الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سَلَامٌ يَطْفِرُ بِسَخَاءٍ مِنْ عَيْنَيْ الْأُمّ هَادِي

عبد الله خطوري

2024 / 3 / 24
الادب والفن


... بَدَتْ واجهة آلدار كوجه مخلوق ملتبس عملاق مكتمل المعالم بفم شاغر مفتوح وثلاثـة عيـون مُـوَارِبَـة تطبقُ أهدابَها تفاديا لمزيد من الأشعة، وشَعَـر سعافات الديس وأفنان آلدفلى منسدل عبر حفافي السطح من كل الجهات، وأطراف آلمَصْطَبَةِ آلإسمنتية مظللَة بأغصان العرعر آمتد طولها أفقيا بين دفتيْ الباب الرئيس، فيها برودة ونعومة يفيئ آلمرء إلى رحابها الوارفة .. بقيتُ لبرهة واقفا في الردهة أمسح عن عينيَّ سَمادير ذُبَـابِهَا العالقَة كي تتضحَ لي آلأشياء .. غير أنها لم تتضح .. لم تتضح

_آتَفْ أتَفْ أمَمِّي .. آوْرَى سْيَـا مرحبا .. آوِي تَلِيتْ دَگخامْ نَّشْ ... (ادخلْ تفضل من هنا يا ولدي إنك في بيتك)

قالَتْها الأم (هادي) تُجلسني على حصير من كتان (خْ يَـجْ وَحْصِيرْ نَلْكَتّانْ) بألوان الورد بنكهة القرنفل يتخلله غبش باهت برائحة سنابل آلبَرِّ تعانق سيقانها الغضة أطياف قزح صفراء وحمراء، وخضرة فاتحة وغامقة، وزرقة داكنة كعتبات ظلال أبواب شبه مواربة، ولون كستناء كاب، وأهداب كرموش آلعرائس كعروق آلداليات المتدليات تنوس تتهادى تتمايل تختال تترنح تستقر، وخطوط في العرض وخطوط في الطول تتشابك تتلاقى في علاقات تتشنج تضيئها أنوارٌ تتسرب من فجوة في السقف ضيقة (تازَنُّــورْتْ)، فيَعِنّ المكان للعيان، يظهر بَهيّا رحيبا ساكنا ذَا دَعة .. اتكأتُ على الحائط الأملس المصبوغ بالأزرق تتابع عيناي رُتَيْـلاء صغيرة الحجم تتجول بحرية بين ألوان هُدْب القطيفة دون أنْ تبالي بما تلتقي في طريقها من نمل دقيق سارح يبحث _ربما_ عن طعام أو يكتفي بمجرد التنزه في فجوات البساط المزركش ... وسرحتُ تالفا تتداعى إلى خاطري أكنان عناكب عملاقة ترتع آدميتُها الموحشة في مسام فارغة في ذاكرة للبلدة مَــلْأى بثقوب في كل الزوايا والأركان في كل المساحات الممسوحة أو المعلومة أو التي يعمد الأحياء والأموات إلى مسحها كي يبقى الظاهر ظاهرا والباطن غارقا في كتمانه خاسفا في بقايا (تيسْري) آثــاااار الغابرين ... رنوتُ أبحثُ عن ظالتي في الأنحاء .. لا أثرَ .. لا صوت غير صوت آلأم (هَادي) تهدهد أعمالَها داخل مطبخ عتيق تعانقتْ فيه رائحةُ آلتراب بفَطور رائق ينتشر بدَعَة شـذاهُ بيحموم الدخان، بعجينة فطيرة (تاحَرَّشِيسْتْ) عملاقة دهماء على وشك الاستواء تُطْهَى على مهل، بـوَضَرِ سَمن ماعز جبلي عتيق (أُودِي دَامْـحيرُّو)، بدباغ جلد قربة حليب (تاگشّولْتْ أوغِي) مركونة هناك بين مساند من خشب (إيمَسَنْدَا) ثلاثية الأعمدة، بنعناع يفوح عطرُه الفواح من داخل أحشاء بَرّاد شاي يُغَلّى يُشَحَّرُ على مقربة عتبة طبق الطين (تافرّاحْتْ) المضطرم لهيبا في آنتظار عجينة أخرى تُلْقِمُ أحشاءه المحمصة لتستوي على أقل مهل ... وأفقتُ من تداعياتي وهي تناولني بَرْنية طين ( تاقَصْرِيشْتْ نْ وَفْرُورْ) تضعها بين يدي ...

_هاخَشْ .. إني بسم الله ... ( تفضل قُلْ بسم الله)

ما إنْ هممتُ أشربُ حتى تفاجأتُ بسائل أبيض تسبح في صفائه الشفاف كتلٌ بيضاء مهلهلة رطبة ...

_تاكْلِيلتْ .. رايبْ آيا عْرابْ .. ميغ أوجي تفهمتْ تمازيغتْ يا ميسْ نتمورتْ .. يالله كولي .. ههه .. (إنه حليب رائب أيها العربي .. لِمَ لا تفهم آلأمازيغية يا آبن البلد .. هيا كُلْ كُلْ .. )

وشرعتُ أتتبعُ الكتلَ الدسمة يلقمها فاي واحدة تلو أخرى حتى أجهزتُ عليها كلها .. ورغم أني أحسستُ أني آستوفيتُ، فإنه ما إنْ أُحْضِـرَتِ آلمائدة ذات القوائم القصيرة ووُضعت بين يدي مترعة بما لذ وطاب حتى بدأتُ أُشْبِعُ رغباتي ومضيفتي تحثني على تناول المزيد ثم المزيد ..

_مْـيَـااااااوْ ...

كانت الهرة أسفل المائدة تموء فأُلقُمها وألقمُ فايَ ..

_آسيعْلي .. ماني يَدْوَلْ واهَتا .. غارَمْ أومَامْ آتَحَرُّوتينْ أدِي نَّجْلا عاوتني .. (آسِيعْلي .. أين تراه ذهب .. انتبهي لأخيكِ أيتها الفتاه إياك أن يتلف مرة أخرى)

قالت الأم (هادي)

_هاتا زتاتي ... (إنه أمامي)

أجابتِ الفتاة من خارج الدار

_إيناسْ أدْ يَاسْ طُورَا أديسُو القهوة أدْ يَفْطَرْ ... (قل له أن يأتي الآن لشرب القهوة وتناول فطوره)

عقبتِ الأم

_ميااااااوْ ...

صاتت الهرة ...

_آورْ يَبْغي ... (إنه لا يريد)

ردتِ الفتاة

أثناء ذلك، كانت اللقم يتلو بعضها بعضا داخل معدتي ومعدة الهرة الجاثية .. بمتعة بالغة كنا نزدرد نحرك رأسيْنا نغمض الأعين نتلمظ نتلذذ نستزيدُ ...

_آتشْ آمَمي .. الله يرضي عليك .. هْنَاشِي ... ( كلْ يا بُنَي لا تتردد)

وكي تشجعني أكثر، راحت آلأم (هادي) تتناول لقيمات من خبز أحَرّاشي متفادية ما أمكن إيدام السمن الأبيض الطافح، تبللها برشفات ساخنة لشاي ثقيل شديد الحلاوة ...

_الحمد لله

نَبسْتُ، فعقبَتْ تلح ..

_آرْنِي آرْني كَمَّلْ الفاطور نَّشْ آمَمي .. (زِدْ زِدْ أكمل وجبتك يا بُني)

_صَــافِي

جعلتُ أأكدُ برأسي ويَدَيَّ، فألَحَّتْ ...

_إيوَى .. كَـمَّـلْ الكاسْ نَّشْ ...

رحتُ أستشعرُ لذة سخونته تدغدغ حَنجرتي تبلسمها، فأرتاحُ لذلك .. تجرعتُ ما تبقى من المشروب دفعة واحدة، فعمدتِ المرأة الكريمة تصب المزيد، فتناولْتُ القدح من جديد بين كلتا يدي أشتم أحواض نداوة فيحاء تفور من بخاره المتصاعد .. كفتِ القطة عن إصدار (مياااو) ..

_آآحْ حْ حْ ...

صاتتْ حَنجرتي ...

_آشْ فيه آخالتي؟

_لعشوب فْليو زويْ زوشن أزيرْ زي الحوض نتبحيرْت أجَمَّطادْ .. الخير نتمورتْ أمَمي ... (إنها أعشاب فليو وزعتر وأزير من بستان الدار بالجوار .. هي خيراااات البلد يا ولدي)

_الله يجعل البركة .. صافي بركة .. آه ..

_بالصحة آوليدي بالصحة ...

اِتكأْتُ على الحائط وتلك الخيرااات فوق المائدة لا تزال والدار واسعة خاوية هادئة، ولما لاحظْتُ الصورة أمامي معلقة بخيط رفيع في مسمار وسط الجدار المقابل تساءلْتُ .. رَبُّ الدار لا بد يكون في السوق آلآن أو هو في طريق العودة .. شائب اللحية ذو شارب أبيض معقوفة شعيراته إلى آلأعلى في الجانبيْن، بعمامة ملولبة بيضاء غطت معظم الرأس وجزءا من الناصية تتدلى على ذُؤابة حليقة، ينظر أمامه بإباء وحزم المشاركين في حروب العوالم القاصية .. ولما بدت لي فكرة عودته السريعة واردة في أي لحظة، أسرعتُ بالنهوض .. نَـفرت الهرة وجلة فرت بعيدا (تَـرْوَلْ غرديهاتْ) ..

_ماني تگورَتْ .. غيمْ آلْ تمشلوتْ أگدْ عَمَّشْ سيــــبنعبدالله .. هاتا على حال آدْ يَوَّطْ ... ( أينك يا ترى ذاهب تريث قليلا لتتغذى بمعية عمك سيبنعبدالله هو على وشك الوصول)

اعتذرتُ بجمجمات واهية قاصدا الباب خشية أن أُفَــاجَـأ بعودته المرتقبة فأستحي أمامه، ولا أستطيعُ المغادرة في الوقت الملائم .. كان لا بد أن أعود الى البيت مهما كان .. ولما لاحظتِ المظيفة إصراري الواجف عمدَتْ إلى راحتي أودعَتْ فيهما صرة كتان ملفوفة معقودة (ييشتْ نتشمّوسْت) فتحَتْهَـا أناملُها النحيلة أمام عينَيَّ، فإذا بها تحتوي على زوج من كل شيء بهيج .. بيضتا دجاج وسمان ويمام وحجل و ...

_ديالْمَنْ هاذي آخالتي؟؟

_سَـمْـجَـرْ سَـكُّـورْ أمْ تسكُّورتْ يتْعشَّـاشْ دَگْ أقيَاسْ أجمطينْ .. تتشورْ تمورت سالخير الحمد لله ... (هو سُمّان بري مثل الحجل يا ولدي يعشعش عادة بالجوار .. لقد وهب الله بلدتنا خيرات كثيرة)

_أوناكلو ؟ صـالح ؟؟ (هل هو صالح للأكل)

_جَيدْ أم أودْمَنَّشْ ...(طبعا إنه جيد حلو مثل وجهك)

عَمَدَتْ إلى يمناي تسلم عليها تقبلها بطريقتها الحادبة، فبادلتُها القبلة بالقبلة على عادة آل البلدة ..

_تهلا دَگ خفنشْ آممي .. إيوا مَرَّا مرَّا آسَـدْ غارنغ غارشْ أتتُّـوتْ .. مرحبا بك دي كل وقتْ .. (خذ بالك من نفسك .. لا تنس أن تزورنا من حين لآخر إياك تغفل مرحبا بك أنى تشاء ..)

_وَاخَّــا .. (نعم)

قلتُ مستحييا متلهفا للخروج .. أمسكتِ الصرةَ يمناي .. القطة لم تعد تراها عيناي .. عمدْتُ إلى قربة ماء من جلد ماعز (يـج أويديدْ نْ وَمانْ) مُدَلَّاة (خْ يـجْ أوكشوطْ) معلقة في عمود من خشب مدقوق في الحائط جنب الباب .. لم أعرف كيف أتصرف، خصوصا أن قامتي القصيرة لم تسمح لي بلوغ علوه، فساعدتني المضيفة بأريحيتها وطيبوبتها .. سكبْتُ الزلال في غراف من تراب (دَگِيجْ أوغرافْ نوفرورْ) عامر برائحة القطران .. امتزجت البرودة بالدباغ باللزوجة بمائدة الصباح بعبق الأعشاب بمزيج من العواطف الصافية بسلااام يطفر بسخاء من عيني المرأة (هادي) ... ما إنْ وطأتْ قدماي عتبة الباب حتى هرعْتُ أخبُّ والأم تنهر الكلاب عني ..

_قَسْ آقسْ ..

كانت هناك الهرة المسكينة (تگللِّينتْ نتموشوفتْ) مكومةً في زاوية خلف الدار تحضن صغارا لها، والكلاب تنبح .. اقتربْتُ .. استشاطَتْ .. خْ خْ خْ ... هَرَّتْ أبرزَتْ أنيابها نفشتْ وبرَها الناعم مهددة متوعدة .. ابتسَمْتُ .. أودعْتُ قربَها بيضةً كاملة قشّرَتْها يَــدَاي وأكملتُ الطريق ...

_آسِيوَطْ السلام إي لاهلْ نش ... (بلغ السلام لأهلك)

قالت الأم (هادي) ملوحة لي براحتَيْهَـا .. ماءت القطة ..

_واخا ..

قلتُ، ولم أدر أسمعَتِ الجواب أم لم تسمع ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تأملات - كيف نشأت اللغة؟ وما الفرق بين السب والشتم؟


.. انطلاق مهرجان -سماع- الدولي للإنشاد والموسيقي الروحية




.. الفنانة أنغام تشعل مسرح مركز البحرين العالمي بأمسية غنائية ا


.. أون سيت - ‏احنا عايزين نتكلم عن شيريهان ..الملحن إيهاب عبد ا




.. سرقة على طريقة أفلام الآكشن.. شرطة أتلانتا تبحث عن لصين سرقا