الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تشريح الذات: كانَ خريفاً دافئاً

دلور ميقري

2024 / 3 / 23
الادب والفن


" يجب أن تواجه شيئاً من تشريح الذات، إن كنتَ تبغي إكتشافَ مبدأ لم يُكتشف بعد "
ستندال

1
الأرقامُ الزوجية، هيَ قدرُ المولودين في برج العذراء. ولكنّ " دارين "، المنتمي بغير إرادته لذلك البرج، كانَ يشعرُ بجاذبية نحو الأرقام الفردية. وإنها لجاذبية عامّة، كثيراً أو قليلاً، رسّخها المنجّمون والمشعوذون والأنبياء. فمن لا ينبهر برقم 7، المبارك؛ أو برقم الطيرة، 13؟ ولدحض علم التنجيم ( الأسترولوغيا )، الخاص ببرج العذراء، على الأقل، يكفي أن نعلم بأن التاريخ الخاص بمولد بطل قصتنا، 1957، يتكون كله من أرقام فردية. قلنا، أنّ دارين ليسَ من عداد المتفائلين بالأرقام الزوجية، مع أنها مُطابقة لتوارخ ميلاد أطفاله الثلاثة؛ لوصوله قبل ذلك للسويد؛ لنشر مجموعتيه الشعريتين وإنهائه كتابة روايته البكر. بل إنها العشرون، رقم هذه الرواية الجديدة، التي بين أيدي القارئ. ولعلها ليست رواية، أو حتى كتاباً في السيرة الذاتية، لو إستعرنا كلمات هنري ميللر: " هوَ تشهيرٌ، إفتراءٌ، تشويهُ سمعة. هذا ليسَ كتاباً بالمعنى العاديّ للكلمة. لا، هوَ إهانةٌ مطوّلة، بصقة على وجه الفن، ركلة على قفا الله، والإنسان، والقدر، والزمن، والحب، والجمال... ". ومن يقدر على كتابة هكذا كلمات، لو لم يكن أديباً مغموراً؟
الأرقام الزوجية، في المقابل، نهشت حياة دارين ـ كوحشٍ أسترولوغيّ ـ لو تعلّق الأمر بتاريخ زواجه الثاني، الكارثيّ، أو بإرغامه على مغادرة مدينته الأثيرة؛ أوبسالا. ولكنّ هذا، حديثٌ آخر. فمتى يحين وقت ذلك الحديث، إن لم يكن الآنَ؟ على الأمل، بأن يُمهّد بالأحجار الصقيلة، دربُ القارئ. ولكنها ستكون أحجار عثرة، لو لم ننسَ قليلاً أن كاتبنا أديبٌ مغمور. مع أن ثمة حقيقة تشدّ أزره بعض الشيء، وهيَ أن خوسيه ساراماغو، أول ناطق بالبرتغالية يحصل على نوبل الآداب، عرفَ الشهرة وهوَ في سنّ السبعين. هذا غير ما نبشته السوريالية، في مبتدأ القرن المنصرم، في تربة الأدب، لكي تحيي رممَ دوساد ولوتريامون ورامبو وغيرهم... حمداً لله أن كاتبنا لم يبلغ بعدُ سنّ السبعين؛ وهوَ رقمٌ خناث، زوجيّ وفرديّ في آنٍ معاً!
في أوان عزمه على الكتابة مجدداً عن أوبسالا، عن المدينة المتجمدة القلب شتاءً ـ كباقي مدن أوروبا الشمالية ـ كانَ دارين محظوظاً بوجوده في مراكش. فكرة إنهائه سجل المدينة الأخرى، لم تكن في حقيقة الحال بحاجةٍ إلى شمس شتائية ساخنة، ولا إلى شوارع أنيقة تظللها أشجار مثمرة ـ كالبرتقال والنخيل والزيتون؛ أشجاره الأثيرة، التي يركب لأجلها الطائرة من شمال أوروبا إلى شمال أفريقيا. ولكنه يُسعد أكثر بوجود عرائش المجنونة، المُشكّلة شلالاتٍ من ألوان على جدران المدينة الحمراء، فضلاً عن عرائش الياسمين، المبثوثة أنجمها في الخضرة الزاهية والناشرة أريجها ليطغى على عطور بنات الهوى، اللواتي يتسكّعن على طول شارع محمد الخامس من جهة " غيليز "، طلباً لزبونٍ سخيّ يدفع عشرة أضعاف ما تحصل عليه زميلاتهن في شوارع أرقى المدن الأوروبية.. وبالطبع، باستثناء شوارع السويد، التي يجرّم قانونها الدعارة.. ثمة، أين يتسكّع " تركي "، صاحب القول المأثور: " بلدُ القحاب، المحرومُ من النيك! ". هذا الرجلُ الخمسينيّ، المعدّ من رموز مجتمع الأجانب في مدينة أوبسالا، لم يحتمل الحرمان الجسديّ، فعاد إلى بيروت عقبَ إنتهاء حربها الأهلية، ليعمل على ناصية أحد شوارعها في بيع المرطبات. كانَ ذلك، قبل أن يضطر الرجلُ من جديد للهرب إلى السويد على أثر جرّ الحزب الإلهيّ البلدَ إلى حرب دمّرت ما كانَ قد بُنيَ في خلال ما يزيد عن عقدٍ من الأعوام. إنه الحزب، المقدّم لبنان لقمة سائغة لملالي طهران، الذين رجعوا لمبدأ " تصدير الثورة "، ومَن دفعوا مذ إستلامهم السلطة ملايينَ الإيرانيين للفرار إلى بلدان اللجوء.. وكان منهم صديقتان، تعرّف عليهما دارين على التوالي.
بلى، لقد عاد تركي هذه المرّة مع زوجة شابة، ومتطلّبة فوق ذلك. كانَ يتنقل بين متاجر مواطنيه، المنتشرة في مركز أوبسالا، لكي يشكو حاله: " إبنة الحرام! بحجة الرغبة في أن أخصبها، لا تكاد تشبع من النيك. بل إنها تدعوني من الشرفة، حينما أكونُ منشغلاً مع الزبائن. ولكنني لن أجعلها تهنأ في السويد، كوني أخذتُ العبرة مما فعلته بي إمرأتي الأولى، أم أولادي، حالما حصلت على الإقامة الدائمة ". وبالفعل، تخلى الرجلُ عن رخاء السويد ورجع مع إمرأته إلى بيروت، ليصطاده ثمة سريعاً ملاكُ الموت على أثر ذبحةٍ صدرية. ولغرائب القدَر، أنّ " نورو "، صديق دارين المقرّب، توفي في السنة ذاتها. لقد عانى من سرطان الرئة، وكان يتعالج بجلسات كيميائية في دمشق. خابر دارين من هناك، دونما أن يخبره بحقيقة مرضه. لكنه تكلّم بشكل غامض عن عبث الحياة، بحيث أن دارين قال له بنبرة مداعبة، وبالكردية: " إياك أن تموت وتدعنا نحزن عليك! ". ولكنه لم يرحل عن الدنيا، قبل أن يكحّل عينيه بمرأى أوبسالا؛ المدينة التي عشقها، وكانَ يأملُ بالعيش فيها، تاركاً أراضيه في الجزيرة السورية، ليتكفّلُ بها أقاربه في موسميّ الزراعة والخصوبة.
لقد عاد إذاً ملأكُ الأراضي إلى السويد، بتأشيرة زيارة، غبّ مغادرته لها بأقل من أربعة أعوام، وكانَ إذاك بكامل صحته وحيويته. هاتفَ دارين بنفس يوم وصوله، لكي يذهبا إلى الملهى: " إشتقتُ إلى عطر السويديات، بعدما زُكِمَ أنفي لسنواتٍ برائحة البصل المحترق، العالق بثوب نوم إمرأتي القروية! ". جاء الرجلُ الأربعينيّ، متأنقاً كعادته بسترةٍ غامقة اللون جعلته شبيهاً بالمايسترو. وإنه لكذلك، لكنه بدلاً عن قيادة فرقة موسيقة، قنع بقيادة ثلة من الصعاليك والمتسكّعين. ثمة، في ملهى " بالديس "، ولمحض المصادفة، إلتقى بإمرأة سويدية، كانت قد جعلته يُعاني في أثناء إقامته الأولى في هذا البلد. إنها " أميلي "، المرأة المناهزة الخمسين، لكن جسدها ما فتأ مصقولاً كالمرمر ومتأججاً كالجمر المؤرّث. لقد غدت على شيءٍ من الكآبة، كون صديقها الشاب هجرها، لكي يجلب عروساً صغيرة السنّ من قريته الكائنة في مجاهل جنوب تركيا. ولأنها ثملة أيضاً، فلم تمانع هذه المرة في الذهاب آخر السهرة مع نورو، لتشاركه الفراش في شقتها الصغيرة. وقد ظهرا في اليوم التالي كعريسين سعيدين، عندما تعهّد " الحوتُ " الدعوةَ إلى سهرةٍ في صالة أوتيل " جيليت ". ما أن أبصرَ دارين صاحبَ الدعوة وهوَ يرمشُ عيونه في حركةٍ معهودة، إلا وهجسَ أنه يدبّرُ أمراً ما، مُشيناً.

2
في عام مضى، مر دارين على متجر الحوت، الكائن في شارع " ستور غاتان "، وكان هذا قد سلّمَ زمامَ العمل تواً لشريكه. بطريقةٍ أشبه بالدفع عنوةً، ألزمَ الضيفَ أن يمضي معه لتناول الغداء في مطعمٍ صينيّ، يقع في مقابل محطة القطار: " يا أخي، أنت كائنٌ غريب؛ لا تدعو أحداً ولا تقبل أن تُدعى "، قال لدارين. كان يتحسسُ جيبَ بنطاله، المحشو بأوراقٍ مالية من فئة الخمسمائة كرون، التي يجتنيها دون علم شريكه. ثمة في المطعم، وبعدما أغتذى ضيفُهُ بالوجبة والثرثرة، إذا بالحوت يضربُ جبينه بكفّه: " آه، هذا ما لم أعمل حساباً له! لقد نسيتُ كرتَ البنك في البيت "
" إنهم يقبلون الدفعَ نقداً "
" هنا المشكلة؛ لأنني مجبورٌ على تركك تنتظرني ساعة من الزمن ريثما أجلبُ النقودَ من المتجر "
" ولِمَ هذا العناءُ، طالما أن في وسعي دفع الحساب؟ "
" لا، لن أدعك تفعل ذلك؛ لأنني صاحبُ الدعوة "
" إذا كنتَ لصاً، فالليالي كثيرة؛ كما يقول المثلُ "، قال ذلك دارين ثم أضافَ وهوَ ينهضُ: " ستدعوني مرة أخرى، ولن تنسى عندئذٍ الكرتَ. ها أنا أمضي إلى التواليت ومن ثم إلى الصندوق ". بدَوره، قام الحوتُ إلى البوفيه كي يملأ صحنه للمرة الرابعة. في أثناء ذلك، كان ضيفه قد مضى رأساً إلى باب المطعم. في مساء اليوم نفسه، إتصل معه رجلُ الكَرَم وهو يغلي حنقاً: " أهذه هيَ الأصولُ، أيها الأديب والرسّام؟ أن تهربَ من المطعم، لتتركني في مأزق وأنا دونَ نقود؟ ". فقاطع دارين كلامه، بالقول في نبرةٍ بريئة: " لقد ذهبتُ إلى الصراف الآليّ كي أسحبَ النقود، ولما عدتُ إلى المطعم لم أجدك! ".
كانت إذاً ساعة المساء، ونورو يتكلم ضاحكاً كيفَ حَسَبَ وصوله في الصيف إلى السويد، لكن الموافقة على الفيزا أخّرته إلى الخريف. إنما الطقس الجميل، في المقابل، كانَ يُنبئ ملّاكَ الأراضي بإجازةٍ ممتعة؛ بله مع صديقة قديمة، سارعت منذ أول لقاء لفتح ساقيها المرمريتين. وكانت هذه، بينَ فينةٍ وأخرى، تضعُ رأسها على كتف الضيف لتتأمل بروفيله من جانب. ولعلها كانت تقارنه في ذهنها مع صديقها السابق، البالغ الوسامة، الذي عاش تحت سقفها نحو أربعة أعوام ولحين حصوله على الباسبورت ذي اللون النبيذيّ. الآخرون من الحضور، كانوا يرمقون العاشقين الرومانسيين بنظراتٍ باسمة وساخرة. عدا دارين والحوت، كان ثمة مواطنا الضيف؛ وهما " كمال "، الناشط في حزب سويديّ ليبراليّ، و" سيدو "، القليل الكلام عادةً، كون إمرأته المتسلّطة قد أمحت شخصيته. علاوةً على " سامو "، المخلوقُ الرقيع والخدوم أكثر من بغل. ويمكن الإستطراد في شأنه، لإضافة خبر طلاقه من إمرأته، التي إمتلكت الجرأة لمرة وحيدة في حياتها كي تطرده من البيت. ففي مساء اليوم نفسه، الذي شُيّع فيه طفله المعاق إلى المقبرة الإسلامية على طرف المدينة، كانَ هوَ يراقص إمرأة متصابية في الملهى. قال لأصدقائه هناك، مبرراً الأمرَ: " شئتُ دفنَ حزني في الخمرة وفي أحضان إحداهن ".
لنعُد إلى الأجواء الرومانسية للسهرة، التي كان لا بد للحوت أن ينتهزها كي يصدّع رؤوسَ الحضور بالثرثرة عن تاريخه النضاليّ، المليء بالعِبَر. إلا أنه خرسَ على طول الخط، حينما جاء النادلُ لتحصيل الحساب. كمألوف العادة، مدّ المُضيف يده إلى حافظته، ليفاجَأ بأنه نسيَ كرت البنك في المنزل. سيدو، بوصفه الضحية دوماً، تكفّل دفعَ الفاتورة. وإنه هذا الأخير ومواطنه كمال، مَن ألهما الحوت فيما بعد فكرةَ إعداد رسالة الدكتوراه. فليسَ من المناسب أن يرافقهما في كل مرةٍ، ويحز في قلبه أن يُخاطبا بلقب " الدكتور " ذي الجرس الرنان. عندما عاد من بيروت، وكان قد حظيَ ثمة بمشرفٍ على رسالته الجامعية، فإنه بادرَ حالاً للإتصال بدارين: " كونك أديباً يُشار له بالبنان، فأنني أحتاجُ لمساعدتك في تنقيح رسالة الدكتوراه "، قالها بنبرة متفكّهة. أعتذر دارين بمشاغله، إلا أن الحوتَ كان في غاية اللجاجة ولم يكن من الممكن إيقاف تدفقه في الثرثرة سوى بقبول تدقيق أحد فصول الكتاب. في اليوم التالي، تسلّم المدققُ ملزمة ضخمة من يد الدارس العتيد، فأخذها دونما مزيدٍ من الجدل كي ينقذ نفسه من الغثيان. فالحوت، برائحة فمه الكريهة، كانَ يلزم نفسه بالصيام عن الطعام طوال معظم ساعات النهار بحجة إتباعه ريجيماً قاسياً. لكنه لم يكن يتحرّج عن الطلب من أحد الزبائن إقتطاع ثلث شطيرة الفلافل، لو كانَ من معارفه: " حرام أن أبدد شطيرة كاملة! "، كان يقول للرجل وعلى سحنته سيماء المتسوّل المتذلل.
عقبَ تصفّحه الملزمة، خلص دارين إلى أن صاحبها كانَ ينقل حرفياً ما شاء له من المصادر التاريخية. مع ذلك، كانت الأخطاء الإملائية والنحوية من الكثرة أن دارين عمد إلى تدبيرٍ مناسب لتلافيها. في الموعد المحدد تقريباً، سلّم الملزمة إلى صاحبها. أراد الإنسحاب للفور، إلا أن مضيفيه أصرّوا أن يبقى لتناول الفطور. كانَ الوقتُ على مشارف العصر، فتحجج هؤلاء بأن اليوم عطلة وأفاقوا متأخرين. على أية حال، كانَ الفطورُ مقتصراً على طبق من الفول بالطحينة، ولم تظهر ربطة الخبز اللبنانيّ إلا بعدما أنهى الضيفُ أكل محتويات صحنه الصغير. وإنما في تلك الفترة، ظهرَ " خفيفو " في أوبسالا كي يحاول تصريفَ نسخٍ من مجموعته الشعرية الثانية. كان برفقته شاعرٌ من مواطنيه، عُرف بلقب " عصفور " منذ أن كان طفلاً. إنه يُعاني من إنحسار شديد في البصر، يُدعى بدَوره " عمى الدجاج "، سببه قلة التغذية. بسبب عصبية وضيق خلق هذا الضرير المسكين، كانَ مرافقوه يتركون يده في عرض الشارع ويدعوه لوحده يصطدم بالناس فيما يُجاهد كي يشق طريقه. وإذاً، بدأ الحوت في تصديع رأس الضيفين، الذين حضرا إلى المتجر بشأن بيع المجموعة الشعرية. في غضون الحديث، قال خفيفو لمرشّح الدكتوراه: " بما أنك ستزور الجزيرة صيفاً، فما عليك إلا وضع رسالتك الجامعية عند عمنا الشيخ، وهوَ سيضفي عليها مسحة جزلة من لغته العربية البليغة ".
غبّ رجوع الحوت من سفرته إلى سورية، خابرَ دارين وكانَ ثائراً ساخطاً: " الشيخ، راجعَ تلك الملزمة، التي كانت بعهدتك. لقد أكّد لي، أنك قمتَ فقط بمراجعة العبارات الصحيحة كي تكتبها بشكلٍ خاطئ! ".

3
الوقائع، كانت تتداخل في ذاكرة دارين عن ذلك الخريف الدافئ، الشاهد على إشراق حضور نورو. بدَوره، كان هذا الأخير يتفقدُ أصدقاءه بالأصالة عن ذاكرة تنبضُ بالحنين. في حقيقة الأمر، أنه لم يُحبط من التصرف اللئبم للحوت، كونه على معرفة مسبقة بوضاعته وخسّته. بل لقد ردّ له الدعوة الكريمة، وذلك حين جمع الأصدقاء مرةً أخرى في نفس صالة الفندق. إذاك، كانَ " جيجي " حاضراً. لقد لبى نداء صديقه اللدود، بالرغم من أنه يقيم في بلدة فنلندية على الحدود مع السويد. لم يكن قد رُزقَ بعدُ بتوأم ذكر من إمرأته الفنلندية، التي طالما تنفّجَ بالزعم أنها طبيبة؛ وهي في الحقيقة مساعدة طبيب. دارين، سبقَ أن زاره لمرةٍ وحيدة في ربيع ذلك العام المستطير، الذي أستهل بالهجوم الجويّ على العراق لإجبار صدام حسين على سحب قواته من الكويت. لقد أحرجه جيجي يوماً، بالقول: " ثمة صديق إيراني، سينتقل إلى كاليكس، التوأم السويديّ لبلدتنا. إنه سيمرّ عليك بسيارته، كونه يقيم في مدينة مالمو ". ثم أضافَ بنبرةٍ حميمة: " أرغبُ بشدّة التعبيرَ عن إمتناني بفضلك في حصولي على الإقامة في السويد، كما وبكرمك عندما كنتُ أحل ضيفاً لديك ". كانت رحلة مليئة بالغرائب، تعرّف فيها دارين على الشمال السويديّ، وكانت شمس الربيع قد بكّرت في إذابة تلال الثلوج. ولم ينغّص متعة الرحلة في نهاية المطاف، سوى المُضيف بالذات. لقد حضرَ إلى كاليكس بسيارة في غاية الجدّة، وكانَ يقودها بيدٍ واحدة فيما كانَ ينظر بخفّة إلى هندام ضيفه من خلف النظارة السوداء، الباهظة الثمن. في منتصف الطريق، توقف عند محطة بنزين: " آه، إنهم يبيعون شطيرة لحم الأيائل الشهير "، هتفَ في حبور وتباهٍ. عندما عاد وبيده قطعة مقانق ضخمة، ملفوفة بمتديل ورقيّ، سأله دارين: " لمَ الشطيرة دون خبز؟ "
" هكذا تؤكل عادةً هنا "، رد بنزق. حين رأى دارين قد تباطأ في تناول قطعة المقانق، فإنه قام برميها عبرَ نافذة السيارة. ذات التصرّف اللئيم، صدرَ عنه في المطعم الصينيّ وكانت رفيقته معهما. فإنّ دارين إمتنع عن أكل " السوشي "، كونه لا يحبذ الأطعمة النيئة: " سأكتفي بأكل طبيخ الخضار مع الأرز "
" أف! هل تَكلّفنا ثمنَ البوفيه، لكي تأكل هذه الوجبة التافهة؟ "، هتف الغندورُ ساخطاً. مثلما لاحظ الضيف، فإن المرأة هيَ من كانت تتولى دوماً الدفعَ سواء في المطعم أو المخزن. إلى أن إنفجر دارين بالغضب أخيراً، في صباح اليوم الرابع للزيارة المشئومة. فبينما كان التلفزيون السويديّ ينقلُ أخبارَ تنكيل صدام حسين بالمعارضة، في أعقاب وقف إطلاق النار، إذا بالغندور يُغمغم: " بغض النظر عن كل شيء، فإن صدام أثبت أنه رجلٌ بمعنى الكلمة! ". كانت واضحة، نيّته المبيّتة في مناكدة الضيف وإثارته. حين ردّ عليه دارين بقسوة، فإنه عاد للغمغمة: " أتشتمني في بيتي؟ "
" أساساً لو كنتُ أعرف أن إمرأة غريبة تصرفُ على بيتك، لما قبلتُ دعوتك للزيارة "
" إنها زوجتي وليست إمرأة غريبة "
" إنها غريبة بالنسبة لي، وأنت لم تحترمني في حضورها "، قال دارين بحدّة. ثم نهض على الأثر، فأخذ في حشر ملابسه في حقيبة السفر. كانت محطة الأوتوبيسات قريبة، فذهب مشياً على قدميه. نزل من الأوتوبيس عند محطة مدينة لوليو، ثم ركب من هناك القطار، المتجه إلى أوبسالا. حينَ كان بعدُ في الأوتوبيس، كانَ الراديو يُذيع أخبارَ تقدّم الجيش العراقي في كردستان وسقوط المدن الواحدة بأثر الأخرى. خلفه كان يجلسُ شابان من كرد الجزيرة، أحدهما كانَ على قرابة بصهره. لم يتأثرا بالأخبار، وتابعا حديثهما في شئون المال والأعمال. دارين، كانت عيناه في الأثناء تطفح بعبرات القهر والغضب، لما عاينه من تآمر الأمريكان مجدداً مع الدول الغاصبة لكردستان.
في صيف العام نفسه، تكرّم النظامُ في دمشق على المغتربين السوريين بشهر إجازة في الوطن؛ مُستثنياً الناشطين السياسيين. وقد سافر جيجي إلى الشام دونَ أن يُخبر دارين؛ وسيعلم هذا الأخيرُ، لاحقاً، ما وراء الأكمة. فإن المغتربَ راحَ يتنقل بين بيوت الأصدقاء المشتركين، لكي يلفقُ القصصَ بحق دارين: من قبيل أنه ينام طوال النهار ويسهر كل الليل على كؤوس الراح، وأنه يسكن في حجرةٍ رثة.. الخ. حينما عادَ، مستخدماً المطار الدوليّ القريب من أوبسالا، أخرجَ من حقيبته صوراً لبعض الأصدقاء وصار يتندر عليهم. عندئذٍ، لوّح له دارين بدَوره برسالة من أحد أولئك الأصدقاء وفيها ما فيها من تلك التلفيقات. إمتقعَ وجهُ النمّام، وآبَ إلى اللجلجة مدّعياً أن الأمر مجرد دعابة وليسَ سوء طويّة. في اليوم التالي، جاءت صديقته لتشحنه بسيارتها كل تلك المسافة الشاسعة حتى لا يتجشّم عناء السفر بالقطار والأوتوبيس، وأيضاً كيلا يتكلّف ثمنَ التذاكر. " كان محظوظاً، إبن الحرام، بهكذا إمرأة "، على حدّ تعبير نورو. بل إن الغندورَ أقنعها بعد نحو عامين، بإضطراره إلى الطلاق المؤقت من أجل جلب زوجته وولديه من دمشق.. على أن يعودا إلى سابق عهدهما، بمجرد أن يحصل هؤلاء على حق الإقامة الدائمة.
في هذا السياق، إتصلَ جيجي بدارين وهوَ يُحمحم ويتلجلج. بعد مقدمة من الإعتذار والأسف، أخبره أنه في سبيله للمجيء إلى أوبسالا: " ستحضر عائلتي من دمشق، وعليّ إستقبالهم في المطار "، قال ذلك ثم أخذ بالتبجّح: " قلت لإمرأتي، أنها لو جاءت وهيَ مرتدية الحجابَ لأعدتها في نفس الطائرة إلى الشام ". في هذه المرة، أتى الغندور دون حاجةٍ لركوب سيارة صديقته. عندئذٍ تكلم دارين مع شقيقته الكبيرة، التي أبدت إستعدادها بوضع سيارتها بتصرفهم. زهاء شهر على الأثر، ثم إتصلت زوجة جيجي بشقيقة دارين: " أرغبُ مساعدتك في الرجوع إلى دمشق، لأنني لم أعُد أحتمل إذلال كرامتي. إنه يقضي أغلبَ الوقت عند تلك المرأة الفنلندية، ويدَعني لوحدي مع ولديّ؛ وأحدهما مريضٌ بالربو ". حينما تكلّم دارين مع الغندور، بشأن الوضع المستجد بينه وبين إمرأته، فإنه علّق بالقول: " سأشكرها كل العُمر، لو أنها نفذت تهديدها ورجعت إلى سورية مع ولديها! ". بعد أيام قليلة، كانت المرأة تسير مترنّحة من القهر على أرضية صالة المطار، برفقة ولديها، ولم يكن في وداعها سوى شقيقة دارين. منذئذٍ، عاد جيجي إلى إرسال مبلغ مائة دولار لعائلته شهرياً: " إنه يعادل راتبَ أكبر موظف بالدولة السورية. وأخبرتُ أم أولادي أنها لو تزوجت، سأقطع عنها المال وأطردها أيضاً من الشقة، التي هيَ باسمي "، قال لدارين عبرَ الهاتف.
وهوَ ذا جيجي يخاطبُ دارين، بعدما حضرَ كي يلتقي مع نورو: " ما أنفكّ أشعرُ بالخجل والخزي، لأنني تصرفتُ معك بشكلٍ مُخالف للّباقة حينما كنت بضيافتي ". علّق ملّاكُ الأراضي ضاحكاً، مخاطباً المعنيّ: " أنا لا أعرفُ جليّة الأمر، سوى أن منيكاً مثلك محالٌ أن يتصرف بطريقةٍ مغايرة! ". ردّ الغندورُ، مغيّراً مجرى الحديث: " لو أنك قبلت إقتراحي بالزواج مني، لكنت الآنَ تتمتع بالإقامة الدائمة في السويد "
" أنا لا أطارد الصبيانَ، كما تعلم. ولكن لو تنازلت لي عن صديقتك، فإنني لم أكن لأمانع "
" أرجوك، إنها زوجتي وليست صديقتي "
" أضحى للخراء إمرأة، ويحلف عليها بالطلاق! "، قالها نورو مقرقراً بضحكته من جديد.

4
باعثُ قبول دارين دعوةَ الغندور، كانَ أساسه تخفيف التشنّج في علاقته بصديقته الإيرانية. إنها، بدَورها، إستفزّت مشاعره بتأييدها لصدام حسين؛ ولو أنها لم تكن تفعل ذلك، لمجرّد المناكدة. لقد كانت " ماهو " من مناصري منظمة مجاهدي خلق، التي وفّرَ الديكتاتورُ البعثيّ قواعدَ لمقاتليها مذ بداية الحرب العراقية الإيرانية. كلاهما، دارين وصديقته، كانَ شديد القلق بشأن تطوّر حرب الكويت؛ ولو لدافع مختلف. ثم أظهرت صديقته سعادتها بوقف إطلاق النار، كونه يعني بقاء نظام الديكتاتور، ما جعل دارين يثور في وجهها. صديقه، " آلان "، هوَ من إتصل معه في صباح أحد الأيام، لينقل له الخبرَ: " الأمريكان، خذلوا شعبنا مرةً أخرى. وفي هذه الحالة، ليسَ من الصعب معرفة ما سيؤول إليه الوضع في كردستان العراق "، قال له بصوتٍ مُنكسر. بعد أيام قلائل، وكانَ دارين قد عاد من رحلته إلى فنلندا، إتخذ الوضعُ هناك بالفعل شكلاً كارثياً. مع التقدّم السريع للجيش العراقيّ، الذي سبقَ أن أخمد إنتفاضة الجنوب الشيعيّ، إندفعَ نحو مليونان من الكرد بإتجاه حدود كل من تركيا وإيران. التلفزيون السويديّ، ومن خلال شبكات الأخبار الأمريكية الشهيرة، كان ينقل صوراً كابوسية مرعبة ( أشبه بلوحات فناني عصر النهضة عن الجحيم ) عن أحوال أولئك العالقين عند الحدود الجبلية الوعرة، فيما يفتك بهم البرد والجوع والإحباط واليأس.
" أفراد مجاهدي خلق، إشتركوا مع جيش صدام في قمع الإنتفاضة "، نقل دارين لماهو هذا الخبر عقبَ عودته من النادي الكرديّ. كان داخله يغلي من الغيظ والغضب، بالأخص لمرأى لامبالاة صديقته بالمأساة، التي دخلت أسبوعها الثاني. لم تزد عن مط شفتيها، والقول: " هذه هيَ نتيجة خيانة القادة الكرد لبلدهم، أثناء الحرب مع إيران "
" والمعارضة الإيرانية، ألم تخُن بلدها في خلال سنوات تلك الحرب؟ "
" الخائن الوحيد في المعارضة الإيرانية، كان صاحبكم، قاسملو؛ وهوَ دفع حياته ثمناً لوثوقه بملالي طهران "، أجابت بنبرة تهكّم. وكانت ردّة فعله، أنه أغرقَ رأسه في صحيفة عربية كان يقرأ بها. كانَ جالساً على الكرسيّ، المُظهّر بالقماش، فيما كانت هيَ مستلقية على الأريكة، التي تتحوّل ليلاً إلى سرير. بعد زهاء نصف ساعة من الصمت، أزاحت الغطاءَ عن جسدها العاري: " ألا ترغب في النوم "، قالتها مومئةً إلى المكان الخالي بقربها. حينَ لم يحر جواباً، هتفت في نزق: " أصلاً، أنت تحشر السياسة في علاقتنا لكي تتخلّص مني "
" دعي عنكِ هذا اللغو، ونامي لو شئتِ "، ردّ فيما كانَ يواصل القراءة. لقد كانت محقّة فيما يتعلّق بتوقه لإنهاء علاقتهما المُلتبسة، بالأخص حينما حصل على شقّة جديدة في حي " غوتسوندا " قبل زهاء الشهر. فيما هيَ تخلّت عن حجرتها في الكُريدور، وكانت تقضي أغلب الأوقات لدى قريبتها في ستوكهولم. إنه أفهمها مرّاتٍ عدّة، أن تكفّ عن تقييد حريته وألا مجال لعيشهما تحت سقفٍ واحد.
في صباح اليوم التالي، كانت تهمّ بتوديعه عند الباب، عندما طلبَ منها إعادة نسخة مفتاح الشقّة، قائلاً: " ثمة صديق، سيقيم معي لبعض الوقت، كون طلب لجوئه قد تم رفضه ومن المحتمل أن يُطرد من البلاد لو قبض عليه البوليس ". لكنها قطعت كلامه، بأن أخرجت المفتاحَ ورمته إلى الأرض: " لا أريدك أن تتصل معي مرةً أخرى، أبداً "، قالتها بصوتٍ كامد ثم توجهت رأساً إلى ناحية المصعد. ذلك، كانَ آخر عهده بصديقته الإيرانية. إلا أنها إتصلت به، عاماً على الأثر: " إذا كنتَ ما تفتأ تحيا وحيداً، ولا مانع لديك، فإنني أرغبُ باستئناف علاقتنا "، قالت له بصوتٍ ناعم. لكنّه تهرّبَ من ذلك الإقتراح، بتحججه هذه المرّة بسكنى أحد أقاربه لديه: " وهوَ يود تحيتك "، قال لها ثم دعا قريبه لتناول سماعة الهاتف. بعدئذٍ إقترحَ عليها دارين بدَوره، أن تأتي إليه في كل عطلة نهاية الأسبوع. وكانَ جوابها، أن أغلقت الخط.
لم يكن دارين كاذباً في المرة الأولى أيضاً، حينما كلّم ماهو عن ذلك الصديق، الذي يُطارده البوليس. " عماد " هذا، كانَ من نفس بلدة نورو؛ وأقاما معاً في معسكر للاجئين في بداية عهدهما بالسويد. وكان يقيم معهما في الشقة، " رمّو "؛ قريب عماد. علاوة على شاب، كان يُدعى " شرّو "، بالنظر لحدّة طبعه. هذا الأخير، إتصفَ أيضاً بالخبث والمكر. كانَ قد توصّل لإقامة علاقة سرية بمسئولة السوسيال في المعسكر، فأخبرها أن عماد أتى إلى النرويج أولاً بفيزا دعوة رسمية، ومن ثم إنتقل إلى السويد بسيارة شقيقه الكبير. هكذا تصرّف مشين، كان الغرض منه تحسين صورة الواشي أمام السلطات كي يقوى حظّه بشأن طلبه في الإقامة الدائمة. على أثر تلك الوشاية، طُلِبَ من عماد العودة إلى النرويج كي يقدّم لجوئه هناك. في حقيقة الحال، لم يكن هذا الأخير أقل خبثاً ومكراً. كان طفيلياً ولجوجاً، فوق ذلك. حتى قبل إستلامه جوابَ السلطات، كان يعيشُ عالة على الآخرين. فلما طُرد من شقّة المعسكر، لحقَ رفيقيه إلى شقّةٍ على طرف مركز مدينة أوبسالا، تقع بالقرب من المسجد. نورو ورمّو، هما من تعهّدا آنذاك دفعَ إيجار الشقّة. بالرغم من أنّ ملّاك الأراضي قد حذّر دارين من مغبّة التعمّق في الصلة مع ذلك الطفيليّ، إلا أنه كان يستقبله في مسكنه بداعي الشفقة. كذلك، كون دارين قد عرفَ شقيقَ عماد الكبير أثناء دراستهما في موسكو. ذات مرة، أعدّ دارين وجبة سباغيتي، وصادفَ أن عماد كان في ضيافته. حين رفع هذا الأخير غطاءَ الطنجرة، فإنه سأل المُضيفَ وقد تجهّمَ وجهه: " هل طبختَ لحمَ الخنزير مع المعكرونة؟ "
" لا، إنه لحم بقر مثلما هوَ واضحٌ من رائحته "
" هل هذا اللحم، حلال؟ "
" كيف حلال؟ "
" أي أنك إشتريته من محلٍ شرقيّ "
" أنا أشتري فقط الخضارَ من المحل الشرقيّ "
" وأنا أعتذرُ عن مشاركتك الأكل "
" إذاً، إبقَ جائعاً إلى يوم الحلال! "، قال دارين وهوَ ينفخُ في سخط. إنهمك في الأكل، بينما الضيف ينظرُ إليه شزراً. بدافع الشفقة أيضاً، ما لبثَ المُضيف أن سأله: " ثمة دجاج فيليه في الفريز، لو شئت؟ ". وإذا بوجه عماد يتهلل، ليجيبَ ضاحكاً وهوَ ينهضُ لفتح باب الثلاجة: " يتكتمُ عن الدجاج، ويريدني أن أطعَمَ بالمعكرونة ".

5
كانَ دارين ما زالَ يقيم في حجرة الكُريدور، القريب من متجر الحوت، حينما كان نورو بعدُ في السويد. حجرته، كانت غالباً مركز تجمّع الأصدقاء قبل الذهاب إلى الملهى. لكنه كانَ يزور بإستمرار تلك الشقّة، المُستأجرة من لدُن ملّاك الأراضي ومواطنه. ذات أمسية، عندما كانوا ثمة يقارعون أقداحَ الراح قبل توجههم إلى الديسكو، ردّ رمّو على مكالمة هاتفية. ثم ما عتمَ أن خاطب رفيقيه، عابساً: " شيخُ المسجد، سيحضرُ بعد قليل مع علوان ". ثم أضافَ: " بالصدفة، زارا منزل السيّد حيدر حين كنت هناك في عطلة الأسبوع المنصرم ". هكذا أزالوا آثارَ المنكر، وطفقوا ينتظرون الزائرين. وإذا هما برفقة شاب بريطانيّ، عليه مسوح رجال الدين المسلمين، وكان يُجيد السويدية. شيخ المسجد، كان شاباً من كرد لبنان، يمتلك متجراً في حي غوتسوندا. كانَ يستثمرُ ماله الأسوَد في مشروع مدرسة إسلامية للأطفال، لكي يتم تربيتهم على الخلق القويم ومبادئ العقيدة. علوان، كان إبن عم ذلك الشاعر، المُكنّى بالعصفور، وكانَ ينطبقُ عليه المثلُ الشاميّ الطريف: " طلعْ من بيت الزط مؤذّن! ".لقد كانَ طوالَ وقت الزيارة يحدجُ دارين بنظراتٍ مسمومة، بالرغم من أنهما تعارفا للتوّ. ومع أن هذا الأخير لزمَ الصمتَ في خلال وجود الأخوة، مكتفياً بين حينٍ وآخر بالنظرَ قلقاً في ساعة يده. إذا لاحَ أن المحاضرة ستطول، وربما تفوّت على الرفاق الدخول مجاناً إلى الديسكو لو أنهم قدموا بعد الساعة التاسعة. أخيراً، إستأذنَ الضيوفُ في الذهاب. قبيل المغادرة، إلتفت شيخُ المسجد إلى الفرسان الثلاثة، قائلاً: " هذا الرجلُ الإنكليزيّ، سيكونُ شاهداً عليكم في يوم القيامة! ".
علوان، كانَ يعملُ أيضاً بالأسوَد في متجر صهره، الكائن في مركز المدينة، ولا يجد حَرَجاً في بيع الكحول ولحم الخنزير وقسائم ألعاب المقامرة. الصهر، ويُدعى " داوود "، كانَ حاقداً على دارين بسبب عبارةٍ بحقّه، أفلتت منه. فذات يوم، كانَ شرّو قد أبدى هذه الملاحظة، بنبرةٍ ساخرة: " مع أنكم شوام، ومن المفترض أن تكونوا أهل تجارة، إلا أنكم في السويد إلتزمتم بالعمل في وظائف الدولة. بينما داوود، يمتلك متجرين ويوظف أمواله أيضاً في البورصة "
" الجميع في أوبسالا، يعرفون مصدرَ رأسمال قريبكم داوود. التعامل مع الأعداء لا يحتاج للذكاء، وإنما لإنعدام الشرف "، ندّت عن دارين بقوّة. هذه اللمزة، كانت للإشارة إلى صلة داوود بالسفارة العراقية، وذلك مذ وصوله للسويد. في ذلك الوقت، هوجم في النادي الكرديّ وأخرج منه مدميّ الوجه على أثر دفاعه عن نظام بغداد، بحجّة أن البارزاني والطالباني يتلقيان الدعم من نظام دمشق. إلى ذلك، كانَ يُشاع أن الشقيقَ الأصغر لداوود، متورّطٌ في عملية إغتيال زوجين عراقيين، إنشقا عن نظام صدام. لقد وجدت جثتا الزوجين في غابةٍ على طرف أوبسالا، مقطّعتيّ الأوصال بطريقةٍ إنتقامية رهيبة. أصابعُ الإتهام، وجّهت إلى شقيقين من فلسطينيي لبنان ( لم تكن ثمة أدلة تدينهما )، كانا صديقين حميمين لشقيق داوود. هذا الأخير، أخذ يعملُ بعدئذٍ في مسلخ حكوميّ للأبقار؛ ما كانَ يشي برغبته في التخلّص من ذكريات تلك الحادثة الشنيعة: ففي علم النفس الجنائيّ، أن القاتل التسلسلي هوَ شخصٌ يعاني عقبَ جريمته الأولى، فلا يجد حلاً سوى بالإنغماس مُجدداً بالقتل.
أحدُ ذينك الشقيقين، كان يُدعى " رامي "؛ شابٌ أسمر، ربعة وذو بنية رياضية. إنه شخصٌ في غاية الشراسة، مهددٌ بالطرد من السويد في أية لحظة بسبب مشاكله. لقد إصطدمَ به دارين، في موقفٍ مشهود. كانَ ذلك في صيف العام الثاني لوجوده في البلد، حينما قابل شرّو على سبيل المصادفة على ضفاف بحيرة " غرانبيرغ "، الكائنة إلى الجنوب من حي غوتسوندا. المكان، كان المنتزه الأثير لسكان المدينة. السماءُ كانت لازوردية، كصفحة بحر بلا أمواج، والطيور تغرّد بألف لسان. الشمس الساخنة، جعلت السباحة مُتاحة في البحيرة. كانَ شرّو منتصباً على قدميه، ينظرُ بإتجاه ثلة من الشبان برفقتهم فتاة سمراء بمقتبل العُمر: " أنا أعرفها، إنها فتاة منحرفة من كرد إيران "، قال لدارين. قبل أن يعلّق هذا الأخير، إذا بأحدهم يزمجرُ مُخاطباً شرّو باللغة السويدية: " على مَ تنظرُ أنتَ لصديقتي؟ ". أطلقَ المُخاطَب ضحكةً ساخرة، فيما كان يقلّد طريقة لفظ الشاب لحرف الباء الأعجميّ. حينما بدأ الأرعن يطلقُ الشتائم، إندفع شرّو وبأثره صديقه. هنا، تدخلت إحدى النساء من اللواتي يُشرفن على أمن المكان: " سأستدعي حالاً سيارة البوليس، لو لم ترعوي "، خاطبت ذلك الشاب وهيَ تلوّح بجهاز اللاسلكي. هدأ هذا على الأثر، وأخذ يعتذرُ بالقول أن أعز أصدقائه هم من الكرد؛ مسمياً بالطبع شقيقَ داوود.
إتفاقاً أيضاً، أنّ دارين وشرّو سيواجهان شقيقَ ذلك الأرعن، وكانَ يُدعى " ريمون ". هذا كانت ملامحه أوروبية، بشَعر أشقر وعينين زرقاوين، كما أن جسده رشيقٌ. كان الصديقان قد تركا قبل قليل خيمةً، نصبت في ساحة المدينة للمضربين عن الطعام تضامناً مع كرد العراق العالقين على حدود تركيا وإيران. إستقلا الأوتوبيس، المتّجه إلى حي غوتسوندا، وكانَ فارغاً تقريباً. شرّو، بدأ بشتم الزعيم الفلسطينيّ على خلفية خبر إشتراك مقاتليه في قمع الإنتفاضة في كردستان العراق. تنحنحَ الشابُ الجالس خلفهما، وما عتمَ أن غمغم: " أبو عمار هوَ تاجٌ على رأس العالم "
" هوَ تاج على رأسك أنت! "، صرخَ به شرّو. كانَ دارين يُهدّئ صديقه، حينما أسقط الشابُ مطوى على الأرض ثم إلتقطها. عاد شرّو لمخاطبته: " أتعتقدُ أنك تخيفني بمطواك؟ "
" لا يا أخي، لقد وقعَ مني عَرَضاً "، ردّ الشاب ثم أضافَ: " والله على عيني كل الكرد، وقد قاتلنا معهم في بيروت طوال الحرب الأهلية ". حينما توجه الشاب لاحقاً بإتجاه الباب، للنزول في الموقف المطلوب، بدا كالسائر في نومه. كان جلياً، أنه تعاطى المخدرات.
كلا الشقيقين، تم طرده من السويد إلى بيروت بعد أعوامٍ قليلة. ثمة، في عاصمة الحرب الأهلية، ما لبثَ أكبرهما أن لقي مصرعه رمياً بالرصاص، بينما الآخر بقيَ مصيره مجهولاً.

* مستهل الرواية الأخيرة من " رباعية أوبسالا "، التي ستنشر هنا متسلسلة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب