الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيرورة انهيار الدولة القائمة

سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)

2024 / 3 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


تُقدّم المجتمعات المتخلفة ، والمسماة مجتمعات نامية ، والتنمية منها براء ، صورة جديدة للدولة ، تتسم في أغلب الأحيان بصفات خاصة مثل التقلبات الشديدة ، وبأس الأجهزة ، والتقسيم الميكانيكي للسلطة ، وسطحية العلاقة مع المجتمع ، وسيطرة العنف في العلاقات السياسية ، وغياب آلية تبدّل السلطات وانتقالها ، وتحديد الصلاحيات ، وضبط الأصول وانتظامها ، حتى تبدو كما لو كانت مؤسسة غريبة عن البيئة التي تعيش فيها ، مستلبة أيضا في ذاتها ، وغير قادرة على تحقيق الوظائف التي تتعلق بها كدولة .
ويترافق القمع الاقتصادي المباشر على صعيد دائرة الإنتاج ، بالقمع السياسي على صعيد الدولة . وتُحلُّ علاقات العنف داخلها ، وفي تعاملها مع المجتمع ، محل علاقة الشرعية . وينعكس ذلك على وظيفتها ، وعلى بنيتها في الوقت ذاته . وكل ذلك يجعلها عاجزة عن حيازة موقع مستقل لها ، ولنشاطها المتميز تجاه الطبقات او التشكيلات السياسية ، والقوى الاجتماعية الأخرى .
وعجزها هذا عن الاستقلال عن الفئة الاجتماعية التي تتحكم بها ، او عن المصالح التي يعبر عنها النظام ، يجعلها في الوقت ذاته بعيدة عن المجتمع ككل ، وغريبة عنه . فهي لم تعد وسيلة بلورة لإجماع قومي ، بل أداة من أدوات بناء العصبية الحاكمة ، ومن ثم قاعدة لتفكك عقد القومية وعقد الوطنية . اما السلطة التي تنبع منها ، فإنها تنْحلّ بفقدانها لعناصر تكوينها الاجتماعية ، والقانونية ، والمناقبية ، الى قوة محضة تؤكد ذاتها بالغلبة ، وتمكن فريق اجتماعي من فريق آخر ، ولا تنطوي على أي عنصر من العناصر المادية والمعنوية ، التي تبرر وجودها وتجاوزاتها ، كأداة توازن وتنسيق وتنظيم ، وكصلاحية إدارية .
انها توظف ما تحظى به من الاجماع في الصراع الاجتماعي ، لتكوين المراتب والطبقات اكثر مما تهتم بحل المشاكل التقنية ، والسياسية ، والادارية المتعلقة بسير المجتمع ككل ، وبالعمل والإنتاج . ومن هنا ، فان تقدم تكوين الطبقة ، او النخبة التي ترتبط بالدولة كطبقة مسيطرة ومالكة ، يقابله بشكل دائم ضعف متزايد في التنظيم ، وانهيار الإنتاجية ، والتحكم بالتقنيات . وهكذا كلما تفاقم تماثل الدولة مع النخبة السائدة ، زادت فوضى الإنتاج ، وفقد المجتمع عنصر تنظيمه الأساسي .
ولا بد في هذه الحالة ، من ان تتطابق الدولة كمؤسسة عامة ، وكسلسلة من الإجراءات ، والأصول ، والقواعد المنظمة ، مع الحكومة ، وما تمثله من اشخاص ، وسياسات ظرفية ومحددة .
وينتفي التمييز بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي ، فيختلط العام بالخاص ، وتختلط الغلبة بالإجماع ، والقوة بالانصياع ، وتدور الصراعات الاجتماعية متجردة عن أية قواعد أو مبادئ منظمة . ومن هنا تفقد الدولة شرعيتها كمصدر لسلطة نابعة من المجتمع ، أي خاضعة في النهاية له ، وقائمة فوقه ، أي مستقلة نسبيا عن كل فريق منه . ولا تأخذ شرعيتها المؤقتة والمحدودة ، الاّ من شرعية الفريق الممسك بها ، وانفتاح او انغلاق سياساته الاجتماعية .
ان هذه العلاقة الجديدة بين الدولة والمجتمع ، وبين الدولة والجماعة الحاكمة ، تقدم شروطا ملائمة لنمو سياسة ارادية ، لا تأخذ بالاعتبار التوازنات وتحطيم المعارضات المختلفة . واستمرار هذه السياسة يدعو هو ذاته الى بروز سلطة شخصية ، او اصطناعها سلطة قادرة على تحمل مسؤولية القرار من جهة ، وضمان وحدة السلطة او الغلبة داخل الدولة من جهة ثانية . ولا بد لتبرير خضوع مجموع الجماعة الحاكمة أولا ، لهذه السلطة ، ثم خضوع المجتمع ككل للجماعة الحاكمة ثانيا ، من جعل السلطة الشخصية المسيطرة ، سلطة مقدسة . وهذا يتطلب تطوير أيديولوجية عبادة الشخصية من جهة ، وتحطيم كل الشخصيات ، او القوى ، او المنظمات ، التي يمكن ان تنافس في شرعيتها ، وفي علاقتها مع الجمهور ، او مع الجماعة الحاكمة ، المكانة المتميزة والمتفوقة للشخص الأول . وهذه العلاقة هي مصدر الحكم المطلق . فالحاكم المطلق ليس ثمرة إرادة شخصية مسيطرة ، بقدر ما هو وسيلة تصطنعها الجماعة الحاكمة ، لتأمين خضوع المجموع لها من جهة ، وكبديل عن ذوبان آليات ووظائف الدولة المؤسساتية من جهة ثانية .
ان عملية تكوين هذه السلطة ، تخضع هي ذاتها ، الى تطور انحلال التشكيلة الاجتماعية المحلية ، الذي ينجم عن دخول نمط انتاج جديد ، وهو هنا نمط الإنتاج الرأسمالي ، وما يجره من إعادة ترتيب ، لمواقع الطبقات والمراتب الاجتماعية ، ووظائف النخب المختلفة ، وما ينطوي عليه ذلك من تحول في توزيع الثروة ، وسريان المعارف .
وانّ تمكّن نمط انتاجي جديد ، يفترض تكوين طبقات لم تكن موجودة من قبل ، او تقوية مواقعها اذا كانت موجودة ، تجاه طبقات أخرى . كما يفترض تعديلا في مراكز النخبة ومهامها . وكل ذلك لا يمكن ان يحصل دون إعادة توزيع الثروة والمعرفة . وحتى تتحقق هذه العملية ، لا بد من تعليق " الدستور " ، أي من طرف يسمح بتجاوز كل القواعد والأصول المتبعة من قبل ، أكان ذلك باسم مبادئ جديدة ، او بدون ذلك . هناك حقبة اذن من اللاّتحديد ، ومن " الحرية " المطلقة ، التي تشبه حرية حياة الغابة ، هي التي تتيح تغييرا أساسيا في المواقع والمراتب .
والحكم المطلق هو الذي يخفي بمظهره السياسي التحكمي ، ما يحدث على صعيد المجتمع ، صعيد انتقال الثروة والمعرفة ، من انفلات كامل من كل قانون ، ومن تنافس وتزاحم لا حد لهما .
والعناصر والقوى التي تستفيد من هذه الحقبة وتسيطر عليها ، هي تلك التي تسلك سلوك الحاكم المطلق على صعيد المجتمع ، وتتجرد من كل شريعة ، او قانون ، او أخلاقية . امّا القوى الأخرى التي بقيت متمسكة لاستفادتها من النظام السابق ، او لخوفها من نتائج السباق القائم ، بالقيم ، والعادات ، والأخلاق ، والمبادئ ، أي بقاعدة للفعل والسلوك ، فإنها تجد نفسها تفقد اكثر فاكثر مواقعها ، وتنهار مصالحها .
ان الحكم المطلق الحديث في الدول المتخلفة ، لا يعبر عن تعاظم قوة وهيبة الدولة وقانونها ، بل هو يعكس ضعف الدولة المتعاظم ، وزوال دورها وفعاليتها الاجتماعية ، وبالتالي بروز قانون واحد للممارسة الاجتماعية ، هو العنف المجرد من كل قانون . وعندئذ فكل دراسة للسياسة على صعيد الدولة ، لا معنى لها الاّ بقدر ما هي وسيلة لتحليل تقنين العنف وادارته .
ان آليات العنف ، تختلف حسب الميدان الذي يتحقق فيه انتقال المراكز ، والمناصب ، وصكوك المِلْكية ، والقوى الشرائية الخ ... فهو ليس القتل دائما وبالضرورة . وهو لا يصل الى هذا السلوك الحدّي ، الاّ عندما تبدأ الفئات التي تتعرض له ، بالمقاومة ، وترفض الاستسلام له .
والعنف يمكن أيضا ان يكون فكريا ، كما يمكن ان يكون سياسيا او اقتصاديا . انه حرمان فئة ، او طبقة ، او جماعة ، من التعبير بشكل او آخر ، عن نفسها ، ومصالحها ، وشخصيتها ، او فرض تعبير أيديولوجي إجباري عليها ، أو اكراهها على التعبير عن نفسها ، من خلال شكل أيديولوجي لغوي او فكر معين ، وهو أيضا حرمانها من حق التعبير السياسي المنظم ، او المستقل ، واجبارها على الانخراط في تنظيم ، او العمل بدون أي تنظيم .
هو كذلك نزع الملكية ، او فرض شروط جديدة لدعم فئة ضد أخرى ، او فرض القوة ، او الضريبة التي تتيح لفئات أخرى ، تحسين مواقعها على حساب غيرها ، او التحكم بسياسة الرواتب ، والأجور ، والمكافئات ، والمنح ، والمهمات .. Les missions ..
ومن ذلك ، نفهم ان وظيفة العنف الاجتماعي ، هي دائما تغيير المواقع والمراتب والادوار الاجتماعية ، لمختلف القوى المكونة للمجتمع . وقد يؤدي هذا التغيير، الى تكوين فئات جديدة ، وقد يكون مجرد إعادة اقتسام للثروة والمعرفة . فهو مبدأ الثورات العَدَالِيّة ، كما هو مبدأ تكوين الطبقات الجديدة .
ولفهم حدود العنف وغاياته ، لا بد من تحليل سيرورة التحول القائمة اليوم في الدول المتخلفة ، وهي في نظرنا ، سيرورة تاريخية مرتبطة بتوسع نمط الإنتاج الرأسمالي ، وبما يقتضيه هذا التوسع ، من تكوين طبقة اجتماعية تضمن نمو العلاقات الجديدة ، وتحمّلها في فعاليتها الاجتماعية ، كطبقة رأسمالية ، أي مرتبطة بعملية تراكم واستثمار ، ودورة رأس المال . لكن هذه الوظيفة لها خصائص متميزة هنا ، عمّا كان لها في بداية تكوُّن النظام الرأسمالي . اذ ليس من المطلوب انْ تعيد الطبقة الرأسمالية في المجتمعات النامية المتخلفة ، تراكم رأس المال كما حدث لسابقتها الغربية . بل تحقيق استهلاك مباشر ( شراء منتجات تلبي الرغبات المادية او حاجات الأبّهة ) ، او غير مباشر ( شراء آلات ، ومعدات ، ومصانع تلبي حاجة الرأسمال في المركز الى التراكم ، لا حاجة المجتمع الفعلية حيث تقام هذه المنشئات ) .
وان تطور نمط هذا الاستهلاك ، يطوّر معه باستمرار ، آليات إعادة التوزيع الجديدة ، ويتطلب تركيزا متزايدا للثروة والمعرفة ، في ايدي الأقلية الاجتماعية المُندمجة اكثر فاكثر بدورة الرأسمال العالمي ، بينما يخلق من الجهة الأخرى ، أغلبية اجتماعية مستبعدة تدريجيا وكليا ، عن دورة الثروة والمعرفة .
ويمكِن القول ، أنّ تفتت الدولة والقانون ، واستفحال العنف وسيطرته على كل مناحي الحياة الاجتماعية ، يرتبطان بالدرجة الأولى بأشكال تطور هذا الاستهلاك ، وانماط التوزيع غير المتكافئ المتزايد . والطبقة المسيطرة تتطابق وتتماثل مع الدولة ، بقدر انهيار القاعدة القانونية لهذه الدولة ، وبقدر سيادة آلية العنف . وهذا التطابق ينطوي هو نفسه على تحول الطبقة المسيطرة ، من طبقة متميزة متعددة الأطراف ومختلفة التكوينات ، أي منقسمة على نفسها ، الى طبقة – نخبة ، يُقرّب فيما بينها تطابق المصالح ، ويدعم وحدتها عداء المجتمع بأغلبيته لها .
ففي المرحلة الأولى من توسع النمط الرأسمالي ، في التشكيلات الاجتماعية التقليدية ، يؤدي التناقض بين مصالح النخب القديمة والجديدة ، الى خلق ميزان قوي ، يعمل نسبيا لصالح الأغلبية الاجتماعية ، ويمنع اتحاد جميع اطراف النخبة ضد المجتمع . ويقتضي حل هذا التناقض ، الحفاظ على حد ادنى من الدولة ، أي من صعيد اجتماعي قانوني واخلاقي ، تخضع له كارهة او بإرادتها جميع الأطراف . وتتراكب في هذه المرحلة الاشكال القديمة للإجماع الأيديولوجي ، والاعتراف المتبادل السياسي ، والتسوية الاقتصادية مع الاشكال الحديثة ، وتفضي الى قيام تراتب مقلق للطبقات والسلطات الاجتماعية . انّ المرتبية الاجتماعية ، تفقد هنا ولا شك مصدر نموها ، وإعادة تكوينها ، لكنها تظل تفعل مع ذلك ، وتنظم تحويل الثروة والمعرفة ، بشكل تدريجي الى الطبقات الجديدة .
لكن ما ان تضعف النخبة التقليدية ، وتفقد وزنها الحاسم في الساحة ، حتى يصبح من الممكن تحطيم القشرة القانونية ، التي بقيت تعيق حتى الآن ، الانتقال السريع والكامل للثروة والسلطة ، الى النخبة الجديدة . هذه القشرة ، هي بالضبط الدولة القانونية ، التي تتخلى عن مكانها لصالح دولة ، هي أولا وأخيرا ، إدارة لوسائل العنف الشامل .
ويمكن القول انّ الدولة التابعة ، تتسم في مرحلتها الأولى ، بالهيمنة النسبية للفئات التقليدية ، وذلك على الصعيد السياسي ، في حين انّ عملية خلق النخبة الجديدة ، تنزع سالفتها شيئا فشيئا كل المواقع الاقتصادية . وفي هذه الحالة يتخذ العنف شكلا سياسيا أيديولوجيا بالدرجة الأولى . في حين أنّ الثروة والسلطة ، يبقى محصورا ضمن ما يسمح به ميزان القوى ، ولا يأخذ الاغتصاب والنهب شكلا سافرا وعاما .
ان الدولة تظل هنا ، ساحة لصراع مجموعات ضغط مختلفة ، لكنها لم تصبح بعد طبقة / دولة . ونمو البيروقراطية العسكرية فيها ، ينم عن صعوبة الوصول الى تسوية بين مجموعات الضغط هذه ، وبداية تفكك آلياتها كمؤسسة عامة .
وبقدر ما تصبح المكانة التي تحتلها طبقة ، او فئة اجتماعية معينة في الدولة ، تصبح هي من تحدد وضعيتها الاجتماعية ، وغالبا أيضا ، وضعيتها الاقتصادية ، فان الصراع على السلطة ، يصبح العامل الذي يشترط ، ويتحكم بكل فعالية اجتماعية فكرية كانت ، ام مادية . وتبدو الدولة عندئذ كمجرد رافعة للطبقات وللنخب المتجددة . وهذا ما يفسر الهشاشة الكبيرة للحياة السياسية في البلاد المتخلفة من جهة ، وسيطرت هذه الحياة المفرطة على كل نواحي النشاط الفردي والاجتماعي . وليست الأحزاب السياسية هنا ، الاّ طفرات سياسية تعيش على هامش الحزب الأساسي والرئيسي ، الذي هو الدولة ذاتها . وليس لهذه الأحزاب خارج اطار تعايشها ، او تنافسها مع الدولة ، أيّ حياة ثقافية او اجتماعية مستقلة وخاصة .
ان الجدل الاجتماعي ، يظل هنا بالدرجة الأولى جدلا سياسيا . مما يفقر المجتمع من الابداعات النظرية والعلمية والتقنية ، وليعطي لصراع الطبقات ، والبرامج الاجتماعية ، شكل الصراع بين الدولة والشعب ، وهذا يمنع الوصول الى أي تركيب او تسوية .
ان الاستثمار السريع لميزان القوى ، وتوظيف اقل المكاسب في تحسين المواقع الاقتصادية لأفراد وفئات النخبة ، لا تعكس هذا الجدل الاجتماعي المسدود فقط ، ولكنها تبين أيضا المنطق الداخلي للنظام ككل . منطق الكسب والصعود السريع . وان وثيرة البحث عن التحقيق السريع والمردود الفوري ، هذه تجعل النظام يعيش بأكمله ، بمنطق ما قبل – تاريخ المجتمع .
وينعكس ذوبان الدولة ، في تزايد انعدام الاجماع ، والعجز عن انجاب قيم مشتركة موجّهة ، هي معيار كل نزاع ومبدأ ، وُضع حدّ له في الوقت ذاته . وينعكس في تحليل السلطة من ضوابطها القانونية والمعنوية ، وفي تحولها الى قوة خالصة ، تترجم فورا الى منافع في الحياة اليومية ، او الى مكاسب معنوية .
فالمسؤول لا يكتفي بالحصول على المسؤولية ، ولكنه مدفوع الى إذلال الاخرين والتنكيل بهم ، ليحقق سلطته في شكلها الأكثر قبحا وفجاجة ، وصاحب الثروة لا يقبل الاّ بالتظاهر بها ، وتحويلها الى استهلاك مباشر . ان دولة العنف ، هي أيضا دولة التمييز ، والمظهرية ، والاستعراض .
اما حل الصراعات الاجتماعية ، فلا تخضع هنا لا لتسوية سياسية كحصول إرادة واحدة عملية ، ولا لإجماع شرعي ، ولكنه يتحقق بالتصفية البسيطة السياسية ، او حتى الجسدية ، للفئات والقوى والعناصر الأضعف . وتقترب هذه التصفية في أحسن حالاتها ، من الصورة القانونية القديمة للاستعباد ، الذي وسم في الماضي المجتمع العبودي . انّ الشكل الأكثر قوة ونجاعة للاستعباد ، هو حرمان الاخر من الحقوق ، الثقافية منها ، او السياسية ، او الاقتصادية . وهذا الحرمان ، يمكن ان يأخذ صورا مختلفة اليوم ، لا تنفي الأيديولوجية الإنسانية الشائعة حول المساواة ، ولا تجابهها مباشرة . وأول هذه الصور ، هي تثبيت الامتيازات الخاصة بقوانين او بقرارات .
ان ظهور الدولة / الطبقة ، غالبا ما يرتبط بنوعية تمفصل النظام المراتبي الحديث ( الطبقات ) ، بالنظام المراتبي التقليدي ، او القديم الأيديولوجي ، او العشائري . ومن الممكن للطبقة الجديدة انْ تلبس ثوب العشيرة ، دون انْ تفقد منطق عملها كطبقة ، او ان تتخلى عن نمط عصبيتها وتضامنها كعشيرة . ويساعد على ذلك ، تحرر الدولة ككل ، من كل القيم والمبادئ ذات الطابع الكوني او الإنساني . فتصبح الطبقة ، مجموعة مصالح مشخصة وملموسة . امّا العشائرية ، فتتحول الى لحمة عصبية ، تمكّن الطبقة من العمل كوحدة اكثر انسجاما وفاعلية ، في حربها ضد بقية المجتمع . ومن الصعب ان يجري هذا التطابق ، بين الطبقة والعشيرة خارج اطار السلطة ، وبدون وساطة الدولة . إذ بهذا الوسيط وحده ، يمكن قسر المصالح ، وتقريب المواقع السياسية الأيديولوجية من الأوضاع الاقتصادية . وعندئذ يستطيع الرئيس ، او الملك ، او الامبراطور ، او الحاكم المطلق ، انْ يكون في الوقت ذاته " ملكا او شيخ عشيرة " ، رئيسا للدولة وزعيما لعصبية متطابقة مع عصبية الدولة . وفي هذه الحالة ، تصبح الدولة مركز تلاقي وتطابق ثلاثة أنظمة مرتبية اجتماعية : نظام التراتب الجماعي ( بادية – مدينة – أقاليم فقيرة واقاليم غنية ) ، ونظام الطبقات ، ونظام الطوائف ، او المراتب الثابتة الذي نجد عليه مثالا حدّيّا في الطوائف الهندية .
ان هذا التلاقي بين إقليم ، وطبقة ، وطائفة في حُجْر الدولة ، يحل التناقض الجوهري بين الأنظمة الثلاثة ، وما ينجم عنه من تهديد لوحدة السلطة ، ولسيرورة توليد سلطة مستقلة سياسية . فاذا انعدم هذا الالتحام ، او التقمص الثنائي ، او الثلاثي ، في ظروف مجتمع يتميز بدورة استهلاكية ، ولا يؤمِّن اذن إعادة الإنتاج المتساوي للعصب ، او الطوائف في شكل طبقات حديثة ، كانت للسلطة منابع مختلفة ومتعارضة ، تفضي بالضرورة الى استمرار الصراع ، وتمنع من تكوين طبقة سائدة ، ومن تحررها الكامل ، وسيطرتها على الدورة الاستهلاكية . والنظام الدولي ، يسعى بالعكس الى تنظيم هذه الدورة ، وتوحيد وكلائه في الدول المتخلفة ، ودول العالم الثالث ، بحيث يصبح من السهل التعامل ، وتحقيق دورة رأس المال . ثم انّ آلية العنف ، لا يمكن انْ تكتمل بدون الغاء ، او إزالة المصادر المتعددة للسلطة . ان منطق النظام الاجتماعي ، يفرض هنا بالضرورة اندماج السلطة ، واختلاط مصادر تكوينها الأيديولوجية ، والسياسية ، والاقتصادية . وهكذا تصبح الدولة ، والحزب ، والعصبية الحاكمة ، شيئا واحدا .
وتكاد الاختلافات في أشكال الدولة ، التي تحددها في نظر بعض الباحثين ، العلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية ، تختفي هنا تماما . فليس لتطور الدولة التابعة ، اية علاقة بتطور الدولة الرأسمالية ، من دولة مطلقة في مرحلتها الانتقالية الأولى ، الى دولة ليبرالية في عصر الرأسمالية الحرة ، ثم الى دولة تدخلية في عصر الرأسمالية الاحتكارية . انّ ما يبدو هنا باستمرار كخط عام ، هو انحطاط السلطة ذاتها بأشكالها المختلفة ، التنفيذية ، والتشريعية ، والقضائية ، وبطرق تآلف عناصرها ، الى قوة خالصة . وهذا الانحطاط الذي يعني أيضا ذوبان الدولة وتلاشيها ، يسير بشكل موازٍ في تقدمه ، لتقدم الانفجارات والتمردات الجماعية الشعبية . والمثل السائد اذن تحوّل الدكتاتورية الكلاسيكية الى طغيان فردي .
كل ذلك يفسر تدهور دور الأحزاب السياسية ومكانتها في البلاد التابعة ، ونشوء الفصائل المسلحة المختلفة ، والميلشيات المتعددة المهام التابعة للدولة . وهي جيوش حقيقية موازية بكل معنى الكلمة ( الشباب الملكي ) ، ( العيّاشة ) ، ( الشّمكارة ) ، وقد سماهم الحسن الثاني ب " الأوباش " من جهة ، وجماعات العنف والإرهاب الشعبية ، في مواجهتها من جهة أخرى . وكلما تطابقت الدولة مع الفئة التي تتحكم بها، وتحولت الى أجهزة قمعية مَحْضة ، إنهار اطار الشرعية والعمل السياسي ، وظهر الصراع الاجتماعي صراعا شاملا ، لا وجهة محددة له الاّ تدمير رموز المقاومة الشعبية ، ومرتكزاتها بالنسبة للدولة ، وتحطيم كل ما يرمز للسيطرة ، او للحكم من عناصر مدنية ، او سياسية ، او عسكرية بالنسبة للطرف الثاني .
ان التدمير المتبادل ، هو النتيجة الطبيعية والمنطقية لحرب ليس لدى أي فريق إمكانية حسمها ، او إيقافها ، دون تحمل تضحيات جسيمة لا يمكنه قبولها . ان الوصول الى هذا التصعيد المتزايد للعنف ، لا يصدر عن الغاء السياسة وحسب ، ولكنه يعيش أيضا على الاعتقاد الخاطئ ، بان سد قنوات العمل السياسي ، يمْكن ان يزيل قاعدة نمو القوى المعارضة والمناقضة . والحال ان الغاء السياسة كنشاط اجتماعي ، هو الخطوة الأولى نحو فتح باب الحرب الاهلية او المدنية .
ان العنف غير القانوني ، لا يشكل خطرا على النظام لِمَا يحمله من إمكانات تنمية للمعارضة -- . بل ربما ساهم في ابعاد جزء كبير من الجمهور عنها – ولكنه يخيفه ، لأنه يهدد قاعدة شرعيته المستندة الى القوة والعنف ، كما لو انّ تحدّي قانون لا شرعي ، يصبح بحد ذاته مصدرا لشرعية القانون الجديد . انّ العنف التّحْتي ، يطمح على ما يبدو الى حرمان عنف الدولة ، منْ انْ يتأصّل كعنف شرعي ومقبول . وما لم يطرأ تغير ملحوظ على بنية المجتمع ذاته ، على بنية الدولة في علاقتها بالجماعة التي تتحكم بها ، فليس من الممكن الخروج من حلقة العنف هذه .
وقد أشار باحثون كثيرون ، الى عدم الاستقرار الذي تعيشه الدول التابعة ، وهشاشة مؤسساتها ، وذلك ليس نتيجة لعمق الصراع الطبقي فيها ، ولكن بالعكس ، لان النزاعات تأخذ فيها شكل نزاعات مباشرة على السلطة ، ومنافسة مستمرة على المناصب . وتبقى التغيرات لهذا السبب سطحية ، تمس الممسكين بالسلطة والحكم ، دون ان تمس البنيات الفعلية للدولة وللسياسة . وهذا ما يدعو M. Gluckman الى القول : " ان الدول الافريقية تحمل في ذاتها عناصر تمرد مستمر ، لكن ليس عناصر ثورة " . ومع ذلك ، فان الاستقرار الذي تعيشه العديد من أنظمة العالم الثالث منذ عقود ، هو دليل ومؤشر على عمق التناقضات التي تعمل في هذا العالم ، وتشقه شقاً عموديا ، بين مجْتمعيْن لا لقاء بينهما . وهو استقرار لم يلغ التنافس على المناصب ، ولكنه عممه على جميع الأصعدة ، في الوقت الذي سمح فيه لكل صاحب منصب ، انْ يجعل من نفسه مخلوقا على شاكلة السلطان ، الأمير ، والراعي ، وصورته .
ان تحول الدولة الى عشيرة ، يعمل هو ذاته على تحويل الصراع الاجتماعي ، الى صراع " عشائري " ، ويجعل من الثورة تمردا وانتفاضات دائمة ، لأنه يمنع الوصول السريع الى تسوية . فمبدأ الحرب العشائرية هو الغزو ، ومبدأ الصراع الاجتماعي هو تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية .
ولا شك انّ هناك فرقا بين الدولة التابعة في المرحلة الأولى لتطور النظام الرأسمالي في بلدان المحيط ، وبينها في المرحلة الثانية . ففي المرحلة الأولى الزراعية التجارية ، تبقى الدولة مرتبطة بوظيفتين أساسيتين ، لا تفرضان تغير كل النظام السياسي القديم ، وهما توريد المواد الأولية للمركز ، وفتح السوق المحلية للبضائع والرساميل الأجنبية الباحثة عن منافذ لها ، او عن معدلات ربح اكبر . وفي هذا الطور، يمكن ان يحصل نوع من التركيب ، بين نظام المراتب التقليدي ، ونظام المراتب الحديث ، فتقوم الطبقة العقارية ذاتها من خلال الدولة ، بوظائف الرأسمالية ، وتتكفل بإدارة اعمالها كحليف خارجي .
وفي هذه الحالة ، لا تلعب الدولة الحديثة ، الاّ دور التأليف بين العصابيات المختلفة ، والمتولدة عمليا خارجها ، مما يسمح بتطعيم الدولة ( ببرلمان ) ، يسمح لكل طرف من اطراف النخبة التقليدية المرتبطة بأقاليمها او طوائفها ، بالحفاظ على تميزه وصوته الخاص من جهة ، وبحل النزاعات داخل صفوفها كفئة حاكمة من جهة ثانية .
وفي الطور الثاني الذي يواكب الاستقلال ، وينعش الامل بالتقدم الصناعي و بالتصنيع ، تنجح الدولة والبيروقراطية المتزايدة التأثير ، الى الاستقلال عن النخبة القديمة ، وخلق سلطة سياسية خاصة بها . وتبدو هذه السلطة في فترتها الأولى ، مستقلة وقائمة في استقلالها ، على معاداتها لتنافس العصب ، والعشائر ، والاقاليم ، والوجاهات . أي طامحة الى ان تصبح سلطة واحدة وموحدة . ومن هذه السلطة ، يبدأ التركيز على الأيديولوجية الجديدة ، المستلهمة لأفكار الوطنية والوطن .
ويرتبط ذلك بظهور نظام تعليم عام رسمي ، وجيش وطني مستند الى الخدمة العسكرية الإلزامية ، مما يؤكد السعي نحو الاندماج القومي والوطني الشوفيني ، ضد الفصام العصبوي .
وهذه الدولة هي منْ كل الوجوه ، اكثر قوة وانتشارا وهيمنة من الدولة السابقة . فهي تتدخل في جميع مناحي الحياة الاجتماعية . وعندما تتحول من جديد الى أداة تخدم مصالح فئة اجتماعية محددة ، او تصبح هي ذاتها اطارا لتنظيم هذه المصالح وتوسيعها حسب منطق دورة رأس المال الدولي ، فإنها تبدو بحق من اعظم ما انتجه التاريخ ، من الدول التعسفية والطاغية ، فتجمع القهر الفكري الى القهر السياسي ، وتدمر السلطات الخاصة والمستقلة ، وتجعل من سلطتها الذاتية ومصالحها ، سلطة / وطنية / ومصالح / عامة . فيصبح على الشعب ان يخدم هذه المصالح ، ويدافع عنها ، ويخضع لها ، ويكرّس نفسه وامكاناته لتطويرها . فما نلاحظه من جانبنا في هذا الحال الذي نزل بغتة ولم يكن متوقعا ، هو كيف تتظافر هنا آثار المرحلة الاستعمارية ، مع آثار المرحلة اللاحقة . فبعد تدمير مصادر السلطات القديمة في المرحلة الأولى ، وحرمانها من التطور والتكيف مع النظام الحديث ، عجزت المرحلة الثانية عن القيام بالتغييرات الضرورية ، التي يمكن ان تجعل من التراتب الاجتماعي الجديد ، بعيدا عن الانقسام الأقوامي والعصبوي ، وبقوة كافية ، المنبع الوحيد للنشاط السياسي الحديث .
بدل ان نستبدل الدولة الحديثة ، السلطات التقليدية الخاصة ، بسلطة واحدة وطنية ، أصبحت هي ذاتها مصدر تراتب اجتماعي جديد ، وسلطة خاصة . ومن هنا ، تتراكب الصراعات الطبقية ، مع الصراعات العصبوية ، وتفقد الدولة آلية تميزها واستقلالها عن النزاعات المحلية ، فيأخذ الصراع طابعا مزدوجا : طابع الصراع الطبقي ، وطابع الصراع العشائري . وانّ تكوين الدولة المركزية ، لا يعني هنا تجاوز الانقسامات التي ينطوي عليها المجتمع ، ولكنه يفيد في دعم الفئة الاجتماعية او العشيرة ، التي تنجح في الهيمنة على الدولة .
انّ نضال النخبة الحديثة ، او قسم منها ، في سبيل دولة حديثة مركزية ، لا يتناقض مع بناء دولة عشائرية ، بل هو الأداة الرئيسية لتحويل العشيرة الى دولة حاكمة ، او لبناء عشيرة الدولة . وسبب ذلك هو " انّ المشاركة في السلطة ، هي التي تعطي فرصة السيطرة على الاقتصاد هنا وليس العكس . ومن هذا المنظور تشبه الدولة الوطنية الناشئة من بعض وجوهها الدولة التقليدية ، اذ ان الموقع في جهاز الدولة ، هو الذي ما زال يحدد المكانة الاجتماعية ، وشكل العلاقة مع الاقتصاد ، والقدرة المادية " " E . Hagen " .
ومن الطبيعي ان تزداد هذه العملية قوة ، مع ازدياد مصادر التمويل الخارجي ، حيث تتحول الدولة الى أداة لتوزيع الريع او المعونات الخارجية . في حين انّ الاعتماد المتزايد على مصادر الاستغلال الذاتية او الداخلية ، يجعل النخبة الحاكمة حساسة الى حفظ علاقات اكثر إيجابية مع الطبقات المنتجة .
انّ فئة قليلة من المجتمع النامي او التابع ، قادرة على الدخول في دورة رأس المال الدولي ، وهي تتناقض بتزايد تركيز رأس المال وتطور أنماط الاستهلاك العليا . وانّ استمرار سير هذه الدورة ، لصالح المركز العالمي ، يقتضي تـأمين مرور الأموال بأقل ما يمكن من التكاليف ، ومن مخاطر التوزيع في البلاد التابعة . وإضافة الى ذلك ، يجرّ تيار الدورة هذه ، الأذى والخراب ، على كل النظام الإنتاجي المحلي ، بما يحطم فيه من علاقات توازن بين الأرباح والأجور ، وتكاليف الإنتاج والاسعار وغير ذلك . فهو في ذات الوقت يخلق نخبة تعيش في العصر النفطي ، ومجتمعا يرتد في نمط حياته الى العصر الحجري . وليس من الممكن الحفاظ على العلاقة القائمة هذه ، بدون تحويل الدولة والسلطة ، الى جيش احتلال بمعنى الكلمة . ولهذا غالبا ما يأخذ النضال ضد الدولة ذاتها ، وليس ضد الحكم القائم فقط . الدولة العلوية برمتها ، وليس فقط نظام محمد السادس المتواري عن الأنظار منذ 1999 . ففي الكثير من البلاد التابعة ، يخيم على المجتمع مناخ العصيان المدني الدائم والمستمر ، والمنتظر ، لان ظروفه واسبابه اليوم متوفرة وبنسب عالية .
ان ما نعيشه الآن ، هو سيرورة انهيار الدولة القائمة ، رغم او بسبب ما وصلت اليه من قوة ، وصلابة ، وتماسك ، جعلها أداة لاستعباد المجتمع ، لا قاعدة لتنظيم حرياته ، وأمنه ، ونشاطاته الاقتصادية الخاصة ، التي هي نشاطات الحاكم الملك وحده ودون غيره . وان قوة الدولة سببه ، ليس لأنها فعلا قوية ، بل هي اضعف وأهون من خيط ، او من عش عنكبوت .. لكن قوتها انها وحيدة في الساحة ، لا مؤسسات تنظيمية تزاحمها ، وتنافسها تمثيل البشر الغائبين الغياب المطلق عن الشأن العام الوطني ..
واذا نجحت الدولة ، ونجح النظام في السيطرة المطلقة ، بسبب جفاء وخواء وفراغ الساحة ، فان طبيعة القوى الاجتماعية الصاعدة ، ونوعية صلاتها بالمجتمع ، وتحررها من دورة رأس المال الدولي ، يتوقف نجاحها في إعادة الاعتبار لهذه المؤسسة العامة ، او زوال الدولة نهائيا ، وليس فقط النظام الذي يحكم باسم الدولة ، والانتقال سريعا عندما سيحصل الفراغ الكبير ، الى حقبة وسيطية جديدة ، واقطاعية حديثة ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استشهاد فلسطينيين اثنين برصاص الاحتلال غرب جنين بالضفة الغرب


.. إدارة جامعة جورج واشنطن الأمريكية تهدد بفض الاعتصام المؤيد ل




.. صحيفة تلغراف: الهجوم على رفح سيضغط على حماس لكنه لن يقضي علي


.. الجيش الروسي يستهدف قطارا في -دونيتسك- ينقل أسلحة غربية




.. جامعة نورث إيسترن في بوسطن الأمريكية تغلق أبوابها ونائب رئيس