الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كلُّ شيءٍ قراءة

فاروق عبد الحكيم دربالة

2024 / 3 / 19
الادب والفن


إن الفعل "اقرأ" أول ما نزل من عند الله في قرآنه يخاطب به نبيه ومن اتبعه من المؤمنين . إنه فعل القراءة , بداية الفهم , وبداية العلم , ومحط ومفهوم النبالة في مقاصد الأنبياء و الرسل والصالحين والمصلحين والعلماء .

لقد ورد الفعل بصيغة الأمر ( اقرأ ) مرتين في سورة العلق , و مره ثالثه في سورة الإسراء " اقرأ كتابك كفي بنفسك اليوم عليك حسيبا " آية 14 وفي سورة الحاقة ورد بضمير الجمع في قوله تعالي " فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه " آية 19 .

إن حفاوة الكتاب الكريم بفعل القراءة تستمد روحها وتوهجها من شرف المقصد ونبالة الهدف , وروعة المصير , لأن القراءة فعل يأتيه الملأ الأعلى , ويأتيه الإنسان, و هو مأمور به , مكلف , فالكون الفسيح كتابه , والأرض بما فيها ومن فيها مداه الأرحب , والطبيعة صور وسطور وعلائق ومدارات من الجمال والجلال , في حالتي الحركة والسكون , وفي حالي الصمت والإفصاح , والإنسان ينبغي له الحرص على التنقل والتبصر والتأمل والتفكر والتدبر ؛ ومن ثم يكون الاسترجاع والاقتناع والتمحيص والتثبت ؛ لكي يكون للنفس انطلاقها الحر , وهي تمارس السياحة في الأرض , ولكي تكون للجوهرة الني يحملها المرء في رأسه قيمتها الناجزة , ووظيفتها القائمة , فتمتص وتستوعب وتستلهم , وتستزيد وتستوي راشدة مفعمة بالحكمة , شاخصة نحو جميل سديد وبديع جديد .

إن العقل البشري مرهـون بواقعه الذي قد يكون محدوداً فقيراً , وبمعطيات هذا الواقع التي قد تكون هزيلة بينما ضالته الكبرى هي التفكر والتدبر والحكمة , ولا مجال إلا بفعل قراءة تتناغم مع صفحات الوجود , ويشتد اتصالها بالآفاق المرئية والمسموعة والمشمومة والملموسة واللامرئية والماورائية , وتلك فضيلة لا يقدر أن يتحلي بها إلا الموفقون ، وإلا العارفون .

" كل شيء قراءه " قالها الشاعر محمد عفيفي مطر في ضمير القصيدة ؛ ونحن هنا نقول إن المشاهد ، والمواقف ، والمساوئ ، والمحامد قراءة ، ونظرات العيون، وخلجات الوجوه قراءة . والمسافات ، والمجازات ، والصباحات ، والتعلات ، والعلامات ، والفضاءات قراءة . والسجايا ، والحكايا، والمرايا، والبلايا، والمزايا، والخفايا، كلها قراءة في قراءة , كل شيء قراءة . ومبلغ الظن أن فعل القراءة يمتد ويشتد ، ويصير أوعي وأعمق كلما غامت المشاهد ، وانبهمت المواقف , وتعقدت المسالك ، وتفرقت الدروب والقلوب ، وكلما ضاعت العلامات ، و أظلمت السبل ، وقل الحكيم والخبير والمستنير , وآلت الأمور إلي ذوي النفوس المتعبة والعقول المسطحة , والحكمة الغائبة ، حتى إذا هجم الرعاع ، وانكسر الرأي الشجاع ، وسيطر السوقة حتى رجحت كفتهم ، ولاذ الأصلاء والنجباء والنبلاء مدحورين بصمتهم ، وقله حيلتهم - فهنا تكون الحيرة ، وتضل العقول ، أو يغم عليها ، فتصبح للقراءة مكابداتها ، ومحاذيرها ؛ لوعورة الطريق وقسوة المُعاش .

وحين تكثر الأقنعة وتتشكل وتتنوع وتصطخب ، وتصبح – في معظمها- فاجرة ماكرة ، فعلى القراءة أن تشتد وتقوى ، خاصة إذا رأينا :
" رؤوس الناس على جثث الحيوانات
ورؤوس الحيوانات على جثث الناس "
كما قال صلاح عبد الصبور في ( الظل والصليب ) وحينئذ يصبح كل منا معذوراً إذا تحسس رأسه .

إن للقراءة - بمفهومها القريب - أنواعاً كثيرة ومستويات عديدة ، أما القراءة الأدبية ، وقراءة النص وقراءة التثاقف ، فقد وقف عندها النقدة وأهل الأدب واللغة ، وفصلوا واستزادوا في كنهها وطرائقها ومجالاتها وعلاقاتها بالإبداع ، تؤنسهم في ذلك نظريات التلقي وقضايا اللغة في الشرق والغرب ، وتلك منعرجات ومباحث لن نعرض لها هنا .

وعلى المستوى الجاد للقراءة فإن علاقة القارئ بالمقروء ينبغي لها أن تكون علاقة رغبة واشتهاء ، أزعم أن الأمر يصل أحياناً إلى حد العشق بل التماهي والتوحد ، كما أن تلك القراءة تصبح فاعلة مثمرة بعيدة الأثر ، متعاظمة القيمة ، كلما اقترنت بفعل التخير ، بل الانتقاء والاصطفاء لما يقرؤه القارئ ، وفي ظني أن مسألة النهم في القراءة هي أمر نسبي ، فهي لا تؤتي ثمارها في كل آن وفي كل حال ، ولذلك فإن علينا أن ننظر إلى جودة ما نقرأ وقيمته وجدواه ، قبل أن نقدم عليه كلما أمكن ذلك ؛ فليس في العمر متسع لإنفاق الوقت في التخبط ؛ لأن العقل الذي تدخله هوام الأفكار ويستبيحه الغث بجوار السمين ، هو أشبه بمعدة مفتوحة على كل شيء دون تخير وتمييز ، فهي تلتهم ما تصادفه ، وتلك ( رمرمة ) لا يكون وراءها إلا جهد كبير ومحصول قليل ، وربما حيرة أو قلة فائدة .

" كل شيء قراءة " والقراءة تتكئ على تراكمات ما سلف من قراءات جيدة وذات قيمة؛ فهي ممارسة تعقبها خبرة ، والعلاقة بينهما طردية توافقية ، كأي حرفة فنية ، تزيد فيها القدرة والمهارة ومستوى الخبرة والفائدة ؛ كلما زادت الدربة والممارسة وتقادمت وتأصلت ، على ألا تكون تلك الممارسات هدفاً في ذاتها ، أو مجرد عادة ، كالتحديق في الناس ، أو واجهات المحال التجارية ، إذ لا بد أن يصل المغزى والمزية إلى الداخل ، فيناوشه ويقلق راحته ، ويجعلنا نعيد النظر من جديد في كل ما استقر لدينا ، لنعاود اكتشاف الوجود والأشياء ، ويصبح المغزى هنا أشبه بمنصة انطلاق للخبرات الكامنة والمضافة ، حين يكون أوان تفعيلها وانطلاقها ، في حالات أو مواقف مشابهة ، تحفز تلك الخبرات ؛ لتفعل فعلها المأمول .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل