الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بحور الحياة: رحلة أبو نجوان بين زمردة الأمل وألم الوداع

أكرم شلغين

2024 / 3 / 25
الادب والفن


كانت الشمس تتوارى خلف سحابة سميكة كالنار، وكانت شوارع المدينة خالية تماما في تلك اللحظة. كان "محمد" يقف أمام "بسام" وقد بدت وجوههما مرهقة بسبب حمل الأسرار والأعباء. وسط هذا الجو المبهم، انطلقت كلمات محمد وكأنها بذرة صغيرة في حقل الغموض: أراك لطيفا جدا معه... هل تعرف قصته؟، جال بسام بنظرة سريعة إلى السماء المظلمة، وكأنه يبحث عن إجابة في سحبها السوداء، ثم أجاب بصوت حازم: "نعم، أنا لطيف معه لكنه أشد لطافة مني... فهو يستحق ذلك...وأما عن قصته فلا أريد أن أعرف إن كان يملك أراض أو أنه يكدس الأموال فذلك لا يهمني!" علق محمد بالقول: "إن هذا اللطف الذي تراه منه ليس كل شيء منه وعنه... ولكن هل تعرف أنه ديوث؟" أجاب بسام لا يهمني ولا أريد أن أسمع أي شيء غير لائق بحق هذا الصديق...أبو نجوان أكبر من أن يستطيع البشر تلطيخ سمعته بكلام غير مسؤول.. لكن محمد لم يكن مرتاحا بهذه الإجابة، فقد كان يعرف الحقيقة الكامنة وراء أبو نجوان، إذ انتابته رغبة عارمة في فتح أعين بسام على حقيقة ما، سواء أراد الأخير أم لا فقال: "أبو نجوان معروفة قصته للجميع." في لحظة ما، وإثر هذا الإلحاح انعكست ظلال الفضول على وجه بسام...! كان يتساءل في داخله عما سيخبره محمد عن هذا الزميل الغامض، كما لو كان ينتظر بفارغ الصبر كشف الأسرار من قبل البارع في سردها. فبيّن ما هو إليه بقوله: "هات ما عندك لأسمع...!" بدأ محمد بسرده، كأنه يجذب بسام إلى عالم مليء بالأحداث المثيرة والتفاصيل الساحرة. قال بنبرة تشويقية: "هل تعرف عدد أولاده؟"، سأل محمد بعينين تشتعلان بالغموض، في حين انطلق صوته كالنغمة الخفية في سمفونية من الكلمات. رد بسام باندهاش: "أعرف أنهم ثلاثة، كبيرهم يدعم نجوان".
بدت ابتسامة طافية على شفتي محمد، كمن يملك سرا عميقا ينوي كشفه حيث حان الوقت المناسب فقال:" إنهم ليسوا أولاده، وإليك كامل الحكاية":
وهكذا بدأ محمد في سرد حكاية أبو نجوان بأسلوب يشد بسام ويثير تعاطفه خلافا لما أراده الراوي نفسه، حيث قال: "كان أبو نجوان في عشريناته؛ في أوج شبابه وأمله حين تزوج معتقدا أن الحياة ابتسمت له لكنه أدرك أنها كشرت عن أنيابها في وجهه دون سبب... إذ أن حادثا مأساويا ألم بجسده بعد ثلاثة أشهر من زواجه فغير مجرى حياته إلى الأبد إذ أصبح على إثر الحادث عاجزا جنسيا...بعد خروجه من المستشفى، تبدلت حياته تماما كمن ينتقل من عالم الحياة إلى عالم الظلام واليأس.
أراد أن يتجاهل المصيبة ولكن المصيبة لاحقته وفرضت وجودها إذ أن الزوجة العروس قالت له بعد أشهر: "يؤسفني أن أوضح أنني لا أستطيع المتابعة معك، أنا لي حياتي ويجب أن أعيشها ولكني معك لا أستطيع...لماذا علي أن أدفن نفسي وأنا صغيرة في السن؟ أنت أصبحت عاجزا فما ذنبي في ذلك أنا؟! فكر العريس المنحوس بكلامها ولم يعرف بماذا عليه أن يتصرف... رجاها أن تؤجل الحديث في الموضوع فوافت إلا أنها وبعد أسبوع جاءت إليه تعيد نفس الكلام موضحة أنها لا تستطيع أن تتابع معه على هذا الحال...كان يستمع لكلامها بحزن وألم وبعد إلحاحها على الطلاق سألها: "ماذا سيقول الناس عن سبب الطلاق؟" أجابت: "لا أهتم لذلك..." رجاها أن تفهمه إذ أن الطلاق يعني دماره فلا يستطيع أن يتزوج من جديد حتى لو أراد إذ أنه لن يخدع أي أنثى ليدعي أنه معافى وسليم وبنفس الوقت إن كان صادقا فلن تتواجد تلك التي تريد أن تضحي لتكون مع شخص عاجز...دمعت عيناه أكثر وقال: أدرك أن لك حياتك وحقك في أن تعيشينها بالشكل الذي يناسبك لكننا تزوجنا عن قناعة...صحيح أننا لم نعش قصة حب قبل الزواج و كان زواجنا تقليديا ولكنني شعرت بعد أن أصبحنا معا بأنني أحبك ومن أعماق قلبي...فكري فيما سيحصل لي بعد هذا..." قالت: "لي غرائزي ورغباتي التي أصبحتَ لا تستطيع ملاقاتها ولا يمكنك تلبية احتياجاتي...لي رغباتي الإنسانية ولا أريد أن أكبتها.." تهرّب من مواجهة كلامها الواقعي بطلب ليس بالجديد: "هل لنا أن نبحث في هذا الموضوع بعد مضي وقت ما، شهر مثلا ؟" وافقت ...تنهد لأنه استطاع أن يهرب من المواجهة مع واقعه ولكن ذلك لم يفارق تفكيره، بل واستيقظ إحساس بداخله يصعب وصفه إذ بات يشعر أنه يحبها أكثر من قبل وكلما سمع أنها تريد الانفصال عنه ازداد تعلقه بها...لم تنتظر شهر بل في اليوم الذي تلى شرعت الزوجة تتكلم بنفس الموضوع مصرة على أنها ستحتفظ برأسها وذاكرتها بأجمل الصور عنه كزوج ورفيق وصديق وإنسان ولكنها يجب أن تكون مع زوج آخر فهي تريد أن تبني أسرة...إنها تريد أطفالا تسمع منهم كلمة : "ماما".
ومع كلام زوجته، تزايدت مرارته وألمه، فقد جاءت الكلمات كصفعة قوية على وجهه تذكّره بواقعه القاسي الذي يحاول عبثًا تجاهله لكنه يعلم جيدًا أن المأساة قد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياته. وفي كل مرة تعاود فيها زوجته الحديث عن الانفصال، تتجدد جراحه ويشتعل نار الأسى داخل قلبه. ورغم كل الألم الذي يعانيه، يحاول الزوج المصاب الاستمرار في الحياة بعزم وإرادة قوية معبرا عن حبه الصادق لزوجته بكلمات مؤثرة وقرارات جريئة في محاولة يائسة لإبعادها عن فكرة الانفصال. هكذا باتت تتراوح مشاعر الحب واليأس والأمل واليأس في قلب هذا الزوج الذي يحاول جاهدا أن يكون له مكان في قلب زوجته، رغم كل الظروف القاسية التي تواجههما.
بعد طول انشغال لذهنه بما هو عليه جاء الزوج بفكرة أن زوجته تستطيع أن تكون أمّا كما تريد وهذا حقها بل وأكثر إنه هو من سيربي أولادها وسيعتبرهم أولاده أيضا شريطة ألا تتركه...أجابته: "وهل جننت كي تفكر بذلك؟" قال: "لم أجن بل اكتشفت ما لم أكن أدركه من قبل...من يحب يفعل كل شيء؛ إن حبي لك يدفعني للقول وللفعل بأنني على استعداد أن أتقبل أي شيء يجعلك ترضين أن تبقي معي...كرر كلامه عن حبه لها وقال إنه مستعد لتقبّل أي شيء في سبيل أن يراها على الدوام أمامه...بل ونطق بكل جرأة قائلا: "افعلي ما تشائين دون أن تتركين لي مجالا لأعرف من هو..."
لم يكن من السهل على الزوجة أن تفكر بما اقترحه عليها زوجها العاجز...فكرت به وبنفسها وبكت أكثر من مرة وفكرت عما سيصبح إليه هذا المسكين في حال تركته...
بعد أسابيع قليلة جاء ليسكن في الجوار شابا صغيرا يريد أن يدرس بمعهد المراقبين الفنيين، كان وسيما مهذبا ولطيفا ويلقي التحية على كل من يصادفه من أفراد الحي...راحت الزوجة ترمقه بنظرات حالمة ومستغيثة وحينا راحت تتغزل به ثم دعته عند غياب الزوج العاجز لزيارتها...
بعد عدة أيام لاحظ زوجها أنها لم تعد تطلب الطلاق...ارتاح نفسيا وشعر بنوع من الطمأنينة...
كان الشاب الصغير يخاف من العواقب ولكنه انغمس في العلاقة بعد أن طمأنته وأدرك أن علاقته بها لا تتطلب أية مسؤولية من ناحيته...وهكذا أصبح الشاب الصغير متواجدا معها طيلة غياب زوجها.... ومع وجود هذا الشاب في حياتهما، تغير مسار العلاقة بين الزوجين، حيث بدأت الزوجة تتغزل بالشاب الصغير، دون أن يشكل ذلك تهديدا على علاقتها بزوجها. بدا وكأن وجود الشاب يعطي الزوجين نوعا من الراحة والسلام النفسي، حيث تلاشت بعض التوترات والضغوطات التي كانت تحيط بعلاقتهما.
بعد أسابيع قليلة حملت وبعد أشهر الحمل أنجبت صبيا أسمته مع زوجها العاجز "نجوان" وكانا فرحين به...واستمرت علاقتها مع الطالب حتى بعد انتهائه من الدراسة وجاء الوليد الثاني ثم جاءت الوليدة التي أسموها "رجاء"...
فجأة وبدون سابق معرفة أو إخطار اختفى الشاب الصغير وبقي أبو نجوان مع الأولاد الثلاثة وأمهم...وأبو نجوان كان فرحا جدا بالأولاد يدللهم بكل ما يستطيع وكنه والدهم البيولوجي وفخورا بأمهم وبأنها معه...

وهكذا، بقي الزوج العاجز مع زوجته وأبنائهما، فرحا بوجودهم في حياته وفخورا بأن يكون لهم ركينا قويا يعتمدون عليه في أوقات الضيق والشدة.
وكما كانت الكلمات تتساقط من شفتي محمد كالأمطار الخفيفة، بدأت القصة تتكشف ببطء أمام بسام، كلماتها تلمع بألوان الحقيقة المؤلمة والجميلة في الوقت نفسه.
وبعدما انتهى محمد من سرده، ظل الصمت يخيم بينهما كالضباب الكثيف. وفي ذلك الصمت، كانت الأفكار تتصارع داخل عقولهما، تساؤلات لا يمكن الإجابة عنها، وأفكار مشوشة تتلبد بسحابة من الغموض. ووسط الظلام الذي كان يتسلل إلى شوارع المدينة كان يبدو وكأن بسام اكتشف أن هناك عالما آخر يسكن أعماق أبو نجوان، عالم مليء بالألم والحب والخيبات. وفي نهاية اليوم، تبدو الحقيقة مريبة ومعقدة، مثل لوحة فنية مبهرة، لكنها في الوقت نفسه مؤلمة وجميلة. لم يعد هناك شك في قلب بسام بشأن معاناة أبو نجوان، فقد تبين له بوضوح مدى قوة وصمود هذا الرجل أمام الصعاب التي واجهها في حياته.
وأما محمد فعاد ليطرح السؤال عن أية صفة تليق بأبي نجوان...! "ألا يستحق لقب ديوث"؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الدكتور حسام درويش يكيل الاتهامات لأطروحات جورج صليبا الفكري


.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس




.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن


.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات




.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته