الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان شبح الاهوار طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن

2024 / 3 / 21
الادب والفن


رواية للفتيان








شبح الاهوار







طلال حسن



شخصيات الرواية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ ليم

2 ـ الأم ـ بيهي

3 ـ

4 ـ الخالة ـ ام زهرة

5 ـ شبتو










" 1 "
ــــــــــــــــــ
حوالي العصر ، والشمس تطل من السماء ، متعبة ، دافئة ، وغيوم بيضاء تتناثر على مسافات منها ، والريح دافئة ، رغم أن الربيع في أوله .
في الأثناء ، دفع ليم مشحوفه بالمردي ، عبر مياه الهور الضحلة الصافية ، وأعواد القصب الخضراء الغضة تتمايل مع الريح الدافئة المعطرة بشذا النباتات والطيور المائية الجميلة .
ولاحت بيوت القرية القليلة المتفرقة ، المبنية من القصب وجريد النخيل ، واقترب ليم بمشحوفه من اليابسة ، ثم نزل منه ، وسحبه قليلاً بعيداً عن الماء ، وحمل السمكة الكبيرة ، التي اصطادها من أعماق الهور ، وسار متجهاً إلى البيت .
واقتربت منه امرأة متوسطة العمر ، سمراء البشرة ، عيناها الواسعتان سوداوان ، ونظرت مبتسمة إلى السمكة الكبيرة ، وقالت : يا لها من سمكة ، يبدو أنها من نوع سمك البز اللذيذ .
ورفع كاظم السمكة الكبيرة مبتسماً ، وردّ قائلاً : نعم ، إنها بز ، وهي من خيرات الهور .
وتوقفت المرأة ، وقالت : لنتقايض ، يا بني ّ ، أعطني هذه السمكة البز ، وسأعطيك طبقاً من القيمر اللذيذ ، قيمر جاموس الأهوار .
وهزّ ليم رأسه ، وقال : عفواً ، هذه السمكة اصطدتها لأمي ، وستفرح بها ، فهي تحب سمك البز .
واتسعت ابتسامة المرأة ، وقالت : ومع طبق القيمر اللذيذ ، سأعطيك سطلة من لبن البقر ، وأنت تعرف كم هو لذيذ لبن البقر .
وتوقف ليم ، ورفع يده بالسمكة الكبيرة ، وقال : خذيها هدية مني ، ما دامت تعجبك .
فقالت المرأة مبتسمة : أشكرك ، يا ليم ، إن ما تصطاده لأمك ، لا يستحقه أحد غير أمك .
وواصل ليم سيره ، وهو يحمل سمكة البز الكبيرة ، حتى وصل إلى البيت ، ودفع الباب برفق ، ومضى إلى الداخل ، وهو يصيح : أمي ، جئتك بسمكة بزّ كبيرة ، لم يجئك مثلها أحد من قبل .
لكن أمه لم تردّ عليه ، وكيف تردّ وهي غير موجودة في البيت ؟ وتلفت ليم حوله ، في عتمة المكان ، الذي لا يدخله ضوء النهار إلا من كوة صغيرة ، لا أثر لأمه ، ولم يتساءل ، حتى في نفسه ، أين هي ، فهو يعرف أين يمكن أن تكون في مثل هذا الوقت .
ووضع ليم السمكة جانباً ، وتمنى أن لا تتأخر أمه ، عند جارتهم العجوز المريضة ، فهو لم يأكل أي شيء ، منذ الصباح الباكر حتى الآن .
آه يا للمرأة العجوز المسكينة ، لم يعد لها أحد ، في هذه الحياة الصعبة ، منذ أن مات زوجها ، وقتل خنزير قذر ابنها الوحيد ، في دغل من أدغال الهور ، وعندما مرضت ، ولم تعد تقوى على النهوض من الفراش ، تناوبت نساء القرية على رعايتها ، وتوفير ما تحتاجه من طعام وشراب ودواء .
وتناهى إليه وقع أقدام متسارعة في الخارج ، وهزّ رأسه مبتسماً إنها أمه فاطمة ، ودُفع باب البيت ، ودخلت الام مسرعة، فنظر ليم إليها ، وقال : لابدّ أن قلبك أعلمكِ ، بأني جئت ، وجئتك بسمكة بزّ كبيرة .
وابتسمت الأم ، وقالت : لا يا بنيّ ، لم يعلمني قلبي ، بل أعلمتني أذناي ..
وضحك ليم ، وقال : فاتني ، يا أمي ، أنك مرهفة السمع ، وأنك تسمعين حتى همسي .
وغالبت أمه ضحكتها ، وقالت : إن صياحك ، الذي أسمع كلّ من في القرية ، وصل إلى أذنيّ .
وأشار ليم إلى السمكة الكبيرة ، وقال مازحاً : دعك من هذا ، يا أمي ، انظري ، جئتك بأكبر سمكة بز في الهور ، أنت تحبين سمك البز .
وألقت الام نظرة على السمكة الكبيرة ، ثم نظرت إليه بعينيها السوداوين ، وقالت : أشكرك ، إنها سمكة كبيرة فعلاً ، ولكن لدينا أيضاً طبقاً من القيمر ..
ولكي يرضي أمه ، تنهد : آه ..
وتابعت الأم قائلة : وأنت تعرف من جاءتك به ..
وتنهد ثانية ، وقال : آه .. أعرف .
وضحكت أمه فرحة ، وقالت : إنها ابنة خالتك زهرة ، زهرة الأهوار . .
ونظر ليم عبر الكوة الصغيرة ، إلى المساء الذي كان يهبط شيئاً فشيئاً ، ثم قال : سأزور خالتي كاشير أم زهرة هذه الليلة ، وأشكرها على القيمر اللذيذ .
وابتسمت الام ، وتساءلت : تزورها وحدك ؟
وردّ قائلاً : أنت متعبة ، والسهر يضرك .
وهزت الام رأسها ، وقالت : يبدو أن القمر سيسهر الليلة قريباً من الهور .
وقال ليم كمن يحدث نفسه : أنا أحب القمر .
وهمت الام أن تقول شيئاً ، فصاح : أنا جائع ..
وضحكت الام ، وقالت : لا تصح هكذا ، فضحتنا ، اسكت ، سأعد السمكة الآن .
ونظفت الام السمكة ، وشوتها على النار ، وجلست حوالي المساء ، تتناول طعام العشاء مع ابنها ، وقالت : كلْ ، وادعُ لي .
وتذوق ليم قطعة من السمكة المشوية ، التي كانت ما تزال ساخنة ، وقال : آه ما ألذها ، عاشت يدك .
وقالت الام ، وهي تأكل : السمكة كبيرة جداً ، وأختي ام زهرة تحب سمك البز أيضاً ، فاقتطعت جزء من السمكة المشوية ، خذها إليها .
وهزّ رأسه ، وهو يواصل تنال الطعام ، فتابعت الام قائلة : سلامي إلى خالتك ، أختي الجميلة ام زهرة .
وابتسم ليم كالحالم ، وقال مازحاً : لا تنسي ، وكذلك لابنتها ، التي تشبهها .
وضحكت الام قائلة : يا لأختي العزيزة ، فحالما وضعت ابنتها، ورأت كم هي جميلة، قالت هذه لابن أختي كاظم ، ولن تكون لأحد غيره ، مهما كان الأمر .
واستغرقا صامتين في تناول السمكة المشوية ، وقالت الام، دون أن تتوقف عن تناول الطعام: غداً ستأتي فتاة ، من قرية بعيدة ، وسترعى الجدة العجوز .
وقال ليم ، دون أن ينظر إليها : لابد أن هذه الفتاة ، قريبة من أقارب الجدة .
وقالت الام ، وهي تواصل تناول الطعام : أظن أنها فتاة يتيمة ، وهي في السادسة عشرة من عمرها .




" 2 "
ـــــــــــــــــ
على ضوء القمر ، الذي يطل بدراً من أعالي السماء ، ويغمر القرية ببيوتها القصب المتباعدة ، وكذلك مياه الهور ونباتاته الريانة ، بضوئه البارد الشاحب ، سار ليم وقطعة السمكة المشوية في يده ، متجهاً إلى بيت خالته ام زهرة ، القريب من حافة الهور .
وقد تعود ليم، أن يذهب إلى بيت خالته ، كلّ يوم تقريباً ، نهاراً أو في الليل ، وخاصة عندما يكون القمر بدراً في أعالي السماء ، صحيح إنه يحب خالته ، وخالته تحبه كثيراً ، لكن ابنتها ايمي ، بأعوامها التي تناهز الستة عشرة ، وعينيها السوداوين ، و .. ماذا يفعل ؟ إنها ابنة خالته ايمي ، وايمي هي .. ايمي .
وطالما تغنت خالته كاشير بشبابه، ووسامته، وشجاعته ، بحضور ابنتها ايمي ، التي تُسر لذلك ، وكانت الخالة تقول : إنه بوسامة أبيه وشجاعته ، و ..
وكانت تضيف أحيانًاً بصوت حزين ، وكأنها تتحدث إلى نفسها : آه الهور الغدار اللعين ، لقد توغل فيه ، في يوم مربد عاصف ، ولم يعد منه أبداً .
وعندما وصل بيت خالته ، طرق الباب برفق ، وصمت الليل كان يرين على المكان ، وعلى الفور ، فُتح الباب ، وأطلت منه ابنة خالته ايمي فرحة ، وما إن وقعت عيناها السوداوان عليه، حتى هتفت فرحة : أهلاً كاظم ، أهلاً ومرحباً .
ومال ليم عليها ، وقال لها بما يشبه الهمس الدافئ : أهلاً بك ، مساء الخير .
وصمت ليم مبتسماً ، عندما ارتفع صوت خالته من الداخل : من بالباب ، يا ايمي ؟
وردت زهرة قائلة : إنه ليم ، يا أمي .
وأقبلت الخالة فرحة ، وقالت : أهلاً ليم ، لماذا تقف بالباب ؟ ادخل ، ادخل يا حبيبي .
ومدّ ليم يده بقطعة السمكة المشوية ، وقال لخالته : اصطدت اليوم سمكة بزّ كبيرة، وشوتها أمي على النار ، وقالت لي ، خالتك تحبّ سمك البزّ المشوي ، وأرسلت لك هذه القطعة من السمكة .
وأخذت الخالة قطعة السمكة ، وهي تضحك فرحة ، وقالت : يا لأختي الحنونة ، مازلتُ عندها تلك الأخت الصغيرة ، التي لا تنفك عن رعايتها .
ثم نظرت إلى ليم ، وقالت : تعال ادخل ، يا ليم ، واجلس معنا بعض الوقت .
لكن ليم لم يدخل ، ورمق ايمي بنظرة سريعة ، وهمت الخالة أن تخاطبه ثانية ، فقالت زهرة : أمي ، الليلة مقمرة ، وليم يريد أن نجلس قليلاً تحت الشجرة القريبة ، المطلة على الهور .
ومدت الخالة يدها ، وربتت على ذراع ليم ، وهي تقول : اذهبا ، الليلة دافئة ، والقمر بدر ، لكن لا تتأخرا ، فالجو يمكن أن يبرد بعد قليل .
ودفعت ايمي خفية ليم ، وهي تخاطب أمها قائلة : أنت محقة ، يا أمي ، لن نتأخر .
فقالت الخالة : اذهبا إذن ، اذهبا .
وذهبا تحت ضوء القمر ، وسارا جنباً إلى جنب ، والخالة في مكانها بالباب ، تتابعهما بأنظارها ، وعيناها ـ لا تدري ما لسبب ـ تتنديان بالدموع .
وجلسا جنباً إلى جنب ، تحت الشجرة الضخمة ، القريبة من ماء الهور ، والقمر البدر يطل عليهما ، ويضيء أعماقهما الغضة بنوره الساحر .
ورمق ليم وايمي بنظرة خاطفة ، وقال لها : قالت لي أمي ، إنك خطبت مرة أخرى .
وأطرقت زهرة رأسها ، المكلل بشعر بنيّ قاتم ، وقالت : نعم ، خطبني صديق أبي من مدينة اور ، وهو تاجر غنيّ ، لابنه الشاب ، الذي يعمل معه .
ورمقها ليم ثانية ، بنظرة خاطفة ، وقال بنبرة مازحة : هذه فرصة ثمينة ، يا ايمي ، تزوجيه ، وعيشي معه ، بعيداً عن هذا الهور وأبقاره وجواميسه السوداء .
والتفتت ايمي إليه ، وضربته برفق على كتفه ، وقالت له مازحة : لن تتخلص مني بهذه السهولة ، يا ليم ، سأبقى هنا ، وأكون لك بالمرصاد .
وكتم ليم ابتسامته ، وردّ عليها قائلاً : أنت لا تعرفين مصلحتك ، اتركي الأمر لي ، سأحدث أمي ، وكذلك أمك ، وسرعان ما ستجدين نفسك في اور .
ونظرت ايلي إليه ، وقالت : ستقتلك خالتك ، إن لم تقتلك أمك قبل ذلك .
ومدّ ليم يديه ، واحتضن يد ايمي بينهما ، وقال مبتسماً : لتكن مشيئة الآلهة .
ورفعت ايلي عينيها السوداوين إلى السماء ، حيث القمر البدر ، تحيط به النجوم المتغامزة ، وقالت مبتهلة برجاء حار : يا عشتار..
واحتواهما صمت دافئ ، ويدا زهرة تغفوان متمتعتين بين يدي ليم ، وظلا هكذا لا يعكر صفوهما أي شيء ، بل إنهما لم ينتبها حتى إلى نقيق الضفادع حولهما .
وفزت ايمي خائفة ، ولاذت بأحضان ليم ، ويدها ترتعش كالعصفور الخائف بين يديه ، إذ ندت حركة مفاجئة من أجمة قصب قريبة .
وحضنها ليم ، وقلبه يخفق بشدة، وقال لها : لا تخافي ، لعله طائر ، هاجمته أفعى .
وتملصت ايمي من بين ذراعيه خجلة ، وهي ما زالت خائفة ، وقالت : كلا ، لا أظنها أفعى ، بل سعلاة ، هاجمت هذا الطير ، وافترسته .
وابتسم ليم ، ربما ليطمئنها ، وقال : سعلاة ! ماذا تقولين يا ايمي ؟ لا توجد سعلاة في الهور ولا دامية ، هذه تخاريف عجائز ، يُخيفون بها الأطفال الصغار .
ونظرت ايمي إلى ليم ، بعينيها الخائفتين ، وقالت : تقول أمي ، إن جدتها رأت السعلاة بأم عينيها ، وكادت تهاجمها ، وتفترسها ، لكنها سمعت نباح الكلاب ، فانتفضت خائفة ، ولاذت بالفرار .
وكتم ليم ضحكته ، فقالت ايمي ، وهي ما زالت خائفة : أنت لا تصدق هذا ، السعلاة موجودة .
وهمهم ليم ، دون أن يردّ بشيء ، فنهضت ايمي ، ومعها نهض ليم ، ونظرت باتجاه البيت ، وقالت : لنذهب إلى البيت ، لقد تأخرنا .
وسار ليم ، تحت ضوء القمر ، إلى جانب ايمي ، ويده تحتضن يدها ، وقال : ايمي ، لقد تجولت في الهور طويلاً ، في النهار ، وكذلك في الليل أيضاً ، فلم أرّ للسعلاة أثراً ، السعلاة في أعماق الصغار الخائفين ، ولن يراها غيرهم .
ووصلا إلى البيت ، وتوقفا صامتين عند الباب ، جنباً إلى جنب ، والقمر البدر ما زال يطل عليهما من أعالي السماء ، وابتسم ليم لايمي ، وقال لها : أرجو أن لا تري السعلاة ، في منامك الليلة .
ونظرت ايمي إليه ، وعلى شفتيها ابتسامة مترددة ، وقالت : سأفكر فيك طول الوقت ، وبذلك لن أرى السعلاة في منامي .
وضغط ليم على يدها ، ثم دفع الباب ، وقال : ادخلي ، يا ايمي تصبحين على خير .
فردت ايمي قائلة ، دون أن تغادر الباب: وأنت من أهله يا ليم ، رافقتك السلامة .














" 3 "
ـــــــــــــــــ
على العشاء ، في اليوم التالي ، كانت الأم مقطبة ، بل وقررت ، لسبب لا يعرفه ليم ، أن تلوذ بالصمت ، فلا تنطق ـ على غير عادتها ـ كلمة واحدة .
ما الأمر ؟
ماذا جرى ؟
هذا ما حاول ليم أن يعرفه ، خشية أن تكون أمه ، قد تكدرت من أمر ما ، وفكر .. هو شخصياً لا يذكر ، أنه اقترف ما يكدرها ، ما الأمر إذن ؟
ورفع ليم عينيه إليها ، وقال متردداً : آه .. الطعام لذيذ جداً ، يا أمي ، عاشت يدك .
وردت الأم بصوت جاف ، دون أن تنظر إليه : لكن النار أحرقته بعض الشيء .
وهمهم ليم ، وهو يرمقها بنظرة خاطفة : آه النار اللعينة ، الغادرة ، لابدّ أنك سهوت عنها لأمر ما .
وردت الأم بصوتها الجاف : كلا ، لم أسهُ عنها ، بل كانت قوية قليلاً .
وهمهم ليم ، وهو يرمقها بنظرة خاطفة : هم م م م م ، مهما يكن ، فالطعام لذيذ .
وصمت لحظة ، ثم قال : يبدو أنك لم تذهبي عند الجدة العجوز اليوم .
فتوقفت الأم عن تناول الطعام ، وقالت : بل ذهبت ، إنها بخير ، وتسلم عليك .
فتمتم ليم : ليسلمها الله .
ونهضت الأم عن السفرة ، وقالت : لن تحتاج إلى زيارتنا بعد الآن كلّ يوم .
ونظرت الأم إلى ليم ، وقالت بصوت جاف : سأرفع السفرة إذا كنت قد شبعت .
وتنحى ليم قليلاً ، وقال : ارفعيها ، لقد شبعت .
وراحت الأم تلملم بقايا الطعام عن السفرة ، وهي تدمدم ، كأنما تتحدث إلى نفسها : لقد جاءت الفتاة اليتيمة ، إلي بيت الجدة العجوز صباح اليوم .
ولعل ليم أراد أن يتحدث إلى أمه ، ويخفف عما بها ، فقال : قلت البارحة إنها شابة ، هذا أفضل ، فالجدة العجوز تحتاج إلى فتاة قوية ترعاها .
ورمقته أمه بنظرة خاطفة ، دون أن تردّ عليه بكلمة واحدة ، ثم رفعت السفرة ، وراحت تنظف الصحاف ، وتعيدها إلى أماكنها .
ومهما كان الأمر ، فإن الأم لم تزر الجدة العجوز ، في اليوم التالي ، هذا ما عرفه كاظم ، حتى دون أن يسألها ، وفي اليوم الثالث ، وهما يتناولان طعام العشاء ، همّ أن يسألها عن الجدة العجوز ، وإذا الباب يُطرق ، فنهض ليم ليرى من الطارق، فخاطبته الأم قائلة: تمهل ، يا ليم ، أنا سأفتح الباب .
لكن كاظم لم يتمهل ، ومدّ يده وفتح الباب ، وإذا شابة في عمره تقريباً ، فاتحة البشرة ، وليست سمراء مثل أهالي قريته والقرى التي يعرفها ، وشعرها بنيّ غامق ، على العكس من عينيها ، اللتين كانتا بلون العسل ، وقبل أن يتفوه بكلمة ، قالت الفتاة مبتسمة : أنت ليم .
وهزّ ليم رأسه ، وتمتم : نعم ، أنا ليم .
واتسعت ابتسامة الفتاة ، وقالت : لقد حدثتني الجدة عنك كثيراً ، وقالت إنك صياد سمك ماهر .
ولاذ ليم بالصمت ، لا يدري ماذا يقول لها ، فأشارت بيده إلى نفسها ، وقالت : وأنا .. شبتو .
وهتفت الأم من مكانه ، رغم أنها خمنت من تكون : ليم ، من بالباب ؟
ودخلت شبتو ، مجتازة ليم ، وخاطبت الأم قائلة بنبرة فرحة ، وابتسامتها الشابة ترفرف على شفتيها : طاب يومك ، يا أم ليم .
ونظرت الأم إلى ابنها ليم ، الذي كان ما يزال يقف بالباب ، وهو يحدق في شبتو ، ثم التفتت إلام إليها ، وردت عليها قائلة : أهلاً شبتو ، أرجو أن تكون الجدة بخير هذا اليوم .
وردت شبتو ، دون أن تتوقف ابتسامتها الفرحة عن الرفرفة فوق شفتيها : نعم ، إنها بخير ، والحمد لله ، وقد أرسلتني للاطمئنان عليك ، فأنت على ما تقول ، لم تأتي لزيارتها منذ يومين .
ومدت الأم يدها ، وأمسكت بذراع شبتو ، وقادتها إلى الباب ، وهي تقول : أنا كما ترين بخير ، قولي لها ، إنني سأزوركم صباح الغد .
ومضت شبتو ، وهي تقول مبتسمة : استودعك الآلهة ، يا خالتي ، أم ليم .
ثم لوحت لليم ، وابتسامتها الفرحة ترفرف على شفتيها النديتين ، وقالت : أراك قريباً ، يا ليم .
وأقفلت الأم الباب ، بشيء من الخشونة ، وخاطبت ليم قائلة : تعال نكمل عشاءنا .
وبعد العشاء ، همّ ليم أن يأوي إلى فراشه ، فرمقته أمه بنظرة سريعة ، وقالت : الجو دافئ ، يا ليم ، اذهب إلى بيت خالتك ، واجلس مع ..
وتمدد ليم في فراشه ، وقاطعها قائلاً : ذهبت البارحة إلى بيت خالتي ، وبقيت عندهم فترة طويلة .
وهمهمت الأم ، ثم قالت بعتاب مبطن : كنت تزور خالتك كلّ يوم تقريباً ، إن خالتك تحبك جداً ، وترتاح لزيارتك لها .
وأغمض ليم عينيه ، وقال : إنني متعب ، يا أمي ، وعليّ أن أستيقظ غداً مبكراً ، وأذهب للصيد .
لم ينم ليم ، رغم أنه كان متعباً ، ولعله لأول مرة ، لم يستحضر ابنة خالته ايمي في مخيلته ، وهو يحاول أن ينام ، وأوت الأم إلى فراشها ، بعد أن نظفت صحاف الطعام ، وأرهفت سمعها باتجاه كاظم ، وخمنت أنه لم ينم بعد ، فخاطبته قائلة : ليم ..
وكان تخمينها في مكانه ، فقد ردّ ليم عليها ، دون أن يتحرك في فراشه : نعم .
وتابعت الأم قائلة : تلك الفتاة ..
وسكتت الأم ، ثم قالت : شبتو ..
وخفق قلب ليم بشكل غريب ، وقال : شبتو ! إنها لا تشبهنا .
وقالت الأم : فتياتنا أجمل .
وتساءل ليم : من أين هي ؟
ولاذت أمه بالصمت لحظة ، ثم قالت : أنت متعب ، يا ليم ، نم الآن ، نم .







" 4 "
ــــــــــــــــــ
عاد ليم بمشحوفه من أعماق الهور، حوالي المساء ، والشمس المتعبة تقترب من مثواها الليلي ، وقد اصطاد عدة أسماك متوسطة الحجم ، وبدل أن يتجه بالأسماك إلى بيته ، اتجه إلى بيت الجدة العجوز .
وطرق الباب برفق ، وبشيء من التردد ، والأسماك المتوسطة الحجم معلقة بإحدى يديه ، وعلى الفور فتح الباب ، وأطلت شبتو بابتسامتها المشرقة ، وعينيها العسل ، وما إن رأته حتى هتفت : ليم ..
وتنحت قليلاً عن الباب ، وهي تقول : تفضل ادخل ، خالتي .. أمك عندنا .
وانقبض قلب الأم ، حين رأت ليم يدخل ، والأسماك المتوسطة الحجم معلقة بإحدى يديه ، واعتدلت الجدة العجوز ، وقالت فرحة مرحبة : أهلاً بنيّ ، أهلاً ومرحباً ، يا لله ، ليم وأمه مرة واحدة .
وتمتم ليم ، وهو يلمح أمه تحدق فيه بنظرة جامدة : أهلاً بك ، الحمد لله ، أنت اليوم أفضل .
وتراجعت فرحة الجدة العجوز ، وقالت : إنني امرأة عجوز مريضة ، يا ليم ، وأيامي في هذا العالم المتعب القاسي ، أمست معدودة .
ولعل ليم أراد أن يغير هذه الأجواء الحزينة ، فقد رفع الأسماك بيده ، وقال مخاطباً الجدة : اصطدت اليوم هذه الأسماك ، ولكم حصة فيها ، لنقتسمها ، فأنا وأمي تكفينا سمكتين من هذه الأسماك .
وقالت الجدة ممتنة : أشكرك ، يا بني ..
ثم خاطبت شبتو قائلة : شبتو ، خذي السمكتين من صيادنا الماهر .. ليم .
وأخذت شبتو السمكتين من ليم ، وقالت وابتسامتها الفرحة ترفرف على شفتيها : جدتي تقول ، إن أباك كان صياد سمك ماهر .
وابتسمت الجدة ، وقالت بصوتها الواهن : إن ليم أخذ المهارة من أبيه ، وهو الآن أمهر شباب القرية ، في صيد السمك من الهور .
وضحكت شبتو ، ونظرت إلى ليم ، وقالت : لست وحدك ماهر في صيد السمك ..
وابتسم ليم ، وقال : نعم ، هذا صحيح .
فتابعت شبتو قائلة ، وابتسامتها الفرحة ما زالت ترفرف فوق شفتيها : أنا أيضاً صيادة سمك ماهرة ، وقد خرجت للصيد مع أبي مراراً ، وتعلمت منه الكثير ، فقد كان شيخ الصيادين في قريتنا .
ونهضت الأم، وقد نفد صبرها ، فقد كانت طوال ذلك الوقت ، تتابع الحوار بين ليم وشبتو ، وخاطبت
ليم قائلة : الشمس تكاد تغرب ، يا بنيّ ، والليل يوشك أن يخيم ، فلنذهب إلى البيت .
ولم تنتظر الأم ، أن يتحرك ليم ، وشبتو إلى جانبه ، وإنما دفعته أمامها ، متجهة به إلى الخارج ، فلحقت شبتو بهما ، وهي تهتف : ليم ..
وهمّ ليم أن يتوقف ، ويلتفت إليها ، لكن أمه لم تمهله ، وبشيء من الخشونة ، دفعته ثانية ، وهي تقول له بصبر نافد : هيا ، يا ليم ، لقد تأخرنا .
وخرجت الأم بليم من البيت ، فلحقت شبتو بهما ، وخاطبت ليم من الباب : ليم ، سأخرج معك مرة ، وسأريك مهارتي في صيد السمك .
لم يرد ليم عليها ، فقد كانت أمه تسير خلفه مدمدمة بشيء من الضيق ، وعرف أنها غاضبة ، وخمن سبب غضبها ، وهتفت حسنه بصوتها الفرح : رافقتكما السلامة ، مع السلامة يا ليم .
وسار ليم صامتاً أمام أمه ، وهو يحمل السمكتين بإحدى يديه ، وقبل أن يصلا إلى البيت ، خاطبته أمه قائلة : لم تقل لي ، إنك تقدم أسماكاً مما تصطاده ، لهذه الفتاة الغريبة المسماة .. شبتو .
ومن غير أن يتوقف ، أو يلتفت ، ردّ على أمه قائلاً ، والشمس تكاد تغرب في الأفق : أنا لم أقدم السمك للفتاة الغريبة شبتو ، يا أمي ، وإنما للجدة العجوز ، التي طالما قدمت لها السمك بعلمك أو بغير علمك .
وحثت الأم خطاها ، حتى حاذت ليم ، وقالت له : لكن شبتو هي التي أخذت منك السمكتين .
وهزّ ليم رأسه ، وقال بنبرة صبورة : الجدة العجوز مريضة في فراشها ، وهي التي طلبت من شبتو أن تأخذ السمكتين مني ، فأخذتهما .
ووصلا البيت ، وقد غابت الشمس ، ودفعت الأم الباب بشيء من الخشونة ، وقالت لليم : ادخل ، وضع السمكتين جانباً ، سأنظفهما بعد قليل ، وأعدهما للعشاء ، فلا ريب أنك جائع .
ودخل ليم ، ووضع السمكتين جانباً ، ودخلت أمه وراءه ، ووقفت على مقربة منه ، وهتفت به : ليم ..
وردّ ليم ، دون أن يلتفت إليها : نعم .
فخاطبته أمه قائلة : انظر إليّ .
والتفت ليم ، ونظر إلى أمه ، أهي أمه حقاً ؟ فقد كانت ملامحها جامدة ، ليس فيها شيء من أمه التي يعرفها ، فقال لها بصوت مهادن : يبدو لي ، يا أمي ، أنك غاضبة من أمر ، لا أعرفه ..
وقاطعته أمه قائلة : تلك الفتاة المتهورة شبتو..
وقال ليم متسائلاً : مالها .. شبتو !
وتابعت أمه قائلة بصوت متشنج : تريد أن تخرج معك وحدها لصيد السمك في الهور.
ولاذ ليم بالصمت ، فقالت أمه : اسمعني ، يا ليم ، اسمعني جيداً ، لا أريد أن تأخذ هذه الفتاة الرعناء معك أبداً ، لصيد السمك في الهور .
ولعل ليم تأثر من انزعاج أمه ، وهو الذي يحرص دائماً على راحتها ، فالتفت إليها مبتسماً ، وأخذها بين ذراعيه الشابين، وقال لها بصوت مهادن: قلت لي مرة ، إن أبي أخذك معه مرة للصيد .
وعلى الرغم منها ، ابتسمت الأم ، وهزت رأسها ، ثم نظرت إليه ، وقالت : عدني ، يا ليم ، أن لا تأخذ حسنه هذه لصيد السمك في الهور .
وحدق ليم في أمه مازحاً ، وقال : إنني جائع .
لكن أمه قالت : عدني أولاً .
ولاذ ليم بالصمت لحظة ، ثم قال : أنا لم أقل لها ، أن تأتي معي إلى الصيد ، ولن أقول لها ذلك ، والآن .. هيا أعدي لي العشاء ، إنني جائع .


" 5 "
ــــــــــــــــــ
خلال اليومين التاليين ، لم يذهب ليم لزيارة الجدة العجوز المريضة ، بحسب علم الأم ، مما يعني أنه لم يرَ الفتاة ، ذات العينين العسل شبتو ، وهذا ما أراح الأم ، وأثلج صدرها .
لكن ما أثارها ، أنه .. أي ابنها ليم ، لم يذهب خلال هذين اليومين الماضيين ، لزيارة خالته كاشيرا ، وهذا يعني أنه لم يلتقِ بابنة خالته ايمي ، آه .. يجب معالجة هذا الأمر ، وعدم ترك الحبل على الغارب ، في أقرب وقت ممكن ، و.. إن غداً لناظره قريب .
وحوالي العصر ، أقبلت شبتم ، بابتسامتها المشرقة ، وعينيها العسل ، على الأم ، وهي تحمل طبقا مليئاً بالقيمر ، وحيت الأم قائلة : طاب يومك ، يا خالة .
وحدقت الأم فيه مقطبة ، وقالت : أهلاً شبتو .
وقدمت شبتو طبق القيمر للأم مبتسمة ، وقالت لها : جدتي تحييك ، وتهدي ليم طبق القيمر هذا ..
واتسعت ابتسامتها الجميلة، وأضافت قائلة: تقول جدتي ، إن ليم يعجبه القيمر .
وردت الأم بشيء من الجفاء ، دون أن تمدّ يدها إلى طبق القيمر : الأفضل أن تحتفظوا بهذا القمر ، وتتناولونه صباحاً ، فأنتم أحوج من ليم إليه .
لكن شبتو لم تتراجع ، وظلت يدها ممدودة بطبق القيمر إلى الأم ، وقالت : لا ، هذا هدية من الجدة لليم ، وهو قيمر لذيذ وطازج .
ومدت الأم يدها على مضض ، وأخذت طبق القيمر من شبتو ، وقالت بشيء من الجفاء : شكراً .
وتلفتت شبتو حولها ، ثم نظرت إلى الأم ، وقالت : يبدو أن ليم لم يعد بعد من الهور .
وردت الأم بخشونة قائلة : كما ترين ، لم يعد بعد ، وهو لا يعود عادة قبل حلول الظلام .
وابتسمت شبتو ، واستدارت ببطء ، لتتجه إلى خارج البيت ، وهي تقول : قولي لليم ، يا خالة ، أننا نريد سمكة بزّ ، فالجدة لم تأكل سمكاً ، منذ عدة أيام .
وحدقت الأم فيها ، وقالت بلهجة اتهام : أهي الجدة من تريد سمكة البزّ أم أنت ؟
وضحكت شبتم ضحكة فرحة ، وأجابت قائلة : كلانا ، أنا واجدة ، فأنا أيضاً أحب سمك البزّ .
ولوحت لها بيدها ، وهي تمضي مسرعة ، وقالت : استودعك الآلهة ، يا خالة ، تحياتي لليم .
وهزت الأم رأسها ، دون أن تردّ على شبتو ، وأمسكت طبق القيمر ، وراحت تحدق فيه مفكرة ، والدماء تغلي في عروقها ، عشتار ، من أين جاءتنا هذه الجنية شبتو ، بشعرها البني الكث ، وعينيها العسل ؟
وأبرقت عيناها ، ولمعت في داخلها شرارة ، وهل الحرائق إلا من .. شرارة ؟ شرارة بشرتها فاتحة ، وشعرها بنيّ كث ، وعيناها .. آه عشتار .. أنت تعرفين الديكة من البشر ، إنهم سريعو الاشتعال .. سريعو الاشتعال جداً .. بمثل هذه الشرارة .
ما العمل ؟
لابد من حلّ ، قبل أن يقع الفأس في الرأس .
وأمسكت الأم بطبق القيمر ، وقد انفرجت أساريرها بعض الشيء ، وقالت : كاشيرا أيضاً تحب القيمر .
وعلى الفور ، انطلقت الأم إلى أختها ، وقدمت لها طبق القيمر ، وقالت لها : أختي العزيزة ، أنت تحبين القيمر ، خذي طبق القيمر هذا ، وتمتعي بتناوله ، فهو قيمر طازج .. لذيذ .
وابتسمت كاشيرا فرحة ، وقالت : من أين لكِ هذا القيمر ، يا أختي العزيزة ؟
وردت الأم قائلة : جاءني هدية ؟
وأمسكت الخالة طبق القيمر فرحة ، لكنها قالت : ما دام قد جاءك هدية ، فالأولى أن تأكليه أنت وليم ، فليم أيضاً يحب القيمر .
وتلجلجت الأم ، ثمّ ابتسمت ، وقالت : نعم ، ليم يحب القيمر ، لكن يحب أن تأكل ايمي القيمر أيضاً .
وضحكت الخالة بمرح ، وقالت : آه منكِ .
ثم أضافت قائلة : لنقتسم الطبق إذن ، خذي نصفه لليم ، ولتأخذ ايمي النصف الآخر .
ودفعت الأم طبق القيمر ، وقالت : كلا ، كليه أنت وايمي ، فليم لديه قيمر في البيت .
وأقبلت ايمي ، وأبرقت عيناها السوداوان ، حين رأت القيمر ، فمدت إصبعها وغمسته في القيمر ، ثم وضعته في فمها ، وهي تقول : آه ما ألذّ هذا القيمر .
وخاطبتها الأم قائلة : إنه لك كله .
فهتفت ايمي ، وهي تغمس إصبعها في القيمر ثانية : عشتِ ، يا خالتي .
واستدارت الأم ، واتجهت إلى الخارج ، وهي تقول : بالعافية ، يا ايمي الحبيبة .
ولحقت بها كاشيرا خارج الباب ، وهي تقول معاتبة : أختي ، ما قصة ليم ؟
وتوقفت الأم ، وقالت متسائلة : أي قصة ؟
فتابعت كاشيرا قائلة : منذ أكثر من يومين ، ونحن لا نراه ، هذه ليست عادته .
واستأنفت الأم طريقها ، وهي تقول : لا عليك ، سيزوركم اليوم أو غداً ، اذهبي وتمتعي بالقيمر أنت وابنتك ايمي ، إنه قيمر لذيذ .
وتوقفت كاشيرا ، وقالت : رافقتك السلامة ، تحياتي إلى الحبيب ليم .
وفكرت الأم ملياً ، وهي تحث خطاها نحو البيت ، ذلك القيمر ، إذا كان فيه سحر ، فإنه سيصيب أختي وابنتها ايمي ، خطيبة ابني ليم .
وتوقفت قلقة ، يا لحمقي ، كان عليّ أن أتخلص من طبق القيمر ، لا أن آخذه إلى أختي وابنتها الوحيدة ، ماذا جرى لي ؟ كان عليّ أن أتأنى .
وهزت بيهي رأسها ، ثمّ استأنفت سيرها مسرعة نحو البيت ، وهي تقول في نفسها ، حتى لو كان في القيمر سحر ، فإنه موجه إلى ليم ، وليس إلى أختي أو ابنتها ايمي ، آه عشتار ، لماذا أرسلت لنا .. شبتو ؟






" 6 "
ــــــــــــــــــ
أقبل ليم على أمه ، والشمس تميل نحو العصر ، وقد اصطاد ثلاث سمكات ، ومعها بطتان ، وهتف لها قائلاً : أمي ، انظري ما اصطدته لك اليوم .
وابتسمت أمه فرحة ، وقالت : بطتان ! هذا ما كان يفرحني به أبوك ، بين حين وآخر ، فهو يعرف إنني أحب البط المشوي .
وابتسم ليم ، وقال : سأكون مثل أبي ، وأصطاد لك بين حين وآخر ، بطة أو أكثر ، فهذا موسم البط ، وهو موجود بكثرة الآن في الهور .
واقتربت أمه منه ، وقالت له بصوت هادئ : أعطني البطتين ، سأنظفهما ، وأشوي واحدة ، ونتناولها أنا وأنت على العشاء .
وحدق ليم في أمه ، وقال وهو يبعد عينيه عنها : ولآخذ الأخرى إلى الجدة العجوز .
وأخذت الأم إحدى البطتين منه ، وقد انطفأت ابتسامتها ، وقالت : ظننت أنك ستقول ، إنني سآخذ البطة الأخرى إلى خالتي و .. ايمي .
ولاذ ليم بالصمت لحظة ، ثم قال : هذه البطة سآخذها إلى الجدة العجوز ، إنها مريضة ، وغداً سأصطاد بطة ، وآخذها إلى خالتي .
وألقت الأم البطة جانباً ، ثم مدت يدها ، واختطفت منه البطة الأخرى ، ومضت بها إلى الخارج ، وهي تقول : حسناً، لا داعي أن تذهب أنت بالبطة إلى الجدة العجوز ، سآخذها أنا ، وأقدمها لها .
ولحق ليم بأمه ، وهو يقول: دعيني آخذها إليها، يا أمي ، فأنا أريد أن أراها ، وأطمئن عليها .
وردت الأم عليه ، دون أن تتوقف ، أو تلتفت إليه : الجدة العجوز مريضة جداً ، وأنت شاب صغير ، لا أريدك أن ترى إمرة مريضة في آخر عمرها .
وتوقف ليم مفكراً ، يبدو أن أمه غاضبة ، لكن لماذا ؟ آه ربما لأنه فضل أن يعطي البطة للمرأة العجوز ، وليس إلى خالته ، أم أن هناك سبب آخر ؟ من يدري .
ودخلت الأم على الجدة ، والبطة في يدها ، وفوجئت بها متمددة في فراشها ، وقد بدت شاحبة متعبة ، وما إن رأتها الجدة ، حتى تحاملت على نفسها ، واعتدلت بصعوبة ، وقالت بصوت واهن : أهلاً أم ليم ، أهلاً ومرحباً ، تفضلي اجلسي .
واقتربت الأم منها ، وحدقت فيها ملياً ، ثمّ قالت : أرجو أن تكوني اليوم بخير .
فتنهدت الجدة العجوز ، وقالت بصوتها الواهن : بنيتي ، إنني امرأة عجوز .
وتلفتت الأم حولها ، وقالت : أراك وحدك في البيت ، وهذا أمر لا يصحّ ، أنت مريضة .
ونظرت الجدة العجوز إليها ، وقالت : شبتو لا تفارقني ، يا عزيزتي ، لكنها خرجت قبل قليل ، وذهبت لتعاين مشحوفنا القديم على شاطئ الهور .
وهزت الأم رأسها ، وقالت : يا لها من فتاة شبتو هذه ، يبدو لي إنها مندفعة ، ولعل الآلهة أخطأت ، فبدل أن تخلقها ذكراً ، خلقتها أنثى .
وابتسمت الجدة ، وقالت بصوتها المرتعش الواهن : أنثى وأي أنثى ، من يدري ، لعلها تشبه عشتار .
ونظرت الأم إليها ، وقالت : ذلك المشحوف ، لو كان صالحاً للاستعمال ، ما الذي ستفعل به ؟
وابتسمت الجدة ثانية ، وقالت بصوتها الواهن : تصوري إنها تقول ، بأنها ستصلحه ، حتى لو كان متداعياً ، وستخرج لصيد السمك به في الهور .
ولاذت الأم بالصمت مقطبة لحظة ، ثم رفعت البطة بيدها ، وقالت : اصطاد ليم بطتين اليوم ، وهو يهديك هذه البطة ، ويرجو أن تعجبك .
وتندت عينا الجدة بالدموع تأثراً ، وقالت بصوت مرتعش واهن : ألف شكر لليم ، ليته جاء معك ، إنني مشتاقة لرؤيته ، وسماع صوته .
ووضعت الأم البطة جانباً ، وقالت : إنه مشغول هذه الأيام ، لكنه يسأل عنك دائماً ، وسيأتي لزيارتك ، والاطمئنان عليك ، في أقرب فرصة .
وتوقفت الأم قرب الباب ، متهيئة للخروج ، وخاطبت الجدة قائلة : أستودعك الآلهة .
وردت الجدة قائلة : رافقتك السلامة .
وهمت الأم أن تفتح الباب لتخرج ، وتمضي إلى البيت ، حين فوجئت بشبتو تندفع إلى الداخل ، وما إن رأتها تهمّ بالخروج ، حتى توقفت مندهشة ، والابتسامة تخفق مرفرفة على شفتيها ، وخاطبتها قائلة بصوت فرح : أم ليم ! مرحباً يا خالة ، لم نرك منذ ..
وقاطعتها الأم ، وهي تخرج مسرعة ، وقالت : إنني مشغولة بعض الشيء هذه الأيام .
لم تلحق شبتو بها ، وإنما خاطبتها قائلة : تحياتي إلى الصياد الماهر ليم ، قولي له أن يزورنا .
لكن الأم واصلت طريقها ، دون أن تردّ عليها ، والتفتت شبتو إلى الجدة العجوز ، وقالت لها : أم ليم جاءت لزيارتك ، والاطمئنان عليك ، يا لها من امرأة طيبة ، إنها أم رائعة .
وأشارت الجدة العجوز إلى البطة ، التي وضعتها الأم جانباً ، وقالت بصوتها الواهن : انظري ، جاءتنا بتلك البطة ، وقد اصطادها ليم من الهور .
واقتربت شبتو من البطة ، وحدقت فيها مبتسمة ، وقالت وكأنها تحدث نفسها : آه ليم ، حقاً أنت صياد ماهر ، لابد أن أتعلم منك ، ما يجعلني صيادة ماهرة .
واستدارت شبتو ، وخاطبت الجدة العجوز قائلة : سآخذ هذه البطة ، التي أهداها لنا ليم ، وأنظفها في الخارج ، وأشويها ، أنت تحبين الشواء .
وانحت شبتو ، والتقطت البطة ، وهمت أن تخرج ، حين خاطبتها الجدة العجوز بصوتها الواهن : لم تحدثيني عن المشحوف ، يا شبتو .
وتوقفت شبتو ، وقالت مبتسمة : إنه قديم مشحوف ، وفيه أكثر من خرق ، ولا يمكن الخروج به إلى صيد السمك في الهور ، وهو على هذه الحال .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : لكني سأصلحه ، وقد يساعدني ليم على ذلك ، فهو على ما يبدو ، خبير وماهر في كلّ شيء .
وضحكت وهي تخرج قائلة : سأعيد له الحياة ، وأصطاد به السمك والبط من الهور .



" 7 "
ــــــــــــــــــ
دفع ليم مشحوفه إلى الماء ، وصعد إليه ، وهمّ أن يدفعه بالمردي إلى عرض الهور ، وإذا بشبتو تندفع من بين القصب ، وتثب إلى جانبه .
فوجئ ليم بما جرى ، وسقط المردي من بين يديه في الماء ، وتمايل المشحوف بهما ، حتى كاد ينقلب في الهور ، وتشبثت شبتو به ضاحكة ، وهي تقول : ليم .. امسكني يا ليم .. وإلا سقطت في الماء .
وعلى الفور ، مدّ ليم يديه ، واحتضنها ، وظلت بين ذراعيه ، حتى استقر المشحوف ، وكأنما انتبه ليم ، بأنه يحتضن شبتو ، فرفع يديه عنها ، وأبعدها قليلاً ، وقال مندهشاً : شبتو !
وتمالكت شبتو نفسها ، ونظرت إليه مبتسمة ، وقالت : كدنا نسقط معاً في ..
وصمتت لحظة ، ثم تابعت قائلة : لقد قلت لك ، قبل عدة أيام ، سأرافقك لصيد السمك من الهور ، وها أنا ، كما ترى ، أرافقك .
وتلفت ليم حوله محرجاً ، وبدا له ، ولعله مخطئ ، أن امرأة كانت بين القصب ، ربما رأتهما ، ثم قال لشبتو : ماذا أقول للجدة إذا ..
وقاطعته شبتو مبتسمة : الجدة تعرف ..
وصاح ليم مندهشاً : تعرف !
وتناولت شبتو المردي ، ودفعت به المشحوف إلى عرض الهور ، وهي تقول : لقد أخبرتها ليلة البارحة ، بأني سأخرج معك لصيد السمك في الهور ..
وحدق ليم فيها ، وقال مذهولاً : ماذا تقولين ؟
وردت شبتو : فقالت لي ، جيئيني بسمكة بزّ ، فأنا أحب هذا النوع من السمك ، فقلت لها ، اطمئني ، سأجيئك بسمكة كبيرة ، من نوع .. البز .
ولاذ ليم بالصمت لحظة ، وشبتو تنظر إليه مبتسمة بعينيها العسل ، فمدّ يده ، وأخذ منها المردي ، وراح يدفع به المشحوف بقوة ، فوق مياه الهور .
لم يكن ليم مخطئاً ، فما لمحه بين القصب ، قبل قليل ، كان حقيقة ، نعم كان امرأة ، وقد رأتهما المرأة فعلاً في المشحوف ، الذي انطلق بهما ، وحدهما ، إلى حيث أجمات القصب المتطاولة الكثيفة ، التي تخفي تماماً كلّ من يدخل بمشحوفه فيها .
وعلى الفور ، تسللت المرأة من بين القصب ، ومضت مسرعة إلى بيت كاشيرا ، وطرقت الباب ، وسرعان ما أطلت ايلي عليها ، وقالت مرحبة : أهلاً ومرحبا خالة ، تفضلي ادخلي .
وقالت المرة متعجلة : أريد أمك .
وأقبلت كاشيرا ، وقالت للمرأة مرحبة : أهلاً ومرحباً بالجارة العزيزة ، لماذا تقفين بالباب ؟ لست غريبة ، تفضلي إلى الداخل .
ومدت المرأة يدها ، وسحبت كاشيرا إلى الخارج ، وهي تقول : تعالي نقف تحت تلك الشجرة ، لا أريد أن أتحدث أمام ابنتك ، لدي ما سأقوله لك أنت .
وسارت كاشيرا متعثرة ، ويدها في يد الجارة ، وتساءلت قائلة : تكلمي ، ما الأمر ؟ أنت تثيرين قلقي .
وتوقفت الجارة بكاشيرا ، على مقربة من الشجرة ، وقالت لها : لن ألومك إذا قلقتِ ..
وحدقت كاشيرا فيها ، وقد ازداد قلقها ، وقالت : والآن تكلمي ، واخبريني عما يجري .
ومالت الجارة عليها ، وقالت بصوت أشبه بالهمس : قبل قليل ، رأيت هذه الفتاة ، ذات العينين العسليتين ، التي اسمها .. اسمها ..
وقالت كاشيرا نافدة الصبر : اسمها شبتو
وقالت المرأة : نعم ، شبتو ..
وتلكأت الجارة في نطقها ، فقالت الخالة تحثها على الكلام : رأيتها ، رأيت شبتو ، وماذا بعد ؟
فمالت الجارة على الخالة ثانية ، وهمست لها : رأيتها تقفز إلى مشحوف ليم ، وتنطلق معه ، وحدهما ، بعيداً ، في أعماق الهور .
واتسعت عينا كاشيرا ، وبدا على ملامحها الذهول والغضب ، وتساءلت : ماذا ! ماذا تقولين ؟ شبتو وليم ، شبتو في مشحوف .. ، يا للويل ؟
ونظرت الجارة إلى كاشيرا ، وقالت بنبرة تحذير : هذه الفتاة الغريبة ، ذات العينين العسليتين ساحرة ، وأي ساحرة ، وستخطف ليم منكم .
وتلفتت كاشسرا حولها ، وقد بدت منفعلة ، ثم مالت على الجارة ، وقالت لها بصوت خافت : أرجوكِ ، لا تقولي هذا لأحد من أهل القرية .
فردت الجارة بصوت خافت : هذا السر في بئر .
ومدت كاشيرا يدها ، ودفعت الجارة برفق ، وقالت : اذهبي إلى بيتك ، رافقتك السلامة .
وقبل أن تنطلق الجارة مبتعدة ، قالت لكاشيرا بصوت هامس : حذار ، إنها نار ، فلا تغفلوا عن النار .
وقفلت كاشيرا عائدة إلى البيت ، وإذا ايمي تنتظرها خلف الباب ، فأمسكت يدها ، وقالت : يبدو أن هذه المرأة لديها شيء خطير ، أريد أن أعرفه .
فربتت الخالة على يدها تطمئنها ، وقالت : ليس لديها شيء ذا بال ، أنت تعرفينها ، ابقي في البيت ، سأزور خالتك بعض الوقت ، وأعود .
ومضت كاشيرا متجهة نحو بيت أختها بيهي ، فقالت ايلي في نفسها : يبدو أن هناك شيئاً ، لا تريد أمي أن أعرفه لسبب ما .
وحين دخلت كاشيرا على أم ليم بيهي ، وقد بدا عليها الحزن والقلق ، استقبلتها أختها مهدئة إياها ، وقالت : ما الأمر ؟ تعالي اجلسي أولاً ، ثم حدثيني عما بك .
وجلست كاشيرا على الحشية ، وأسرعت بيهي ، وجاءتها بقدح ماء ، قدمته لها ، وقالت : اشربي هذا الماء ، وارتاحي .
وشربت كاشيرا قليلاً من الماء ، فقالت لها بيهي ، وهي تأخذ الطاسة منها : والآن حدثيني ، ماذا جرى ؟
وحدثتها كاشيرا بكل ما روته لها الجارة ، فوضعت بيهي القدح قرب الجرة ، وقالت : هذا ما كنت أخشاه ، إنني لم أرتح لهذه الفتاة ، منذ أن وقع نظري عليها .
وتساءلت كاشيرا حائرة قلقة : والآن .. ما العمل ؟
فنظرت بيهي إليها ، وقالت : عودي إلى البيت ، ولا تتحدثي بالأمر إلى ايلي ، دعي الأمر لي .
وصمتت لحظة ، ثم تساءلت : هل عرفت ابنتك ايلي بأمر هذه الفتاة شبتو ؟
فردت كاشيرا قائلة : كلا .
وتمتمت بيهي : هذا أفضل ، حاولي أن لا تعرف ، اذهبي الآن ، سيكون كل شيء على ما يرام .

" 8 "
ـــــــــــــــــــ
في أعماق الأم ، دُق ناقوس الخطر ، وعليها أن تتحسب لهذا لخطر كهذا ، فهو خطر حقيقي ، صاعق ، لا ينبغي لها التهاون معه .
وهي تدرك أن خطراً كهذا ، يجب مواجهته ، وإيجاد علاج له ، في أسرع وقت ممكن ، وإلا ـ كما كان يقول أبوها الراحل ـ فإن آخر العلاج هو الكي .
وبعد تفكير عميق ، بدأت أولى خطواتها ، على جناح السرعة ، فالأمر لا يحتمل التأجيل ، وبعد منتصف النهار مباشرة ، أسرعت إلى الجدة العجوز ، والهدف طبعاً كان .. شبتو .
وفوجئت الجدة بقدومها ، فاعتدلت قليلاً في فراشها ، رغم أنها على ما يبدو كانت متعبة جداً ، وقالت بصوتها الواهن : أهلاً أم ليم ، أهلاً ومرحباً .
ومالت الأم عليها ، وقالت : أردت أن أطمئن عليك ، أرجو أن تكوني اليوم أفضل .
وردت الجدة بصوتها الواهن : ماذا أقول ، يا ابنتي ، مهما يكن ، الحمد للآلهة ، هذه هي الحياة .
ثم أشارت بيدها النحيلة المرتعشة ، إلى حشية قريبة من فراشها ، وقالت لها بصوتها الواهن : تفضلي هنا ، يا ابنتي ، وارتاحي .
وجلست الأم على الحشية ، ونظرت إلى الجدة ، وقالت :
لا عليك ، أنت إنسانة طيبة ، صبورة ، والآلهة الرحيمة لن تنساكِ أبداً .
وتنهدت الجدة بصوتها الواهن ، وقالت : نعم ، لكنا بين أيدي الآلهة ، والأمر لها .
ولاذت الأم بالصمت ، وتلفتت حولها خلسة ، ثم نظرت إلى الجدة العجوز ، وقالت : لا أرى شبتو ، ليس لها أن تتركك وحدك في البيت ، أنت متعبة .
وتململت الجدة العجوز ، وقالت بصوتها الواهن : لست متعبة جداً ، وهي قلما تخرج ، لكنها اليوم ..
وصمتت الجدة العجوز ، ثم ابتسمت ، وقالت : خرجت لصيد السمك في الهور .
وغالبت الأم انفعالها ، وقالت : هذه الجنية الساحرة ، ألا تخاف من الخروج للصيد وحدها في الهور ؟
وهزت الجدة رأسها مبتسمة ، وقالت : لم تخرج وحدها ، يا ابنتي ، وإنما خرجت مع ليم .
وبدل أن تظهر الأم غضبها ، وضعت على وجهها قناعاً شاحباً ، مرسوم عليه ابتسامة ، وأية ابتسامة ، وهمهمت في نفسها ، هم م م م .. الأمر إذن صحيح ، لقد ذهبت للصيد في الهور مع ليم ، والصيد لن يكون السمك ، وإنما ليم نفسه ، لكن هيهات .
ونظرت الجدة إلى الباب ، وهي ترهف السمع ، ثم قالت بصوت فيه شيء من الفرح: يبدو أنها شبتو، إنها قادمة ، نعم إنها شبتو .
وعلى الفور ، اندفعت شبتو إلى الداخل ، وبيدها سمكة متوسطة الحجم ، وهي تهتف ضاحكة : جدتي ، اصطدت لك سمكة ..
وتوقفت شبتو ، إذ لمحت أم ليم ، تحدق فيها ، وهي جالسة على الحشية ، فهتفت بها : أم ليم ! أهلاً ومرحباً ، لم أرك ..
ثم أرتها السمكة فرحة ، وقالت : انظري ، هذه السمكة ، اصطدتها دون مساعدة من ليم .
وغالبت الأم انفعالها ، وظلت محتفظة بالقناع الشاحب على وجهها ، ولم تنسَ الابتسامة أيضاً ، وقالت : حقاً أنتِ صيادة ماهرة .
ووضعت شبتو السمكة جانباً ، وأقبلت على الأم ، وقالت : حدثت ليم عن مشحوف الجد ، وقال لي ، بأنه سيساعدني على إصلاحه ، حتى أتمكن من الخروج به ، للصيد وحدي في الهور .
ونهضت الأم ، وقالت : لابد أن أذهب الآن ، ما دام ليم قد عاد إلى البيت .
ونظرت إلى الجدة ، وقالت : أستودعكِ الآلهة .
فهتفت الجدة بصوتها الواهن : رافقتك السلامة ، ألف شكر لزيارتك ، يا ابنتي .
وسارت الأم نحو الخارج ، فسارت شبتو إلى جانبها ، وهي تقول فرحة : ليم علمني الكثير عن صيد السمك والطيور في الهور ، إنه صياد ماهر .
وحين خرجتا من البيت، توقفت الأم، والتفتت إلى شبتو ، وقالت : شبتو ..
وتوقف شبتو ، وابتسامتها تتلاشى ، وقالت : نعم ..
وتابعت الأم قائلة : يبدو لي أن صحة الجدة تتدهور يوماً بعد يوم ..
ونظرت شبتو إليها ، وقالت : هذا ما ألاحظه أنا أيضاً ، رغم أنني لا أتوانى عن السهر على رعايتها .
ومدت الأم يدها ، وربتت برفق على ذراعها ، وقالت : أعرف أنك لم تقصري ، وأنك ستفعلين كلّ شيء من أجل راحتها وسلامتها .. وشفائها .
وبحماس قالت شبتو : سأفديها بحياتي .
ونظرت الأم إليها صامتة ، ثم قالت : اذهبي ، يا شبتو ، وابقي إلى جانبها ، إنها بحاجة إليك .
ومضت الأم مبتعدة، فهتفت شبتو قائلة: تحياتي إلى ليم ، أرجوك قولي له ، إنني أنتظره صباح الغد ، لنقوم معاً بإصلاح مشحوف الجد الراحل .
ولوحت الأم لها مبتسمة ، ثم التفتت مواصلة طريها ، وقد زالت الابتسامة تماماً ، كما زال عن وجهها أيضاً .. القناع الشاحب .
وعندما وصلت إلى البيت ، واجهها ليم بابتسامة مضطربة ، وقال لها : لقد أقلقتني ، يا أمي ، ليس من عادتيك أن لا تكوني موجودة في البيت ، حين أعود من الصيد في الهور .
ونظرت الأم إليه ، وفي عينيها شيء من العتاب ، وربما اللوم ، لكنها قالت له : كنت في زيارة الجدة العجوز ، إن صحتها تتدهور يوماً بعد يوم .
وهرب ليم بعينيه من عيني أمه ، وقال : أمي ، يجب أن أكون صريحاً معك ، ولا أخفي عنكِ شيئاً ..
وصمت ليم ، فحدقت الأم فيه ، وقالت : رأيت شبتو في بيت الجدة العجوز ، عندما عادت من الهور ، ومعها سمكة ، وحدثتني عن كلّ شيء .
لم يرتح ليم لما قالته أمه ، رغم أنها لم تحتج عليه ، أو تؤنبه ، وقال بكلمات مضطربة : أمي .. إنني لم .. الحقيقة شبتو هي ..
وقاطعته أمه قائلة : لديهم مشحوف قديم ، بحاجة إلى ترميم ، ساعدها يا ليم ، إنها فتاة شجاعة ، طيبة ، لعلها تخرج للصيد فيه وحدها في المستقبل القريب .
وفي اليوم التالي ، ذهبت الأم إلى الجدة العجوز ، التي رحبت بها ، وقالت : أشكرك لمجيئك ، فشبتو ذهبت مع ليم لتصليح المشحوف .
وابتسمت الأم للجدة ، وقالت : أعرف ، أنا من شجعها على ذلك ، إن شبتو تستحق كلّ خير ، وجئت لأنوب عنها ، وأعد لك طعام الغداء .
وتمتمت الجدة العجوز بصوتها الواهن : أشكرك ، يا ابنتي ، أشكرك لتحفظ الآلهة لك ابنك ليم .
وقبيل المساء ، أقبلت شبتو فرحة ، وما إن رأت الأم ، حتى خاطبتها مبتسمة : لقد أصلحنا المشحوف ، والحقيقة أن ليم هو الذي أصلحه ، وقد ساعدته بما أستطيع ، وصار بإمكاني أن أخرج به إلى الهور متى أشاء .
وابتسمت الأم لها ، وقالت بنبرة مشجعة : اطمئني ، يا شبتو ، سأبقى عند الجدة ، حين تخرجين للصيد في الهور ، وسأرعاها حتى تعودي .
ومدت شبتو يديها ، وعانقت الأم فرحة ، وهي تقول : أشكرك ، يا أم ليم ، أنت حقاً بمثابة أم لي .






" 9 "
ــــــــــــــــــ
عند حوالي منتصف النهار ، بعد مرور ثلاثة أيام ، أقبلت شبتو على بيت ليم ، وطرقت الباب ، وجاءها صوت الأم تتساءل من الداخل : من بالباب ؟
وردت شبتو : أنا .. شبتو .
وارتفع صوت الأم من الداخل مرة ثانية قائلة : الباب مفتوح ، ادخلي ، يا شبتو .
ودخلت شبتو ، والابتسامة لا ترفرف فوق شفتيها ، على غير العادة ، وقبل أن تتفوه بكلمة ، بادرتها الأم قائلة : ليم ليس هنا ، لقد خرج للصيد .
ونظرت شبتو إليها ، وقالت بصوت يشي ببعض الحزن والقلق : لم آتي إلى ليم ، يا خالة ..
وصمتت شبتو لحظة ، وانتبهت الأم إلى نبرة الحزن والقلق في صوتها ، فنظرت إليها ، وتساءلت قائلة : شبتو ، ما الأمر ؟
وردت شبتو قائلة : الجدة ..
وقالت الأم : لقد أقلقتني ، ما لها الجدة ؟
ورفعت شبتو عينيها ، وقد اختلط الدمع بالعسل فيهما ، وقالت : يبدو أن المرض يشتد عليها ، وقد أغمي عليها البارحة ، أكثر من مرة ، ولم أدرِ ماذا أفعل .
ونظرت الأم إليها ، وقالت : إنني لم أرها منذ ثلاثة أيام ، وهذا تقصير غير مقبول مني ، تعالي ، لابد أن أزورها الآن ، وأطمئن عليها ، هيا نذهب .
ومضتا إلى الخارج ، وسارت الأم نحو بيت الجدة ، بعد أن أغلقت باب بيتها ، وحثت شبتو خطاها إلى جانبها ، وهي تقول : ليلة البارحة ، لم تنم الجدة إلا في ساعة متأخرة من الليل ، وظلت طوال تلك الفترة تتقلب ، وهي تئن وتتوجع من الألم .
وقالت الأم ، دون أن تتوقف : شبتو ، الجدة بمثابة أمك ، لا تغفلي عنها لحظة واحدة ، إنها تستحق منك كل اهتمام ورعاية ، فهي تحبك كثيراً .
وواصلت شبتو سيرها إلى جانب الأم ، وقالت بحرارة : الجدة كلّ حياتي ، ولم يبقّ لي في هذا العالم أحد غيرها ، وسأفديها بحياتي ، إذا اقتضى الأمر .
ورمقتها الأم بنظرة خاطفة ، حين سمعتها تقول ، إنها تفديها بحياتها، وخفق قلبها بشدة، نعم هذه هي فرصتها ، وعليها أن لا تفوتها ، مهما كان الثمن .
ووصلتا إلى بيت الجدة ، ودخلت الأم أولاً ، ودخلت شبتو في أعقابها، واقتربت من الجدة ، وقالت : انظري ، يا أم ليم ، هذا حالها منذ البارحة .
ومالت الأم على الجدة ، التي كانت تستلقي في فراشها ، وكأنها جثة هامدة ، وحدقت فيها ملياً ، وتسمعت إلى أنفاسها الخافتة ، ثم اعتدلت بهدوء ، ونظرت إلى شبتو ، وقالت بصوت خافت : يبدو أنها في حالة خطرة ، وقد لا يطول بها الأجل إلا إذا ..
وابتعدت الأم عن الجدة ، فلحقت شبتو بها ، وخاطبتها بصوت خافت قائلة : إلا ماذا ، يا خالة ؟
وهزت الأم رأسها ، وقالت كأنما تحدث نفسها : مسكينة هذه الجدة الطيبة ، قد لا تعيش طويلاً ، إذا بقيت هكذا ، آه أيتها الآلهة الرحيمة .
ومالت شبتو على الأم ، وقالت : أيتها الخالة ، إذا كان هناك أمل في الشفاء ، قوليه لي ، وسأبذل حياتي من أجلها ، إنها جدتي .. أمي ..
ونظرت الأم إليها ، وهمت بالكلام ، لكنه أحجمت ، فقالت شبتو : أيتها الخالة ، ساعديني ، فلا حياة لي بدون الجدة ، أريد أن أنقذها بأي ثمن .
وحدقت الأم فيها ، وقالت : شبتو ..
وانتظرت شبتو ، لكن الأم لم تكمل ، فقالت بحماس : تكلمي ، يا خالة ، إنني أصغي إليك .
فقالت الأم : أنت قوية ، وجريئة ، لكن الأمر في غاية الصعوبة ، وفيه الكثير من الخطورة ..
وصمتت الأم ثانية ، فمالت شبتو عليها ، وقالت : مهما كان الأمر صعباً وخطيراً ، فإني سأقدم عليه ، مادام فيه أمل بتعافي الجدة ، وشفائها .
وهزت الأم رأسها ، ثم نظرت إلى شبتو ، وقالت : الجدة عزيزة ، ليس عليك فقط ، وإنما على الجميع ، ولها أن نقدم إليها كلّ ما يمكن أن يحقق الشفاء لها ..
ولم تكد الأم تصمت ، ربما لتلتقط أنفاسها ، حتى قالت لها شبتو : قولي ، يا خالة ، قولي ، وستريني رهن إشارتك على الفور .
ورمقت الأم الجدة بنظرة سريعة ، ثم أخذت شبتو إلى مقربة من الباب ، وقالت لها بصوت خافت : في عمق الهور ، بعد أجمات القصب البعيدة ، توجد جزيرة صغيرة ، فيها أفاعي وذئاب وخنازير ، لكن فيها ما يمكن أن ينقذ الجدة ..
وقالت شبتو متسائلة : لا تهمني الأفاعي والذئاب والخنازير ، المهم هو ما يمكن أن ينقذ الجدة ، ما هو ؟ وأين يمكن أن أجده في تلك الجزيرة ؟
وقالت الأم بصوت خافت خطير : أزهار صغيرة الحجم بيضاء ، لا تتفتح على الجزيرة ، إلا في منتصف الليل ، على ضوء القمر ، إذا كان بدراً .
واعتدلت شبتو ، وقد لمعت عيناها العسل ، وقال بصوت خافت قوي : القمر الليلة بدر .
لكن الأم قالت لها: لكن الطريق طويل ، والليل موحش ، و الجزيرة خطيرة و ..
وقاطعتها شبتو قائلة : إنها جدتي ، وسأنقذها .
ونظرت الأم إلى شبتو ، وقالت : تعقلي ، يا بنيتي ، تعقلي ، الأمر في غاية الخطورة .
ورمقت شبتو الجدة بنظرة خاطفة ، ثم نظرت إلى الأم ، وقالت : لا خيار ، سأنقذها ، مهما كان الثمن .
ورمقت الأم الجدة ، التي كانت راقدة في فراشها ، وكأنها جثة هامدة ، ثم نظرت إلى شبتو ، وقالت : من يدري ، ربما قدرت الآلهة إنقاذها على يديك ، لتكن الآلهة معك ، يا بنيتي .. شبتو .
وتراجعت الأم ، ثم استدارت ببطء ، ومضت إلى الخارج ، وهي تقول : الوقت يدركني ، عليّ أن أسرع إلى البيت ، وأعدّ طعام العشاء لليم .
ووقفت شبتو عند الباب ، وخاطبتها قائلة : رافقتك السلامة ، يا خالة أم ليم ، رافقتك السلامة .










" 10 "
ـــــــــــــــــــــ
ما إن أشرقت شمس اليوم التالي ، وأطلت على مياه الهور ، التي تعج بالطيور والأسماك والقصب ، حتى ضجت القرية برجالها ونسائها ، بشبابها وشاباتها ، بعد أن انتشر بينهم الخبر ، كما تنتشر النار في الهشيم ، لقد اختفت الفتاة الغريبة ، اختفت .. شبتو .
وبدأ الخبر بشرارة ، صدرت من جارة من جيران الجدة العجوز ، تعودت أن تعودها كلّ صباح ، لتطمئن عليها ، وهذا الصباح ، حين جاءت لزيارتها ، وجدتها راقدة في فراشها ، تبدو وكأنها تحتضر .
فأسرعت إليها ، وانحنت عليها ، وخاطبتها قائلة : أيتها الجدة .. أيتها الجدة ..
وتحركت أجفان الجدة العجوز ببطء ، ثم فتحي عينيها ، اللتين تكادان تنطفئان ، وتمتمت : شبتو ..
وردت الجارة قائلة : لست شبتو ..
وتمتمت الجدة ثانية بصوتها الواهن : شبتو ..
وتلفتت الجارة حولها ، ثم انحنت على الجدة ، وقالت : شبتو ليست هنا ، ولم أرها في الخارج عندما أتيت ، أين مضت ، وتركتك هكذا ؟
وبدأت الجدة تنهنه بصوتها الواهن ، وهي تتمتم : لا أعرف أين مضت .. لا أعرف .. لا أعرف ..
وصمتت برهة ، تلتقط فيها أنفاسها الخافتة ، ثم قالت بصوتها الواهن : أفقت ليلاً .. ربما بعد منتصف الليل .. لم تكن في فراشها .. ناديتها .. شبتو .. لكنها لم ترد ..آه .. شبتو .. شبتو ..
وصمتت الجدة العجوز ثانية ، وقد خفتت أنفاسها أكثر ، لكنه شهقت ، وواصلت التمتمة بصوتها الواهن قائلة : تحاملت على نفسي .. وخرجت إلى الليل .. ورحت أصيح .. شبتو .. شبتو .. لكن دون جدوى .. لقد اختفت شبتو .. اختفت شبتو .. اختفت .. اختفت ..
وصمتت الجدة العجوز ، لكن الجارة لم تصمت ، فقد انطلقت خارج البيت ، وأطلقت شراراها في الهشيم ، وانتشرت نيران الخبر ، اختفت شبتو .
وعلى الفور ، انطلق بعض الرجال والنساء والشباب وحتى الشابات ، يبحثون عنها في كلّ مكان ، لكن دون جدوى ، شبتو ـ كما يُقال ـ صارت ملحاً وذابت .
ومنذ البداية ، بلغ الخبر ليم ، وكذلك أمه ، وخرجا يبحثان مع الآخرين عن شبتو ، وأيضاً دون جدوى ، وهل يترك الملح أثراً حين يذوب ؟
وعند حوالي منتصف النهار ، قصد ليم شاطئ الهور ، تتبعه أمه وبعض الرجال والنساء والشباب ، ولاحظ أن المشحوف ، الذي أصلحه البارحة مع شبتو ، لم يكن موجوداً في مكانه ، فالتفت إلى من كان حوله ، وقال : مشحوف الجد الراحل ، كان هنا .
وهربت الأم بعينيها بعيداً ، وقلبها يخفق بشدة ، ونظر ليم نحو البعيد ، عبر مياه الهور ، وقال كأنما يحدث نفسه : لعل شبتو أخذت المشحوف ، وانطلقت به عبر مياه الهور ، ربما لتصطاد السمك .
وتقدمت الجارة من ليم ، وتساءلت مذهولة : الجدة العجوز قالت ، إنها لم ترها في فراشها ، منذ منتصف الليل ، أيعقل أنها خرجت في مثل هذا الوقت ، لتصطاد السمك من الهور ؟
ولاذ ليم بالصمت حائراً ، ثم قال : لا أدري .
وهتف أحد الرجال : مهما يكن ، وما دمنا لم نرها في القرية ، فلنبحث عنها في الهور ، عسى أن نعثر لها على أثر ، يدلنا على مكانها .
وعلى الفور ، اندفع ليم إلى مشحوفه ، ووثب إليه ، وهو يقول : لنحاول ، هيا .
واقتربت الأم من الشاطئ ، وهتفت بابنها ملتاعة : ليم ، تمهل يا ليم ..
وأمسك ليم بالمردي ، وردّ على أمه قائلاً ، وهو ينطلق بالمشحوف : شبتو فتاة غريبة ، لا أحد لها غير الجدة العجوز ، لابد أن نبحث عنها ، ونحاول أن نجدها ، مهما كلف الأمر .
واستنجدت بيهي بمن حولها ، وهتفت بهم بكلمات تغرقها الدموع : أرجوكم ، لا تدعوه يذهب وحده ، الحقوا به ، وابحثوا معه عن شبتو .
وعلى الفور ، أسرع بعض الرجال والشباب ، إلى مشاحيفهم ، وانطلقوا بها في إثر ليم ، عبر مياه الهور ، يبحثون عن شبتو ومشحوفها القديم المتداعي .
وتوغل ليم بمشحوفه، ومعه مجموعة الرجال والشباب ، في أعماق الهور ، واجتازوا أجمات القصب ، حتى وصلوا الجزيرة الصغيرة ، التي قيل لهم أنها تعج بالأفاعي والذئاب والخنازير الوحشية القاتلة ، دون جدوى ، ولم يعثروا لشبتو على أي أثر .
وقبل أن يقفلوا عائدين، وقد خيم عليهم الأسى والإحباط ، قال أحدهم : لعل شبتو لم تتوغل في الهور .
وردّ عليه أحدهم متسائلاً: إذا كانت لم تتوغل في الهور ، فأين المشحوف ؟
وساد بينهم صمت ثقيل ، قطعه أحدهم قائلاً : مهلاً ، لا تتعجلوا ، فلنعد إلى القرية ، من يدري ، لعلنا نجد شبتو قد عادت إلى البيت .
وشدّ ليم يده على المردي ، وقال : هيا نعد ، وأرجو أن تكون شبتو قد عادت إلى البيت فعلاً .
وانطلق ليم بمشحوفه نحو القرية ، وفي أثره انطلق مجموعة الرجال والشباب بمشاحيفهم في أثره ، وعند الغروب تقريباً ، وصلوا حافات الهور ، ثم مضى كلّ منهم إلى بيته ، مؤملين أن يعرفوا ، ما يريحهم ، ويطمئنهم ، عن الفتاة الغريبة ، شبتو .
وسار ليم إلى البيت قلقاً مهموماً ، لكنه وجد الباب مغلقاً ، فتوقف أمامه لحظة ، ثمّ مدّ يده ودفعه برفق ، ومضى إلى الداخل ، لم تكن أمه موجودة ، وعرف أنها في بيت الجدة العجوز لسبب من الأسباب ، وتمنى لو أن السبب ، هو أنّ شبتو قد عادت فعلاً .
وخرج ليم من البيت ، وقد بدأ الليل يسدل ستاره ، وبدل أن يمضي إلى بيت الجدة العجوز ، مضى إلى بيت خالته ، ورأى ايلي بالباب ، وما أن رأته ، حتى أسرعت إليه دامعة العينين ، وقالت : لقد قلقنا عليكم .
وحدق ليم فيها ، وتساءل : ما الأمر ؟
وارتمت ايمي على صدره باكية ، وهي تقول : ايمي ، لقد ماتت الجدة العجوز قبل قليل .
وتمتم ليم قائلاً : وشبتو ؟
وهزت ايمي رأسها ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، والدموع تغرق عينيها السوداوين .



" 11 "
ـــــــــــــــــــــ
خيم على الأم حزن عميق ، بعد موت الجدة العجوز ، واختفاء شبتو ، التي لم يعثروا لها على أي أثر ، لا في القرية ومحيطها ، ولا في أي مكان من الهور .
وفكر ليم ، أن حزن أمه سيتلاشى أو يخفّ ، كما يحدث دائماً ، عند حدوث أمر مكدر ، أو رحيل عزيز ، سواء كبيراُ كان أو في مقتبل العمر ، لكن هذا لم يحدث ، رغم مرور أيام عديدة على رحيل الجدة ، واختفاء شبتو .
وبدا له ، وهو يراقبها يوماً بعد يوم ، أن حزنها راح يتفاقم ، حتى تحول إلى وجوم مقلق، أهملت معه نفسها ، وحتى بعض شؤون البيت .
ماذا يجري ؟
وأحاط ليم أمه برعايته ، حتى أنه امتنع عن الخروج من البيت، وبقي قريباً منها، يتحدث إليها، ويحاول إشغالها ، حتى تأوي إلى فراشها ، وتخلد للنوم .
وعند مساء أحد الأيام ، جلسا متقابلين يتناولان طعام العشاء ، وكان الطعام بطة مشوية ، أهي مشوية حقاً ، كما كانت تشويها أمه عادة ؟
مهما يكن ، فإن ليم لم يعلق على الطعام ، حتى بكلمات مزاح ، كما كان يفعل دائناً ، بل راح يتحدث عن صيده للبطة من الهور ، في ذلك اليوم .
وحين انتهيا من تناول الطعام ، همّ ليم أن يجلس في فراشه ، فنظرت أمه إليه ، وخاطبنه قائلة : ليم ..
ورفع ليم رأسه إلى أمه ، وقال : نعم أمي .
وتابعت الأم قائلة : منذ أيام ، لم تزر خالتك وايمي ، اذهب إليهما الآن .
لاذ ليم بالصمت ، فقالت الأم تشجعه : الطقس جميل اليوم ، وقد يظهر القمر ، اذهب إلى بيت خالتك ، واجلس أنت وايمي تحت الشجرة .
ورمق ليم أمه بنظرة سريعة ، ثم قال : سأزورهما غداً ، إنني متعب اليوم ، يا أمي .
ولاذت أمه بالصمت ، وقد بدا عليها التأثر والحزن ، وتمدد ليم في فراشه ، لكنه لم ينم ، حتى أوت أمه إلى فراشها ، وسمعها تغط في النوم .
وفي اليوم التالي ، ذهب ليم إلى الهور ، واصطاد بطتين وبضع سمكات ، وقبيل المغرب ، خرج من البيت ، ومعه بطة وسمكتين ، واتجه بها إلى بيت خالته .
واستقبلته خالته وايمي بفرح ، وخاصة أنه لم يزرهما منذ أيام ، وأخذت الخالة البطة والسمكتين من ليم ، وقالت له : سأنظفها في الخارج ، ابقّ اليوم عندنا ، وسنتعشى معاً .
ونظرت ايمي إليه ، وقالت مبتسمة : إنه يفضل طعام خالتي ، فهي طباخة ماهرة .
ورفرفت على شفتي ليم ابتسامة شاحبة ، وقال : خالتي لا تقل عن أمي مهارة في الطبخ ، لكن أمي تنتظرني ، ولا أريد أن تتعشى وحدها .
وتوقفت الخالة كاشيرا عند الباب ، ونظرت إلى ليم ، وقالت : أنا منحازة إلى أختي ، ولا يرضيني ، أن تتناول طعام العشاء ، وحبيبها ليم غائب .
ولاذ ليم بالصمت ، بل إن ابتسامته الشاحبة نفسها ، تلاشت عن شفتيه ، فحدقت كاشيرا فيه ، وخاطبت ابنتها قائلة : ايلي ..
ونظر ايلي إليها ، وقالت : نعم ، أمي.
فتابعت كاشيرا قائلة : تعالي خذي البطة والسمكتين ، ونظفيهما أنت في الخارج .
وأخذت ايمي البطة والسمكتين من أمها ، ومضت بهما إلى الخارج ، وأغلقت الخالة الباب ، واقتربت من ليم ، وتوقفت قبالته ، وقالت : ليم ..
ونظر ليم إليها ، دون أن يردّ بكلمة ، فتابعت الخالة قائلة : منذ أيام لم تزرنا ، وقد قلقت عليك ، وجئتنا اليوم ، ومن الواضح أنك غير مرتاح ، حدثني ، إنني خالتك ، ما الأمر ، يا ليم ؟
وتنهد ليم ، وقال بصوت مهموم : بصراحة ، هذا ما جئت إليك اليوم ، لأحدثك عنه ..
فقالت الخالة : تحدث ، يا حبيبي ، تحدث ، إنني خالتك ، وأنت وأختي كلّ ما لدي في الحياة .
وعلى الفور ، قال ليم : أمي ، أمي يا خالتي .
وقالت الأم : هذا ما خمنته .
وصمت لحظة ، ثم قالت وكأنها تحدث نفسها : إنني قلقة على أمك ، يا ليم ، فمنذ أن رحلت الجدة ، حتى الآن ، ورغم مرور الأيام ، والحزن والكآبة مخيمان عليها ، هذا ما لا أفهمه .
وتطلع ليم إلى خالته ، وقال وكأنه يسرها بأمر خطير : إن ما أخشاه ، يا خالتي ، وهذا أمر غريب ، أن يكون هناك أمر لا نعرفه ، وراء حزنها الغريب .
واتسعت عينا الخالة ، وبدا الخوف والقلق فيهما ، وقالت متسائلة : أمر آخر ، ماذا تعني ، يا ليم ؟ وماذا يمكن أن يكون ، هذا الأمر الآخر ؟
وهزّ ليم رأسه حائراً ، وقال : لا أعرف ؟ لكني قلق وغير مرتاح ، وأنا خائف على أمي .
فمدت الخالة يديها ، وضمته إلى صدرها ، وقالت بصوت دامع : لا تقلق ، يا ليم ، لعل ما تفكر فيه ، مجرد مخاوف لا أساس لها من الصحة ..
وصمتت لحظة ، ثم قالت وهي تكفكف دموعها : عد أنت الآن إلى البيت ، وسأزور أمك صباح الغد ، وكل شيء سيكون على ما يرام .
وفي صباح اليوم التالي ، وقد خرج لين مبكراً للصيد في الهور ، جاءت كاشيرا لزيارة أختها أم ليم ، وما إن رأتها الأم ، حتى تحاملت على نفسها ووقفت ، وقالت بصوت متعب : أهلاً ، أهلاً أختي ، أهلاً ومرحبا .
ووقفت كاشيرا قبالتها ، تحدق فيها صامتة ، فتساءلت الأم ، وقد بدا عليها القلق وقالت متسائلة بصوت متعب : ما الأمر ، يا أختي ؟ أخبريني ، ما الأمر ؟
وبدل أن ترد عليها كاشيرا ، قالت متسائلة : جاءني ليم البارحة ، وكان قلقاً بشأنك ، ماذا بك ؟
وبدا الاضطراب على الأم ، وقالت مرتبكة : ماذا بي ! ربما مازلت متأثرة لموت الجدة العجوز المسكينة ، و .. هذا كل شيء على ما أظن .
وصمتت الأم ، ثم قالت بصوت دامع : أعرف أن ليم غير مرتاح ، وقلق ، و ..
ولاذت كاشيرا بالصمت لحظة ، ثم قالت : لنقلب هذا الحزن والقلق إلى فرح ..
وحدقت الأم فيها صامتة ، فضحكت كاشيرا بمرح ، وقالت : لنزوجه ، فيذهب الحزن والقلق ..
وابتسمت الأم رغم كلّ شيء ، وتساءلت : ايمي !
وهزت الخالة رأسها ، وقالت : نعم ، ايمي طبعاً .
وقالت الأم بشيء من الحماس : طبعاً .. طبعاً ..
وصمتت لحظة ، ثم قالت : كنت أتمنى أن نبني له بيتاً خاصاً به ، ليهنأ فيه هو و .. ايمي .
ومالت كاشيرا على ايمي ، وقالت باسمة : سأنتقل عندك مؤقتاً ، ونترك لهما ذلك البيت ..
ومدت الأم يديها ، وأخذت كاشيرا إلى صدرها ، والدموع تسيل من عينيها ، وتقول : آآآآ ه .












" 12 "
ــــــــــــــــــــــ
حاولتا أن تقلبا الحزن إلى فرح ، فزوجتا ليم من ايمي ، فرحت ايمي ، وفرحت أمها كاشير ، لكن الفرح ، على ما يبدو ، لم يزر ليم ، ولم يزر أمه بيهي .
وذات ليلة ، أوى ليم إلى فراشه مبكراً ، ونظر إلى زوجته ايليي ، قبل أن يسحب الدثار فوقه ، وخاطبها قائلاً بصوت ناعس : تعالي نامي ، يا ايلي .
والتفتت ايلي إليه مبتسمة ، وقالت وهي تنظف أطباق طعام العشاء : سأنظف هذه الأطباق ، ثمّ آوي إلى الفراش ، نمْ أنت الآن .
وأغمض ليم عينيه الناعستين، وقال متثائباً: لا تتأخري ، ربما سأستغرق في النوم ، قبل أن تنتهي من تنظيف الأطباق ، عليّ أن أنهض غداً مبكراً ، وأذهب إلى سوق المدينة ، لأبيع ما اصطدته اليوم .
وحين انتهت ايمي من تنظيف الأطباق، انتبهت إلى ليم ، وهو يغط في نوم عميق ، وحانت منها نظرة ، إلى الخارج عبر النافذة الصغيرة ، وبدا لها الهور الشاسع ، الذي لا تحده حدود ، هور من أهوار الأحلام ، يتنفس بهدوء سعيداً تحت ضوء القمر .
وبدل أن تستدير ، وتذهب إلى الفراش ، وتستلقي إلى جانب زوجها ليم ، فتحت الباب بهدوء ، وتسللت إلى الخارج ، وتوقفت وسط هدوء الليل ، تتأمل الهور ، الذي يغمره القمر بضوئه الشاحب .
وتنهدت من أعماقها بارتياح ، آه الهور في الليل ، على ضوء القمر، عالم آخر ، ليس كالهور في وضح النهار ، على ضوء الشمس الساطع ، الذي يُظهر كلّ شيّ على حقيقته ، بدون زيادة أو نقصان ، و ..
وخفق قلبها برعب شديد ، وقد تجمدت نظراتها ، أحقيقة هو ما تراه أم .. ! فقد انبثق من وسط الهور ، الذي يغمره القمر بضوئه الشاحب ، طيف فتاة أبيض ، سرعان ما رأته يسير ببطء على سطح الماء ، متجهاً نحوها ، وتوقف قريباً من الحافة ، وراح يحدق فيها ، بعينين بدا لها أنهما عسليتان .
وأرادت ايلي أن تعرف ، أحقيقة ما تراه أم كابوس ، لكنها لم تقو على فتح فمها ، وكأن شبح الفتاة أدرك ما تريده ، فقال بصوت متحشرج ، مكتظ بغضب مكتوم : أنا .. شبتو .. شبتو .. شبتو ..
وتمتمت ايلي مرعوبة : شبتو !
وتابع الشبح الفتاة قائلاً ، بنفس الصوت المتحشرج المكتظ بالغضب المكتوم : نعم ، شبتو ، هذا اسمي ، أنت لا تعرفينني ، لكن ستعرفينني .
وقبل أن تتفوه ايلي بشيء ، رفعت الفتاة الشبح يديها ، وهي تتراجع إلى الوراء ، وتغوص شيئاً فشيئاً في أعماق المستنقع ، وصاحت بأعلى صوتها ، مرعوبة مستغيثة : النجدة .يا أم ايلي .. النجدة .. النجدة .
وعلى الفور ، فُتح باب البيت ، وأقبل ليم خائفاً ، وهو يقول بصوت مضطرب : ايلي ..
لم تلتفت ايلي إليه ، وظلت نظراتها المرعوبة ، جامدة فوق مياه الهور ، الذي يضيئه ضوء القمر الشاحب ، وقد اختفى الشبح ـ الفتاة ، وغاص ببطء في أعماق مياه الهور ، فمد ليم يديه إلى ايلي ، وأمسك يديها ، وخاطبها قائلاً : ما الأمر ، يا ايلي ؟
ومرة أخرى ، لم تلتفت ايلي إليه ، وتمتمت متسائلة بصوت لا يكاد يُسمع : ها .. !
وأدارها ليم إليه برفق ، وحدق فيها مذهولاً ، وخاطبها قائلاً : سمعتك تصيحين بصوت غريب .. النجدة .. النجدة .. النجدة .
وفغرت ايلي فاها ، وعيناها مازالتا مذهولتين ، وقالت بصوتها الغريب : لم أكن أنا ، من صاحت النجدة .. النجدة .. النجدة .
وحاول ليم أن يتمالك نفسه ، وقال : لكني سمعت هذه الاستغاثة ، صادرة من هذا المكان ، فأسرعت إلى الخارج ، وها أنا لا أجد أحداً غيرك هنا .
وحدقت ايلي فيه مذهولة ، وقالت بصوتها الغريب : شبتو .. شبتو هي التي كانت تستغيث من ماء الهور ، وليس أنا ، يا ليم .
وتمتم ليم مذهولاً : شبتو !
وردت ايلي بصوتها الغريب : نعم ، شبتو ..
وقال ليم مذهولاً : لكنك لا لم تري شبتو من قبل ..
وتمتمت ايلي : نعم ، لم أرها من قبل ، لكني رأيتها قبل قليل ، تسير ببطء على مياه الهور ، وتوقفت على مسافة مني ، وقالت .. أنا شبتو ..
وحدق ليم فيها ملياً ، وقال : أنت تقولين ، إن شبتو هي التي صاحت .. النجدة .. النجدة .. النجدة ..
وتطلعت ايلي بعينيها المذهولتين ، إلى مياه الهور ، التي يغمرها القمر بنوره الشاحب البارد ، وقالت .. نعم .. هي التي صاحت .. النجدة .. النجدة ..
وصمتت ايلي أمام نظرات ليم ، التي تزداد ذهولاً ، ثم تابعت قائلة : رأيتها على ضوء القمر الشاحب .. تنبثق من الماء كما لو كانت شبحاً .. ابيض .. يقطر ماء كدراً .. كأنه ماء من أعماق الهور ..
وصمتت ثانية ، وبدت مرعوبة ، كما لو أن الشبح الأبيض ينبثق أمام ناظرها من أعماق الهور ، على ضوء القمر ، وتابعت قائلة بصوتها الذي ازداد غرابة : لم يبق شبح الفتاة الأبيض في مكانه ، وإنما سار ببطء على الماء ، متجهاً نحوي ..
والتفتت ايلي إلى ليم ، محدقة في عينيه المذهولتين ، وتابعت قائلة : وتطلعت إليّ بعيني تشعان بالمرارة والغضب ، وخاطبتني قائلة ، انظري إليّ ، يا ايلي ، أنظري إليّ جيداً ، أنا شبتو .. ثم تراجعت إلى الوراء ، وراحت تغوص في الماء شيئاً فشيئاً ، وهي تصيح بأعلى صوتها : النجدة .. النجدة .. النجدة ..
وسحب ليم زوجته ايلي ، واتجها بها نحو البيت ، محاولاً تهدئتها ، وهو يقول : كفى ، يا ايلي ، كفى ، هذه أوهام ، ولا يمكن أن تكون حقيقة .
ودخل بها إلى البيت ، وأغلق الباب ، ثم وضعها في الفراش ،وتمدد إلى جانبها ،وقال بصوت هادئ : نامي ، يا ايلي ، أنت مرهقة الآن ، نامي ، وسترتاحين ، وحين تفيقين غداً ، ستعرفين أن كلّ ما خيل إليك أنك رأيته في الهور ، مجرد أوهام .







" 13"
ــــــــــــــــــ
فتحت الأم بيهي عينيها فجأة ، في عتمة البيت ، وتلفتت بعينين مذعورتين ، وقلبها يخفق بشدة ، الليل ربما تجاوز منتصفه ، والصمت يسود كلّ ما حولها ، ذلك الذي سمعته ، ترى أهو كابوس ، مما تراه في المنام هذه الأيام ، أم حقيقة ؟
وتنفست ملأ صدرها ، وكأنها كانت في أعماق الماء ، وخرجت إلى السطح ، وحاولت أن تتمالك نفسها ، لابدّ أنه كان كابوساً ، من كوابيس الليل ، فمن أين يمكن أن يأتيها صوت شبتو ، تصرخ باسمها من الظلام الحالك ، مستغيثة ، طالبة النجدة ؟
وسرعان ما انتفض قلبها، الذي لم يكد يهدأ في صدرها ، وراح يخفق بشدة ، إذ تناهى إلى سمعها من الخارج ، من جهة الهور ، نفس الصراخ ، الذي خيل إليها أنها سمعته في منامها ، يرتفع هادراً .. أم ليم .. النجدة .. النجدة .. النجدة .
الأمر حقيقة إذن ، وليس كابوساً في المنام ، إنها الفتاة الغريبة ، ذات البشرة الفاتحة ، والشعر البنيّ ، والعينين العسل .. شبتو ، فهي تعرف صوتها ، وها هي تخاطبها باسمها ، وتستنجد بها ، ترى ماذا تريد ؟
ونظرت الأم إلى حيث تتمدد أختها كاشيرا ، وأرهفت سمعها ، يبدو أنها مستغرقة في النوم فجسمها هادئ تحت الفراش ، وأنفاسها هادئة منتظمة ، وهزت رأسها ، كلا .. الأمر ليس حقيقة ، وإلا لسمعته أختها كاشيرا أيضاً ، وأفاقت من النوم ، ونهضت من الفراش ، وحاولت أن تعرف ما يجري .
وأغمضت الأم عينيها ، لعلها تنام ، وتهرب من هذا الكابوس ، الذي لا يريد لها أن ترتاح ، لكنها سرعان ما عادت ، وفتحت عينيها على سعتهما ، وقد ازداد الرعب في أعماقها ، التي يسكنها القلق ، حين جاءها الصوت من الخارج أكثر وضوحاً ، يخاطبها ثانية ، أم ليم .. أم ليم ..تعالي إليّ .. وأنقذيني .. أريد أن أعود .. وأعيش حياتي .. تعالي .. تعالي .. تعالي ..
ونهضت الأم من فراشها كالمنومة ، وسارت ببطء في العتمة ، ومضت إلى الليل ، الذي يضيئه القمر من أعالي السماء ، وجاءها الصوت ، كما خمنت ، من أعمق الهور ، أم ليم .. إنني هنا .. تعالي .. تعالي ..
ونظرت الأم نحو مصدر الصوت ، بعينيها المتعبتين الخائفتين ، ورأت الطيف وسط ماء الهور .. إشعاعاً أبيض .. يتمايل ..، إنها شبتو ، نعم شبتو ، ومدت شبتو ـ الطيف الأبيض ذراعيها ، وصاحت بأعلى صوتها : تعالي .. يا أم ليم .. تعالي إليّ .. تعالي .. تعالي ..
ورغم إرادتها ، تقدمت الأم ، كمن يسير في المنام ، ولم تتوقف حتى عندما وصلت حافة الماء ، ووجدت نفسها تخوض في ماء الهور ، وشبتو ـ الطيف الأبيض ، تمدّ يديها نحوها ، وهي تقول : تعالي .. تعالي .. تعالي ..
ولهاجس ما ، لا تعرف كنهه ، فزت كاشيرا من نومها ، ووقعت عيناها الخائفتان على الباب الموارب ، وعلى الفور ، نظرت حيث ترقد أختها أم ليم ، وهبت من فراشها مذعورة ، حين عرفت أن أختها ليست موجودة في مكانها ، وهتفت وقلبها يخفق بشدة : بيهي ..
لم تردّ بيهي عليها ، وأين هي بيهي لتردّ ؟ فانطلقت كاشيرا إلى الخارج ، وتوقفت على مقربة من الباب ، وراحت تصيح بصوت أعلى : بيهي .. بيهي ..
وخرست كاشيرا ، وقلبها يخفق بشدة ، حين رأت أختها بيهي ، تسير بعيداً عن الشاطئ ، وكأنها تسير نحو هدف تراه حقيقة ، رغم أنه لا يوجد شيء في مرمى النظر ، فاندفعت كاشيرا إلى حافة الهور ، وهي تصيح بأعلى صوتها : توقفي .. يا بيهي .. توقفي .. توقفي ..
لكن بيهي لم تتوقف ، ولم تلتفت ، وكأنها لا تسمع صرخات كاشيرا ، وواصلت توغلها في الهور ، والماء يغمرها شيئاً فشيئاً حتى تجاوز صدرها ، فاندفعت كاشيرا في الماء ، محاولة اللحاق بها ، وهي تصيح بأعلى صوتها : بيهي .. بيهي .. بيهي ..
ويبدو أن صياح كاشيرا المرتفع ، في ذلك الوقت المتأخر من الليل ، أيقظ بعض الجيران ، فأسرع إليها عدد من الرجال والنساء ، وحين رأوها تخوض في ماء الهور ، وهي تصيح بشكل هستيري : بيهي .. بيهي .. بيهي ..
ونظروا جميعاً ، على ضوء القمر ، إلى حيث تتجه كاشير ، لكن أحداً منهم لم ير بيهي ، ولا أي شخص آخر، فصاح الجميع بها رجالاً ونساء: كاشيرا ، عودي ، ستغرقين في الهور ، عودي .. عودي ..
لكن كاشيرا لم تلتفت إليهم ، ولم تعد إلى الشاطئ ، وإنما واصلت سيرها في الهور ، والماء يغمرها شيئاً فشيئاً ، فاندفع بعض الرجال إليها ، وحاولوا إيقافها ، لكنها راحت تقاومهم ، وهي تصيح : دعوني .. دعوني .. أختي بيهي .. ستغرق .. وعليّ أن أنقذها .
لكن الرجال لم يدعوها ، وإن راحوا يتلفتون حولهم ، بحثاً عن بيهي ، لكنهم لم يجدوا لها أثر ، وظنوا أن كاشيرا ربما كانت تهذي ، فسحبوها برفق إلى الشاطئ وقال لها واحد منهم : أنت واهمة ، يا كاشيرا ، لا أحد في الهور ، لا أختك بيهي ، ولا أحد غيرها .
والتفت النساء حولها ، واتجهن بها إلى البيت ، لكنها كانت تقاوم ، وتحاول التملص منهن ، وهي تقول باكية : دعنني ، أختي بيهي تغرق في الهور .
وشدت امرأة متقدمة في السن يدها عليها ، وقالت لها : تعالي ، يا عزيزتي ، تعالي ، من يدري ، لعل أم ليم في فراشها ، وأنت خرجت من البيت في هذا الظلام ، وتظنين أنها تغرق في مياه الهور .
وأدخلنها البيت ، ووضعنها في فراشها ، لكن كاشيرا ظلت تبكي ، وتحاول النهوض ، والعودة إلى الهور ، وهي تقول :رأيتها بعيني هاتين، تغوص في مياه الهور ، حتى اختفت .. آه .. لقد غرقت أختي .. بيهي .. غرقت .. غرقت .. غرقت .


2








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??


.. فيلم -لا غزة تعيش بالأمل- رشيد مشهراوي مع منى الشاذلي




.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط