الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المراة ولع دائم

خالد محمد جوشن
محامى= سياسى = كاتب

(Khalid Goshan)

2024 / 3 / 30
الادب والفن


الحياة مهما كانت طويلة او قصيرة فانها يمكن ان تحكى فى ساعات ، ربما يستطيع انسان ان يحكى حياته المديدة بتفصيل شديد فى ست ساعات على الاكثر ، ذلك ان الحياة محطات وليست تفاصيل دقيقة .

ربما هذا ما الفهم هو ما التقطه صناع السينما ، عندما يحولون الراوية التى هى محطات الى فيلم لايستغرق اطوله الثلاث ساعات ، فى حين ان هناك رويات ربما يستغرق قراءتها عشر ساعات .

والعجيب ان الانسان ذاته لو استعرض تفاصيل حياته فانه لن يستعرضها سوى محطات سواء كان عمره عشرون عاما او حتى مائة .

والانسان دائما ما يختزن ذكريات عجيبة ، تظهر فى اوقات محددة ، عند رؤية مشهد ما ، او عند الانغماس فى موضوع ، او قراءة رواية ما ، حياتنا هى احداث مدفونة داخل الذاكرة العملاقة التى يحملها الانسان على رأسه .

اننى احزن للغاية عند موت بعض الناس فجاة ممن لم يلهموا فكرة الكتابة عن حياتهم وذكرياتهم وما صادفوه ، اشعر اننا نخسر كثيرا بموت هؤلاء الاشخاص ، انهم مكتبة كاملة قد اندرست فى التراب .

لذلك كانت الكتابة نقلة رهيبة للحياة الانسانية ، لقد استطاع الانسان ان يكتب حياته وذكرياته وتجاربه وافكارها ويدونه ليراها من يخلفه من بعده ، حدث تراكم وارث انسانى عجيب .

ربما كان العالم الخاص للانسان عصى على الكتابه فى بعض الاوقات وبعض الحضارات ولكنه بصفه عامة اصبح فى الامكان ان نراه ونلمسه ونقرأه لقد انزاح هذا المنع ، ومن ذا الذى يستطيع ان يمنع شخصا من ان يعبر عن ادق تفاصيل حياته .

الغريب ان الانسانية كلها تشترك فى الارث وفى الفهم وفى المعاناة ، كلنا واحد سواء امم متطورة أو أمم متاخرة بمفاهيم التطور والتقدم ، لان الكتابة هى من وعى وفهم الانسان وحياته وتجاربه ، والانسان هو واحد يمشى على رجلين سواء كان اشقر او احمر او ابيض او زنجى ، نحن جميع بشر نملك تجارب انسانية عميقة .

فى وقت مبكر ربما من خمس سنوات قرات بالمصادفة رواية الجميلات النائمات للاديب اليابانى ياسونارى كاواباتا ، كانت رواية جميلة وممتعة ونسيتها تماما ، وبعد سنوات شعرت اننى اريد ان اكون بطل رواية الجميلات النائمات ، اريد ان ادلف الى عالم العجوز ايجوشى وادخله منزله الغامض الملىء بالمراهقات الجميلات النائمات .

يا للهول لقد اكتشفت ان عالم ايجوشى الغامض لم ياتى من فراغ ، وكاننى اكتشفت شيئا فريدا ، رغم اننا ندرك تماما ان قصصنا وحكايتنا هى تعبيرا حكيما عن تجاربنا ، وان الله وهب البعض القدرة على الحكى ، ليستطيع من ليس لديه هذه القدرة ان يجد نفسه فيه ، اننا نحمل ارثا نتشارك فيه ويلامس محطات حياتنا .

نعم لقد ادركت اننى وصلت الى مرحلة ايجوشى المولع بالنساء ، دون القدرة الكاملة على خوض معاركهم ، انها المرحلة الاخيرة التى يصل لها بعض الرجال بكل هدوء وينسحبون بكل اريحية من عالم الجميلات ، ولكن هناك البعض منا معشر الرجال ، مازال قلبه يرقص طربا لدى رؤية فتاة جميلة ، ويود لو يضمها بين زراعيه ، ويرسم خرائط جسدها الانثوى الذى يمثل قمة الروعة والجمال فى هذا العالم .

ورغم ان للرواية مقدمة كانت بقلم غابريل غارسيا ماركيز ، تحكى عن تجربة مشابهة ، الا اننى لم ادرك على الاطلاق مدى الروعة والمتعة فى هذه الرواية الساحرة التى تحمل ارثا انسانيا . الا عندما وصلت لمرحلة ايجوشى .

ولن اقدم الراوية هنا فهذا عمل صعب ويفقده روعته ومتعته ولكنى ساسرد فقط المقدمة التى كتبها غابريل غارسيا ماركيز، تاركا للقراء مهمة البحث عن الرواية وقراءتها :

كانت جميلة ، ممشوقة ، ذات بشرة غضة بلون القمح وعينين لوزيتين خضراوين ، وشعر اسود منسدل حتى الكتفين ، تلف وجهها هالة من الجمال الشرقى القديم الذى يبدوا منحدرا من بوليفيا او الفلبين ، كانت متانقة بذوق مرهف : سترة من الوس ، قميص حريرى بأزهار صغيرة ، بنطلون من الكتان الخالص ، وحذاء واطىء بلون نبتة الجهنمية .

" ها هى اجمل امرأة رأيتها فى حياتى " فكرت وانا أرى الفتاة تنتظر ركوب الطائرة المتجهة إلى نيويورك من مطار شارل ديغول فى باريس ، افسحت لها بالمرور قبلى ، وعندما وصلت للمقعد الذى عُين لى على بطاقة الركاب ، وجدتها جالسة على المقعد المجاور .

توصلت الى التساؤل وانا مقطوع الانفاس : هذا التجاور اللامتوقع إلى أى من سيحمل التعاسة ؟

جلست ، كمن تعود الامر من سنين عديدة ، واضعة كل شيىء فى مكانه بعناية فائقة ، حتى باتت مساحتها الشخصية مرتبة كبيت مثالى حيث يوجد كل شىء فى متناول اليد ، قدم المضيف الشامبانيا مرحبا بالركاب ، حين كانت منصرفة الى تنيظم أمورها .

رفضت الشامبانيا وحاولت شرح شىء ما بفرنسية ركيكة ، عندها تحدث المضيف اليها بالانجليزية فشكرته بأبتسامة مشعة ، ثم طلبت كأس ماء وأضافت انها لا تود الا يوقظها احد مهما كان الامر أثناء الطيران .

بعد ذلك فتحت حقيبة كبيرة مربعة بزوايا نحاسية كتلك التى على صناديق جداتنا وابتلعت قرصين ذهبيين من علبة فيها أقراص كثيرة من مختلف الالوان .

كانت تقوم بكل شىء بطريقة منظمة ودقيقة كأن لا شىء غير متوقع حدث معها منذ ولدت .

وأخيرا وضعت الوسادة فى فجوة عند نافذة الطائرة وتدثرت بالغطاء حتى خصرها ، دون ان تخلع حذائها ، استوت جانبيا فى المقعد فى وضع شبه جنينى ، ونامت دفعة واحدة دون تنهيدة دون ادنى تغيير فى وضعها خلال الساعات السبع المرعبة فى الطائرة والدقائق الاثنى عشرة االامتناهية نتيجة التأخر الذى استغرقها الاقلاع الى نيويورك .

كنت قد اعتقدت على الدوام ان لاشيىء فى الوجود يفوق جمال امراة جميلة ، بات مستحيلا أن افلت ولو لدقيقة من سحر هذا المخلوق الخرافى النائم الى جانبى ، كان نومها ثابتا للغاية حتى انى خشيت ان تكون قد تناولت اقراصا للموت بدل النوم .

تفحصتها عدة مرات ، سنتمتر سنتمتر ، كانت علامة الحياة الوحيدة التى لاحظتها هى ظلال الاحلام العابرة فوق جبينها كغيوم فوق الماء ، كانت تضع حول عنقها عقدا رفيعا جدا يكاد لا يرى فوق بشرتها الذهبية ، كانت اذناها رائعتين وغير مثقوبتين ، وكانت تضع خاتما فى يدها اليسرى ، ربما انها لم تكن قد تجاوزت الثانية والعشرين ، عزيت نفسى بفكرة ان هذا الخاتم ليس خاتم زواج بل حلية خطوبة عابرة وسعيدة .

لم تكن متعطرة ، بل كان يفوح منها لهاث لايمكن ان يكون شيئا اخر سوى الرائحة الطبيعية لشبابها .

" انت عبر نومك والمراكب عبر البحار " فكرت على علو عشرين الف قدم فوق المحيط الاطلسى محاولا ان اتذكر بالترتيب السونيتة التى لا تنسى لجيراردو ديغوا .

" معرفى أنك تنامين ، واثقة وذكية ، انت " انحناءة نسيان وفيه / خطا صافيا قريبا جدا من ذراعى المضمومتين "

كان وضعى شبيها جدا بالسوناتا حتى انى خلال نصف ساعة استرجعتها فى ذاكرتى حتى النهاية : أى انسحاق لساكن الجزيرة ، أنا المارق المجنون ، على الشواطىء الصخرية ، المراكب عبر البحار ، انت عبر نومك "

لكننى خلال خمس ساعات من الطيران تأملت فيها الجميلة النائمة ، أدركت بسرعى ان وضعى النعيمى لم يكن شبيها بسونيتة جيراردو ديغوو ، بل بعمل أدبى رئيسى فى الادب المعاصر وهو " منزل الجميلات النائمات " لليابانى ياونارى كاواباتا .
اكتشفت هذه الرواية عبر طويل ومختلف ولكن يتفق على اى حال مع جميلة الطائرة النائمة .

منذ عدة سنوات ، اتصل بى اٌلان جوفروا بالهاتف ليقول لى إنه راغب فى تقديمى إلى كتاب يابانين ، أتوا لزيارته .

كل ما كنت اعرفه انئذ عن الادب اليابانى ، باستثناء القصائد التعيسة أيام البكالوريا ، لا يتعدى بضع أقاصيص لجونيشييروا تانيزاكى مترجمة الى القشتالية .

فى الحقيقة ، كل ما كنت اعرفه بطريقة اكيدة عن الكتاب اليابانين انهم انتهوا كلهم الى الانتحار .

وقد سمعت عن كاواباتا للمرة الاولى عندما نال جائزة نوبل فى سنة 1986، وحاولت عندها ان اقرأه قليلا ولكن سرعان ما أصابنى النعاس .

بعد ذلك بقليل بقر أمعاءه بسيف طقوسى ، تماما كما فعل روائى اخر مميز وهو أوزاما دازاى سنة 1946 ، بعد عدة محاولات فاشلة .

قبل كاواباتا بسنتين وكذلك بعد عدة محاولات فاشلة قتل الروائى الاكثر شهرة فى الغرب يوكيوميشيما نفسه على طريقة الهاراكيرى الكاملة ، بعدما وجه خطبة وطنية إلى جنود الحرس المبراطورى .

اذا عندما اتصل بى الان جوفروا عبر الهاتف ، كان اول شيىء رجع الى ذاكرتى هو عبادة الموت عند الكتاب اليابانيين .

قلت له : " انا ات بكل سرور ، شرط ألا ينتحروا " .
والحقيقة انهم لم ينتحروا ، بل أمضينا ليلة ساحرة فهمت خلالها انهم كلهم مجانين . كانوا مقتنعين هم انفسهم بذلك . قالوا لى : " لذلك كنا نود التعرف اليك ".

وأقنعونى فى النهاية أن القراء اليابانيين يعتبروننى كاتبا يابانيا .

ورغبة منى فى فهم ما أرادو قوله لى ، ذهبت فى صباح اليوم التالى الى مكتبة مختصة فى باريس واشتريت جميع الكتب المتوفرة هناك ل : شوزاكواندو ، كانزبورو ، يازوشىاينو ، رنوزكى أكوتا عاوا ، مازوجى ايبورى ، أوزامو دازاى ، هذا ما عدا الكاتبين البديهيين كاواباتا وميشيما .

لم أقرا شيئا اخر خلال سنتين ، ولا أزال مقتنعا بأن شيئا ما يجمع الروايات اليابانية برواياتى ، شيئا ما لا استطيع ان أفسره ولم أحس به فى حياة البلاد حين قمت برحلتى الوحيدة الى اليابان ، ولكن هذا الشيىء يبدوا لى أكثر من جلى .

على اى حال ، الكتاب الوحيد الذى وددت لو اكون كاتبه هو " منزل الجميلات النائمات " لكاواباتا ، الذى يحكى قصة منزل غريب فى ضواحى طوكيو ، يتردد اليه بورجوازيون يدفعون اموالا طائلة للتمتع بالشكل الاكثر نقاء للحب الاخير : قضاء الليل وهم يتاملون الفتيات الشابات الاكثر جمالا فى المدينة واللواتى يرقدن عاريات تحت تاثير مخدر الى جانبهم فى السرير .

لايملكون حق ايقاظهن ولا لمسهن . ولا يحاولون على أية حال لإن الاكتفاء الاكثر صفاء لهذه المتعة الناجمة عن الشيخوخة هو إمكانية الحلم إلى جانبهن .

لقد عشت التجربة مع الجميلة النائمة فى الطائرة المتجهة الى نيويورك ، غير ان ذلك لم يمتعنى ، على العكس ، الشيىء الوحيد الذى تمنيته خلال الساعة الاخيرة من الطيران هو ان يوقظها المضيف لاتمكن من استرجاع حريتى أو ربما شبابى .
لكن ذلك لم يحدث ذلك انها استيقظت من تلقاء نفسها عندما لامست الطائرة الارض ، تأهبت ونهضت تراقبنى .

كانت الاولى التى خرجت من الطائرة لتضيع بين الجموع ، تابعت على الطائرة نفسها طريقى الى مكسيكو ، مجترا دفعات الحنين الاولى لجمالها الى المقعد الذى لا يزال فاترا إثر نومها ، دون ان امكن من ان انتزع من رأسى ما قاله الكتاب المجانين عن كتبى فى باريس ، قبل ان تحط الطائرة ، وعندما قدموا لى بطاقة النزول ، عبأتها بنوع من المرارة , كاتب يابانى ، العمر اثنان وتسعون عاما .
غابريل غارسيا ماركيز
والان انا أدعوكم الى قراء رواية الجميلات النائمات للاديب اليابانى ياسونارى كاواباتا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل