الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الولايات المتحدة الأميركية على مفترق طرق بين الوطنية والتوراتية

حسن خليل غريب

2024 / 3 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


عندما نكتب عن الاستراتيجية الأميركية، سابقاً ولاحقاً، فإنما نكتب عن استراتيجية الدول الرأسمالية الغربية قاطبة. وأما السبب فيعود إلى أن الولايات المتحدة الأميركية هيمنت على قرار الغرب الرأسمالي بشكل كامل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية للأسباب المعروفة عند الجميع، وتشمل الهيمنة مرحلة القطبية الثنائية بين أميركا والاتحاد السوفياتي، واشتدَّت وطأة الهيمنة بعد انهيار الأخير الذي بدوره أدَّى إلى بداية استفراد أميركا بقيادة العالم. هذا واستمر الشعور الأميركي بالهيمنة حتى ما قبل عملية طوفان الأقصى. والتي من بعدها أخذت تظهر متغيرات مفاجئة ومتلاحقة، لا تزال ارتداداتها تتواصل على الصعيد الغربي بشكل عام، وعلى الصعيد الأميركي بشكل خاص.
ولهذا السبب سأعالج في هذا المقال، ظاهرة المتغيرات الاستراتيجية في المواقف الأميركية بعد عملية طوفان الأقصى من منظورين اثنين، وهما:
-المنظور الأول: ما يتعلَّق بالثوابت الأوروبية بالعلاقة مع (القضية اليهودية)، وما يتعلق بها من مظاهرها الصهيونية، و(معاداة السامية):
من الثابت في الأحداث التاريخية أن علاقة تنابذ كانت تربط الأوروبيين واليهود، ويعود السبب في ذلك إلى الوجه اليهودي القبيح الذي ظهر بصورة (المرابي الجشع)، وصورة اليهودي الذي لا تربطه صلة مواطنة مع السلطات، لأنه لا يعترف بها من جهة، ولأن اليهود لعبوا دوراً مباشراً في القبض على السيد المسيح وصلبه من جهة أخرى، وتلك هي حقيقة مسيحية أيديولوجية لن تمحوها الاتهامات الصهيونية لكل من يؤمن بها بـ(معاداة السامية). وقد تكون هناك أسباب أخرى، نتركها للذين قاموا بدراسات تفصيلية عنها.
إننا في مقال قصير يمكننا التذكير فقط بمسرحية (تاجر البندقية) لشكسبير، التي كشف فيها عن صورة اليهودي المرابي الذي لا تأخذه رأفة بمن يتخلَّف عن سداد ديونه. والثانية، وإن كانت لأسباب مختلفة، ألحق النازيون أكبر أذى باليهود في أكثر من دولة أوروبية، يبررها هتلر بأن اليهود يبطنون العداء للمجتمعات التي يعيشون بينها.
تلك الأسباب الخاصة بأوروبا، والأسباب التي تتعلق بتجاوب الدول الأوروبية، حسب مؤتمر كامبل بانرمان 1905 – 1907، مع طلب المندوب الصهيوني الذي حضر المؤتمر بإعطاء وطن قومي لليهود في فلسطين، كان سبب الاستجابة هو حاجة الدول الأوربية لزرع كيان في فلسطين (يكون صديقاً للغرب، عدواً للعرب)، لأسباب جغرافية – سياسية، ومن أهمها منع قيام وحدة عربية بعد انهيار السلطة العثمانية. وكانت أسباب الطلب المضمرة عند المندوب الصهيوني هو استعادة (أرض الميعاد)، كأسباب أيديولوجية توراتية.
ولأن الغرب شرَّع قيام (دولة يهودية) على أرض فلسطين لأسباب جغرافية – سياسية، وكانت وظيفته عسكرية لحماية المصالح الأوروبية. فقد أثبت الكيان الصهيوني في السنوات الأخيرة، أنه أخذ يتجاوز وظيفته المحددة له، خاصة بعد إعلانه (يهودية الدولة)، وبه وصل اليمين اليهودي التوراتي إلى تشكيل حكومة في فلسطين المحتلة، أخذت تخطط لتوسيع مشروع (أرض الميعاد) خطوة فخطوة. وكادت تبلغ مستوى متقدماً، تحت سمع الغرب وبصره، صامتاً أحياناً ومشاركاً أحياناً أخرى، ربما لغفلة منه بخطورة جرِّ الغرب إلى الوقوع في شراك المشروع التلمودي ذي الطابع الإلغائي لكل المشاريع السياسية والدينية الأخرى في العالم قاطبة.
ومن مراجعة ما يحصل من أحداث ومتغيرات متسارعة، فإننا نعتقد بأن الغرب، أوروبا بشكل عام وأميركا بشكل خاص، كان غير مكترث بما يحصل، بل كان غافلاً أيضاً، لأنه كانت له حسابات أخرى، ظناً منهم أنهم بمواقف التأييد أو السكوت عن تجاوزات الحكومات الصهيونية المتعاقبة على أرض فلسطين المحتلة، يكسبون أوراقاً صهيونية رابحة في الانتخابات من جهة، وكسب إسناد مالي صهيوني يتم إغداقه على المؤيدين من جهة أخرى.
ولكن، بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023. وعلى الرغم من التأييد الغربي المطلق -المالي والتسليحي والسياسي- لعملية اجتياح غزة، فقد برزت أسباب ومظاهر دفعت بالغرب إلى الانكفاء عن التأييد المطلق بشكل تدريجي إلى أن بلغ ذروته في يوم 25 آذار بعد امتناع الولايات المتحدة الأميركية عن استخدام (حق النقض) ضد مشروع القرار الذي تقدمت به فرنسا باسم الاتحاد الأوروبي والذي له علاقة بوقف إطلاق النار في غزة لأسباب إنسانية.
واستنتاجاً، تدل تلك الحقائق التاريخية، السابقة والراهنة، على أن الرأسمالية الأوروبية لم يعد بمقدورها أن تتحمل أوزار عبء المشروع الصهيوني بعد أن تجاوز شروط العقد التاريخي، وقام بتغيير وظيفته من قاعدة عسكرية دورها حماية المصالح الغربية إلى قاعدة لتصدير المشروع التوراتي اليهودي في العالم انطلاقاً من قاعدته (الإسرائيلية). بحيث يكون الغرب قد تخلَّص تاريخياً من الوجه اليهودي القبيح في أوروبا، وبسكوته اليوم عن جرائمه سيكون كمن أغرق العالم في خدمة المشروع الديني السياسي اليهودي.

-المنظور الثاني: وهو ما يتعلَّق بالثابت الأميركي الظاهر والباطن، (أميركا أولاً):
انتقلت العلاقة مع الكيان الصهيوني بالوراثة إلى الولايات المتحدة الأميركية، من تراث بريطانيا وفرنسا، إذ لم يكن للصهيونية ولا لليهود تأثير في أميركا ملفتاً للنظر. والهدف الأميركي من تلك العلاقة كان توظيفها في خدمة مصالح الرأسمالية الأميركية، خاصة بعد أن اكتشاف البترول في السعودية أولاً، وعملها للسيطرة عليه. وهذا ما يحتاج إلى حارس أمين موثوق فكان الكيان الصهيوني هو ذلك الحارس. الحارس الذي تملك فيه الرأسمالية الصهيونية حصة وازنة كانت قد انتقلت بزخم موصوف إلى الولايات المتحدة الأميركية.
على أرض فلسطين المحتلة، شكَّلت القاعدة العسكرية الصهيونية الأداة الرئيسية، التي تبادلت في تقويته الرأسماليتان، الأميركية والصهيونية، لحماية مصالحهما المشتركة.
إن التمييز بين هوية الرأسماليتين، يستند إلى فرضية علمية هي أن الرأسمالية الأميركية التي تأسست مع السيطرة الأوروبية الكاملة على أميركا كانت ذات سمات أميركية، لم تميز بين رأسمالية مسيحية أو رأسمالية يهودية، بل كانت ذات سمة أميركية فقط.
علماً أنه استفاد كثيراً من مبادئ الثورة الفرنسية في الحكم البورجوازي، تناوب على الحكم في أميركا حزبان علمانيان: الحزب الديموقراطي (تأسس في العام 1828)، والحزب الجمهوري (تأسس في العام 1854)، جمعهما هدف استراتيجي واحد تلخَّص بشعار (أميركا أولاً).
ولكن، بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن رست وراثة تركة (أوروبا العجوز) في أيدي الولايات المتحدة الأميركية، ومنها المنطقة العربية بما فيها (الكيان الصهيوني)؛ يظهر أن الرأسمالية الصهيونية ركَّزت ثقلها في الولايات المتحدة الأميركية، وراحت تبني لها مواقعاً في شتى مفاصل الدولة السياسية والإدارية والعسكرية والأمنية، باستخدام ثرواتها لشراء ما يتيسّر لها من أفراد أو جماعات أميركية إما نقداً أو بمساعدتهم للحصول على مقاعد في تلك المؤسسات، للحيازة على مواقع قوة في تلك المفاصل.
في الوقت الذي كان فيه الرأسماليون الأميركيون يحصرون همهم بالاستثمار الاقتصادي، ويوظَّفون فيه القاعدة (الإسرائيلية) في فلسطين المحتلة لحماية مصالحهم الاقتصادية، كقوة ردع عسكري، كان الرأسماليون الأميركيون الصهاينة يعدُون تلك القاعدة لوظيفة تتناقض كلياً مع وظيفتها كما يفهمها الرأسماليون الأميركيون، وهي وظيفة تلمودية (بناء دولة يهودية) تعمل للسيطرة على العالم، وإنها بدلاً من هدف (نحو قرن أميركي) كما روَّجت له العقيدة الرأسمالية الأميركيى، كانت الصهيونية تعدُّ للعمل تحت هدف (نحو قرن يهودي للسيطرة على العالم).
إن ما يدفعنا إلى هذا التمييز، هو ما حصل في العام 1956، أثناء العدوان الثلاثي على مصر، الذي شاركت فيه فرنسا وبريطانيا و(إسرائيل). حينذاك هدد أيزنهاور، الرئيس الأميركي، أقطاب العدوان بإيقافه. فامتثلوا لتهديده. وهذه الحادثة تشير، كما أعتقد، إلى مسألة التمييز بوجود رأسماليتين في أميركا: رأسمالية أميركية تعمل لمصلحة شعار (أميركا أولاً) وجدت في العدوان الثلاثي تهديداً لمصالحها؛ ورأسمالية صهيونية تعمل تحت شعار (شعب الله المختار) وجدت في دعم العدوان قوة لحماية مصالحها. وهذا يدل على أن دول العدوان الثلاث ربما كانت مستندة في اتخاذ قرار العدوان على مصر إلى رغبات من قبل الرأسماليين الصهاينة. وجاء تدخل الرئيس أيزنهاور ليكون ذو دلالة افتراضية على إرادة الرأسمالية الأميركية فقط.
كما نعتقد أن لهذا التمييز دور مهم في تفسير ما حصل بعد عملية طوفان الأقصى. وكانت كثيرة هي المظاهر التي أوحت بنوع من اليقين حول هذا التصنيف، والذي نستند فيه إلى حد أدنى من المصداقية؛ نستند إليه من شدة الخلاف الواسع الذي وقع في الشهرين الأخيرين من هذا العام، بين جو بايدن، الرئيس الأميركي، ونتنياهو، رئيس حكومة العدو الصهيوني.
جو بايدن أعلى سلطة في أميركا تصل به شدة الخلاف مع نتنياهو إلى مظاهر عصبية غير معهودة عند الرؤساء، خاصة من لهم نِعَمِ الفضل على من هم من المحتاجين إليه. وعلى الرغم من ذلك يحافظ نتنياهو على عناده في رفض طلبات بايدن، لهو أمر يحار الأمر فيه. ولا بد له من تفسير وتعليل للسبب الذي يقف وراء ذلك العناد والرفض. قد يصيب التعليل أو يخفق، ولكننا سنستند إلى ما هو أكثرها أقرب للتعليل العلمي.
من المتَّفق عليه، في الثقافة السياسية الراهنة، أن من يحكم أميركا (حكومة خفية). ولن نعتبر أن الحكومة الخفية كما يعتقد البعض بأنها معقودة اللواء للصهيونية العالمية. ولو كان الأمر كذلك لما كان جو بايدن يجرؤ على اتخاذ قرار يُضر بحكومة نتنياهو، يتناقض مع رغبات (الحكومة الخفية الصهيونية). وهذا يؤكد أن هناك طرفاً أميركياً مشاركاً في تلك الحكومة لا يلتزم بقرارات صهيونية، ويمكن أن نسميه بالتيار الوطني الأميركي.
استناداً إلى هذا التفسير الافتراضي، نعتقد بأن الحكومة الخفية تتشكل من نخب مشتركة يتمثل فيه طرفان: الرأسماليون الصهاينة والرأسماليون الأميركيون، وقد أثبتوا قبل عملية الأقصى أنهم متفقون على دعم (الحكومة الإسرائيلية) طالما لم يلحق بمصالحهم أي أذى لأن كلاً منهما مطمئن إلى أن الكيان الصهيوني يقوم بوظيفته الردعية من دون منازع لحماية مصالح الرأسماليين أياً كانت هويتهم.
ولكن ...
لأن عملية الحكومة الإسرائيلية العسكرية ضد قطاع غزة -بطول مدتها الزمنية، ووحشية وسائلها- أثبتت فشلها لأكثر من سبب عسكري وأمني وسياسي واقتصادي وأخلاقي. هذا وقد استمرت لأشهر ارتكبت فيه القوات الصهيونية أكثر المجازر بشاعة، لم يستطع العالم من أقصاه إلى أدناه أن يتحملها، ولم تسلم الساحات الغربية قاطبة، وبالأخص منها الساحة الأميركية، من تظاهرات الاستنكار والتنديد الشعبي والرسمي أيضاً. كما أن المدة الزمنية الطويلة لتنفيذها، والتأخير في تحقيق أهدافها المعلنة خاصة تحرير الأسرى، أثارت غضب الشارع (الإسرائيلي).
في لجة تلك التطورات، أخذت الخلافات بين طرفيْ الحكومة الأميركية الخفية تظهر على سطح الأحداث بوضوح شديد. وأصبح باستطاعة من يقرأ الأحداث ظاهراً وباطناً أن يصل إلى رؤية أن الصراع قد انفجر داخل الإدارة الأميركية بين مشروعين، وهما:
1-المشروع الأميركي المؤمن بـ(مصلحة أميركا أولاً)، والذي يقضي بإنهاء دورة العنف في المنطقة العربية، ويمثله جو بايدن، والذي وضع كل ثقله من أجل إلزام حكومة نتنياهو بإيقاف العدوان على غزة أولاً، والقبول باستراتيجية (الأرض مقابل السلام) أي بحل الدولتين على أرض فلسطين ثانياً.
2-المشروع الأميركي الصهيوني: وضع كل ثقله أيضاً من أجل دعم حكومة نتنياهو في مواجهة الجناح الأول، ويظهر أن هذا الدعم وضع نتنياهو في موقف حاد بمواجهة بايدن.
كان الاختلاف حاداً بين المشروعين المتنافسين: مشروع أميركي يهدف إلى إنهاء استراتيجية العنف الذي يضمن له استثماراً اقتصادياً في الوطن العربي، مدعوماً بتحالف رسمي عربي يحثُّ على أن إنهاء تلك الاستراتيجية لا يمكنه أن يحصل من دون إعطاء الفلسطينيين حداً أدنى من حقوقهم، ويتم ذلك باستراتيجية (الأرض مقابل السلام). والمشروع الصهيوني المقابل ممثلاً بالجناح الصهيوني في الحكومة الأميركية الخفية، والذي يعتقد أن حل إنهاء العنف، هو سجن للحلم التوراتي في القمقم، والذي يعني إنهاء الاستراتيجية التوراتية في التوسع الجغرافي والسياسي.
إن المشهد الراهن في الصراع داخل جناحيْ الحكومة الأميركية الخفية، يعيدنا إلى استذكار ما حصل مع جورج بوش الإبن، الرئيس الأميركي الذي أعدَّ للعدوان على العراق في العام 2003. في حينها، كان الجناح الصهيوني في الحكومة الأميركية الخفية من القوة بحيث استطاع أن يوظف جورج بوش الإبن، الذي أعلن بإيحاء من الجناح الصهيوني، قائلاً: (لقد أرسلني الله لخوض معركة هرمجدون، المعركة التي سينتصر بها الخير على الشر).
وتحت ضربات المقاومة الوطنية العراقية فشل المشروع التوراتي على أرض العراق، ولا تزال ارتدادات الفشل الاستراتيجي لاحتلال العراق في العام 2003من جهة، وكذلك فشل تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي ابتدأ تنفيذه في العام 2011 من جهة أخرى، يظهر أنه عمَّق الخلاف بين جناحيْ الحكومة الأميركية الخفية. وما يحصل اليوم في الداخل الأميركي هو أهم تلك الارتدادات التي نعتقد أنها لن تجد حلاً لها، سواء فاز الحزب الديموقراطي في انتخابات تشرين الثاني من هذا العام، أم فاز الحزب الجمهوري. لأن انكشاف خطورة المشروع التوراتي الصهيوني حتى على مستقبل الولايات المتحدة الأميركية بانت بشتى أشكالها.
ولهذا السبب وحده، نستند في الرؤية الافتراضية التي توصلنا إليها في هذا المقال، لكي نتوجه بالنصح للعرب، أنظمة رسمية وجماهير شعبية وقوى وتيارات وأحزاب سياسية، وعلى قاعدة حماية الأمن القومي العربي الشامل بإمكانيات عربية سيادية ذاتية، أن يقوموا بالبناء عليها من أجل استعادة القرار العربي لأول مرة في تاريخهم الحديث والمعاصر. ولن ندخل في التفاصيل لأن لها مقالات أخرى، بل دراسات أخرى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أوضاع مقلقة لتونس في حرية الصحافة


.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين: ماذا حدث في جامعة كاليفورنيا الأ




.. احتجاجات طلابية مؤيدة للفلسطينيين: هل ألقت كلمة بايدن الزيت


.. بانتظار رد حماس.. استمرار ضغوط عائلات الرهائن على حكومة الحر




.. الإكوادور: غواياكيل مرتع المافيا • فرانس 24 / FRANCE 24