الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ممنوع اليأس!

احمد جمعة
روائي

(A.juma)

2024 / 3 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


1
إن أسوء الأيام يومًا لم يأتِ بعد...بخلافِ المقولة السائدة بزمنٍ جميل مضى... "إن أجمل الأيام يومًا لم يأتِ بعد"...لقد باتّت الأمنيّة بأجمل الأيام خرافة بعد فقد الأمّل في العالم الذي نعيشه، العالم الذي فقد البصيرة رغم أنهُ يرى ويسمع ولا يتحرك...لقد أصبح عالم الأطفال يطفحُ بالبراكين اللاإنسانيّة، وتدور الحروب العبثيّة ضد الأطفال مع أنها بين الكبار! يسقط الأطفال بالجوع والمرض أكثر مما يرحلون بالرصاص رغم أن الرصاص مستمرٌ يخترق أجسادهم الملائكيّة الطاهرة، لكن المرض ينتزعهم من الدنيا وتحديدًا مرض السرطان العاهر، هذه المرَّة لأنه طفح به الكيل، وتصرف مع أطفال بسلوكٍ حربي دموي بلا طهارة. هنا السودان، هنا فلسطين، هنا سوريا، هنا كل ضحايا أبرياء، أطفال الحروب في كل بقعة ناريّة من الكرة الأرضية...
هذا حال الأطفال ومرضى السرطان في حقبة الحروب. في السودان أُسر منسيّة على الأرصفة وفي غزة أسر مهملة في الخلاء معظمهم من الأطفال والمرضى بالأورام السرطانيّة...في السودان وغزة وتحت الشمس وفي العراء وفي حضرة البرد وهدير المطر والنسيان والإهمال، تموت الأحلام ثم يموت أصحابها، تنتهي أحلام الأطفال بمسكن ألم أو بلعبة تلهييه ويظلّ حلم بأسوأ الأيام ألا تأتي قبل أن يرحل، حتى الله الذي كانوا يأملوا ألا ينساهم فقدوا به الأمّل وهم يرحلون بصمتٍ كالحملان المنساقة للمذبح وهو هنا الورم اللعين بل العاهر الذي لم يفرق بين طفولتهم ومستقبلهم وأحلامهم، فقد تمّ خطفهم فجأة رغم شغفهم بالألعاب والأمنيات وعبثهم، سيغادرون العالم ولم يدركوا سببًا لغيابهم عن أحلامهم، كل ما فهموا من تلقينهم أنّها الحرب!...الحرب؟ ولكن كيف؟ ومع من؟ ولماذا؟ وإلى متى؟ مفارقة لم تكن بالحسبان، أسئلة لم يجب عليها السياسيون والكتاب والمفكرون، وحدهم الأطفال المصابون بالسرطان في السودان وغزة أجابوا على الأسئلة: لسنا نحن سبب الحرب، بل نحن رمادها أحياء ولكن أموات وربما العكس، سيان ما دام من أشعل الحرب هم الكبار والكبار جدًا جدًا!!! قد تبدو في الظاهر حربًا ولكنها جريمة يرتكبها العالم بأسرهِ وإن كانت الصورة بين طرفين، فالصمت والإدانة الشفهيّة لا تكفيان لابد من أمّل يُعطلّ ماكينة الموت.
في السودان جيشين يتقاتلان بعشوائيّةٍ وبدائيّة، لم يفز!! بحربهم سوى أطفال مصابون بالسرطان من دون ملجأ ولا علاج ولا دواء ولا أمّل...فازوا بجائزة موتٍ مبكِّر، كما هو التقليد الدائب، الملائكة الصغار هم وقود الحرب، لا يعني ذلك أن الرجال والنساء والشيوخ والشباب من الشياطين.
نحن بل هم أولئك الذين صنعوا المشنقة الرمداء للإنسان باعتباره عبدًا، لن يخسروا سوى حريتهم كما خسرناها نحن بسببهم...فقد أعادوا عصر الاسترقاق ومعه قيود الاستعمار الرمادي مزخرف بالخرافة، تهيئة لإطلاق صفارة الإنذار تشي عن هذه الحقبة بأنها ليست الحرب العالميّة المسلحة بالموت ولكن هذه المرّة الحرب العالميّة على الحريات والحقوق والإنسان بعيدًا عن السياسات رغم أن السياسة وراء كل شيء في هذا الكوْن، وبعيدًا عن الانحياز، وخاصة في الحروب التي لا تولد سوى القصص التي تبدأ من يومٍ عاديٍ، وفجأة تبدأ قصة، تتضخم وتنمو ككرة الثلج ولكنها من جحيم أشبه بنهاية الكوّن ونهاية الإنسانية على الأرض التي بدأت تتآكل أمام صمت الحملان والسكين تقترب من رقابها قبل أن تذبح وتسفك دمائها وتدفن مع الرماد، لا بالرصاص بل ولأسوء بالسرطان والعالم يرقص على الطبلة والمزمار...لقد بدأ عصر جديد لا مكان فيه للحرية، فمن يتطلّع للشمس أن تشرق من شرفتهِ، فاللجوء ممنوع إذا كان من أجل التعبير، الجوّ لا يسمح ومن لم يمت بالمسدس سيموت بسرطان العزل والإقصاء وكلهما مرّ وأشدّ فتكًا من المشنقة والرصاصة...
نتأ هذا المقال هديّة داميّة، ليس من عدمٍ، بل من قصةٍ حقيقيّة أفرغت مع الكاتب مرارتها وسردت هذه السطور عن حبكة واقعيّة، نسجت مع الكاتب عصارتُها في لحظةٍ كانت طبيعيّة، شمسٌ مشرقة، وهواءٌ نقي وشرفةٌ تطلُّ على العالم السحري...الأمّل والمستقبل...فجأة أُصبتُ بسرطانِ الرئة، وأين؟ قرب الشريان الأورطي المحاذي للقلب، فبدأتُ رحلتي الخرافيّة مع العلاج...لن أروي عن التسهيلات والقنوات العلاجيّة المتقدمة والفحوصات، والمتابعات والأسئلة المنزعجة من قِبَل الأصدقاء والأهل والأحبة، وكل هذه السلسلة النابعة منذ الإعلان عن الإصابة وما رافقها من تذاكر سفر ومطارات ترانزيت ومطارات أوروبية، وعبور هادئ لمدنٍ والأدوية والعمليات الجراحية والمستشفيات العالمية والمرافقين، كل ذلك الحراك الدولي من أجل إزالة كومة الرماد الجاثمة من فوق الجمرة السرطانية العاهرة، وإزالتها والعبور الآمن بعد أيام قليلة...
2

هؤلاء ضحايا السرطان، لم يأتوا أيضًا من فراغ. دكتاتوريات فرضت الحرب، حريات فقدت وحقوق خرَقت وداست عليها العقب الحديديّة، ثم أتمّ مرض السرطان الطريق وأجْهَز بصمتٍ ضوضائي على الملائكة. سلاحه الفتاك الورم الحربي، الذي تمّ الإعلام عنه في بيان لمنظمة آكشن إيد الدولية متباهيًا بالأعداد التي ذكرت، "أن عشرة آلاف مريض بالسرطان في قطاع غزة محرمون من الحصول على الأدوية والعلاج، في ظلّ استمرار القصف ونفاد الإمدادات الطبية، ووصول النظام الصحي إلى حافة الانهيار، أظن أنهُ الآن قد انهار. وتطرقت المنظمة إلى المستشفيات في غزة المخصّصة لعلاج الشرطان كمستشفى الصداقة التركي الفلسطيني، وغيرها من المستشفيات التي توقفت عن العمل منذ الأول من نوفمبر 2023 وبقية الخدمات التي بالكاد تتوفر لديه وسائل العلاج الأساسية، في حين يحتاج مرضى السرطان إلى رعاية خاصة وأدوية، وعلاجات ووجبات غذائية وذكر التقرير".

من جهتها، صحيفة نيويورك تايمز ذكرت في تقرير لها حول هذه "الحالة باليائِسة أن ما لا يقل عن 30 طفلاً مريضًا بالسرطان لم يتمكنوا من الخروج من غزة، وقال عمال الإغاثة للصحيفة إنه في ظلّ فوضى الحرب، لم يعد بإمكانهم الوصول إلى عائلات هؤلاء الأطفال"
"جريدة الشرق الأوسط من لندن ذكرت أيضًا في تقرير لها على لسان اختصاصي علاج الأورام علي أحمد، "إلى جانب آخر من المعاناة المتعلقة بالأطفال المرضى، قال إن عددهم يقدَّر بـ 3 آلاف طفل نصفهم تقريباً يعانون (سرطان الدم) الذي لا يحتمل انقطاع العلاج، بل يحتاجون للعلاج خارج السودان" ويشرح أحمد أن "أزمة أسر الأطفال المرضى تزداد صعوبة عبر تنقلهم من ولاية لأخرى بحثاً عن العلاج، مما أدى إلى تدهور حالتهم الصحية، بسبب الرحلات الشاقة في طرق غير ممهدة وغير آمنة، وبتكلفة لا تستطيع معظم الأسر تحمّلها"
الحزام الناري السرطاني ظل يلاحق الأطفال كاللعنة الشيطانيّة عنوانها الحرب، وأبطالها المتحاربون. من تدين؟ من المسؤول؟ السياسة هي الحرب والحرب هي السياسة، وإن انزلقت مع هذا الطرف أو ذاك فذلك لن ينقذ الأطفال، والحق أن هناك الظلم، يلحق بالأطفال، فلن ينقذ هذا الانحياز الأطفال ولن يوقف موتهم البخس ولن يُعيد الموتى منهم حتى لو كانت الجنة هي الوعد، فقد تذوقوا العذاب الخرافي والألم الأسطوري، ولفظوا أنفاسهم الطاهرة الأخيرة بصمتٍ كحملانٍ غصت بهم الدنيا ولم يجدوا فجوة سوى الموت.

"من جوف منظمة "جوانا أمل"، التي تنشط في علاج سرطان الأطفال، ذكرت الناشطة صفاء الأصم، أن الأطفال هم المُتضرِّر الأكبر من هذه الحرب وبالتحديد مرضى السرطان، مشيرةً إلى أن هؤلاء الأطفال كان يتوفر لهم بالتعاون مع المنظمات والمبادرات التطوعيّة، مكانًا في كل مدينة بها مركز للعلاج وبالتحديد في الخرطوم، والتي كانت أكبر مراكز العلاج". جريدة الشرق الأوسط.
3
المصابون بالسرطان من كل الأعمار، لم يعد العالم يعني لهم شيئًا على الإطلاق، بل أضحى مقبرة تنتظرهم قبل الأوان وبالنسبة للأطفال فلم يعد العالم آمنًا يصلح للتنفُّس بدلاً من الحياة، حتى التعايش مع السرطان والقبول به والتكيف معه وهو الإقليم الصحي المُتعارف عليه لم يعد متاحًا للكبار والصغار...لقد ارتبط السرطان بالموت كما ارتبط الموت بالحروب، ولكن بالنسبة لفلسطيني غزة والسودان بالذات تحالف الموت مع السرطان معًا وبذات الوقت مع الحرب العبثيّة، فمن لم يمِت بالرصاص فبالسرطان والأغلب بكليهما، بل هنا من فضل الموت بالحرب قبل أن يبتلعهُ السرطان، فالرصاصة أو القنبلة أرحم من التآكل ببطيءِ مع الآلام والمعاناة وخلو اليد من المُسكن وحتى من الهواء النقي!!هل يرى العالم في القرن الحالي الذي تجري فيه أعقد وأسهل وأرقى وسائل مواجّهة السرطان وما بلغته معجزات التكنولوجيا الطبيّة من وسائل أسطورية لمجابهة، هل يرى هذا المرض الفتاك وعذاباته الخرافيّة، الجسدية والروحية، والنفسية؟ أن هناك آلاف الكبار والصغار، أطفال وشيوخ في رقعة من العالم المعاصر يواجهون بركان المرض دون نسمة هواء...يقبعون على الرصيف والأنقاض والخيام المهلهلة وهو يتحدون بل يستسلمون للموت وكأنه الصلاة الأخيرة لهزم كرة النار والجحيم الدراماتيكي...ثمّة ملْهاة تحدث هناك في غزة خارج نطاق الحرب والسياسة ومثلها مأساة أخرى تقع في السودان على أي طرف تقع المسئوليّة يا ترى؟...من دون انحياز ولا تورُّط بالسياسة، ثمّة حرب غير إنسانيّة تُشارك فيها كل الأطراف، وقودها مرضى السرطان الذين بدون ربّ يحميهم وبلا غطاء، فمثلما تخلى عنهم العالم، تخلى عنهم كذلك الربّ رغم أنه يراهم ويسمع أنين عذاباتهم لكن يبدو أن هنالك حلقة مفقودة في الكوْن فرطت من سلسلة الإنسانيّة، وكشفت وصمَة العار عن الدين والسياسة والبابا وشيخ الأزهر والساسة والعلماء والأطباء وأخيرًا، الجميع تخلو عن هؤلاء...لا تقل إسرائيل ولا تقل منظمة حماس ولا العرب أو أمريكا ولا أوروبا...الكوْن برمته يشهد مأساة تحالف الحرب والسرطان، غياب العلاج حتى البدائي ولو في أتفه حالاته، نفاذ الأدوية، خروج المستشفيات وعيادات السرطان من الخدمة، إغلاق الحدود، الجوع والعطش...انسداد الأمل، كل ذلك شارك فيه الجميع بنفسِ الوتيرة والدرجة التي بلغت تحت الصفر...ما ينطبق هنا على الكارثة الإنسانيّة في غزة تنسخه الحرب في السودان، إذا صُنِفت كذلك، بخلاف الصمت والنسيان والمرض والمعاناة تكتّتب أسهمها على ذات الرصيف الذي ينتظر على طرفيهِ المصابون بالأورام الموت بقرارٍ من البشر أنفسهم الذين تسببوا في ذبح الأطفال والشيوخ والعجزة والأنفُّس البريئة كافة وقد كُتب عليها في غيبوبةٍ دولية أن تموت بصمتٍ ولا تلوذ بصراخٍ لأنها موقنة من لا أمل ولا داعٍ للاحتجاج فالعالم سدّ أذنيه حتى وهو يسمعها، وهذا أشدّ عذاب من المشنقة والرصاصة...العالم توقّف هناك بعيدًا يتفرج وقد أصابه الفساد...!
بعد أن تخلى العالم والله عن هؤلاء الأطفال بالذات، وهم الغير قادرين على حماية أنفسهم وتدبير شئونهم، ماذا تبقى لهم؟
"بتاريخ 6 ديسمبر وزارة الصحة ووقاية المجتمع بدولة الإمارات العربية المتحدة، نعت الإدارة وفاة طفل من الذين وصلوا إلى الدولة قادمين من قطاع غزة، والذي كان يعاني حالة حرجة ومرحلة متقدمة من مرض سرطان الدم الليمفاوي الحاد. وأشارت الوزارة إلى أن الطفل البالغ من العمر 6 سنوات كان يعاني من مضاعفات عدة، وفور وصوله إلى الدولة تمّ نقلهُ إلى إحدى المنشآت الصحية المتخصّصة لاستكمال علاجه، إلا أن وضعه الصحي استمر في التفاقم إلى أن فارق الحياة"

كم مرّة يجب أن يُعاقب هؤلاء الأطفال حتى نوقظ الضمير الميت فينا؟ إن من عانى السرطان وهو في جنة صحية يعتبر ملاكًا لتحملهُ النفسي والصحي والهاجس مع هذا التحدي الوغد، فما بالك بأطفال صغار لا يملكون من الأمّل حتى اسمه وهم يواجهون هذا المرض الوغد وحدهم في الخلاء وبفصل الشتاء ومن دون غطاء من السماء ولا رحمة من الأرض...هل بلغ الضمير العالمي في غزة والسودان وأفغانستان وغيرها من أجزاء هذا الكوكب نقطة اليأس؟ يقول بعض السياسيين وهم يواجهون حقيقة هؤلاء الأطفال، يجب أن يكون لدينا ضمير. لكن قبل ذلك ما يحتاجه هؤلاء الملائكة الأبرياء وهم في عالم الصمت مكتفون، هو الأمّل...أين الأمّل الذي هو التحدي؟ هل فقدناه؟ هنا الكارثة، فعالمٍ بغيّر أمّل هو عالم ميت، هل مات عالمنا؟
هذه عينة إنسانيّة لأطفالِ السرطان والحرب، هذا ما يلقاه العديد من الأطفال من مصيرٍ متاهي وغير مبرّر في القرن الحادي والعشرين في غزة والسودان، وكل مكان منسي من قِبَل العالم تطحنه الحروب وتخلف ملائكة لا سماء تحميهم ولا أرض ترعاهم، يرحلون بصمتٍ ووجعٍ ودمعة حائرة تسأل: ماذا جنينا؟ تُرى هل ثمّة بقيّة من أمّلٍ يلوح في الأفق؟! يقول الشعراء في قصائدهم غالبًا، دعوا الشمس تشرُق فأجمل الأيام يومًا لم تأتِ بعد. هل نصدقهم ونعلق يافطة "ممنوع اليأس؟" أم نكتفي فقط بالرجاء، وترك أطفال السرطان لمصيرهم يحلقُ مع السحاب للسماء؟

****








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلينكن مصمم على التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار بين حماس وإسر


.. شبح الحرب يخيم على جبهة لبنان| #الظهيرة




.. ماهي وضعية النوم الخاصة بك؟| #الصباح


.. غارات إسرائيلية تستهدف كفركلا وميس الجبل جنوب لبنان| #الظهير




.. إسرائيل منعت أكثر من 225 ألف عامل فلسطيني من الوصول لأماكن ع