الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حلمٌ هيروغليفيّ: شارل بودلير وأقماره السّودُ

أسماء غريب

2024 / 3 / 19
الادب والفن


شارل بودلير، الشّاعر والأديب الرّجيم، هكذا اتّفق نقّاد زمانه على تسميته، وها أنذا اليوم أتذكّره. مرّت أزيد من عشرين سنة على أوّل مرّة قرأته فيها، ولم يتغيّر بداخلي شيء نحو ثورته الفكريّة العميقة، مازال حرفه لليوم فاتناً، ساحراً وسيماً وأنيقاً إلى أقصى درجات الإبهار. ولعلّ أناقته هذه هي الّتي تسبّبت في كلّ ذاكَ الضّجيج الصّاخب الّذي أُثير حول وضدّ الشّاعر بمجرّد أن ظهرَ ديوانه العجيب الّذي اتَّفَقَ معظم مَنْ ترجمه إلى اللغة العربيّة على عنونته بـ (أزهار الشرّ)، ولو تُرجِمَ إلى (زَهْر ليليث) لكان أفضل. وذلكَ لأنّ بودلير ما كان ليصل إلى ما وصل إليه من فتوحات شعريّة وفكريّة لو لم يكن مقترناً روحيّاً بليليث، ولا أعني بهذه القرينة شيطانة ما من تلك الشيطانات التي يؤمن بها العقلُ الجمعيُّ لمعظم الأدباء، وإنّما أقصدُ بليليث القمرَ الأسود، أيْ الوعيَ الّذي يتحقّقُ في أرض البدن المعروفة عندنا بأرض مصر، أو مَخْبَر التحوّلات الخيميائيّة والرّوحيّة التي يمرُّ بها الإنسان أثناء رحلة الخروج من الظّلمات إلى النّور، وهذا ما يظهر بشكل واضحٍ في نصّ بودلير التالي والّذي يقول فيه:
((في الأقبية التي لا يُسْبَرُ حزنُها
تلكَ التي نفاني إليها القَدَر في زمنٍ مضى
حيثُ لا يدخُلُ شعاع ورديّ مبهج
أجلسُ وحيداً مع الليل؛ هذا الضّيف العابس
أنا كرسّامٍ حكم عليه إله ساخر
أنْ يرسم واأسفاه لوحة فوق الظلمات
أو كطبّاخٍ مأتميّ الشّهيّة
أسلقُ وآكلُ قلبي
وأحياناً يلتمع ويستطيل وينتشر
شبحٌ صنع من غنجٍ وروعة
وعلى هدي هالته الحالمة الشرقيّة
وحينما يبلغ أقصى اكتماله
أعرفُ زائرتي الحسناء
إنّها سوداء لكنّها مضيئة))
حينما قرأ النّقّاد قصائد بودلير كانوا يحملون بين أيديهم مسطرة الأخلاق والدّين، لأجل هذا اعتقدوا أنّ الشّاعر شيطان رجيم، لا أحد بينهم قرأ للعمق لآلئ الحكمة والنّور في أبياته، ولو كان لهم بعض من بُعد النّظر والدّراية بعلوم صنعة الإنسان لفهموا أنّ بودلير لم يكن يتحدّثُ عن نفسه ولا عن حياته في معظم نصوصه بما فيها النّقديّة، كلّ ما في الأمر أنّ الرّجل كان يتحدّثُ عن رحلة الإنسان الرّوحيّة، ولأنّ الأمر كذلك فسوف يجد القارئ اللّبيب نفسه في كلّ نصّ خطّته يد الشّاعر، فمن منكم لم يقترن بليليث يوما ما؟! أنت أيّها القارئ امرأة كنتَ أو رجلاً، لابدّ لكَ أن تمرَّ بهذه المرحلة، بل لا بدّ لروحكَ من أن تُعاينَ في باطنها اللّيلةَ الشّديدة الإظلام وسلاطينها، هناك حيثُ تُصبحُ طبّاخاً مأتميّاً تسلقُ قلبكَ وتأكلهُ، ليحدثَ التّطهير بالنّار والماء، ويقع التحوّلُ المُبْهِجُ، فتنفتح عينكَ البرزخيّة، ويصبحُ قلبُكَ بصيراً، وترى ليليث، سلطانة الليل في أبهى تجلّياتها؛ قمراً أسودَ مضيئاً، لا تستغربِ الأمر عزيزي، فقد أكّده بودلير وهو يسمّي ليليث باسمها الحقيقي قائلا لها: (يا قمر حياتي)، اقرأ فقط معي هذا النصّ وستتوضّح لكَ الفكرة:
((الشّمسُ تتلفّعُ بغلالة رقيقة
فاتّشحي مثلها يا قمر حياتي بالظلال
نامي أو فدخّني على هواكِ
وكوني خرساء وغامضة
واغرقي بكلّيتِكِ في لجّة السّأم
فأنا أحبُّكِ هكذا
ولكن إذا أردْتِ اليوم
أن تختالي في الأماكن التي يزدحمُ فيها الجنون
كما يختالُ نجم خرج من كسوفه
فلا بأس عليكِ أيّتُها الخنجر الفاتن
اخرجي من غمدكِ
أشعلي أحداقكِ على لهب الثريّات
وأوقدي الرّغبة في عيون غلاظ القلوب
فكلّ ما يصدرُ عنكِ من نزق واعتلال
هو مصدر لذّتي
كوني كما تريدين، ليلاً حالكًا أو صباحاً ورديّاً
فليس في جسدي المرتجف كله عصب واحد
لا يصرخُ: آهٍ يا عزيزتي بعلزبول أعشقُكِ))
أجل إنّها الرّوح في أوّل لقاءٍ لها مع ليليث حارسة العتبة التي تفصل بين النّور والظلمات والمسمّاة ببعلزبول في صيغته الأنثويّة، ولا أعني به هنا رئيس الأبالسة وفقاً لما ذهبتْ إليه معظم التأويلات الدينية المسيحيّة منها والعبرانيّة، وإنّما أقصدُ ليليث حاكمة العالم السّفليّ في مملكة البدن والساهرة على شؤون الرّوح أثناء رحلتها الشّاقّة نحو نجم الشّمال، وقد اصطلح بعض العرفاء على تسميّة هذه العوالم السّفليّة بمملكة المَيامين السّود، وهم أرباب وسلاطين علوم تحويل المعادن الرّخيصة إلى أخرى ثمينة، وهذا الأمر إذا ما بحثنا عنه في حياة شارل بودلير فسوف نجد أنّ هذا الرّجل قد بلغ من صفاء الرّوح شأنًا عظيمًا لدرجة أنّ باطنه أصبح موافقًا لظاهره، وإذا كان قد رأى عياناً ليليثه في عوالمه الجوّانيّة، فإنّه حتى في حياته الظّاهرة اقترن بامرأة سمراء هي الهايتيّة "جين دوفال"، ملهمته الرئيسة في رحلته الباطنيّة مع الحرف، ولولاها لما تخلّص الشِّعرُ من قيوده، وما عرفنا ما القصيدة النّثريّة. إنّها ميمونة شارل، وجنّيته الظاهرة والباطنة، حاكمة مملكته والقائمة بشؤون الحرف والفكر لديه.
لا بدّ لمن يريد أن يقرأ بودلير أن يكون عارفاً بالله، أقول هذا لأنه العارف وحده من يستطيع فكّ رموزه، سوف لن تخيفه لياليه الطّويلة في حضرة جنّيات الخيال والإبداع، ولا أحاديثه عن إبليس وزياراته له في غرفته العالية، بل على العكس من ذلك تماماً، لأنّه سيرى في بودلير وجه المبدع الحقّ، ذاك الّذي لا يكذبُ مدّعياً بلوغ الفراديس العليا قبل المرور بالجحيم. وكيف نكذّبُ الشّاعرَ والله جلّت وعلت قدرته يقول: ((وإن منكم إلّا واردها كان على ربّكَ حتماً مقضياً)) ؟!. ففي الوقت الّذي يحاول فيه الكثير من المثقّفين إدّعاء الفضيلة والقداسة وهم ليسوا منها في شيء، يظهر لنا بودلير نفسه كصوفي متمرّد، بل متديّن له من اليقين ما يحوّل الجبال من أماكنها، إلى درجة تسمح له باختراق شكليات الدّين الغوغائيّ الّذي يؤمن به العامّة من الناس بالطريقة الهوسية التي تنحّي العقل جانباً وتفرض إيديولوجية القطيع الأعمى.
وحده العارف بالله سيرى في بودلير المثقّفَ المؤمن بضرورة وجود عناية إلهية تسيّرُ هذا الكون، ولكنها ليست ضرورة طاغية بقدر ما هي ضرورة تسري وفق الميكانيزمات التي تضمن لكلّ الكائنات الحيّة حريّة الانوجاد والتفكير والعمل.
ولقد كانت القصيدة بالنسبة لبودلير هي المِخبَر الّذي أوصله إلى هذا النوع من الخلاص العقائديّ وأكّدَ لهُ أنّه لا بد للإنسان من عنصريه الأساسين ليكتمل؛ الخير والشرّ، والليل والنهار، والضوء والعتمة، لأجل هذا أصبحت الكتابة بالنسبة للشّاعر صلاة من نوع جديد، وطاقة وطقساً سحريّاً عجيباً يقتضي نوعاً خاصّاً من المصطلحات، ومن الحريّة في التّعبير والكثير الكثير من جنّيات الإلهام السّود المضيئات، ومن بحار الجدائل الأنثويّة التي يغرق الشّاعر في سحرها وعطرها وبخورها وتعاويذها الجماليّة المذهلة. هذا كلّه هو بودلير، إنّه الشِّعرُ والسِّحرُ، إنّهُ القصيدة المتحرّرة من قيودها، إنه صعلوك صوفيّ نبيل، يكره الوعظ والإرشاد، ويمقت أخلاق الأغبياء الّذين يرتدون الفضيلة قناعاً، ويلتزم بقواعد خاصّة به بشكل صارم لا هوادة ولا تنازل فيه بشكل جعل منه قدّيساً في نظر نفسه أوّلا وفي نظر من يفهم لغته الخيميائيّة المبهرة.
لم يكن بودلير حزيناً كما أشيع عنه، ولا مكتئباً ولا أيّ شيء من هذا القبيل، إنّه كان صاحياً وواعياً جدّاً، جرّبَ السُّكر بنوعيْه، شرب من خمرة الدّنيا وأكلَ من أفيونها، ثمّ شربَ في نهاية الرّحلة من الخمرة الإلهيّة الصّافية، وهذا قد ظهرَ بشكل جيّد في كتابه (الفراديس المزيّفة)، والتي فيها وجدتُه أديباً يدعو إلى الاهتمام بالعقل دون إغفال الرّوح، ولا اللّغة ولا الفكر ولا الواقع ولا الخيال ولا حتّى مملكة الأحلام، وذلك ليستطيع السّالكُ أن يصل بالشِّعْر إلى المعادلة المستحيلة والتي أعني بها؛ إيجاد الجمال في القبح، واستخراج الماس من الفحم، واكتشاف ما هو روحانيّ فيما هو لغويّ، وما هو جوّاني فيما هو خارجيّ، وما هو ماورائيّ فيما هو من صميم الواقع والعكس صحيح. هكذا فقط يمكن للأديب العارف أن يسحب البساط من تحت أقدام أولئك الّذين يبحثون عن موديلات لتبرير حربائيتهم ونفاقهم المقيت، موتى الرّوح الّذين لا يعرفون كيف يميّزون بين نفاق المثقّف الدّاعر وعرفانيّة الشّاعر الّذي عاهد نفسه على أن يعيش ويموت أمام المرآة الإلهيّة الكبرى، تلك التي عليها تنعكس فضائح الخاسرين الفادحة، وتُظْهر كلّ فاجر على حقيقته، وتخرّبُ نومة وعيه الطويلة، فلا يجد أمامه من حلّ سوى محاولة كسرها هرباً من بشاعته العارية كما يفعل منذ الأزل كلّ مثقفي الزيف والضلال الرّوحي، أولئك الّذين يتحدّثون كثيراً عن النّزاهة والشّرف والملائكة والقديسين كلّما اعتلوا منصّة ما من منصّات الكذب والفجور!
لا بدّ إذن من السّمو النّبيل، بل لا بدّ من الابتعاد عن مستنقعات الجاهلين، وهذا بالضّبط ما توصّل إليه بودلير حينما قال في نصّ (سمو):
((أنتِ يا نفسي تندفعين بخفّة فوق المستنقعات
والأودية والجبال والغابات
فوق الغيوم والبحار، وراء الشموس والأثير
وتشقّين كالمحراث وكسبّاح ماهر تطربه الأمواج
الفضاء الواسع العميق بنشوة عارمة لا توصف
طيري يا نفسي بعيداً عن هذه الروائح الكريهة
واذهبي وتطهّري في الفضاء الواسع العالي
وليكن شرابك الإلهيّ النقيّ، هذا الضّياء اللّامع
الذي يملأ أجواء الفضاء الصافية
ما أسعد من كانت أفكاره كطيور القُبّر
تنطلق في الصباح لتتابع طيرانها حرّة إلى السماوات
وما أسعد من يحلّق فوق الوجود
ويفهم دون كبير عناء
لغة الزهور والأشياء الصامتة))
نعم يا عزيزي بودلير، ما أسعد من يستوعب لغة الله ويفكَّ شيفرة الحياة، هذا الحلم الهيروغليفيّ العجيب ليتعلّم أخيراً أنّه لا بدّ للأديب من أن تتحقّق له الحياة كقصيدة يتعامل معها كما يتعامل مع الشِّعر بوصفه إشارة سحريّة، أو طاقية إخفاء يرتديها ليردم الفجوات بين الأشياء والأسماء، وبين الأصوات والروائح، وبين الأزمنة والأمكنة، وبين الواقع والخيال، وليسافر بعيداً من أجل أن يفتح الأبواب العصيّة ليكشف له الكونُ عن صَلاته الحميميّة، وتصبح الكتابة بين يديه مجال التحقّق الإلهيّ الكبير الّذي لا يغفل أيّ شرط من شروط إنسانيّة الإنسان!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب