الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تشريح الذات: كانَ صيفاً فاتراً

دلور ميقري

2024 / 4 / 1
الادب والفن


1
عقبَ إنهاء دارين السنة الأولى في المعهد العالي للفنون، خطرت له فكرة إتمام الدراسة في معهد الغرافيك. وكانت الفكرة مُغرية، كونه لا يطيق مهنة التعليم. في معهد الفنون، طلبوا منه ( ومن زملائه الآخرين أيضاً ) مراجعة السوسيال، لكي لا يبقى دونَ دخل في خلال الصيف. في تلك الآونة، كانَ دارين يرفرفُ بأجنحة الحرية، وذلك بعد تخلّصه من ربقة علاقة عاطفية، مُلتبسة، مع إمرأة متزوّجة. ما لم يحسب له حساباً، بطبيعة الحال، أن يلتقي بإمرأة أخرى، ثمة في مبنى السوسيال، الكائن تحت سقف سنتر غوتسوندا. إلا أنّ ذاكرته، عليها كانَ أن تنتعشَ أولاً لمرأى أحدهم. إنه " حَمِيْ "، الذي أبتليَ بصداقته عن طريق النادي الكرديّ. هذا الشاب، المُعرّف بالشح والتطفّل، كانَ قد إنقطعَ عن زيارة صديقه منذ بضعة أشهر بعدما دبّت المروءة قليلاً في دمه وأدرك أنه باتَ ظلاً ثقيلاً.
" إنها إمرأتي؛ روكسانا. وقد طلبوا منها مراجعة السوسيال، كونها أتت حديثاً إلى السويد "، قال لدارين في شيءٍ من الحَرَج. وكانَ ذلك الشعور يتلبّسُ أيضاً هذا الأخير، إلا أنه ذَهَلَ عن إبداء تبرير وجوده ثمة. إذ إستعاد نظره من المرأة الشابة، مع قلبٍ يخفقُ ألماً. فإنّ جمالها صارخٌ؛ هيَ مَن كانت تبدو في مستهل أعوام العشرين، وحظيت أيضاً بطول فارع وجسدٍ مثير، ممتلئ عند الصدر والأوراك. لعل من الصعب تمييزها عن السويديات، لو صادفها وحدها في الشارع، بما أنه يغلب عليهن الشَعر الأشقر والعيون الخضر. أنفها، المنحوت بعناية، كانَ محمراً قليلاً، تداريه بين حينٍ وآخر بمنديلٍ ورقيّ. وفكّرَ دارين، أنه لا الزكام ولا أيّ مرضٍ عضال أيضاً، ليعادل معاناة المرأة مع زوجٍ كهذا الزوج. ولو إلتقى المرءُ بهما في عصر النبالة، لظنّ أنها مركيزة برفقة أحد عبيدها أو سائسي خيلها. بيد أنّ روكسانا هذه، لو عُدنا للواقع المؤسف، هيَ الفرسُ الأصيلة، التي يركبها المركيز حمي. وهوَ ذا يُبدي ملاحظة مُتأففة: " لقد مضى زهاء خمس دقائق على إنقضاء موعد الغداء، ولم يظهر أحدٌ ليفتح لنا البابَ ". في أثناء ذلك، كانَ دارين قد علمَ أن صديقه ترك مسكنه في المبنى الجامعيّ، ليستأجر شقّة تبعدُ قليلاً عن مركز السوسيال هذا. بدَوره، سألَ دارين بخفّة: " وأنت، أما زلت في صومعتك بين الكتب واللوحات؟ ". أرادَ دارين أن يُجيبه، لما جاءت إحداهن وفتحت الباب. تنحّى دارين، ليفسح المجال للزوجين أن يتقدما أولاً في الرواق المؤدي إلى مكتب الإستعلامات. مشيا وذراع كل منهما في ذراع الآخر، مع ميلان لأحدهما بسبب طول قامته. وفكّرَ دارين في خلال الطريق: " أنظرْ إلى هذا المخلوق القميء، كيفَ هبطت عليه إحدى حوريات الفردوس! ". غبّ تسجيل حضور إمرأته، إلتفتَ حمي إلى صديقه القديم: " سأتصلُ معك في أقرب فرصة، لكي تشرفنا على الغداء "، قالها بصوتٍ فخم.
إستعادَ دارين صفاءَ ذهنه، بعدما شوّشه بشدّة مرأى تلك الحورية. إلا أن صورتها البهية بقيت عالقة في ذاكرته، كما الوشم على الجلد. ذلك أنّ رَجُلها لم يتصل أبداً، مثلما أنه تعامى ذات مرةٍ عن تحية دارين حينَ كانا في مخزن السنتر. وفي خلال تلك الفترة، كانَ هذا الأخير قد ضُمّ إلى حلقة دراسية، بهدف الحصول على المساعدة المادية في أشهر الصيف. المدرسة، كانت تقع في مركز المدينة عند جسرها الأثريّ، المار منه شارع " فكسالا ". عليه كانَ أن يُمضي هذه الحفنة من الأسابيع، وذلك قبل إنتقاله إلى معهد الغرافيك في نهاية شهر آب/ أغسطس. إلا أن الدراسة إقتصرت على ساعاتٍ أربع، تبدأ صباحاً وتنتهي على موعد وجبة منتصف النهار. كانَ يدرسُ مستوىً أعلى في اللغة السويدية، والمعلّم كانَ رجلاً على شيءٍ من الصرامة ولا يتهاون مع التأخر عن الدوام ولو لخمس دقائق. بين الزميلات، كانَ ثمة فتاتان فرنسيتان، جمالهما متوسّط ومكثرات من الثرثرة بالرغم من تأنيب المعلّم. كذلك كانَ ثمة فتاةٌ صينية، جمالها مميّز. لما عرفت أنّ دارين رسّامٌ، قالت له: " أنا أحياناً أرسمُ، وأفضّل مثلك الألوان المائية ". ثم أخبرته، أنها تعيش في فيلا مع رجل سويديّ، متقدّم قليلاً في العُمر. قالت له ذلك، مبتسمة ومحمرّة الوجه. ذاتَ مرة، بين حصتين من الدروس، إقترحت على دارين أن يقوم كل منهما برسم الآخر. أنجزَ الرسمَ بدقائق، وحاز على إعجابها. لكن حينما أنهت رسمه، عُقد لسانه من الدهشة: " إنك ذات موهبة كبيرة، وفي وسعك أن تتفرغي كرسّامة محترفة "، قال لها. كانَ البورتريه متقناً، ذكّره بأمثاله عند الفنان السويديّ الكلاسيكيّ؛ أندرش زورن. إلا أنها ضحكت قائلة: " لا، أنا مجرد هاوية ".
الموهبة الفذّة لهذه الفتاة وتواضعها، أعادَ ذاكرة دارين سنيناً إلى الوراء. آنذاك، كان يدرس اللغة الروسية في مستهل وجوده في موسكو. مادة تاريخ الفن، جمعته بزميل من كوريا الشمالية، كانَ يُضفي الطرافة على الفصل بسبب سذاجته. في كل مرة كانا يلتقيان صباحاً عند المصعد، كانَ يلقي عليه تحية الصباح: " مرحباً محمد! ". إلى أن علّقَ دارين على سوء الفهم، بأن قال له: " ولكنني لا أشبه زميلنا محمد، لكي تخلط بيني وبينه؟ "
" آه، المعذرة. لقد خلطتُ بينكما، لأنكما على شبه شديد. وعلى العموم، كل مواطنيكم متشابهون، خصوصاً بشكل العيون! "، قالها بنبرة توكيد. وقد حقّ على دارين أن يُذهل، لما زاره مرةً في حجرته فرأى لوحاتٍ زيتية، بعضها منجز والبعض الآخر في طور الإنجاز. قال لزميله: " لِمَ تدرس تاريخَ الفن، وأنت بهذه الموهبة الكبيرة في الرسم؟ ". وكان جوابُ الشاب: " لم أقبل سوى في هذا الإختصاص، لأن حزبنا الحاكم يُعوّل كثيراً على النظرية ".

2
وفي الفرصة بين درسين، كانت إحداهن تعزف على بيانو عتيق، وجدوا له مكاناً في الصالة المستطيلة الشكل، التي ينفتح عليها بابُ الفصل، والمنتظم فيها عدة مناضد صغيرة. كانت الصالة، إذاً، أشبه بالمقهى؛ ولكن إنعدم فيها البيع والشراء. فبعض الطلبة، كانَ يُحضر فطوره معه، وآخرون يكتفون بشراب بارد أو ساخن. العازفة، كانت فتاة سويدية من أصل فنلندي، تُحصّل دروسها في فصلٍ متقدّم. ثمة، في ذلك الفصل، كانَ يجلسُ بالقرب منها شابٌ من كرد تركيا، ويبدو كأنه يحاصرها. كانَ ربعة، شكله يشبه " القربينة "؛ وهيَ البندقيقة العثمانية، المفلطحة الزند والسبطانة. في وجهه كان يتمددُ شاربٌ ثخين، تقريباً من الأذن إلى الأذن. وقد تعرّفَ دارين على الفتاة، حينما جلست إلى منضدته، وقدّمت نفسها باسم " ماريا ". أول ما جذبَ نظره إلى هذه الحسناء، الناصعة البدن ـ كقلّادة فضّية ـ هوَ شَعرها الكثيف، الذي بلون العسل، والمنسدل حتى مؤخرتها العريضة. أحياناً، كانت تجعل شَعرها في ضفيرة واحدة، سميكة، تكفي لشنق ذلك القرويّ اللجوج، الذي يهيمن عليها بأنفاسه الكريهة. بدَوره، تبيّنَ أن لهذا الشاب ( يصعب تقدير عُمره ) ميلٌ إلى الغناء والعزف على الطنبور. وإنها خيرُ آلة موسيقية، تلائم شكله المفلطح. صوته كانَ مقبولاً، طالما أنه يؤدي أغانٍ كردية كلاسيكية. ولكنه تنفّجَ بالقول، أنّ لديه رصيداً من الأغاني الثورية. في يوم سابق، حينما كانا في المقهى المرتجل، أخرجَ من حقيبته عدداً من صحيفة تصدر في إسطنبول، مؤيّدة لحزب ب ك ك. مع ذلك، عبّرَ في يومٍ آخر عن بهجته الغامرة بفوز الفريق التركيّ على ندّه السويديّ في تصفيات بطولة العالم لكرة القدم: " لقد أشعلنا جوّ الملعب بالمفرقعات، عقبَ إنتهاء اللعب! "، قالها لدارين. وقد ملأ الصالة بصوته وعزفه، لما أجتمعت المدرسة لاحقاً في اليوم الوطنيّ السويديّ.
" ألا يرغبُ أحدكم بمرافقتي إلى الديسكو؟ "، خاطبت ماريا الزملاءَ حينما كفّت الموسيقى. كونه عشية يوم عطلة، فإن الزميلات السويديات هتفنَ تأييداً لإقتراحها. فأردفت الفتاة بشيءٍ من الإستياء، وهيَ تحدجُ دارينَ بنظرةٍ مواربة: " نعم، نعم، ولكننا نحتاجُ لشبان! ". غبّ إنتهاء الحفل المتواضع، ظلّ دارين لبعض الوقت كي يُساعد في لملمة الصالة. إلى الأخير، لم يبقَ ثمة سوى ماريا وظلّها الثقيل، الذي كانَ يحتضن طنبوره المغلّف بالمشمّع. خارجاً، إذا بالفتاة تتأبط ذراعَ دارين: " إذا كانَ طريقك مشياً على الأقدام، فإنني سأسمحُ لك بمرافقتي "
" ولِمَ المشي على الأقدام، طالما أن السيارة تنتظرنا هنا "، تدخلَ القربينة وهوَ يومئ إلى سيارة متهالكة تقف بإزاء الرصيف. حينما قالت له زميلته أنها متوجّهة إلى بار قريب، فإنه إلتفتَ إلى دارين هذه المرة ليخاطبه بالكردية: " أنتَ تسكن في غوتسوندا، وطريقنا واحد ". كانَ واضحاً، أنه جدّ متضايق لأن دارين " سرقَ " محبوبته. إزاء لجاجته، ردّ عليه المُخاطَب بنفس اللغة: " بل سأمضي إلى متجر أحد الأصدقاء، يقع في شارع ستور غاتان "
" لا بأس، فإن الشارع أيضاً في طريقي! "، هتفَ وراءَ دارين. لكن هذا تجاهله ومضى مع الفتاة، مُسايراً مشيتها المتعجّلة. قالت ماريا بعدما سمعت صوتَ السيارة، المُنطلقة في الإتجاه المُعاكس: " ياله من شخصٍ مزعج ". ثم أضافت، تسألُ رفيقَ الطريق: " أأنت أيضاً من تركيا؟ "
" لا، أنا من دمشق. لكن أجدادي هاجروا من كردستان تركيا قبل نحو قرنين "
" ثمة مسرحية لستريندبيرغ، عنوانها ‘ إلى دمشق ‘. هل قرأتها؟ "
" لا، لم أقرأها "
" ولكنك تعرف من هوَ ستريندبيرغ؟ "
" بالطبع، وقد قرأتُ له مسرحية ‘ الأب ‘، باللغة العربية "
" آه، إنها مسرحية رهيبة. لقد كانَ معادٍ للنسوية، بشكل عام "، قالتها ثم إستطردت لتفاجئه بالقول وهيَ تتمعّن فيه: " شكلك يوحي بأنك كاتبٌ، أليسَ صحيحاً؟ ". كانت هيَ المرة الأولى، تحدس إحداهن بميله الأدبيّ. فأغلب الزميلات تنبأن بأنه رسّام. قال ذلك لرفيقة الطريق، وأضافَ ضاحكاً: " بل إنّ إحداهن، قالت لي بجدّية أنني أشبه المسيح ". قهقهت الفتاة بجذل، وقرصت ساعده: " وأنا ماريا ماجدولينا! ". ثم آبا إلى الصمت. كانت الشمسُ ما زالت ساطعة، وستظل كذلك إلى نحو العاشرة ليلاً. هيَ بشارة " الليالي البيضاء "، التي ستبدو فيها النجومُ والقمرُ في السماء مثل شامات حُسْنٍ على وجهٍ بنصاعة الرخام. وإن ماريا تملك هكذا شامات، ربما ثلاث، على الخد والرقبة. لكن كان ثمة لسعة برد، يشعرُ بها من إكتسى بملابس صيفية خفيفة. وأكثر من مرة، إلتصقَ جانبُ الفتاة في جانبه، سعياً للدفء؛ هوَ المرتدي سترة سميكة نوعاً ما. عبيرها أيضاً، تغلغلَ في مشامه. حين تجاوزا الدربَ الصاعد نحوَ الكاتدرائية، رنت إليه لتسأله: " إلى أينَ أنتَ ذاهبٌ؟ "
" ألم تطلبي، ثمة في المدرسة، أن يرافقك أحدهم إلى الديسكو؟ "، قال لها بدعابة. لكنها تكلمت بجدّية، حينما ردت: " ممكن غداً، أما اليوم فإنني على موعدٍ مع صديقاتي في البوب. ولكن لو شئتَ، ففي وسعك المجيء معي الآنَ؟ "
" بل نلتقي غداً في التاسعة مساءً في البالديس، لو كانَ هذا يُعجبكِ؟ "
" نعم، وسنتفقّدُ بعضنا عند البار "، قالتها ثم ودّعته وعبرت اإلى الطرف الآخر من الشارع. نظرُهُ، لاحقَ الردفين الرائعين، الذين راحا يترجرجان ويهتزان، ما أوحى لصاحبه بهذه الفكرة الطائشة: " إنها تعمّدت أن ترقّص كفلها الفاره، وسنرى غداً ما لو كانت سخية أيضاً ببذله في الفراش! ".

3
مساء اليوم التالي، كررَ ما قبله لناحية الشكل الخارجيّ للطبيعة. سوى ضبابٌ خفيف، كأنه صاعدٌ من رئات الأشجار، التي تغطي كورنيش النهر من أوله إلى آخره مع فواصلٍ حجرية هنا وهناك، فضلاً عن سُحُب من الناموس. كونها عشية عطلة نهاية الأسبوع، فإنّ الجو أفعِمَ بأريج العطور الباريسية، النسائية والرجالية. وكان دارين قد كفّ منذ حلوله في السويد عن إستعمال عطر " أراميس "، الكلاسيكيّ، الذي كانَ يذكّره بألكسندر توماس الأب، أو ربما الإبن. لقد لفظه الأوتوبيس عند موقف المستشفى الكبير، طالما أنه شاء التمشي في الهواء الطلق لمدة عشرين دقيقة، وذلك قبل أن يخنقه جو الديسكو، المعبّق برائحة السجائر والعطور والعَرَق. في أثناء تسكّعه، طردَ ذكرياتٍ أليمة عن فتياتٍ عرفهن في السابق، ورافقهن إلى ملهى " فلوستريت "، الذي مرّ به للتو. واجهة الملهى، في المقابل، كانت تذكّره دوماً بشكل أحد مساجد الحارة الكردية الدمشقية؛ بالأخص المنارة، العثمانية الطراز. لكن هذه الأخيرة كانت تتصاعد منها أبخرة الإيمان، فيما شبيهتها تزفرُ أنفاسَ المخمورين.
ثمة في الديسكو، وكانَ قد أمّه مجاناً قبل حلول الساعة التاسعة، وقفَ أمام البار، بحَسَب إتفاقه مع ماريا. كل ما يحيطه، كان من مادة الزجاج؛ بلور الكونتوار الأنيق، وكريستال الأقداح والثريات، والمرايا التي تغذي شعورَ السكارى بعَظَمتهم. وكان دارين يكره التطلع لصورته في المرآة، اللهم إلا عند حلاقة لحيته وتسريح شَعره؛ أو لو جرّبَ ملابس جديدة، وهذا أكثر ندرة. على أية حال، كان مُجبراً على إقحام صورته في مرآة البار العريضة، بما أنه جلس ثمة على الكرسيّ العالي لينهل من قدح البيرة، وكانَ البارمان الثرثار قد قدّمه له قبل قليل. إلى أن بوغتَ بيدين ناعمتين، تطوقان خصره من الخلف.
" جئتُ في تمام التاسعة، لكنني جلتُ قليلاً كي أتفقّد أصدقائي "، قالت له ماريا وهيَ تضع قدحها على سطح الكونتوار. ثم أضافت، ملقية نظرة على المكان: " ثمة مناضد غير مشغولة، فهلم نجلس إلى أحدها ". إمتعضَ في داخله عند ذكرها لأصدقائها، كونه خطط لنيل وطره منها في هذه الليلة. وقد إنتعظ فوراً حينَ ألقى نظرة على هيئتها، وكانت مكشوفة اللحم عند الصدر والفخذين. غبّ جلوسهما بدقائق قليلة، عزفت الفرقة الموسيقية لحناً منشّطاً. فهبت فتاته على قدميها، ومن ثم سحبته إلى حلقة الرقص، التي سرعان ما إزدحمت. في أثناء الرقص، أنزل يديه عن ظهرها كي يُداعب وركيها اللدنين. وقد شجّعته هيَ، بأن ضغطت على وسطه. سيكون الطريقُ إلى الفراش ممهداً، فكّرَ دارين عندئذٍ، لو لم يكن ثمة حجر عثرة غير منتظر. حينما عادا إلى المنضدة، جاءت إحدى الصديقات كي تتكلم مع ماريا. ولكنّ دمَ دارين فارَ بالغيرة والغيظ، لما مرّ شابٌ ملوّن بمجلس الفتاة، وطبع قبلة خاطفة على فمها مع عبارة مبهمة. على الأثر، قالت ماريا لرفيق السهرة وكأنما إنتبهت لإنزعاجه: " كانَ زميلاً في الفصل الدراسيّ، لكنه إنقطعَ عن الحضور منذ فترة "
" لا يهمني أمره، كائناً من كانَ "، علّقَ دارين كاذباً. إلا أنها كانت شاردة الذهن، وربما لم تسمعه. رقصا مراتٍ أخرى، وتبادلا القبل واللمسات الحميمة وراء المنضدة وفي الزوايا المعتمة. في آخر السهرة، طلبَ منها أن تذهب معه إلى الشقّة. قالت وهيَ تتثاءب: " إلى غوتسوندا، إذاً؟ يا لها من ضاحية، يعششُ فيها الطاعون! "
" أتعنين الأجانب؟ "
" أجل "
" ولكنني بنفسي، أجنبيّ؟ "
" أنتَ كاتبٌ، تنتمي إلى اللامكان "
" وأنتِ..؟ "
" أنا ماريا ماجدولينا، المنتمية للخطيئة "، قالتها ضاحكةً. ثم سارت أمامه، تترنّحُ بشكلٍ واضح، لتهتز مؤخرتها المثيرة مع كل خطوة. خارجاً، قالت له: " لن أتحمّل ركوبَ الأوتوبيس، لأنني أشعرُ سلفاً بالغثيان ". لمحَ دارين عن قرب سيارة عتيقة، وعرفَ أن صاحبها يأخذ زبائنَ الديسكو؛ أي أنه يعملُ بشكلٍ غير شرعيّ ( أسوَد ). كان الرجلُ من كرد العراق، معتاداً على لعب طاولة النرد في النادي. في أثناء الطريق، ومن خلال المرآة الصغيرة، لم يكن يحيدُ نظرَهُ عن مفاتن الفتاة. ولما سألَ دارين، ما لو كانت " صيداً جديداً "، جاءه الردّ بجفاف: " بل هيَ زميلة في المدرسة "
" الفتيات الصغيرات السن، سهلات المنال "، قالها متفلسفاً. حينما توقفت السيارة في المكان المطلوب، تكلّفَ السائقُ الإمتناع عن أخذ الأجرة. ألحّ الآخرُ بإصرار، وإذا بالرجل الشهم يطلبُ تقريباً نفسَ الأجرة المعتادة للتاكسي. ناوله دارين أولاً ورقة المائة كرون، ثم قالَ وهوَ يعطيه ورقة الخمسين: " وهذه بخشيش! ". رسمَ اللصُ ابتسامةً صفراء على سحنته، ثم أغلقَ بابَ السيارة دونَ أن يردّ التحية.
هذه الفتاة، التي تقرأ ستريندبيرغ وتكنّ له البغض في الآن نفسه، لم تكن سهلة المنال، حَسْب، بل وشديدة الشبق أيضاً. ضاجعها دارين المرة تلو الأخرى، وهيَ تطلبُ المزيدَ. إلى الأخير، أضطرَ أن يطرحها على بطنها. قالت له عندئذٍ بنبرة رجاء: " أقذف خارجاً، لأنني بدأتُ أنعس ". لما فرغَ، كانت هيَ قد غفت فعلاً وإرتفع غطيطها الخفيف.

4
في شوارع أوبسالا، العاصمة الأبدية للإباحية، سارَ دارين وكانَ الوقتُ في أوج الصيف. كانَ الطقسُ في غاية الروعة، وما من سحابة واحدة في السماء. ثمة، أين توقفَ في ميدانٍ بالقرب من أبرز رموز المدينة، شعرَ كأنه مواطنٌ من روما القديمة، يستعرضُ أمواجاً متدفقة من الحسان شبه العاريات. لكنهن كن ينتمين للعصر الراهن ( البعيد بمقدار أعوام قليلة عن الألفية الثانية )، هاته الفتيات اللواتي يظهرنَ في هذا الوقت من كل عام في كرنفال السامبا. السويد، وشيمته عموماً عبادة الأمريكان في عاداتهم وألبستهم وأمزجتهم، لغريبٍ أن يقلّد البرازيليين هذه المرة. أما الموضة الفرنسية، فإنها تنتمي لعصر ستريندبيرغ، الذي بات جدّ كلاسيكياً ـ كأنه عصرُ هوميروس وأرسطو.
وكانت ماريا إحدى أولائي الفتيات، وقد إكتست بملابس الكرنفال، الشبيهة بملابس الراقصة الشرقية؛ لولا أن خيط السروال الداخليّ، يكادُ يُظهر حافتيّ الجحر، المعتمتين قليلاً. هذه هيَ المرة الثالثة على التوالي، تشارك في الكرنفال. كانت تراوحُ خطوها في مركز الإنطلاق، الكائن في ساحةٍ تتهالكُ عليها ظلالُ البرجين الهائلين للكاتدرائية، وكما لو كانت لعناتٍ من إله السماء. وكانَ دارين قد أخذ مكانه مع بعض النظارة، ثمة في إفريز أثريّ، يرتفعُ بمقدار ثلاثة أمتار، ويشرفُ على تلك الساحة. بين حينٍ وآخر، كانت صديقته تلوّح له بيدها، أو تمازحه بعرضٍ راقص من ردفيها. الفرقُ الموسيقية، وكانَ أفرادها أغلبهم من الرجال المكتسين بملابس شبيهة بمحترفي السيرك، كانت كلّ منها تعتلي خلفية سيارة بيك آب. أعدادُ الأجانب المتفرجين، ناهز أعداد مواطنيهم السويديين ـ كما سيظهرُ عندما سالت جموعُ الكرنفال عبرَ شوارع المدينة، لتصبّ في ملعبها الكبير، المطل على " حديقة الملك ".
رغبةٌ جيّاشة، جعلت الدفقَ يكادُ يصلُ إلى الذروة. إلا أنه هدأ بعضَ الشيء، عندما أرسل طرفه إلى الناحية الأخرى، المقدّسة. نظرة أخرى من جديد على الميدان العارم، ليرى الحوتَ ثمة وبيده كاميرا الفيديو. المأفونُ الفاجر، فكّرَ دارين، كان لا يوفّرُ حتى فتيات الكرنفال، اللواتي بعُمر الطفولة، مُتسللاً بينهن وهوَ يدسّ جهازه بالقرب من مؤخراتهن. عندما كانت إمرأته تقطع ثرثرتها مع صديقتها، وتنظر إلى ناحيته، فإنه كان يوجه سبطانة بندقيته نحوَ عازفي الترومبيت وضاربي الإيقاع. عندئذٍ، كان يُضفي على سحنته مسحةً من براءة الأطفال. على الأغلب، فكّرَ دارين أيضاً، أنّ الفاجرَ سيستمني نفسه لاحقاً وهوَ يتابع صوَر الشريط في جهاز الفيديو، ثمة في قبو الفيلا، تحيط به أرتال الكتب، التي سرقها من مكتبة الجمعية الكردية في بيروت الحرب الأهلية. لقد دأبَ الحوتُ على التبجّح على مسمعٍ من الآخرين، بالقول فيما يرمشُ عينيه الخاملتين: " الجنسُ بالنسبة إليّ هوَ إمرأةٌ ناعمة اليدين، تمررُ على جسدي إسفنجة الحمّام! إنني أحظى كل مرةٍ بهكذا إمرأة، ثمة في القاهرة أو إسطنبول؛ اللتين أعبرهما، ترانزيت، في طريقي إلى بيروت ".
بدَورها، وضعت ماريا شريط فيديو عن كرنفالٍ سابق، كانَ ثد أهديَ إليها من لدُن المُنظمين. فعلت ذلك عقبَ إنتهاء الإحتفال، حينَ إستقبلت صديقها في شقّتها، التي هيَ عبارة عن استديو في إحدى الأبنية الجامعية في منطقة " سالابكّا ". كونها سلّمت ملابسَ الكرنفال، فإنها إكتفت بالسوتيان والسروال الداخليّ حينَ راحت ترقصُ على أنغام السامبا. لم تكن هذه المرة الأولى، تستعرضُ نفسها أمام دارين، وإنما كانت كذلك في يوم الإحتفال. إنما خلعَ عنه الآنَ شعورَ الغيرة، وكانَ قد إنتابه وهوَ يلاحقُ صديقته من شارع إلى آخر. قبل ذلك، كانَ قد أزعجه ظهورُ ذلك المتطفّل، عماد، كما يخرجُ الجن من أعماق المرحاض. رآه عماد وهوَ في الميدان، يتحدث مع ماريا، قبيل إبتداء العرض بدقائق قليلة. قال له لاهثاً من الشبق، فيما لسانه متدلٍ كالكلب: " أهيَ صديقتك، هذه الحسناء؟ ". ولكنه لم يصدّقه، لما ردّ بأنها مجرّد زميلة في المدرسة. إذ ظل يلاحقُ دارينَ عن بُعد، وعيناه تبرقان بالمكر والخبث، لحين أن أضطر هذا الأخير إلى الضياع بين الجمهور. عادَ ليربت على كتفه في الملعب، قائلاً بنبرة تذلل: " سأعود معك إلى شقتك، إذا لم يكن ثمة مانع؟ ". فأجابه دارين بجفاء، أنّ قريبه يقيم معه هذه الفترة. ولم يكن يكذب، سوى بشكلٍ جزئيّ.
ذلك القريب، كانَ قد دُعيَ ب " رابح "، حينما إلتقى معه دارين لأول مرة في مسكن شقيقته الكبيرة؛ وهيَ فيلا، تقعُ في منطقة أوبسالا القديمة. القريبُ، كان شاربه النحيل يتحرك حقاً، كالصرصار، كلما أبدى صاحبُهُ إهتماماً بأمر ما. أما عيناه الكبيرتان، فإنهما لإحدى القحاب. وفي الوسع أن يؤكّد الشاب ذلك التشبيه الأخير، بعادة مصّه لشفتيه في كل حينٍ. كانَ في مستهل أعوام العشرينات، أسمر البشرة وفي أنفه حدبة هيّنة. بإختصار، أنه يُشبه مطرباً خليجياً، له كنية أحد الطيور الجارحة. لقد أرسله أهله إلى السويد، كيلا يموت من الإهمال الطبيّ في موطنه. إذ كانَ مبتل بمرضٍ في القلب، نتيجة ضغط شقيقه التوأم وهما في بطن الأم. وفي الوسع القول، أنه لولا تحذير الأطباء له كي يتجنّب أي إنفعال، لوهبَ مؤخرته لمن شاء. مكرُهُ المَكين، لعله أمتحّ من جينات جدّته لأبيه، البدوية الأصل. بالرغم من مساعدة شقيقة دارين، فإنّ خبثه أوحى له أن يتفقّد خفيةً صندوق البريد، الكائن عند مدخل الفيلا. عندما ضبطته يوماً مُتلبّساً بالخزي، أنتزعت منه رسالة وصلته من دمشق، وإذا يتخللها أسطر كلها سخرية من المُحسنة. مع ذلك، غضّت سريعاً الطرفَ عن تلك الحادثة، لشعورها بالشفقة حينَ وقع أرضاً ذات مرة وطلبت له سيارة الإسعاف. كونها ستسافر في إجازة الصيف إلى إحدى دول حوض المتوسط، فإنها طيّرت الصقرَ باتجاه مسكن دارين.

5
كانَ دارين ينظر إلى نفسه كرسّام، وليسَ كفنان. ثمة فرق كبير بين المفهومين، كون الثاني يعني أن الممارسة أهم من الموهبة؛ على حدّ تعبير بيكاسو. من ناحية أخرى، كانَ يودّ أن يُنظر إليه كأديب، ولو أنه بقيَ مغموراً وبلا كتابٍ مطبوع وقد قارب منتصف الحلقة الثالثة من عُمره. لقد إستعادَ مخطوطة مجموعته الشعرية الأولى، التي إستأثر بها خفيفو كي ينتحل قصائدها بصبر الضبع، الذي لا يتعب بمطاردة الفريسة وإنما ينتزعها من صائدها. إلى ذلك، كانت مجموعته الشعرية الثانية في طور التنقيح، وثمة رواية تاريخية تختمر في ذهنه منذ بضعة أعوام. إلا أنه ترك التاريخَ جانباً، وعكفَ على مسودة رواية أخرى، مستمدة بدرجة كبيرة من سيرته الذاتية. كانَ يعوزه الحرية، لكي يتمكّن من إيجاد أسلوبه الروائيّ ومن ثم صقله بالتجارب. والحرية بالنسبة للفنان، رسّاماً أو كاتباً، إنما هيَ الوحدة. على ذلك، كانَ قليل الثقة بأمثال دوغان، المنغمسين بالمجتمع المخمليّ والعلاقات العامة وحتى " البيزنس ". هذا الأخير، كانَ في مقدوره، لو شاءَ، أن يوعز لإحدى دور النشر الكردية بتعهّد طباعة تلك المجموعة الشعرية. لكنه لم يفعل ذلك، وأيضاً لم يُفاتحه دارين بهذا الشأن.
آلان، إبن عم الكاتب الكبير وشقيق زوجته، عادَ ليلتقي مع دارين. لقد أصبحَ أباً لتوأم صبيان من إمرأته السويدية، وقلل كثيراً من فتوحاته النسائية. إنه هوَ مَن بادر ذات يوم لدَعوة صديقه إلى بار " كاتالين "، الكائن في مقابل المكتبة العامة، قائلاً بدعابة أنه يودّ التخلّص من ربقة إمرأته ولو لبضع ساعات. ثمة في الدور الثاني من البار، المتمتع بإضاءة خافتة، إلتقيا مع " راجي ". إنه فيلسوف من كرد تركيا، ما زال يصرّ على أن إنتصار الشيوعية هوَ حتمية تاريخية. وكانَ حتمياً أيضاً، نيله المشروب كلّ مرةٍ على حساب الآخرين. وقد إستاءَ دارين من صديقه حينَ جلبَ قدح بيرة لذلك الفيلسوف المُقتّر، ولم يسلو الأمرَ إلا عندما تساقطت حوريتان من العلياء إلى مجلسهما الأرضيّ. إحداهما، المُعجبة بدارين، طلبت منه أن يُدير وجهه بإتجاه أنوار السقف الشحيحة: " كم لون في عينيك؟ عسليّ، بنيّ، أخضر، أبيض، أسود! "، قالت له بلسانٍ مخمور قليلاً. كانت في أواخر العشرينيات، لا يُمكن تشبيهها إلا بالحصان الأصيل. وإنه آلان، مَن كلّمه على الأثر بالكردية: " واضحٌ أنهما ترغبان بالمضاجعة، وسأقترحُ عليهما أن نفعل ذلك في سيارتي "
" بل نذهب في سيارتك إلى شقتي، ما رأيك؟ "
" المشكلة، أنني لا أستطيع أن أتأخر. فلو ذهبنا إلى الشقة، سيطول الأمر بين الحديث والشرب "، ردّ آلان. في الأثناء، تبادلت الفتاتان نظراتٍ باسمة. لدهشة دارين، فإنهما رضيتا بفكرة المضاجعة في السيارة. بالرغم من فتنة فتاته، فإنه لم يكن متحمساً أصلاً للوصال. فإن صديقته ماريا، كانت آنذاك تخصب رغبته متى شاءَ. لكنه نهضَ الآن مع الآخرين، لكي يتجهوا إلى مركبة الغرام. وقد سارت بهم مسافة قصيرة إلى بداية منحدر التلة المُشجّرة، المعتبرة رئة المستشفى المركزيّ. أثناء فعلُ الحب، كانَ دارين مُجبراً على ترك إحدى قدميه على الأرضية، كون مقعد السيارة الخلفيّ على ضيقه المألوف. حينَ توادع مع صديقته، طيّرت هذه له قبلات في العتمة المزركشة بأضواء مصابيح الشارع. كانَ آلان محقاً في فكرته، كون الفتاتان شاءتا إكمال السهرة في البار. كلتاهما أيضاً، حصلت على رقم هاتف مزيّف من رفيق الليلة.
في مساء اليوم التالي، إتصل عُمَرو بدارين، قائلاً أنه في السيارة مع زورو بطريقهما إليه. هذا الأخير، كانت زوجته قد حصلت أخيراً على فيزا الإقامة وحضرت إلى السويد. قبل ذلك بنحو العام، حظيت إمرأة أحمي بالإقامة. وقد زجّ الأول زوجته حالاً وراء صندوق المتجر، وربما لكي يسترد بعضاً من مال المهر الثقيل. وعلى العموم، كانت إمرأة جميلة ولطيفة المعشر. على العكس منها تقريباً، كانت زوجة أحمي؛ حادة القسمات ومتكبّرة.
في أثناء الحديث مع الضيفين، ذكرَ دارين فرحته لأن أحد أصدقائه قد نال حق الإقامة في ألمانيا. وكانَ هوَ من قدّم له فكرة اللجوء، حينَ كان بعدُ مدرّساً جامعياً في ليبيا. إذ علّمه أن يحجز في الطائرة المتجهة إلى موسكو، والتي يتم تغييرها في برلين حينَ تتوقف للترانزيت. وقد عمد في مطار برلين إلى تمزيق الباسبورت السوريّ وحشك أوراقه في بالوعة التواليت. ما أجبر مسئولي المطار على تحويله إلى البوليس، المختص بالتحقيق مع طالبي اللجوء. في خلال حديثه، ذكر دارين عابراً أن ذلك الصديق إقترحَ عليه الحلول في ضيافته لبضعة أيام: " لكنني أحتاجُ لفيزا زيارة من السفارة الألمانية، علاوة على أن السفر بالطائرة يحتاج لوقتٍ إضافي وعلى حساب دوامي في المدرسة "، إختتم قوله. فعلّق عندئذٍ عُمَرو بمخاطبته: " لن تحتاج لركوب الطائرة ولا للفيزا "
" وكيف ذلك؟ "
" أنا سافرت عدة مرات بالسيارة إلى ألمانيا، قبل حصولي على الجنسية السويدية. البوليس الألماني، نادراً ما يوقف السيارة لو كان فيها ما ينم عن وجود عائلة "
" وأي سيارة وعائلة، أحظى بهما أنا؟ "
" أنا وصديقتي سنزور ألمانيا بعد بضعة أيام، وسترافقنا لو شئتَ؟ "، قالها الضيفُ بأريحية. عند ذلك تدخّل زورو، لمخاطبة دارين: " أنصحك بألا تغامر، لأنهم لو ضبطوك فستحرم من دخول ألمانيا لمدة خمس سنوات بحَسَب القانون ". فعادَ الآخرُ لدحض هذه المخاوف: " قلتُ لك، أنني سافرت لألمانيا عدة مرات بالسيارة، ولم يوقفني البوليس "
" وكيفَ سيوقفك البوليس، لو كان باسبورتك آنذاك من النوع المخصص للاجئين السياسيين؟ "
" لم يوقفوني أصلاً، لأن صديقتي فيكتوريا كانت برفقتي "، أوضحَ عُمَرو. وكانَ هذا قد ترك صديقته المسكينة، وتعرّف على إمرأة تعيش مع طفلتها في ستوكهولم وتعمل بوظيفة مرموقة في المطار الدوليّ.
هكذا إتصل دارين بصديقه، موضحاً أنه سيحضر إلى ألمانيا بسيارة أحد المعارف. وفي اليوم المحدد للسفر، نقله عُمَرو بالسيارة إلى ستوكهولم لكي يأخذا تلك المرأة. ثمة عند مسكنها، الكائن في دور أرضيّ لعمارة حديثة، رجت صديقها مجدداً أن تصحب معها إبنتها. إلا أنّ عُمَرو أصرَ أن يذهبوا بدونها، طالما أنّ والدها موجودٌ. كانَ مفهوماً، أنه يرغب بالتباهي أمام أقاربه في ألمانيا بأنّ صديقته بنتٌ لم يؤتها الباطلُ لا من قِبْلها ولا من دِبْرها. في أثناء ذلك، كانت المرأة تحدج دارين بنظرةٍ غير طيبة، كأنما تقول: " ما ذهابك معنا، فيما إبنتي تُحرم من ذلك! ". على أية حال، سلت هذه الفكرة لو أنها راودتها فعلاً، حينما خفف وجود الضيف من مصروفها. فمنذ البداية، عرّجَ السائق على محطة بنزين وجعل دارين يدفع الحساب. لكنها كانت رحلة ممتعة، تبادل فيها الرجلُ وصديقته قيادة السيارة. إلى أن وصلوا إلى حدود الدنمارك مع ألمانيا، وكانَ الكنترول شديداً.
" من سوء حظك، يا صديقي، أن البوليس الألماني غير غافل هذه المرة! "، قال الكذّاب لدارين بنبرة أسف. باختصار، أعيد الشابُ أوباً إلى الدنمارك مع وشم على باسبورته يُفيد بمخالفته للقانون. في كوبنهاغن، واتت دارين فكرة زيارة خفيفو في غوتنبورغ، القريبة نوعاً ما. وقد رحّبَ هذا الأخير به، لما تكلما بالهاتف. كانَ يقيم مؤقتاً في الدور الأرضيّ لفيلا، يملكها رجلٌ فلسطينيّ. أسرة خفيفو، المكونة من إمرأته وثلاثة أطفال، حصلت في نفس العام على فيزا الإقامة. وقد كانوا كريمين في الضيافة، في خلال الأيام الثلاثة التي قضاها دارين لديهم. لكن كان ثمة توتر بين الزوجين، سرعان ما جرى على لسان أحدهما. قال الزوج، أن ثلاثة أولاد هوَ حجم عائلة كبيرة في السويد. وردّت إمرأته: " أرغبُ في الإحتفاظ بالجنين، لأنه سيكون من مواليد السويد ". إلا أن فرحة خفبفو كانت جلية، حينما علم بأن ثمة " جنيناً " شعرياً لدى ضيفه، سيبصر النور قريباً. قال له وهوَ يتلمّظ شفتيه: " كانَ عليك أن تجلب المخطوطة، لكي أراجعها من الناحية اللغوية! ". الحمار، لا يقع في الحفرة مرتين. دارين وقعَ حقاً، بعد هذا التاريخ بعامين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب