك، لأن رحلتها (من مراد الى مراد) احتوت الكثير من سيرتها وانطباعاتها عن العراق والشام ،وعن العشائر والمجتمع ،وعن حصن الاخيضر، واكتفت بالقول:
" أما الرحلات ومدونات شركة الهند الشرقية والمؤلفات الأجنبية كانت عامرة بالوهم . والغموض والخرافات مستعرضاً أسماء ومؤلفات عدة كتبت بهذا الصد وصولاً الى مطلع القرن العشرين".[اص17/ دار الشؤون الثقافية العامة(بغداد،2021م)]
كتبت المس بيل مقدمة لرحلتها (من مراد الى مراد) كما هو مؤرخ (أكتوبر 1910)وكانت قد بدأتها في 3/شباط/ 1909 وانتهت منها في 1/تموز/1909؛أي انها شملت الأشهر(شباط، آذار، مايس، حزيران) في أربعة أشهر تقريباً، وهي مدة لا بأس بها، وخصوصاً وانها قضتها لتسجل ملاحظاتها، وهي تجوب الصحاري، ولكنها وقعت في الكثير من الأخطاء في أسماء الأمكنة والعشائر والشخصيات، لأنها تستقيها من أفواه الناس البسطاء والاميين الذي يصادفونها في طريق رحلتها، وان كانت لا تخلو من بعض الفوائد التاريخية والجغرافية، على خلاف كتابها (فصول من تاريخ العراق القريب) الذي يؤرخ لبدايات الاحتلال البريطاني وترسيخ وجوده.
-2-
عندما نشرت هذه الرحلة سنة 1911م، كتب الناشر البريطاني بجانب اسمها مؤلفة كتاب (الصحراء وما بدت)، كنوع من الترويج للرحلة، والتنويه الى علاقتها بالصحراء ذلك العالم الساحر بالنسبة لهم، ثم استهلت كتابها ببيت لاحد شعراء المعلقات العرب، لبيد بن ربيعة العامري:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع وتبقى الجبال بعدها والمصانعُ
في إشارة الى الإرث والاثار وقدرتهما على مكافحة الزمن والاندثار ،وعلاقة ذلك بالأطلال والحنين الى الماضي؛ فكانت مقدمة المس بيل عبارة عن رسالة موجهة الى (اللورد كرومر)، تقول فيها:" وقد تمكنت من أجلس وحدي لأكتب قصة الخطوط المنقوشة على وجه هذه الأرض الخالية ،وعلام ازدهرت تلكم الحضارات ثم اندثرت".[ص9/ ترجمة عبدالهادي فنجان الساعدي، دار ومكتبة عدنان(بغداد، 2020م)،]
تتصف رحلة المس بيل بأنها تسجيل للحياة اليومية للناس الذي تتصل بهم وتكتب عنهم ملاحظاتها عن مناطقهم، ولما كان كرومر واحداً من رجالات الاحتلال البريطاني لمصر ، فانها تقول له:
"بالنسبة لك، منظر النهر والصحراء العازمين - كما في قطرك أرض النخيل – على شق طريقهما بكل طاقاتهما المدمرة(....) يتبّع المنتصرون خطى المنتصرين، تنهزم الشعوب وتسقط العواصم على التراب ،ولكن حالات الكينونة لتلك الشعوب غير قابلة للتغيير بشكل لا يقاوم، لقد صاغوا العصر الجديد شبيهاً بالماضي، مراد يورثها مراد القصة تحكي ثانية".[ص11]
وهذه إشارة الى عنوان الرحلة، حول ثبات التقاليد والقيم والافاعيل التي تقوم بها الشعوب وهي مدينة بكل حياتها الى ماضيها، ثم تقول:
"لقد رأيت آخر مراد يورث العرش الى مراد ويبتهج مع كل أولئك الذين يحبون العدل والحرية وهم يسمعونه يصرح بآرائه كان عبد الحميد ضعيفاً كما أصبح بعدئذ بين أيدي نساجي المكائن وكان رمزاً للتقهقر والرجعية".[ص12]
في إحالة الى نهاية الدولة العثمانية وتقاسم ممتلكاتها من قبل الدول الاوربية الاستعمارية، فوصفت الأشهر الأربعة التي قضتها في الرحلة بانها كانت أشهر ترقب وقلق وحتى رعب. وقد جعلت الفصل الأول بعنوان( من حلب الى تل أحمر) من 3-21 شباط 1909م، حيث زارت تلك الأمكنة، وهي تعد حلب بوابة الشرق ،أو موطن الصناعات الشامية، وكانت وقتها تشتري بعض اللاوازم لسفرها وما يخصّ حصانها من مستلزمات كالرسن والسرج وما شاكل ذلك، وكأنها تريد ان توحي لنا بان العراق مرتبط بمحيطه الغربي عبر البحر الأبيض المتوسط، ودليله الى الخليج العربي، عبر البصرة، في حلقة ممتدة من رحاب الشام الى رحاب بغداد، مما يعني ان رحلتها ترتبط مكانياً بتلك الأزمنة التي ستشكل واحداً من مطامع أوربا في الشرق وتمتد اليها؛ لهذا قالت :
" اذا كانت هناك بوابة من حلب فأنا لا أعرفها. مجتمع ذكوري، مبانٍ رائعة، اذ كان للاحاسيس بالتقاليد العربية الجميلة اجتمع ليعطي المدينة طابعاً حاداً وخاصاً بها. وأكثر من ذلك فان أيّ مدينة سورية تبدو مفعمة بالنشاط المتأصل".[ص21]
ديدن المستشرق البحث عن الاثنيات والأقليات والاختلافات المثيرة، المرتفعات والبيوت والمساجد ودور العبادة والصناعات والاثار القديمة، فيحاول قدر الإمكان اكتشاف الهويات المغايرة والمتعددة؛ فهذه المس بيل تبحث عن النصارى والكنائس واليهود والاعمال التجارية والعادات الاجتماعية والقيم الأخلاقية والاضطهاد العثماني للشعوب التي تقع تحت سلطة الاتراك، لتحريضها على الثورة ،وتحاول منح المسيحيين اهتماماً أكثر حين تقول عن مسيحي حلب" كانت همم سكان حلب المسيحيين قد ثبطت بقسوة المندوبين الستة الذين مثلوا الولاية. لقد قابلت في بيت صديق اعتيادي عضواً مميزاً من الجالية المسيحية والذي سلط مقداراً كبيراً من الضوء على هذا الموضوع. لقد بدا بالملاحظة بأنه حتى ولاية بيروت التي فيها الأغلبية من السكان مسيحيين فان التعيين كحاكم غير مسلم سيكون غير ممكن".[ص27]
ثم تشير الى القبائل العربية التي كانت تختفي وتظهر على طول نهر الفرات وبلاد ما بين النهرين ، من الناحية التاريخية الراسخة لا يمكن ان نعد معلومات المس بيل عنها وثيقة تاريخية مهمة لانها تستقي معلوماتها من أفواه الناس والرعاة والفلاحين ،لكن مشاهداتها المباشرة لها أهمية جغرافية؛ وفي الغالب تتمتع بخيل واسع ورغبة في تدوين الحكايات الشعبية التي يتداولها عامة الناس، كما في حكاية الجركسي عن(الشيخ عقيل) الذي عاش في عهد تيمور لنك فاتح البلدان وحاكمها مدة من الزمن.[راجع ص336]
لقد نال (تل أحمر) الاهتمام المتميز في رحلتها، وطبيعة الأرض، فهي تقول:" ان حرف الأرض الغرينية هو الذي يؤشر خط الاسوار التي تحصر ثلاثة جوانب من متوازي الاضلاع، والنهر نفسه يتولى الجانب الرابع لهذا الموقع".[ص67]
ولأنها رحالة في استذكاراتها وملاحظاتها ومشاهداتها تتأرجح بين الماضي والحاضر، بين مكان الرحلة والاطوار التاريخية التي مرّ بها المكان، بين حياة الناس في العصر العثماني ،وبين الماضي البعيد، حيث تشكل(المادة التاريخية) في الغالب وسيلة للتشويق وبث الأفكار المسمومة، المتشككة والمريبة، لزعزعة الذاكرة الإنسانية (العربية الإسلامية) حتى تستوعب المتغيرات القادمة بفعل الاحتلال البريطاني القادم، وهي بوصفها آثارية لا تمتلك القدرة الفاعلة على تمييز الاثار وقراءة النقوش، وان كانت تمتلك القدرة على الوصف والمراوغة ؛وهمها الأساسي تشويه الحضارة العربية الإسلامية، وترسيخ الحضارات الأخرى كالرومانية والفارسية واليونانية، فبحثها عن حصن الاخيضر، واصرارها على انه حصن فارسي وهذا واحد من الافتراضات غير الدقيقة مع انه معروف كصن إسلامي عباسي لصد هجمات البدو على بلاد ما بين النهرين.
الملاحظات الاقتصادية التي تتعلق بحياة الفلاحين في حلب أهمية كبيرة لدراسة وضع حلب وغيرها من الأقاليم في تلك المرحلة، وهي تشير الى أدوات الحراثة وطبيعة العمل، كما راتها بحيث تشكل ملاحظاتها مادة غنية في فهم طبيعة الحياة الريفية في سنة 1909م، حين تقول:
" لقد عاد السكان الى الحراثة كما طلب منهم ذلك تجار حلب وسلفوهم النقود. أو دخلوا في الشراكة الزراعية مع مالكي الأرض العرب، واذا كانت سكة قطار بغداد تأتي من الطريق كما نتوقع بكل ثقة فان المردودات سوف تتضاعف أو تصبح المنتجات أغلى ثلاث مرات".[ص77]
لماذا حزرت المس بيل ذلك؟
لانها استنتجت ان إدارة الأرض والزراعة تقوم على وجود ثلاثة عناصر حتى يمكن زراعة الأرض: الأول ،هو الفلاح المظلوم. والثاني، الاقطاعي ملك الأرض. والثالث، هو التاجر، الذي يمنح السلف ويأخذ عليها فوائد؛ مما يؤدي الى ارتفاع المصاريف على الإنتاج الزراعي.
-3-
كان الفصل الثاني بعنوان (من "تل أحمر" الى "بصيرة" 21 شباط – 7 آذار)؛ ويبدو ان اسم تل أحمر مستقى من لون ترابه،وفي الغالب تكون التلال موقعاً للسيطرة على طرق القوافل والمناطق القريبة منها، لهذا تراقب برج تدمر وحوران وسارين، وهدفها بيان الإرث المسيحي الذي مازال شاهدا في بلاد الشام، من خلال تسجيل ما تشاهده عن الاديرة والكنائس وبقايا الاحتلال الروماني لبلاد الشام؛ فضلاً عن المعالم الطبيعية والتاريخية كالكهوف والتجمعات القبلية مثل(عشيرة الفحل،وعنزة) حيث الانحدار من الرقة ودير الزور باتجاه عانه على ضفاف نهر الفرات ،ومن ذلك ما شخصه المستشرق (أوبنهايم) في مشاهداته لتل البنا حين وصفه بقوله:" تسلقنا الى قمة تل أجرد وانحدرنا الى الأسفل الى ريف واسع منبسط مليء بالعشب، خالٍ ، هادئ وجميل جداً. انه ينغلق بنصف دائرة من التلال التي تقع الى الخلق من النهر، ومن خلف وسطه ترتفع هضبة منعزلة تعرف عند العرب "كليب".ص89]
ولا يفوتها ان تهتم بالجانب الاجتماعي الى الجانب الجغرافي في متابعة حياة البدو، والقبائل المتواجدة على طريقها ، مثل (الولدة)و(العمارات) وهم بطن من (عنزة) وقد كتبته (الامارات) وترجم هكذا بسبب جهل المترجم في بطون القبائل العراقية، والعمارات هم الفرع الذي ينتمي اليه الشيخ فهد بيك الهذال شيخ قبيلة عنزة، والذي ارتبطت به المس بيل بعلاقات متينة قبل الاحتلال البريطاني للعراق ،وبعده. ولا يفوتها ان تشخص الأمكنة المختلفة والعلامات البارزة في طريقها ،وهي التي تعد نفسها للكتابة عن حصن الاخيضر ، مروراً بـ(تل الگرعة) وهو تل معروف، ويقصد به تل الاگرع ؛أي الخالي من النباتات.و(تل شيخ حسن)و(جرناية)و(منباية)و(جعبر) و(جفنة)و(خرائب حلاوة)و(تل مريبط)و(قلعة الدوسر)؛ وربطت اسم(الدوسر) بعهد الاسكندر، وتعتقد ان خادماً للنعمان يكنى (دوسر) وهو الذي بنى قلعة ودعيت بعد ذلك باسمه، حيث تقول:" لقد أخذت اسمها الحالي من عرب الكوشر والتي استطاع ان ينتزعها (ملك شاه السلجوقي) سنة "1078" من أبنائهم. لقد تم الاستيلاء عليها من قبل "فرانكس" امير "أديسا" خلال الحملة الصليبية الأولى ولكن تم اسقاطها بعد ذلك والاستيلاء عليها من قبل "نور الدين الاتابكي" حوالي نصف القرن الثاني عشر. وقد انتقلت الى الايوبيين".[ص105] تقصد نور الدين زنكي الذي كان له فاعل في صد الهجمات الصليبية وهو الذي بنى المسجد النوري، ذا المنارة الحدباء في الموصل. وحين تصل "بصيرة" أو البصيرة تؤكد اعتقادها بأنها لم تر" أقدم من عصر "جوستنيان" في الحين الذي تعود معظم الاعمال الى المرحلة العربية".[ص145]
في الفصل الثالث تنطلق المس بيل من البصيرة الى هيت (من 7 آذار -18 آذار/1909م) وتبدأها بقولها:
" في بصيرة كنا نجاحه احدى الصعوبات التي تنتظر الرحالة في الجزيرة. منذ القدم لم تكن هناك طرق للتجارة على طول الضفة اليسرى للنهر".[ص151]
ثم تستمر في رحلتها مارة بالكثير من المعالم مثل( تل الكراه، تل بصيّه، قرية الطيانة، تلول جماح، تل الكعبي، تل سميل، تل الهاجن، قرية الوردي) متابعة رحلة (بالبي) الإيطالي الذي هبط مع الفرات سنة 1589م،وهي تدون أسماء الأمكنة كما تسمى من قبل العامة فتشير الى (الجغايفة) باسم (الجرايف) أو(الجرايفة) أو(الجرايفي)،والى الحويجة باسم (خويجه) وتريد بها حويجة حديثة، وحين تبلغ مدينة(عانه) تقول ان البلد "يكتسح من قبل عصابات "شمر" المسلحة من أماكن بعيدة في الشرق،ومن"اليزيدية" الذين يدعوهم المسلمون "بعبدة الشيطان" من جبل سنجار".[ص165]
وفي عانه تشاهد النواعير وهي ترفع الماء من نهر الفرات الى الأرض ، فترى" دواليب فارسية"؛ والحقيقة انها عربية واسمها عربي من كلمة (نأر) فهو ناعور على وزن فاعلول، بعد قلب الهمزة عينا، لان صوته الخشب حين يتبلل بالماء يصبح قوياً،وتعني كلمة نعر هدر وصرخ وجأر، وهذه الكلمة من التراث العراقي القديم (نأرو) كما انها من الالفاظ المتشابهة في السريانية والعربية(ناعورة) وقد ذكر الجوهري في معجمه(الصحاح) ذلك وقال: الناعور: دولاب مائي له قواديس أي كيزان تسمى العصامير، مفردها عصمور، يوضع في النهر، يديره سرعة جريه، فيرتفع الماء في العصامير ،وكذلك ذكره الزمخشري في (أساس البلاغة) وقال: الناعور، واحد النواعير،وهو الدولاب سمي كذلك لنعيره،وكذلك ابن منظور في (لسان العرب) فقال: (الناعورة، الدولاب،والنواعير: جناح الرحى ،والناعور دلو يستقى بها.[ حديثة والنواعير في الشعر العربي : بهجة عبد الغفور الحديث(بغداد، 1997م)،ص 39]
كما تشير الى ان وجود مدينة(عانه) يمتد الى القرن السادس عشر اعتماداً على ما ذكره الرحالة(راوولف) والرحالة(ديلافاليه)،ولكن الحقيقة ان اسم (عانه) مستقى من اسم اللآلهة (عانات) الفينيقية حيث كانت تعبد ولها معبد، لان نفوذهم يمتد الى حديثة أو الى عانه، وهي تستمر في متابعة الأرض وجهود الامبراطور (جوستنيان) الروماني وحصاره لقلعة راوة،؛وهي تشير الى ضعف الإدارة العثمانية وتصدعها واقتراب نهايتها؛ فضلاً عن غزوات البدو للمدن والقرى لضفاف نهر الفرات اليمنى، ونهب ممتلكات الفلاحين العزل من قبل قبيلتي عنزة والدليم وغيرهما، كما تشير الى قرية(بروانة) قرب حديثة، وتسميها(بروان)؛وترى بان قبيلة الدليم من البغدادي الى هيت كانوا يبتزون القوافل غير المحمة تحت رسم الجزية.
وتشير الى هيت ذات منابع القير تقع وتغتسل بالفرات وترتفع بين أشجار النخيل على حافة النهر حيث أعمدة الدخان الجيري من أفران بدائية لحرق الاسفلت، لان المكان محاط بآبار القير ،وهو معروف منذ عصور بابل القديمة، وقد أشار اليها (هيرودت) في تاريخه حين زار بابل في رحلته الى العراق، كما وصفت منارة المعمورة ومنطقة المدلوبة ،أو المجلوبة.
تمتلك المس بيل لغة سردية مقنعة تجمع بين لغة وصف الآثار ووصف الحياة اليومية ووصف الأمكنة والقرى والارياف ومتابعة حركة المجتمع العراقي آنذاك الواقع تحت سلطة القبيلة وسلة الدولة العثمانية، ولان بعض المدن المحاذية للفرات وخصوصاً حديثة وهيت وكبيسة وعانه وراوة.. وغيرها من القرى التي لها كيانها ومرجعياتها وليست ذات طبيعة قبلية ، كما انها متنوعة المشارب والأديان والفرق ولكنها كانت تتعرض لهجمات شرسة من القبائل البدوية.
-4-
تتكون هذه الرحلة من ثمانية فصول ، تعد الفصول الثلاثة الأولى هي المرتكز الأكثر تعبيراً عن طبيعة الرحلة ،أما الفصل الرابع فكان بعنوان (من هيت الى كربلاء 18 آذار 30 آذار) عادت فيه الى حواضر العراق والشام في عهد دولتي الغساسنة والمناذرة، حيث كان الصراع الروماني والفارسي،أو صراع الغرب مع الشرق، فتعرضت الى المدن التي على طريق حركة التنقل والقوافل بين جزيرة العرب وبلاد الشام عبر العراق، مثل كبيسة وهي قرية ينطلق السير اليها من هيت،ويعيش سكانها على التبادل التجاري والزراعة وعلى الآبار والعيون،وهي معروفة بنخيلها حالها حال هيت؛ ولكن عيونها مشبعة بالكبريت، حيث الگعرة في ظهر بادية الفرات اليمنى والثميل (الثميليات) ووادي بردان وعسيلة والرحالة وشفاثة ؛ وهناك تخيّم قبيلة بني حسن التي هي على عداء مستحكم مع قبيلة الدليم،وكان هدف المس بيل الوصول الى حصن الاخيضر الذي تصرّ على انه قصر الخورنق أو قصر السدير، وانه من آثار الفرس الساسانيين، فروت بعض أشعار عدي بن زيد العبادي(النصراني) الذي مات في سجن النعمان بن المنذر،ومن المؤسف ان المترجم ترجم ابياته على هواه ولم يثبت ما ورد في الديوان ومنها قول الشاعر:
ليتَ أنّي أخذتُ حتفــ ـي ولم ألق ميتة الاقتالِ
محلوا محلهم لصراعتنا العام فقد أوقعوا الرحى بالثفالِ
[ديوانه، المعيبد،ص56-57، بغداد 1965م]
وتمضي في متابعة رحلتها الى الاخيضر ،وهي ترى بأن العمارة التي كانت قائمة قبل الفتح الإسلامي، وقد دمرت لتكون مواداً لناء مدينة الكوفة، وتخصص موضوعاً تحت عنوان (قصر الاخيضر) الذي يجلب الماء اليه من وادي ليبابة ،او عن طريق بئر محلي ،وتضع عدة احتمالات:
الأول، ساساني أو لخمي، سابق للفتح الإسلامي.
الثاني، الى 150 سنة بعد حقبة الفاتحين المسلمين.
الثالث، الى حقبة العباسيين ،أي بعد سنة "750م".
أما احتمال عودة الحصن الى مرحلة دومة الجندل وعلاقته بالاخيضر بن عبد الملك الكلبي؛ فهي تهدف من خلالها الى عودة الحصن الى العهد الساساني لتقلل من أهمية العمارة العربية حيث تقول:" حتى لو كان "الاخيضر" يعود الى المرحلة المبكرة لعصر الإسلام فمن الممكن أو من المحتمل ان يكون قد بني من قبل عمال ساسانيين في الوقت نفسه فان المقومات العمارية المحدودة للعقود المحنية والقبة المحززة لم ترصد لحد الآن في أي بناء ساساني. ان المثال المبكر أكثر للعقود المحنية لبلاد بين النهرين المعروف بالنسبة لي بجانب العقود المحنية "للاخيضر" هو أجزاء من الممكن ان تلاحظ في بوابة" بغداد" في "الرقة"...".[ص286]ولكنها نسيت ان للأقواس جذورها الشرقية والتي أصبحت من مميزات العمارة الإسلامية، محاكاة للأهلة؛ وهذا بحد ذاته يحيل الى العمارة العربية في بلاد اليمن السعيد.
ام الفصل الخامس (من كربلاء الى بغداد، 30 آذار -2 نيسان) من سنة 1909م، فتشير فيه الى سيمياء الاخيضر الفارسية، مع أن اللون الأخضر لون إسلامي دعاه القرآن بالسندس، ووصفه بأنه لباس أهل الجنة، ثم صار رمزأ اسلامياً وصار في الخليفة المأمون شعاراً للدولة العباسية بدلاً من الباس الأسود، و كان اللون الأصفر هو المعول عليه في الحضارة الفارسية لأنه مستقى من شعاع الشمس أما لون الخضرة فهو لون عراقي يتعلق بالخصب والنماء في حضارة العراق القديم.
لقد كانت زيارات المس بيل لآثار بابل لغرض الاطلاع على هيكل الآلهة عشتار وبوابتها الشهيرة، وعلى قصر نبوخذ نصر كما قالت، وهي مغرمة بالآثار الرومانية التي كانت هامشية بالنسبة لآثار العراق القديم؛ وكأنها كانت تريد ان توثق حوافر خيل الاسكندر وتبحث عن المسرح الاغريقي القريب من سور مدينته والذي تقول عنه انه كان مدمراً تقريباً بحيث لا يمكن التعرف عليه، وباعتقادي انه لا يوجد ما تسميه بالمسرح الاغريقي، بالعراق، ولعلها تخلط بينه والمسرح الروماني في عمان بالأردن، وفي العراق توجد منصات وزقورات وضعت لأغراض العبادة القديمة في كوثى وعقرقوف وبابل وغيرها وهي ذات وظائف كهنوتية، وهذا نابع من تشبع الرحالة بخيال واسع حول أثر الثقافة الاغريقية بالشرق مع ان الشرق هو الذي أثر فيها، كما أشارت الى خان الإسكندرية لأنه يتعلق بمرحلة غزو الاسكندر للعراق، مع انه خان حديث يعود عصور ما بعد العباسيين، وسمته (خان الحصوة)، وقد بني لاستراحة الزوار والمسافرين وله خانات مشابهة له في قرب كربلاء؛ فتشير الى انه "قد بني على تصميم البناء الفارسي للزوار الإيرانيين".[ص 318]ولعله بني أو رسمت هندسة عمارته بتأثير الاحتلالات الصفوية للعرق، فهو من رموز تلك المرحلة التي كان يتنافس فيها على العراق الفرس والأتراك. وترى في طيسفون انها تمثل بقايا العاصمة الساسانية وقد أصبح لخليفته ووارثه "سلوقيا"، والصواب ان سلوقس هو واحد من قادة الاسكندر الذي بنى حاضرة لملكه هناك ثم بنيت طيسفون بالقرب منه أو على انقاض دولته.
-5-
في الفصل الخامس(من بغداد الى الموصل ، 12 نيسان -28 نيسان) من سنة 1909م، تصف ما يواجهها من أمكنة ومنها خان المشاهدة ، ومنه ترصد الآثار الرومانية في بلاد ما بين النهرين وحملة العشرة آلاف جندي والفيالق الرومانية، وسقوط كورش، لعلها إشارة الى كتاب زينوفون(حملة العشرة آلاف "الحملة على فارس"). في خضم الفوضى وكيف خدع "جوليان" بالنبوءات وعاد أدراجه من طيسفون حين كان الملك الفارسي سابور ينتظره برعب، ثم تحاول استدراج الصراع الروماني – الفارسي حول العراق، حيث استمر الجيش الروماني بالانسحاب على الضفة الشرقية فتقول:" لم اقتنع بما كان يفعله الجيش في مسيرته حتى عبرت دجلة، الا ان "زينوفون" والعشرة آلاف جندي معه مروا ليعبروا الى "المشاهدة" وقد نزلوا الى النهر".[ص364] على جسر للقوارب.
كما تصف ما واجهته عند نهر الدجيل ،وقرية وانه وصميخة،وهي قرية على الدجيل ، ثم تل منجور وتل الذهب ونهر العظيم ،وهي تستمد معلوماتها من تاريخ هيرودت وسترابو، حتى تبلغ بلد مروراً بقبيلة المجمع والحويجة والصراع بين شمر وعنزة،وخرائب المدن القديمة مثل خرائب القادسية التي ليس لها وجود في هذه الأماكن،لأن واقعة القادسية كانت قرب الحيرة على مقربة من نهر الفرات وليس نهر دجلة؛ فهي متجهة من خان المشاهدة الى سامراء وما فيها من ارث معماري عباسي، مثل منارة جامع أبي دلف وقصر المتوكل ، حتى تنتقل الى قرية الدور، لتعود الى الحملة الرومانية على العراق، مستذكرة تكريت مسقط صلاح الدين الايوبي وما كتبه ابن حوقل ورج عن بقايا عشر كنائس وأضرحة الأربعين صحابي والاثار الأخرى، مثل هيكل الاله آشور ودور الفرثيين وصف الاعمدة ومكتشفات نبوخذ نصر وآثار نمرود عاصمة الآشوريين التي قررت زيارتها والتي ورد ذكرها في سفر التكوين تحت اسم صالح، كما ترى، واعتقد بأنها تخلط في مدائن صالح لعرب ثمود وين الآشوريين، حين يرى الجنود اليونانيون خرائب مدينة "صالح" التي تقع الى الشمال من ركامات نمرود التي تقف بين حقول الحنطة يمتد نحو الشرق سهل أربيل حيث هزم الاسكندر الملك الفارسي داريوس(دارا). وحين تبلغ الموصل تاتيها الاخبار بعزل السلطان عبد الحميد وتنصيب محمد رشاد مكانه في 31/ آذار/1909م. ثم تستخدم الكفة العبور الى قصر العاشق ومشاهدة الاثار الأخرى، فيثير انتباهها وجود بناء صغير يسمى "الصليبية" حيث وجدت بعض الرجال يحفرون الاعمدة الرخامية والركائز الاجرية والاقواس من أجل الحصول على مواد للبناء.
وفي الفصل السابع المعنون(من الموصل الى زاخو، 28نيسان -10 مايس) من سنة 1909م، حيث التماس بين العرب والاكراد والتركمان ولايزدية ، في ظل تنوع اثني كبير ،وتتبع سريان أخبار الأرمن في "أدنة" التي وصلت الأسواق لتقول:" لقد وضع سقوط "عبد الحميد" نهاية مباشرة للهيجان الذي كان يسود البلاد".[ص 451] ولعل التحامل ضد السلطان عبد الحميد لموقفه من اليهود في فلسطين.
وتبقى النزعة التوراتية والبحث عن الاثار والمؤثرات المسيحية من أبرز أولوياتها؛ بسبب حرب الدولة العثمانية مع روسيا القيصرية وحرب القرم، حيث حمل المبشرون الأوائل المسيحية من العراق الى اوربا، ثم عادوا اليه،ويبدو ان المجمع الخلدقوني المسيحي كان مهيمناً على فكرها،فهي تتساءل : عن وجود بروتستانت سوريين ونسطوريين وكنيسة لليعاقبة فتقول:" ليس غير اللاهوتيين "غير المتحولين". الا ان الاثاري يجب الا يتمسك بالرأي غير المؤكد فيما يتعلق بالاهلية".[ص458] ثم تعرج على آثار حصار نادر شاه على الموصل وعلى الكنائس المسيحية فيها وبعض المعالم السريانية هناك.
وتستمر في مشاهدة كنيسة "مار شمعون" وكنيسة " مار يوحنا دلمويا"، التي تقع في ما وراء القوش ،وبرطلة ودير متى، حيث بني الأخير في مكان عالٍ ويخيل لك بأنه على أعلى نقطة في العالم، وسردت حكاية انشاء الدير وتتبع القس للغزالة؛ وهي أسطورة دينية معروفة. كما تستوقفها أحوال الديانة الايزدية واحوال الشبك،وسبب كره الايزديين للون الأزرق، وعلاقتهم بالمانوية وحجهم الى مرقد الشيخ عدي بن مسافر في سنجار ، واشارتها من خلال معلوماتها المستقاة من "لايارد" الى انهم لا يقتلون الافعى السوداء لانها ذات قيمة عالية لديهم.
وفي الفصل الثامن (من زاخو الى ديار بكر ،10 مايس -4 حزيران) من سنة 1909م، تتناول الاعتقادات الشائعة التي سمعتها أو قرأتها حول سفينة نوح وتتم ذلك بالطريقة السابقة التي اعتمدتها في الفصل السابق، ثم الفصل التاسع(من ديار بكر الى قونية، 4 حزيران – 1تموز)؛ تمر بما عرف بـ"قزل باش"، وهم طائفة مركزهم الرئيس "در سيم" ،ومعتقداتهم محتقرة من قبل المسلمين، لانهم يترددون بين الوثنية والمسيحية والمانوية والفكر الشيعي، وهم متأثرون ببعض الذكريات لاديان بلاد الاناضول القديمة، وهكذا كانت رحلة المس بيل تعبيراً عن رغبتها في معرفة الأحوال الحضارية القديمة في العراق وعلاقتها بالقيم السائدة والاحوال العامة لسكان البلاد، وكان دورها حين كانت سكرتيرة المندوب السامي مقابلة" ممثلين من مختلف الطوائف والنحل" حين كانت تفتح بابها لشيوخ العشائر ورسل البادية.[العراق في رسائل المس بيل/37]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلا قيود يستضيف الروائية والأديبة المصرية ميرال الطحاوي


.. عوام في بحر الكلام | مع جمال بخيت- الشاعر صلاح فايز - الأحد




.. عوام في بحر الكلام - محمد صلاح فايز عن بداية حياة والدة الشا


.. عوام في بحر الكلام - علاقة اولاد الشاعر صلاح فايز بأغاني وال




.. عوام في بحر الكلام - أغنية أنقذت شاب من الانتحار.. شوف أغاني